Part : 20

273 10 1
                                        


عاد هتان وإيلا إلى الوطن بعد أسبوعين من تلك الرحلة التي اختزلت في ذاكرتهم تفاصيل لا تُنسى.
أما تُوق، فكانت في منعطف مختلف تمامًا.
بدأت تجهيزات زواجها، زواجٌ لم تأتِ موافقتها عليه بإرادتها أمام والدها، بل كانت كمن أومأ بالصمت، لا لرفضٍ يسكنها، بل لأن الموافقة من قلبها كانت أعمق من أن تُشرح، أو تُقال.
هي لا تتجهّز كمن يساق إلى مصيرٍ لا يريده... بل كانت تعيش التفاصيل كأنها حلم.
كانت مبسوطة، وسعيدة، ومندهشة من كل هذا الفرح الذي يتكاثر في قلبها مع كل خطوة.
لأنها ستتزوج الرجل الذي أحبته... الرجل الذي أحبّها.
فأي فرحٍ يشبه أن تكون النهاية المُنتظرة من نصيب القلب، لا من نصيب الظروف؟
أما أديب وسمى، فلم يطرأ على حياتهما الكثير من التغيير، سوى أن سمى بدأت شيئًا فشيئًا تتأقلم على وجوده بقربها، تتعوّد صوته، خطواته، وجوده في دائرة يومها... وكأن الزمن كان يمنحها فرصة لتراه بعيونٍ أكثر هدوءًا.
أما غيث ونبراس، الثنائي الذي لطالما بدا مختلفًا عن الجميع، فكانت نِبراس أمام قرار مصيري جديد.
والدها وافق أخيرًا على ابتعاثها، بعد كثير من الأخذ والرد، لكنّه تمسّك بشرطٍ واحد... ألا تُسافر وحدها.
"أنا ما أرتاح تسافرين لحالك"
كان صوته حاسمًا، لكنها ردّت بهدوء
"خلاص، تعال معي. تعال شوف المكان وتطمن... وبعدها ارجع."
لم تكن تتوقّع موافقته، بل كانت تقولها فقط لتغلق باب الرفض.
لكنّه فاجأها بالموافقة، مما زاد من دهشتها، لكنها لم تُطِل الوقوف عند السبب... كان كل ما يشغلها هو الابتعاث.
كندا، والماجستير، والحياة التي تنتظرها هناك.
حلّ يوم السفر.
أقلعت الطائرة من الرياض متجهة نحو كندا، رحلة طويلة ومباشرة دون توقف... أربع عشرة ساعة من التحليق نحو مدينة تورنتو، في مقاطعة أونتاريو، حيث ستبدأ دراستها في ماجستير إدارة الأعمال.
وفي مطار "تورونتو بيرسون الدولي"، ترجلت نبراس من الطائرة بخطى مثقلة ببدايات جديدة.
أنزلت حقيبتها، ووقفت تنتظر والدها الذي كان خلفها، يساعدها بحمل ما استطاع، متجهين معًا نحو السائق الذي كان بانتظارهما يحمل لوحة تحمل اسمها.
خرجت نبراس ووالدها من المطار بعد إنهاء إجراءات الوصول، والهواء البارد باغتها من أول خطوة خارج البوابة، نسماتٌ تحمل في طيّاتها غربة خفيفة، لم تكن قاسية، لكنها كانت كافية لتذكّرها أنها بدأت الآن فصلًا مختلفًا من حياتها.
أشار السائق نحو السيارة السوداء الواقفة بالقرب، فتح لها الباب بلطف، فجلست في المقعد الخلفي، ووالدها بجوارها.

لم تتبادل معه الكثير من الحديث، كانت عيناها تراقبان المدينة الجديدة من خلف زجاج السيارة، الأبنية العالية، الشوارع الهادئة، واللافتات التي كُتبت بلغة لم تكن غريبة، لكنها لم تألفها بعد.
سألها والدها وهو يمد نظره للأمام: السكن بعيد؟
فردّت دون أن تحوّل عينيها عن النافذة: لا، قريب من الجامعة... يمكن عشر دقايق بس. حجزته من قبل، سكن خاص لطالبات الدراسات العليا، كل شي فيه مرتب.
أومأ برأسه، ولم يُعلّق، وكأن جزءًا منه لا يزال غير مقتنع أن ابنته ستكون وحدها في هذا المكان البعيد، لكنها من الداخل كانت مستعدة، أكثر من أي وقتٍ مضى.
وصلوا إلى المبنى السكني المكوّن من عدة طوابق، بناؤه حديث ومحاط بالأشجار الكندية التي بدأت تتلوّن بألوان الخريف.
استقبلهم أحد الموظفين بابتسامة مهذّبة، وساعدهم في حمل الأغراض، ثم صعدوا عبر المصعد إلى الدور الخامس، حيث كانت غرفتها تطل على الشارع الهادئ، وقبالتها من الجهة الأخرى، تظهر نوافذ الجامعة التي ستقضي فيها السنوات القادمة.
دخلت نبراس إلى الغرفة، وضعت حقيبتها جانبًا، واستدارت نحو والدها بابتسامة خفيفة: ما توقعت أصل لهنا فعلاً...
رد عليها وهو يتأمل المكان: ولا أنا... بس دامك تبين، الله يكتب لك الخير.
لحظة صمت خفيفة مرّت بينهما، لحظة مشبعة بكل ما لم يُقل.
ثم انشغلت بترتيب بعض الأغراض، بينما جلس هو على طرف السرير يراقبها بعينٍ نصفها فخر... ونصفها خوف.
أما غيث، فكان صامتًا منذ آخر محادثة وقعت بينه وبين نبراس في العرس... تلك الليلة التي طُويت دون نهاية واضحة، وكأنها تُركت عمداً معلّقة بين ما يُقال وما لا يُقال.
لم يتجرأ على الحديث بعدها، ولا حتى على الاقتراب منها... رأى أن البُعد أنسب لهما، هي في طريقها، وهو في طريقه.
قرر أن يعود لحياته القديمة، للطهي، للمحتوى الذي يصنعه في مواقع التواصل، وللضحك الذي يخفي خلفه وجعًا لم يتلاشَ.
أقنع نفسه أن كل شيء انتهى، أن ما بينه وبينها كان مجرّد لحظة عابرة... لكنّه صُدم حين وصله خبر سفرها.
نبراس... سافرت؟ ومع والدها؟ إلى كندا؟
ظلّ الخبر يدور في رأسه، كأنّه يُعيد نطق الكلمات داخله مرارًا، يُحللها... يُعيد ترتيبها.
هل كان الرفض لأنها كانت تُخطط للسفر؟ هل كانت تعرف وفضلت ألا تُخبره؟
هل كان جزءًا من قرارها؟
ولماذا لم تقل له؟ لماذا لم تودّعه حتى؟
أسئلة كثيرة ازدحمت في داخله، لكنه لم يُفصح عن شيء... لم يجرؤ على سؤال أحد، كان يُكبح رغبته في الفهم، يُكتم شوقه، يتمسّك بفكرة واحدة فقط

لا أنتَ عزيز هالرمال ولا نوارِس هالبحر أعظم حروبك تُوق واقصر دروبك سّفر Where stories live. Discover now