وفي كل ليلة، كانت تحدّق في التقويم المعلّق على جدار غرفتها، تُحدّد اليوم الموعود بخط أحمر، كأنّها تُعاهد نفسها أن تكون حاضرة مهما كلّفها الغياب من تعب.
أما تُوق، فكانت تعيش في دوّامة من الأحلام والتهيئة، تجهّز ليومها الكبير بقلبٍ مضطرب ونبضٍ متسارع، كل تفصيلة تُنجزها بشغف... فستانها الأبيض، زينة شعرها، العطر الذي ستضعه، وحتى أغنية الزفّة... تُريد لكل لحظة أن تُشبهها، أن تكون صورة من خيالها الذي رسمته منذ سنوات، لكن في غمرة الفرح، كانت تلتفت من حينٍ لآخر، تبحث عن نبراس، وكأنّ الفرح لا يكتمل إلا بوجودها.
غيث، من جانبه، كان منشغلًا بصناعة المحتوى، يتنقّل بين الكاميرات والمطبخ، يصوّر وصفاته، يُشارك متابعيه تفاصيل يومه،
أما عبدالعزيز... فكان أكثرهم صمتًا، لكنه أيضًا أكثرهم حركة وحرصًا، ينهي يومه العملي ثم يتوجه مباشرة إلى الشقّة التي ستجمعه بتُوق بعد الزواج، يتفقد الأثاث، يراجع التفاصيل، يختار الستائر بلونها المفضل، والإضاءة بما يلائم عينيها حين تضحك... يُريد أن يكون المكان ملاذًا لها، يشبهها، ويُشبه طمأنينته حين تكون بقربه.
وفي خضمّ هذا الزخم من الاستعدادات، كانت القلوب تُعدّ أيامها بصبرٍ وشوق... في انتظار اليوم الذي سيُكتب فيه فصل جديد، في حكايةٍ طالما نبضت بها الأحلام.
-
دخلت نبراس إلى المطار مسرعة، أنفاسها تتلاحق ويدها تقبض على جوازها كأنها تخشى أن تُسقطه في الزحام.
غدًا، أو بشكل أدق... بعد أقل من أربعٍ وعشرين ساعة، سيُزف اسم شقيقتها تُوق في ليلةٍ انتظروها طويلًا.
رفعت معصمها تنظر إلى الساعة، كانت الثامنة مساءً تمامًا، وغدًا في مثل هذا الوقت... ستكون تُوق عروسًا، تهمس باسم عبدالعزيز أمام الجميع، تُسلَّم إليه بفرحٍ ووجل.
رحلتها ستستغرق أربع عشرة ساعة، وكانت تُناجي الله في قلبها أن تصل قبل بدء المراسم، كل ما تحتاجه معها: فستانها الذي طوته بعناية في حقيبتها، ومستلزمات المكياج.
لم يكن الفستان فخمًا كما يليق بشقيقة العروس، لكنه أنيق وناعم، ويكفي أنه يُناسب ذوقها ويدخل في حقيبة السفر دون عناء.
قبل أن تتوجّه إلى المطار، كانت قد لفت خصل شعرها بالكامل بمكواة الويڤي، تعلم أن الوقت لن يُسعفها للتصفيف لاحقًا، لذا قررت أن تبدأ بما يمكن إنجازه مُسبقًا، ستُركّز على وجهها حين تصل، أما شعرها وفستانها، فجاهزان.
لكنّ شيئًا لم يكن بالحسبان... اتسعت حدقتاها فجأة حين سمعت إعلانًا من مكبرات الصوت في المطار:
"نُعلم السادة الركّاب أن الرحلة المتجهة إلى الرياض ستتأخر ساعةً كاملة، نعتذر عن الإزعاج."

شهقت بخفوت، وبدأت تفرك يديها بتوتر: معقولة... أول مرة تتأخر فيها طيارة؟ الحين بس اللي قررتوا تتأخرون؟
تفقدت حقيبتها للمرة الثالثة، ثم الرابعة... تتأكد من أن كل شيء في مكانه، الفستان، الأدوات، عطرها المفضل، وحتى الحذاء الذي اختارته بدقة.
مضت ساعة... ثم ساعة أخرى، وهي تحاول أن تُشغل نفسها بمذاكرة اختبارها القادم، بعد زواج تُوق بثلاثة أيام فقط، لكن رغم محاولتها للتركيز، كانت نظراتها ترتفع كل فترة إلى الساعة، تُراقب عقاربها بقلق.
وفجأة... رفعت عينيها لتجد أن الوقت قد مضى دون أن تشعر.
شهقت وهمست لنفسها: عشرة؟! ساعتين؟ وأنا مو حاسّة؟!
قفزت من مقعدها، أغلقت دفاترها على عجل، وتوجهت مسرعة نحو بوابة الصعود... وفي قلبها دعاء واحد  أن لا يُفلت منها هذا اليوم، أن لا تُكسر عينا تُوق وهي تبحث عنها في الزفّة، أن تصل... ولو في اللحظة الأخيرة.
ركضت نبراس بخطى متسارعة نحو شباك المعلومات، قلبها يطرق صدرها بقوّة وكأنّه يُسابقها، وقفت أمام الموظف وهي تلهث: الرحلة للرياض... متى تطير؟!
رفع الموظف عينيه بهدوء وقال: الرحلة بتبدأ الصعود بعد دقائق، يلزمك تروحين للبوابة الآن.
شهقت: يعني بتطير؟ خلاص ما فيه وقت؟
أومأ برأسه مؤكدًا، وهو يُسلّمها ورقة الصعود: إذا ما مشيتي الحين... بتفوتك.
أخذت الورقة بسرعة، وشكرت الموظف بنبرة لا تخلو من الرجاء، ثم اندفعت نحو المخرج المخصص للرحلة، كانت تركض، لا تمشي، تركض بكل ما تملك من رغبة في الوصول، حقيبتها تتأرجح خلفها، ونبضها يتسابق مع كل خطوة.
مرت بجانب الممرات، تجاوزت العائلات، وقفت قليلًا تلتقط أنفاسها، ثم أكملت الركض، عيناها تتنقلان بين اللوحات الإلكترونية... "الرياض – بوابة 12"
فتوجهت إليها وكأنها تعرفها منذ الولادة.
حين وصلت، كان النداء الأخير يُذاع في الأرجاء
‏"Last call for flight to Riyadh – Final boarding."
" ‏آخر موعد للرحلة إلى الرياض - الصعود النهائي "
رفعت تذكرتها وهي تصيح: أنا! أنا هنا!
اقتربت الموظفة منها، فتحت البوابة وسمحت لها بالمرور: بسرعة، الطيارة على وشك الإقلاع.
ركضت نبراس نحو السلم المؤدي للطائرة،
وصوتها في الداخل يهمس لها: يا رب ألحق على تُوق... يا رب بس أوصل.
صعدت نبراس درجات السلم المعدني والنفَس يقطع صدرها، كل خطوة كانت ثقيلة من التعب، لكنها تُجبر ساقيها على الصعود، عينها تلمع من الانفعال، وقلبها يردد: لازم أوصل... لازم أكون جنبها.

لا أنتَ عزيز هالرمال ولا نوارِس هالبحر أعظم حروبك تُوق واقصر دروبك سّفر Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang