الفصل الرابع

Start from the beginning
                                    

*************

تجمعت عائلة البدرى لاستقبال يوسف وأسرته أثناء زيارتهم الشهرية للبلدة بعد أن انتقل إلى القاهرة لمتابعة عمله في مكتب الإستيراد والتصدير الذي يتشارك فيه مع أصدقائه خاصة بعد أن كبر حجم أعمالهم واستدعى الأمر وجوده الدائم بمقر العمل وزاد الأمر حين كبر أولاده قليلا وبدءوا في الإندماج في مراحل التعليم الأولية فتقلصت الزيارة الأسبوعية إلى زيارة شهرية صغيرة خلال أيام الأجازة الأسبوعية
بعد موجات من الترحاب وجو من الصخب ينشره يوسف وأولاده اللذين انتشروا في أرجاء المنزل بألفة
جلس يوسف بجوار عمته وصحبة جلال يتبادلون الجديد من الأخبار سويا بينما انسحبت شمس ولينا للداخل للإشراف على الطعام واقتناص فرصة للأحاديث الخاصة بينهما
قالت أصيلة مرحبة بيوسف بمودة وهى تربت على فخذه بحنو
:- والله لك وحشة يا ابن أخوى .. غيبتك طالت علينا
ربت على كتفها الذي يحيطه بذراعه بحنان وقال معتذرا بعد أن قبل رأسها
:- غصب عنى والله يا عمة .. المكتب كبر الحمدلله وشغلنا كتر  ده غير مواعيد مدارس الولاد اللى ملتزمين بها
:- ربنا يوسع عليك يا ولدى
آمن على دعائها وبدأ في إلقاء الأسئلة للاطمئنان عليهم رغم اتصاله الهاتفى بشكل يومى والذي يمكنه من متابعة كل جديد مع عائلته
مر ما يقرب من النصف ساعة في جلسة عائلية دافئة حتى صدح صوت الأطفال مرحبين بصديقتهم التي حضرت لتوها مع والديها
ضم طه الذي وصل لتوه إلى المنزل طفلته المحمولة على ذراعه إلى صدره  بحمية وعينيه تجرى على أولاد يوسف الثلاثة الذكور  ببطء يشاكسهم
:- يا مرحب بالفرسان الثلاثة .. منورين
رفع حسين ذراعيه نحوه يطالبه بجدية عاقد الحاجبين
:- هات يُسر تلعب معانا يا عمو
قاطعته ياسمين التي تقف بجوار زوجها ببطنها البارز بوضوح ترمق الصغير بنظره عاتبه قائلة
:- طب سلم على عمتك الأول
ابتسم حسين في وجهها وأسرع نحوها يتلقى حضنها الحنون ونبعه أشقائه كما فعلت صفا التي قلدتهم أيضا
استسلم طه إلى ابنته التي طالبت بدورها النزول لمشاركة أصدقائها اللعب فأنزلها ببطء وهو يلقى بتعليماته محذرا ومشيرا إلى سقوط ابنته أرضا وجرح ركبتها في مرة سابقة
:- العبوا بالراحة ومن غير شجاوة .. مش لازمن يكون في أصابات كل مرة
هتف حسن بصوته الطفولى الواثق ماطا شفتيه في نهاية جملته بشكل مضحك
:- ما تخافش يا عمو  ... هنلعب بهدووووء
تشابكت أياديهم الصغيرة وأسرعوا إلى غرفة الجلوس تاركين البهو إلى اجتماع الكبار الأسرى
خرجت شمس من المطبخ مهرولة بعد أن سمعت صياح الأطفال باسم (يُسر) تضم ياسمين إلى صدرها باشتياق ويدها تتحسس بطنها المنتفخ
:- ازيك يا ياسمين .. أخبار الحمل إيه طمنينى عليكِ وحشتينى أوى
بادلتها ياسمين الترحاب بمثله قبل أن تتأبط ذراعها وتتجه ببطء حيث تجلس بصحبة لينا في ركن قصى من البهو تفضى بحالتها
:- تعبانة جوى يا شمس .. الحمل تجل على بطنى وبجيت مجدرش اتحرك لولا مچيتكم اليوم مكنتش خرچت من الدار
جلست بين صفا وشمس يتبادلون الأحاديث كما فعل الرجال اللذين تحلقوا حول العمة أصيلة غافلين عن لعب الصغار
وفجأة قطع هذه الجلسة العائلية الهادئة صوتا طفوليا صغيرا مستغيثا بألم دفع الجميع للنهوض وهرعوا حيث ينطلق صوت الصرخة المستغيثة
ليتفاجأ الجميع بحمزة الصغير ذو الثلاث سنوات أخر عنقود أبناء يوسف وشمس يلف شعر صفا الأشقر  الطويل على كف يده الصغير جاذبا رأسها معه وهي تصرخ وتستغيث منه متألمة
أسرع جلال إلى ابنته يضمها إليه ويحاول تخليص شعرها من الوحش الصغير وكذلك فعل يوسف الذي ركع على ركبته يحاول فك شعر الصغيرة من كف ابنه ناهرا إياه
:- إيه اللى بتعمله ده يا حمزة .. عيب كده بتضرب صفا ليه؟
قطب حمزة حاجبيه غير مستوعب وقال مدافعا عن نفسه بصوت مرتفع
:- مش بضربها .. إيدى اتعورت وشعرها السحرى هيخفف التعويرة
:- شعرها السحرى!!
كررها جلال ويوسف بتعجب معاً في نفس الوقت وهما يتبادلان النظرات المتسائلة
تدخلت شمس جالسة على ركبتيها بجوار زوجها تفك شعر صفا من قبضة ابنها والذي فشل يوسف في تخليصه بينما وضح حمزة بحمائية طفولية
:- أيوه شعرها أصفر وسحرى زى روبنزول
كتم جلال ضحكته وهو يضم صغيرته إلى صدره ويهم واقفا يربت على ظهرها يراضيها  ويطمئن عليها
وبجواره وقفت لينا تعيد ترتيب شعر ابنتها وتهدئ من روعها بينما ردد يوسف بحيرة :- روبنزول مين!!
مال على زوجته يتساءل به
:- مين روبنزول ديه يا شموس
أجابته بنفس الخفوت وعلى وجهها تشع ابتسامة مرحة
:- ديه شخصية كرتونية شعرها أشقر طويل وسحرى بيداوى الجروح
رفع حاجبيه بفهم وقبض على كف ولده الذي استمع لكلام والدته وقرر أن يؤكد برائته ويثبت وجهه نظره في شعر صفا السحرى
فأظهر خدش بسيط لا يكاد يُرى على ظهر كفه يعرضه على والده بطفولية
:- بص يا بابا .. أهيه التعويرة بس خفت دلوقتى بعد ما لفيت شعرها السحرى عليها
ازداد ارتفاع حاجبى يوسف عجبا على مدى اقتناع ابنه بالأمر وهو يتأمل ظهر كف ولده ويستمع إلى كلماته الواثقة قبل أن ينهض بدوره حاملا حمزه على ذراعه وقال بحزم
:- اتفضل اعتذر لصفا وإياك تقرب لشعرها مرة تانى ... كده عيب
قطب حمزة حاجبيه ليصير نسخة مصغرة من والده مفكرا لبرهة ثم تسائل بعدم فهم :- عيب ليه؟
هز يوسف جسد الصغير فوق ذراعه وقال بحزم
:- عيب وخلاص هنتكلم بعدين .. اعتذر لصفا يلا
مد حمزة ذراعه مائلا بجسده يحاول أن يمسك بذراع صفا المختفية في صدر والدها مرددا ببساطة
:- ما تزعليش يا صافى .. أنا آسف
رفعت رأسها عن كتف والدها ونظرت نحو حمزة بنظرة رقيقة ثم مدت ذراعها نحوه إشارة على قبول اعتذاره
فتمسك حمزة بكفها الرقيق ومط شفتيه أمامه كمنقار البط مائلا نحوها في محاولة لتقبيلها ليتم الصلح
مد يوسف كفه يخفى فم ابنه المستعد للتقبيل تحت كفه وقال بحزم
:- خلاص كفاية الاعتذار الشفوى
رفع يوسف كفه عن فم ابنه الذي صاح بعفوية
:- مأ أنت بتبوس ماما عشان تصالحها
عاد يوسف يكتم فمه من جديد مع شهقة شمس الخجلة التي اختطفت طفلها من فوق ذراع والده وابتعدت به تعيد ترتيب أفكاره وتوبخه على أفعاله بينما انطلقت ضحكات الجميع الجذلة
قبل جلال وجنة صفا ثم أنزلها أرضا وتركها لتنضم إلى بقية الأطفال اللذين يشاهدون ما يحدث ثم مال على يوسف يؤكد هامسا بمشاكسة بعيدا عن سمع الأطفال المتحلقين حولهما
:- من شابه أباه فما ظلم
رفع يوسف حاجبيه مدعيا البراءة قائلا
:- حرام عليك وأنا كنت منحرف بالشكل ده
هز جلال كتفيه بلا مبالاة مرددا ببساطة
:- وأنا أيش عرفنى ما أنا مشفتكش وأنت صغير
تضاحكا سويا يضربون كفا فوق الآخر بينما نظر يوسف إلى الأطفال المتطلعة إليهم بفضول وقال يصرفهم بعيدا
:- انطلقوا يلا العبوا في الجنينة .. مستنين إيه
بدأ الأطفال في التحرك فاقترب حسن من صفا يمسك كفها بكفه الصغير يراضيها
:- يلا يا صافى نلعب سوا .. متزعليش
أما حسين فدس ذراعه في ذراع يُسر ابنة طه وياسمين يتأبط ذراعها آمرا  :- يلا يا يُسر
اتسعت مقلتا طه وعدل من وضع نظارته الطبية يتابعهم بصدمة وابنته تتحرك طائعة مع حسين برقة للخارج
تابع الرجال أربعتهم مغادرين متشابكى الأكف كل ثنائى يتبع الآخر وكأنهم في موكب زفاف
قطع الصمت صوت يوسف يشيعهم بصوت خافت يصل فقط لجلال  وطه المجاورين له
:- طب صفا أمها خواجاية وهنراضيها بكلمتين لكن يُسر جدها شيخ أراضيه إزاى بقى .. اكتب كتابهم من دلوقتى وأخلص
صدحت ضحكات الرجال المرحة وجلال يخبط على ظهر يوسف بجذل الذي شاركهم الضحك يشكو بقلة حيلة من شقاوة أولاده
:- والله هيعملولى مصيبة في يوم من الأيام .. أنا مخلف عيال من السيرك القومى
التفت إلى جلال الغارق بالضحك وقال لائما
:- بتضحك يا ابن عمي أشوف فيك يوم شايل ولدين توأم على كتافك يعيشوك أجواء السيرك اللي أنا عايشة ده
التفت بعدها نحو طه الذي دس كفيه في جيبى بنطاله يربت على كتفه مستطردا
:- أما أنت بقى .. دورك قرب وجايلك الولد قريبا يا دكتور وهدوق بنفسك تربية الصبيان بتبقى إزاى
واصلوا الضحك وجلسوا يتسامرون سويا حتى ظهر حمزة من الداخل بعد جلسته مع والدته ومر بجوارهم بكل كبرياء متجها إلى الحديقة حيث يلعب الأطفال
استوقفه والده مادا ذراعه أمامه يقطع عليه الطريق وجذبه ليقف أمامه يحدثه مهادنا
:- صافى ويُسر اخواتك ألعب معاهم بهدوء وأدب يا زوز وبلاش تفرد عضلاتك على البنات براحة عليهم شويه يا بطل
رفع حمزة إبهامه في وجه أبيه علامة الفهم وقال مؤكدا بثقة طفولية
:- عارف عارف البنات رقاق نبوسهم ونطبطب عليهم بس
ثم تركهم ببساطة بعد أن اتسعت ثلاث أزواج من العيون المحدقة بخطواته الواثقة المغادرة
حرك الرجال رؤوسهم يتبادلون النظرات بعضهم البعض قبل أن يقفز طه من مكانه وخلفه جلال مسرعين نحو الحديقة هاتفا
:- بنتي ... العيال ديه مش لازم تقعد من غير مراقبة
تبعهما يوسف ببطء يحاول السيطرة على ضحكاته معقبا على حديث جلال
:- ما تقلقش يا جلجل مادام رقاق يبقوا يتاكلكوا أكل ..  واحنا شاريين ومهرها من ألف لمية ألف
توقف طه وجلال في الشرفة الخارجية يتابعان لعب الأطفال المتقافزين في الحديقة بمرح طفولى صاخب أثناء لعبهم بالكرة سويا وقد انضم إليهم حمزة بدوره اطمئنوا لسير الأمور وهدوئها
وفي لمحة خاطفة التقطت نظرات جلال جاد الجالس في ركن جانبى بعيد على أحدى الكراسى البلاستيكية يتابع لعب الأطفال أثناء حديثه بالهاتف المحمول
  وصل يوسف إلى الشرفة أخيرا وتوقف بجوار ابن عمه وقد لاحظ اتجاه نظره فأبصر وجود جاد بدوره .. مال على جلال يتساءل هامسا
:- هو جاد لسه مش قادر يندمج وسط العيلة
حرك جلال رأسه بقنوط وأجابه بنفس الخفوت
:- لا .. بيجى البيت على استحياء وفي أقل الحدود
تدخل طه في الحديث مستوعبا موقف جاد بشكل جيد
:- معذور يا چماعة .. النجلة في حياته كانت كبيرة جوى وموافجة ندى عليه كانت مفاچأة لينا كلاتنا وأكيد له هو التانى
أومئ جلال مؤكدا على كلام صديقه وهمهم بخفوت
:- وأكبر مفاجأة ليا أنا كمان ... لغاية دلوقتى مش قادر أستوعب سبب موافقتها لكن مكنش ينفع أجبرها على حاجة
وضع يوسف كفه على كتف جلال يضغط عليه برفق وقال مؤكدا
:- ده اختيارها ونصيبها .. ومحدش فينا يعرف الخير فين
توجه ثلاثتهم حيث يجلس للترحيب به ومجالسته وحين لمحهم قادمين نحوه أنهى مكامته الهاتفية ووقف استعدادا لاستقبالهم باحترام

غيـوم البـعادWhere stories live. Discover now