1/ ضيف بلا مزايا

Start from the beginning
                                    

لم يكن من السهل على لورين العودة الى العمل بعد عطلة الصيف , ثم أن وجود المستأجر الشاب الذي يعيش معها تحت سقف واحد شغل بالها أكثر مما توقعت , حاولت أن تطرده من تفكيرها عبثا , أول ما وصلت الى المدرسة التقت صديقتها آن التي بادرتها بالسؤال:
" سمعت أن لديكم مستأجرا شابا".
قالت لورين ساخرة:
" أنه صنف ممتاز يا آن ".
قال هوغ معلقا:
"لا أعرف لماذا تسخر لورين منه , لقد التقيته وتحدثت اليه ولا أجد ما يعيبه".
قالت لورين:
" ولكنني واثقة من كراهيتي له, أنه لا يحتمل , وقح , ومعتد كثيرا بنفسه:
قالت آن :
" بدأت أتحرق شوقا لمقابلته , ربما أكون كبيرة في السن ولكن في هذه الأيام لم يعد فارق السن شيئا يعيق العلاقة بين اثنين, ومع قليل من الجراحة التجميلية فسوف أبدو أصغر منه ...".
ضحك الجميع ثم علق هوغ قائلا:
" أعتقد أن لورين هي التي تثيره وتزعجه".
قالت لورين:
" شكرا يا هوغ".
قالت آن:
" عندما التقي الشاب سأتذكر أن أتملقه وأداهنه, ولكنه لن يكون منافسا على قلب لورين يا هوغ".
قال هوغ:
" هذا صحيح , ولكن الشاب مرح وتسر عشرته وجلسته".
بدأت لورين تمتعض وتحاول الأعتراض , ولكن آن بادرتها قائلة:
" أهدئي يا لورين".
قال هوغ:
" أنه ليس من النوع الذي يستهوي لورين وهي أيضا لا تستهويه...".
انزعجت لورين لتصريح هوغ واعتبرته تجريحا , وقالت بعصبية :
" لماذا ؟ ما خطبي؟".
قال هوغ :
" لا شيء... بالنسبة الي ولكن... جان يحتاج الى فتاة أكثر ليونة ولباقة وأكثر...".
قالت لورين:
"مرونة".
هز هوغ رأسه موافقا وبدأت لورين تتأفف وهي تهرول الى صفها تحتمي بتلاميذها , وهكذا فعل كل من هوغ وآن.
بقيت لورين تعمل في صفوفها طوال النهار وكان وصف هوغ دائما في خاطرها ولم تنسه, ألم تقل عنها والدتها (أنت فتاة قاسية ومتزمتة) هذا واضح الآن, هوغ أيضا يوافق والدتها الرأي , جلست في المساء أمام مرآتها تتزين ولأول مرة في حياتها رغبت في تغيير شكلها تماما, لقد أصبحت في السادسة والعشرين من عمرها ولكن الذي يراها يضيف سنوات أخرى على عمرها ,ربطت شعرها الى الوراء وشرعت تضع مساحيق التجميل على وجهها , درست تعابير وجهها بالتفصيل , حاجباها مقوسان وأنفها وفمها مصقولان, وعيناها الزرقاوان حادتان ونظرتهما موحشة.
نظرت الى ثيابها بعد أن انتهت من التجميل فوجدت أنها أصبحت لا تلائم شكلها الجديد الذي بدأت تخطط له, قررت( غدا سأشتري ثيابا جديدة بعد الدوام في المدرسة ) وتساءلت في نفسها... هل وصف هوغ لها هو الذي جعلها تتخذ هذا القرار بالتحديد في شكلها ولباسها , أم وجود هذا الرجل الذي يعيش معها في البيت؟
عادت والدتها باكرا من موعدها , قالت مستغربة ما ترى:
" لورين يا عزيزتي . كم أنت جميلة؟ هل رآك جان؟ أين هو؟".
"في الخارج".
" مؤسف , كنت أريده أن يراك على هذه الحال, كان يقول لي البارحة..".
" سأمسح المساحيق بسرعة...".
" بل أتركيها لحين حضوره".
ولكن لورين لم تستمع الى قول والدتها بل أسرعت الى الحمام تغسل وجها من مساحيق التجميل قبل حضور جان.
حضر جان بعد أن آوت لورين الى فراشها , سمعت والدتها تسأله عن عمله الجديد في الجريدة المسائية.
" عملي ممتاز ومشوق, وأنا كلي حماس ونشاط".
وفي اليوم التالي وقبل حضور هوغ تجملت لورين ولبست بنطلونا أزرق جديدا مع بلوزة زهرية دون أكمام , كانت واثقة بأنها قد غيرت من شكلها كليا ... حين نظر هوغ اليها بسرعة كأنه يراها للمرة الأولى وقال:
" ماذا فعلت بنفسك يا لورين؟ أنت مختلفة كليا".
" لم أفعل شيئا".
ابتعدت هاربة من نظراته بعد أن شعرت بالخجل والأرتباك , لقد لفتت نظره اليها وتمنت لو لم تفعل ... هي حقا لا ترغب في لفت انتباه هوغ , بل غيره... حملت شغل الصوف بيديها وجلست تحيك بينما ال هوغ:
" هل أخبرتك أنني التقيت جان البارحة في المدينة بعد الدوام المدرسي , وتناولت الشاي برفقته وأخبرني أن لديه راديو ترانزيستور يود بيعه".
" جان في الخارج, انه يمضي أمسياته خارج البيت وأنا لم أعد أره منذ عدة أيام".
" لا بأس , اذا حضر قبل خروجي سأتفقد الراديو... انني راغب في شراء راديو منذ فترة وهو يطلب ثمنا معقولا".
صنعت لورين الشاي لهما , ثم بعد أن تناولاه أكملت شغل الصوف , أمسياتها مع هوغ تسير على وتيرة واحدة, كلها رتابة وملل ولا نفع فيها , لم تكن من قبل تشعر بفتور علاقتهما , نظر هوغ اليها وتمنت لورين لو لم يفعل.
سمع هوغ الباب الخارجي يفتح ويغلق , رفع رأسه ورحب بالقادم قائلا:
" أهلا يا جان, تسرني رؤيتك , تفضل شاركنا جلستنا".
ووقف هوغ احتراما , كان جان يقف في الباب بينما بقيت لورين تحيك الصوف دون أن ترفع رأسها.
كانت خائفة لأن هوغ دعاه دون أستئذانها .
قال جان:
" لا أريد أن أزعجكما".
كان صوته متهكما ساخرا".
قال هوغ:
" لورين ؟ هل هناك مزيد من الشاي؟".
وضعت لورين شغل الصوف جانبا وذهبت لتجلب فنجانا للشاي. وقالت ببرودة متعمدة:
" تفضل يا سيد داربي, اجلس".
" كم أنت لطيفة, كان لئيما وهو يبتسم ابتسامة ساخرة ويتفحصها بشكلها الجديد , وعندما عادت لورين تحمل له فنجان الشاي كان يجلس بالقرب من هوغ يتحدث معه.

" هل تريد بعض السكر يا سيد داربي؟".
حملت شغل الصوف من جديد وعادت للحياكة وهي تحاول أن تبدو مرتاحة , كان جان يطيل طرفه بينهما مستوضحا بعض الأمور, ثم نظر الى هوغ وقال:
" أنت متخصص في مادة الكيمياء؟ هل تحب مهنة التعليم؟".
هز هوغ كتفيه وقال:
" كنت أفضل لو أن المدرسة مختلطة . الفتيات مشاغبات ومثيرات في أكثر الأحيان".
ضحك جان:
" هذا شيء لا يقلقني أو يثير نقمتي".
تذكرت لورين والدتها حين قالت( أن الفتيات يحمن حوله كالفراشات حول النور) ارتبكت وعملت أخطاء في شغل الصوف مما اضطرها للتصليح, قال جان يخاطبها:
" وأنت يا آنسة فارس, لقد اعتدت مهنة التعليم كما تعتاد البطة العيش في الماء".
" لا, لقد أنتقيت مهنتي بنفسي يا سيد داربي , لم أجبر على هذا الأختيار , اعتدت على عملي وبدأت أحبه".
هز جان رأسه موافقا وقال:
" الأستقرار الممل , عملك صلب ومتحجر لا أثارة فيه, فأنت لا تحيدين عن دفتر ملاحظتك , تقدمين المادة دون خيال ولا تحاولين تغيير الأسلوب , صفوفك مليئة بالطالبات الذكيات وأنت تتوقعين منهن قبول ما تلقنينه لهن دون نقاش أو جدال على انه هو الحقيقة الوحيدة".
انزعجت لورين من هجومه المفاجىء , لقد ركز هجومه على عملها بثقة تأكيد وكانت ترغب لو تسد فمه بشغل الصوف الذي تحيكه وتجعله يكف عن الكلام.
" وماذا تفهم عن مهنة التعليم... نحن نلقن التلميذات حقائق المعرفة ودقائقها وهذه الحقائق ستفيدهن في حياتهن في المستقبل, نحن لا نفتش في الحياة عن دبابيس وأشواك مدفونة نظهرها للملأ ونجبر الناس أن يتقبلوها رغما عنهم عندما ننشرها على الرأي العام".
ابتسم ابتسامة صغيرة باردة وكانت نظراته الجامدة تقيمها , احمرت وجنتاها , قال:
" أنت دائما تنتقدين انتقادات هدَامة وعاطفية مثل غالبية الناس, لقد أتخذت قرارك مسبقا دون دراسة أو روية وبجهل سافر".
وأكمل حديثه دون أن يسمح لها بالأعتراض:
" نظرتك الى الصحافة والصحافيين لا تختلف عن بقية آرائك , أنت مدرَسة للغة الأنكليزية وتعتقدين أن التقرير الصحافي يجب أن يكون قطعة نثر أدبية يا آنسة فارس, كتابة تقرير صحافي هو اختصاص رفيع المستوى , الصحافة تعمل في التفتيش عن علامات أساسية وركائز للمستقبل من حوادث الحاضر, والصحافي الخبير يكتشف هذه الأسرار ويلفت النظر اليها".
قال هوغ:
" هل تقول أن الصحافي يستطيع أن يرى المستقبل من خلال الحاضر؟".
قال جان:
" هذا يختصر بكلمات قليلة ما أعنيه".
" لا يهمني أن تقنع هوغ بالأمر , فأنت لن تقنعني أبدا . المراسلون الصحافيون يفتشون في الزوايا والخبايا ويجسمون توافه الأمور, وهذا ما يضع الخبر في حجم دون حجمه الطبيعي , ويزيد من أهميته , بعبارة أخرى هي عملية خداع كبرى للرأي العام".
هز جان رأسه آسفا:
" كم أتأسف من أجل تلاميذك في المدرسة لسوء حظهم , لأنهم وقعوا على معلمة مثلك لا تلم بالحقيقة الكاملة".
ضحك هوغ:
"احذر يا جان قبل أن ترميك بشيء ما".
" لا , الآنسة فارس لا يمكنها أن تفقد صوابها وتتصرف كفتاة طائشة ".
" يا الهي, الود مفقود بينكما بالرغم من معرفتكما القصيرة ببعضكما , لنغير الموضوع قبل أن تعلن الحرب سافرة بينكما ... وماذا بشأن الترانسزيستور يا جان؟".
" تعال الى غرفتي وعاينه".
خرج جان وتبعه هوغ مسرعا كأنه يريد الهروب من الجو المشحون الغاضب, بقيت لورين مع غضبها , رغبت في البكاء ولكنها أمسكت نفسها بجهد.
بقي هوغ في غرفة جان فترة غير قصيرة ثم نزل متأبطا الراديو ورفع يده مودعا , قبَل لورين على خدها قبلة سريعة وخرج.
قال جان بلطف:
" لورين؟".
كانت هذه أول مرة يناديها باسمها , التفتت اليه " أنني أحب السلام وأكره الحرب, خصوصا حرب الأهل , مد يده مصافحا :
" هل نعلن الهدنة".
يقول أنه فرد من أفراد ... العائلة؟ تجاهلت لورين يده الممدوده لمصافحتها.
"عمت مساء يا سيد داربي".

روايات احلام/ عبير : لا احد ســــواكWhere stories live. Discover now