1/ ضيف بلا مزايا

ابدأ من البداية
                                    

نزلت لورين السلالم وهي تقول في نفسها أن الصحافي يشبه دود الأرض , والصحافيين حثالة المجتمع.

فتحت الباب ورحبت به ترحيبا باردا, نظر اليها نظرة متفحصة وهو ينتظر أن تدعوه للدخول , جال بناظريه محللا, ومتفحصا اياها من أخمص رجليها الى قمة رأسها حيث وقفت في الباب تسد عليه المنفذ الى داخل المنزل, فتَت أجزاءها ثم جمعها من جديد في دقائق معدودة بحكم وظيفته , تعجبت من تشريحه لها وتمنت لو تعرف رأيه فيها بعد الفحص الدقيق...
قالت بفتور وعدم اكتراث وهي تتحداه بعينيها وبصوت هازىء:
" أتبعني من فضلك يا أستاذ داربي . سأريك غرفتك".
صعدت السلالم أمامه وهو يتبعها مطيعا , كان شابا طويلا عريض المنكبين شعره أسود فاحم, وعند مدخل الغرفة استقبلته والدتها مرحبة به ترحيبا حارا وصافحته مبتسمة , شكرها جان بدوره.

لم تستطع لورين أن تشارك والدتها فرحتها بالضيف المستأجر , وسوف تغير رأيها في الصحافيين لأن جان هو ابن صديقة والدتها , أنها تكره هذا الصنف من البشر, معظمهم عديم الحيلة ولا يختلفون عن بعضهم , وهم لا يؤمنون بالقيم والمبادىء والأخلاق ولا يكترثون لشعور الآخرين وأحزانهم , وهذا الصحافي جان , بالرغم من وسامته ومظهره وكبريائه لن يكون مختلفا عنهم, هذا التفكير بجان يعطيها مبررا لكراهيته وعدم الثقة به, أنه صحافي عابث ... تذكرت نظراته الفاحصة لها قبل أن يدخل المنزل, نزلت غاضبة الى غرفة السفرة لترتب طاولة الطعام وهي تقول في نفسها... أنا لورين فارس مدرسة اللغة الأنكليزية في مدرسة ولكي للبنات , لن أكون حجرة صغيرة في طريق هذا الصحافي يزيلها من دربه.
فرشت شرشف الطاولة وسمعت والدتها تناديه:
" جان, عليك أن تتناول عشاءك معنا هذه الليلة , ويمكنك بعد اليوم أن تتناول وجبات طعامك في غرفتك لو رغبت".

قالت لورين في نفسها , الحمد لله , ثم رتبت ثلاثة مقاعد حول الطاولة وصنعت السلاطة وقطعت اللحمة الباردة , حضرت بريل لمساعدتها وقالت:

" أنه شاب لطيف يا عزيزتي".

عبست لورين لأن والدتها دائما تفترض أن جميع الناس طيبون , أكملت والدتها:

" أتمنى أن تتعايشي معه بسهولة , أعملي جهدك من أجلي يا لورين"
هزت لورين رأسها موافقة, كانت تحب والدتها كثيرا , ولكنها حتما لن تبذل جهدها لأرضائه , حتى ولا من أجل والدتها الحنونة.

" لورين اذهبي الى غرفتك وضعي بودة على وجهك تبدين شاحبة".
هزت لورين رأسها موافقة وارتقت السلآلم الى غرفتها وأغلقت الباب عليها.
رتبت شعرها وعقدته بشريطة الى الوراء كذيل حصان , ثم وضعت طبقة رقيقة من البودرة على وجهها ونزلت الى غرفة الطعام.
كان المستأجر يقف ويداه في جيوبه وقد بدا عليه الأنزعاج , رفع حاجبيه يحييها فردت التحية له بنظرة جافة وقالت:
" يمكنك أن ترتاح في غرفة الجلوس يا سيد داربي".
" أنني مرتاح هنا يا آنسة فارس, لقد أمضيت رحلة طويلة وأنا جالس في القطار".
" هل حضرت من لندن يا أستاذ داربي؟".
" نعم يا آنسة فتلاس".
هرعت بريل تحمل أبريق الحايب ووضعته على الطاولة وقالت:
" أرفعا الكلفة بينكما , هو جان وأنت لورين , لا لزوم لأستاذ داربي وآنسة فارس".
انحنى جان متهكما الى لورين بشكل مسرحي , ونظر اليها نظرة مرحة, أدارت لورين على الفور ظهرها له وقالت بعصبية:
" أنا لا أرفع الكلفة الا مع أصحابي".
اعتذرت والدتها بالنيابة عنها وقالت:
" لا تهتم لكلامها يا جان...".
صنعت لورين الشاي وحملته الى غرفة الطعام.
قالت بريل:
"اجلس يا جان مقابل لورين , لورين , صبي الشاي لجان".
تحاشت لورين النظر الى جان وهم يتناولون الطعام, ولكن بعد العشاء وهي تحتسي الشاي, التقت عيناها بعينيه , كان قاسي الوجه والتعابير وأخرج سيكارة وأشعلها ونفخ دخانها في وجه لورين دون اكتراث , بينما عيناه تتفحصانها وتحللانها , حاولت لورين أن تخفي تعابير وجهها خلف قناع من القسوة لتمنعه من أختراق دخيلتها.
بدأت بريل تتكلم معه عن وظيفته , نظرت اليها لورين وقالت بحدة:
" علينا أن نراقب كلامنا من الآن فصاعدا".
رفع جان حاجبيه متعجبا وأكملت:
" لدينا صحافي في المنزل , أننا تحت المراقبة , كأن هناك آلة تسجيل مخبأة في زهرية الورود أو تحت السجادة, هناك جاسوس يعيش معنا في البيت.
سارعت الدماء الغاضبة في جريانها , ولمعت عينا جان الرماديتان كأن انفجارا صغيرا أصابهما ولكنه حافظ على رباطة جأشه وأخفى أمتعاضه . رغم أن أنفعالاته بانت جلية في عينيه , وبعد أن عاد اليه الهدوء قال :
" الآنسة فارس تعرف العديد من الصحافيين كما يبدو".
قالت بريل:
" لا , لورين لا تعرف صحافيين , أليس كذلك؟".
" نعم , أنا لا أعرف أحدا منهم ولله الحمد ولكن لي أصدقاء يعرفونهم ويعرفون أخبارهم , أنهم يملأون صحفهم بالزبالة واللغة الركيكة, ( ونظرت اليه مباشرة) أنا أقضي معظم وقتي يا أستاذ داربي أحاول اصلاح الأخطاء التي تتركها الصحافة على اللغة الأنكليزية.
نظر اليها جان نظرة باردة مثلجة وأكملت بحماس:
" زبالة الصحافة هي ما يمتصه ويبتلعه الناس يوميا مع فطورهم , أنها تأكل في جذور اللغة كما يفعل السوس في الأسنان الصحيحة.
قالت بريل مصعوقة مما تسمع:
" لورين؟ كيف تقولين ذلك؟ ( ونظرت الى جان تطلب منه أن يسامحها) لا تأخذ بالك مما تقول , أنها مدرسة , تدرس اللغة الأنكليزية في مدرسة للبنات في المدينة , بيني وبينك ... أنها مدرسة رجعية تقليدية وتحتاج لدماء جديدة في الأدارة , حان الوقت لتتقاعد الرئيسة العجوز , أنها تؤثر كثيرا على المعلمين والمعلمات الذين يعملون تحت أدارتها".
قال جان:
" أعتقد أن الدم الجديد ضروري في الأدارة وفي جهاز السلك التعليمي أيضا, طريقتك في تعليم اللغة الأنكليزية متزمتة , وأنت شديدة الحساسية في عملك, يجب أن أذكر لك أن غالبية الناس يلذ لها قراءة الصحافة , أو كما تسمينها الزبالة".
ابتسم وهو ينفض سيكارته في المنفضة الموضوعة أمامه.
يطيب لجان أن يزعجها كلما التقى بها , وأكمل حديثه قائلا:
" لا تحكمي على الآخرين بترفع, فنحن الصحافيين نغذي العالم بأخبارنا ولا نكتب لطبقة معينة من الناس , طبقة المتعلمين والمترفعين أمثالك, اذا نظرت حولك يا آنسة فارس بتمعن , تجدين أن غالبية الناس يتمتعون بذكاء عادي ويحتاجون لقراءة الجرائد ليعرفوا ما يدور حولهم من أحداث بلغة بسيطة وعادية".
" من الواضح أننا لا نتكلم بلغة واحدة يا سيد داربي...".
احمر وجهها , وقال لها وهو يتجاهل انزعاجها وانفعالها:
" أنت تهتمين لما يحدث للغة , تخافين عليها من التغيير الذي تمر به, تعتقدين أنك مدرسة للغة وعملك المحافظة عليها , ولكنني لا أقرك على تصرفاتك ولست مطمئنا لردة فعلك , لا يمكننا أن نحافظ الى ما لا نهاية على اللغة كما كتب بها أجدادنا في الماضي , علينا أن نطورها لتلائم حاجتنا الحاضرة".
لم تفهم لورين ما قصد من كلامه , لقد لسعها انتقاده الجارح ولم تعد تحتمل المزيد , فبدأت تتلهى بتنظيف الصحون بعد أن وجدت أن المحادثة بينهما أصبحت شائكة, وقالت بعصبية:
" أنا أعتبر أن الصحافيين عمال لا مهارة لديهم ويتقاضون أعلى الأجور , وظيفتهم توازي وظيفة كنَاس الطرقات بل تقل عنها , أن كناس الطريق يجمع الأوساخ بينما الصحافي ينشرها".
عم صمت رهيب بينهما , هربت لورين الى المطبخ وهي تشعر بأن كلامها الجارح قد آلمها كما آلم جان , كانت تحس أن ثورتها زائفة وكذلك انتقادها.
يوم الأحد , عادة , تستفيق لورين ووالدتها متأخرتين , هذا الأحد ولوجود ضيف بينهما , كان عليهما أن تستيقظا باكرا , طهت لورين فطور الصباح وحملت لجان فطوره الى غرفته , قرعت الباب وانتظرت أن يدعوها للدخول , كان جان قد استيقظ وارتدى ثيابه وانتهى من ترتيب نفسه , ابتسم لها وهي تضع صينية الفطور على الطاولة وقبل أن تخرج قالت كمن حفظ درسا:
تقول والدتي أنك تستطيع الحصول على كل رغباتك فلا تتردد في طلب ما تحتاج اليه".
نظر اليها نظرة غريبة وقل:
" أفهم, شكرا, ( ثم أكمل ساخرا) هل أنت التي ستقومين على تأمين رغباتي وحاجياتي ... فأنا أحتاج الى سكرتيرة وباحثة , وشخص يرد على الهاتف ويسجل لي المكالمات عدا عن الأعمال المنزلية التي تقوم بها الزوجة عادة , كتركيب الأزرار المقطوعة وغسل ثيابي وكيها و... أشياء أخرى, ( وأضاف يستفزها) كأنني أطلب زوجة, ولا يمكن لشخص يتمتع بكامل قواه العقلية أن يتقدم بطلب زوجة هذه الأيام".
وجدت لورين نفسها تبتسم ابتسامة مفتعلة وتعتبر كلامه مزاحا. لكنه تجهم فجأة وقست تعابير وجهه وهو يقول:
" شكرا لأحضار الفطور".
خرجت من الغرفة بسرعة وكأنها تلميذة طردت من الصف.
بعد الفطور, جلست تحضر ملاحظاتها وأوراقها من أجل الفصل الدراسي الجديد, مرت بريل من قربها وسألتها:
"متى سيحضر هوغ؟".
في الثالثة كالعادة".
" وهل ستخرجان؟".
" لا أعتقد ذلك, أنني أشعر ببعض الكسل والتعب وأحتاج الى الراحة لأستقبال الفصل الدراسي الجديد , أنني أكره أول يوم في المدرسة في فصل الخريف لكثرة ما يدور من جدل حول التفاصيل والترتيبات والتقسيم ,.
صعدت لورين الى غرفتها ورتبت نفسها لأستقبال هوغ , رتبت شعرها وعقصته الى الخلف ثم ارتدت تنورة نظيفة مع بلوزة بيضاء ووضعت قليلا من أحمر الشفاه , ثم نظرت الى نفسها في المرآة , فلم ترق لها صورتها, كان ينقصها الحيوية والنشاط فوجهها لا حياة فيه وروحها كئيبة, أن التزمت باد في تعابير وجهها وكل مساحيق التجميل لا تفيد في اراحة بالها , ربما حضور هوغ لزيارتها سيغير من قساوة ملامحها ويجعل عينيها تشعان والبشر يطفو على وجنتيها , ومعنوياتها ترتفع...
صديقها هوغ أشقر الشعر بشوش الوجه ترتاح اليه, لا ينفعل لشيء , وهي لا تحس بأي أنفعال معه حتى وهو يعانقها , كان جان قد دخل المطبخ وأخذ يتحدث مع والدتها دون كلفة.
قالت لورين تخاطب والدتها:
" سنجلس أنا وهوغ في الحديقة".
قالت بريل تخاطب جان بمرح:
" هوغ صديق لورين ويدرس معها في نفس المدرسة".
" وهل يدرس اللغة الأنكليزية أيضا ويشاطرك كره الصحافيين أمثالي؟".
" لا, أنه يدرس مادة الكيمياء".
" ربما لا أكون تافها بنظره كما هي الحال بالنسبة اليك , مهنة التعليم مهنة محترمة ولكنها تسبب الضجر وهي غير مثيرة , ورتيبة وتقتل روح التوثب, وفي النهاية يصبح المعلم كالمهنة تماما .. مملا ومحترما .
ساء لورين أن يهاجمها جان بهذا الشكل . بدأ يستفزها بكلامه وتعليقاته ووجدت نفسها تدافع قائلة:
" من الأفضل يا سيد داربي أن أصبح على هذا الحال من دون أن أثير العواطف الكاذبة كما يفعل أمثالك الصحافيون, ثم ماذا تعرف أنت عن مهنة التعليم؟".
" أعرف الكثير, لقد قابلت أثناء عملي العديد من المعلمين وأنا أخاطب معلمة الآن...".
كان همه أن يثير غضبها ويزعجها , ولقد نجح, وحاولت لورين أن تخفي دموعها ولكن بعض القطرات نزلت رغما عنها.
قالت بريل:
" أهدئي يا لورين... أنه يثير غضبك لتفقدي رباطة جأشك...".
ابتسم جان ابتسامة عريضة مجنونة ثم تركهما وصعد الى غرفته.
قالت بريل توبخ لورين:
" أنه ضيفنا , لا يمكنك أن تكلميه بهذه الطريقة الخالية من اللياقة , أنه شاب لطيف".
" أنه ليس ضيفا , أنه مستأجر عندنا وهو كثير التدخل وله عينان نفاذتان ومتفحصتان ويسخر من كل شيء هنا".
" ربما يا عزيزتي , ولكن عليك أن تعتادي وجوده وطريقته في المزاح , عليك أن تتعايشي معه بسلام".
هزت لورين كتفيها دون أكتراث وخرجت لتضع الكراسي في الحديقة , وحين وصل هوغ كانت تستريح في كرسيها متكاسلة , أنحنى بلطف وقبلها على خدها قبلة خفيفة وقال:
" أهلا لورين, لقد التقيت المستأجر عندكم وأنا في طريقي ال البيت , كان في طريقه ليضع رسالة في البريد , أنه شاب لطيف ومهذب ولقد تحدثنا سوية".
" عما دار الحديث بينكما؟".
" عدة مواضيع . لقد تشعبت كثيرا في دقائق قليلة".
" أنا لا أحبه".
" لا أرى سببا لهذه الكراهية, أنه ذكي ويتمتع بمعرفة واسعة, صحافي...".
" أعرف أن الصحافيين كثيرو الأعتداد بالنفس يتمتعون بالحيلة, أنهم كالحيوانات التي تقتات على الزبالة ويبحثون دائما عن المشاكل , يحفرون القبور وينبشون الأخبار المدفونة ويفرطونها على الناس بشكل سافر".
حاول هوغ أن يوقفها عن استرسالها في الحديث بحركاته , التفتت خلفها لتجد جان بالقرب منها . شعرت بالذنب وبدأ قلبها يسرع في ضرباته , كان يحمل لها كيس الصوف الذي تحيكه وقد خلا وجهه من أي تعبير.
" أن وألدتك ترسل لك هذا الصوف".
ارتبكت كثيرا ولم تفهم سبب هذا الأرتباك كله , كلما التقته يهتز كيانها, وقف هوغ وطلب من جان أن يشاركهما جلستهما قائلا:
"سأجلب كرسيا آخر لي".
" شكرا يا هوغ , فأنا لا أريد أن أزعجكما في جلستكما الهادئة.
كان جان عابسا وسافرا في كلامه وهو ينظر الى لورين ويبتعد عنهما, وفي المساء صعدت لورين الى غرفتها لتنام , وجدت والدتها تتحدث مع جان في الممر المؤدي الى غرف النوم.
" كنت تعمل في فليت ستريت؟( أهم شارع للمال والأقتصاد في لندن)".
" نعم, كنت مساعد تحرير في الجريدة الرسمية".
" هنا وظيفتك تعتبر ترقية لك!".
" نعم, أنها أكثر راحة وأقل اجهادا من عملي في فليت ستريت , وأنا الآن مدير تحرير الأخبار في الجريدة المسائية في هذه المدينة الكبيرة".
قالت لورين تشاركهما الحديث" وكيف تتواضع لتعمل هنا وتترك فليت ستريت؟".
احمر وجه جان غضبا من تعليقها وقال:
"لا , ربما لا تصدقين يا آنسة فارس , ولكنني لم أحتمل الصراع اليومي ... والتقدم البطيء".
نظر اليها جان نظرة قاسية جعلت جسمها يهتز , تذكرت معطفها المنزلي الشفاف وتحته ثوب نومها الذي يظهر أكثر مما يخفي... ركضت مسرعة الى الحمام وقد اكتسى وجهها بحمرة الخجل , وحين خرجت من الحمام كانا لا يزالان يتحدثان , ألقت تحية المساء عليهما وأجابتها والدتها على تحيتها لكن جان لم يأبه بها...
هبي الى غرفتك وضعي بودة على وجهك تبدين شاحبة".
هزت لورين رأسها موافقة وارتقت السلآلم الى غرفتها وأغلقت الباب عليها.
رتبت شعرها وعقدته بشريطة الى الوراء كذيل حصان , ثم وضعت طبقة رقيقة من البودرة على وجهها ونزلت الى غرفة الطعام.
كان المستأجر يقف ويداه في جيوبه وقد بدا عليه الأنزعاج , رفع حاجبيه يحييها فردت التحية له بنظرة جافة وقالت:
" يمكنك أن ترتاح في غرفة الجلوس يا سيد داربي".
" أنني مرتاح هنا يا آنسة فارس, لقد أمضيت رحلة طويلة وأنا جالس في القطار".
" هل حضرت من لندن يا أستاذ داربي؟".
" نعم يا آنسة فتلاس".
هرعت بريل تحمل أبريق الحايب ووضعته على الطاولة وقالت:
" أرفعا الكلفة بينكما , هو جان وأنت لورين , لا لزوم لأستاذ داربي وآنسة فارس".
انحنى جان متهكما الى لورين بشكل مسرحي , ونظر اليها نظرة مرحة, أدارت لورين على الفور ظهرها له وقالت بعصبية:
" أنا لا أرفع الكلفة الا مع أصحابي".
اعتذرت والدتها بالنيابة عنها وقالت:
" لا تهتم لكلامها يا جان...".
صنعت لورين الشاي وحملته الى غرفة الطعام.
قالت بريل:
"اجلس يا جان مقابل لورين , لورين , صبي الشاي لجان".
تحاشت لورين النظر الى جان وهم يتناولون الطعام, ولكن بعد العشاء وهي تحتسي الشاي, التقت عيناها بعينيه , كان قاسي الوجه والتعابير وأخرج سيكارة وأشعلها ونفخ دخانها في وجه لورين دون اكتراث , بينما عيناه تتفحصانها وتحللانها , حاولت لورين أن تخفي تعابير وجهها خلف قناع من القسوة لتمنعه من أختراق دخيلتها.
بدأت بريل تتكلم معه عن وظيفته , نظرت اليها لورين وقالت بحدة:
" علينا أن نراقب كلامنا من الآن فصاعدا".
رفع جان حاجبيه متعجبا وأكملت:
" لدينا صحافي في المنزل , أننا تحت المراقبة , كأن هناك آلة تسجيل مخبأة في زهرية الورود أو تحت السجادة, هناك جاسوس يعيش معنا في البيت.
سارعت الدماء الغاضبة في جريانها , ولمعت عينا جان الرماديتان كأن انفجارا صغيرا أصابهما ولكنه حافظ على رباطة جأشه وأخفى أمتعاضه . رغم أن أنفعالاته بانت جلية في عينيه , وبعد أن عاد اليه الهدوء قال :
" الآنسة فارس تعرف العديد من الصحافيين كما يبدو".
قالت بريل:
" لا , لورين لا تعرف صحافيين , أليش كذلك؟".
" نعم , أنا لا أعرف أحدا منهم ولله الحمد ولكن لي أصدقاء يعرفونهم ويعرفون أخبارهم , أنهم يملأون صحفهم بالزبالة واللغة الركيكة, ( ونظرت اليه مباشرة) أنا أقضي معظم وقتي يا أستاذ داربي أحاول اصلاح الأخطاء التي تتركها الصحافة على اللغة الأنكليزية.
نظر اليها جان نظرة باردة مثلجة وأكملت بحماس:
" زبالة الصحافة هي ما يمتصه ويبتلعه الناس يوميا مع فطورهم , أنها تأكل في جذور اللغة كما يفعل السوس في الأسنان الصحيحة.
قالت بريل مصعوقة مما تسمع:
" لورين؟ كيف تقولين ذلك؟ ( ونظرت الى جان تطلب منه أن يسامحها) لا تأخذ بالك مما تقول , أنها مدرسة , تدرس اللغة الأنكليزية في مدرسة للبنات في المدينة , بيني وبينك ... أنها مدرسة رجعية تقليدية وتحتاج لدماء جديدة في الأدارة , حان الوقت لتتقاعد الرئيسة العجوز , أنها تؤثر كثيرا على المعلمين والمعلمات الذين يعملون تحت أدارتها".
قال جان:
" أعتقد أن الدم الجديد ضروري في الأدارة وفي جهاز السلك التعليمي أيضا, طريقتك في تعليم اللغة الأنكليزية متزمتة , وأنت شديدة الحساسية في عملك, يجب أن أذكر لك أن غالبية الناس يلذ لها قراءة الصحافة , أو كما تسمينها الزبالة".
ابتسم وهو ينفض سيكارته في المنفضة الموضوعة أمامه.
يطيب لجان أن يزعجها كلما التقى بها , وأكمل حديثه قائلا:
" لا تحكمي على الآخرين بترفع, فنحن الصحافيين نغذي العالم بأخبارنا ولا نكتب لطبقة معينة من الناس , طبقة المتعلمين والمترفعين أمثالك, اذا نظرت حولك يا آنسة فارس يتمعن , تجدين أن غالبية الناس يتمتعون بذكاء عادي ويحتاجون لقراءة الجرائد ليعرفوا ما يدور حولهم من أحداث بلغة بسيطة وعادية".
" من الواضح أننا لا نتكلم بلغة واحدة يا سيد داربي...".
احمر وجهها , وقال لها وهو يتجاهل انزعاجها وانفعالها:
" أنت تهتمين لما يحدث للغة , تخافين عليها من التغيير الذي تمر به, تعتقدين أنك مدرسة للغة وعلك المحافظة عليها , ولكنني لا أقرك على تصرفاتك ولست مطمئنا لردة فعلك , لا يمكننا أن نحافظ الى ما لا نهاية على اللغة كما كتب بها أجدادنا في الماضي , علينا أن نطورها لتلائم حاجتنا الحاضرة".
لم تفهم لورين ما قصد من كلامه , لقد لسعها انتقاده الجارح ولم تعد تحتمل المزيد , فبدأت تتلهى بتنظيف الصحون بعد أن وجدت أن المحادثة بينهما أصبحت شائكة, وقالت بعصبية:
" أنا أعتبر أن الصحافيين عمال لا مهارة لديهم ويتقاضون أعلى الأجور , وظيفتهم توازي وظيفة كنَاس الطرقات بل تقل عنها , أن كناس الطريق يجمع الأوساخ بينما الصحافي ينشرها".
عم صمت رهيب بينهما , هربت لورين الى المطبخ وهي تشعر بأن كلامها الجارح قد آلمها كما آلم جان , كانت تحس أن ثورتها زائفة وكذلك انتقادها.
يوم الأحد , عادة , تستفيق لورين ووالدتها متأخرتين , هذا الأحد ولوجود ضيف بينهما , كان عليهما أن تستيقظا باكرا , طهت لورين فطور الصباح وحملت لجان فطوره الى غرفته , قرعت الباب وانتظرت أن يدعوها للدخول , كان جان قد استيقظ وارتدى ثيابه وانتهى من ترتيب نفسه , ابتسم لها وهي تضع صينية الفطور على الطاولة وقبل أن تخرج قالت كمن حفظ درسا:
تقول والدتي أنك تستطيع الحصول على كل رغباتك فلا تتردد في طلب ما تحتاج اليه".
نظر اليها نظرة غريبة وقل:
" أفهم, شكرا, ( ثم أكمل ساخرا) هل أنت التي ستقومين على تأمين رغباتي وحاجياتي ... فأنا أحتاج الى سكرتيرة وباحثة , وشخص يرد على الهاتف ويسجل لي المكالمات عدا عن الأعمال المنزلية التي تقوم بها الزوجة عادة , كتركيب الأزرار المقطوعة وغسا ثيابي وكيها و... أشياء أخرى, ( وأضاف يستفزها) كأنني أطلب زوجة, ولا يمكن لشخص يتمتع بكامل قواه العقلية أن يتقدم بطلب زوجة هذه الأيام".
وجدت لورين نفسها تبتسم ابتسامة مفتعلة وتعتبر كلامه مزاحا. لكنه تجهم فجأة وقست تعابير وجهه وهو يقول:
" شكرا لأحضار الفطور".
خرجت من الغرفة بسرعة وكأنها تلميذة طردت من الصف.
بعد الفطور, جلست تحضر ملاحظاتها وأوراقها من أجل الفصل الدراسي الجديد, مرت بريل من قربها وسألتها:
"متى سيحضر هوغ؟".
في الثالثة كالعادة".
" وهل ستخرجان؟".
" لا أعتقد ذلك, أنني أشعر ببعض الكسل والتعب وأحتاج الى الراحة لأستقبال الفصل الدراسي الجديد , أنني أكره أول يوم في المدرسة في فصل الخريف لكثرة ما يدور من جدل حول التفاصيل والترتيبات والتقسيم ,.
صعدت لورين الى غرفتها ورتبت نفسها لأستقبال هوغ , رتبت شعرها وعقصته الى الخلف ثم ارتدت تنورة نظيفة مع بلوزة بيضاء ووضعت قليلا من أحمر الشفاه , ثم نظرت الى نفسها في المرآة , فلم ترق لها صورتها, كان ينقصها الحيوية والنشاط فوجهها لا حياة فيه وروحها كئيبة, أن التزمت باد في تعابير وجهها وكل مساحيق التجميل لا تفيد في اراحة بالها , ربما حضور هوغ لزيارتها سيغير من قساوة ملامحها ويجعل عينيها تشعان والبشر يطفو على وجنتيها , ومعنوياتها ترتفع...
صديقها هوغ أشقر الشعر بشوش الوجه ترتاح اليه, لا ينفعل لشيء , وهي لا تحس بأي أنفعال معه حتى وهو يعانقها , كان جان قد دخل المطبخ وأخذ يتحدث مع والدتها دون كلفة.
قالت لورين تخاطب والدتها:
" سنجلس أنا وهوغ في الحديقة".
قالت بريل تخاطب جان بمرح:
" هوغ صديق لورين ويدرس معها في نفس المدرسة".
" وهل يدرس اللغة الأنكليزية أيضا ويشاطرك كره الصحافيين أمثالي؟".
" لا, أنه يدرس مادة الكيمياء".
" ربما لا أكون تافها بنظره كما هي الحال بالنسبة اليك , مهنة التعليم مهنة محترمة ولكنها تسبب الضجر وهي غير مثيرة , ورتيبة وتقتل روح التوثب, وفي النهاية يصبح المعلم كالمهنة تماما .. مملا ومحترما .
ساء لورين أن يهاجمها جان بهذا الشكل . بدأ يستفزها بكلامه وتعليقاته ووجدت نفسها تدافع قائلة:
" من الأفضل يا سيد داربي أن أصبح على هذا الحال من دون أن أثير العواطف الكاذبة كما يفعل أمثالك الصحافيون, ثم ماذا تعرف أنت عن مهنة التعليم؟".
" أعرف الكثير, لقد قابلت أثناء عملي العديد من المعلمين وأنا أخاطب معلمة الآن...".
كان همه أن يثير غضبها ويزعجها , ولقد نجح, وحاولت لورين أن تخفي دموعها ولكن بعض القطرات نزلت رغما عنها.
قالت بريل:
" أهدئي يا لورين... أنه يثير غضبك لتفقدي رباطة جأشك...".
ابتسم جان ابتسامة عريضة مجنونة ثم تركهما وصعد الى غرفته.
قالت بريل توبخ لورين:
" أنه ضيفنا , لا يمكنك أن تكلميه بهذه الطريقة الخالية من اللياقة , أنه شاب لطيف".
" أنه ليس ضيفا , أنه مستأجر عندنا وهو كثير التدخل وله عينان نفاذتان ومتفحصتان ويسخر من كل شيء هنا".
" ربما يا عزيزتي , ولكن عليك أن تعتادي وجوده وطريقته في المزاح , عليك أن تتعايشي معه بسلام".
هزت لورين كتفيها دون أكتراث وخرجت لتضع الكراسي في الحديقة , وحين وصل هوغ كانت تستريح في كرسيها متكاسلة , أنحنى بلطف وقبلها على خدها قبلة خفيفة وقال:
" أهلا لورين, لقد التقيت المستأجر عندكم وأنا في طريقي ال البيت , كان في طريقه ليضع رسالة في البريد , أنه شاب لطيف ومهذب ولقد تحدثنا سوية".
" عما دار الحديث بينكما؟".
" عدة مواضيع . لقد تشعبت كثيرا في دقائق قليلة".
" أنا لا أحبه".
" لا أرى سببا لهذه الكراهية, أنه ذكي ويتمتع بمعرفة واسعة, صحافي...".
" أعرف أن الصحافيين كثيرو الأعتداد بالنفس يتمتعون بالحيلة, أنهم كالحيوانات التي تقتات على الزبالة ويبحثون دائما عن المشاكل , يحفرون القبور وينبشون الأخبار المدفونة ويفرطونها على الناس بشكل سافر".
حاول هوغ أن يوقفها عن استرسالها في الحديث بحركاته , التفتت خلفها لتجد جان بالقرب منها . شعرت بالذنب وبدأ قلبها يسرع في ضرباته , كان يحمل لها كيس الصوف الذي تحيكه وقد خلا وجهه من أي تعبير.
" أن وألدتك ترسل لك هذا الصوف".
ارتبكت كثيرا ولم تفهم سبب هذا الأرتباك كله , كلما التقته يهتز كيانها, وقف هوغ وطلب من جان أن يشاركهما جلستهما قائلا:
"سأجلب كرسيا آخر لي".
" شكرا يا هوغ , فأنا لا أريد أن أزعجكما في جلستكما الهادئة.
كان جان عابسا وسافرا في كلامه وهو ينظر الى لورين ويبتعد عنهما, وفي المساء صعدت لورين الى غرفتها لتنام , وجدت والدتها تتحدث مع جان في الممر المؤدي الى غرف النوم.
" كنت تعمل في فليت ستريت؟( أهم شارع للمال والأقتصاد في لندن)".
" نعم, كنت مساعد تحرير في الجريدة الرسمية".
" هنا وظيفتك تعتبر ترقية لك!".
" نعم, أنها أكثر راحة وأقل اجهادا من عملي في فليت ستريت , وأنا الآن مدير تحرير الأخبار في الجريدة المسائية في هذه المدينة الكبيرة".
قالت لورين تشاركهما الحديث:
" وكيف تتواضع لتعمل هنا وتترك فليت ستريت؟".
احمر وجه جان غضبا من تعليقها وقال:
"لا , ربما لا تصدقين يا آنسة فارس , ولكنني لم أحتمل الصراع اليومي ... والتقدم البطيء".
نظر اليها جان نظرة قاسية جعلت جسمها يهتز , تذكرت معطفها المنزلي الشفاف وتحته ثوب نومها الذي يظهر أكثر مما يخفي... ركضت مسرعة الى الحمام وقد اكتسى وجهها بحمرة الخجل , وحين خرجت من الحمام كانا لا يزالان يتحدثان , ألقت تحية المساء عليهما وأجابتها والدتها على تحيتها لكن جان لم يأبه بها...

روايات احلام/ عبير : لا احد ســــواكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن