الفصل التاسع

27 2 0
                                    


ابتسمت كارلا قائلة:
"كيف ستساعدني؟"
"سأحذرك كارلا!"
قال المجهول بتردد.
قاطعته كارلا سريعًا:
"لا، إن كنت ستساعدني... فستفعل بطريقتي أنا."
صمت الطرف الاخر لفترةٍ فظنت كارلا أنه أنهى الاتصال.
توجهت إلى سيارتها وجلست خلف عجلة القيادة، ثم كادت تلقي بالهاتف بعيدًا، لكنها سمعته يقول:
"حسنًا."
أعادت رفع الهاتف إلى أذنها وقالت:
"عذرًا؟"
"قلت حسنًا... سأساعدك على طريقتك."
أجاب مكررًا بقلق.
ابتسمت كارلا وقالت:
"جيد، إذن هلا أعطيتني طرف الخيط؟"
لم يجبها فتابعت تطمئنه:
"لا تقلق، لا أنوي كشف هويتك حتى إذا علمت من أنت، دعنا نتعاون سويًا وحسب... أنا أصل للحقيقة، وأنت تبقيني حذرةً وبهذا يحصل كل منا على ما يريد."
"إذًا فلتعودي إلى النهاية!"
قال المجهول بغموض.
عقدت كارلا ما بين حاجبيها تتذكر كلمات هيوغو لها في المقطع المُسجَّل، تساءلت لوهلةٍ إن كان شخصًا ذو صلةٍ به، لكنها أزاحت هذه الفكرة عن رأسها، كون هيوغو حذّرها من أن تضع ثقتها في أي شخصٍ آخر غير آنا... على الرغم من ذلك، قوله لنفس الكلمات التي قالها هيوغو قد أربكها بعض الشيء.
سألته بهدوء تحاول لملمة شتات نفسها:
"ماذا تقصد بالنهاية؟"
"كارلا... أين انتهى كل شيءٍ بالنسبة لك وأصبح بلا قيمة؟"
سأل بهدوء.
تذكرت كارلا حين بحثت في ملف قضية والديها ووجدته قد قيد ضد مجهولٍ ولم يتم البت في أمره بل وتم ترجيحه إلى أنه حادث عادي... لكنها بالفعل قد عادت إلى عملها، ألم تكن تلك هي النهاية المقصودة؟
أغمضت عينيها بهدوءٍ تحاول التركيز وإدراك ما يقصده بالنهاية، فتحت عيناها فجأةً وهي تتذكر مشهد مقتل والديها على حين غرةٍ أمامها، ارتجف جسدها وسرت قشعريرةٌ حين جال برأسها أن هذه هي النهاية المنشودة!
ولكن لمَ لا؟ لقد انتهى العالم بالنسبة لها في ذلك الوقت، شحبت ألوان الكون، وزلزلت أرضها التي كانت تقف عليها بمساعدة والديها!
تحشرج صوتها وهي تقول:
"أتقصد مكان الحادث؟"
"أجل."
قال صاحب الصوت المجهول بهدوءٍ ثم قطع الاتصال.
أغلقت كارلا الهاتف وألقته إلى جوارها، ثم وضعت رأسها فوق عجلة القيادة بحيرة وهي تتمتم بعدم فهم:
"لمَ يتوجب عليّ الذهاب إلى منزل جدِّي!"

ظلت كارلا على وضعها قليلًا، ثم رفعت رأسها بثقلٍ حين شعرت أن الكثير من الأفكار تتوارد إلى رأسها، فأدارت محرك السيارة ثم تحركت متوجهةً إلى حيث والديها...
كانت الشمس قد أوشكت على الغروب حين وصلت إلى هناك، جلست أمامهم وقالت:
"ماذا عليَ أن أفعل؟ لا أستطيع التفكير جيدًا."
أطلقت تنهيدة مليئةً بالحيرة وقالت:
"أريد أن يخبرني أحدٌ ماذا أفعل!"
ثم نهضت من مكانها وقالت:
"سأعود اليوم إلى منزل جدي، وأتمنى ألا أمكث هناك طويلًا، فأنا حقًا... لم أعد أطيق ذلك المكان!"
سارت كارلا مبتعدةً وأخذت سيارتها إلى حيث المبنى الذي يقطن به جدها، هي تحب جدها، لكن ذلك المكان يذكرها بأسوأ أيامها.
وصلت، وحين وقفت أمام الحديقة المُسيجة وأطلقت بوق سيارتها تنبه الحارس لدخولها... حين رآها الحارس انتفض من مكانه وفرك عينيه قليلًا يتأكد مما يراه، وحين فعل انطلق ركضًا يفتح لها.
دلفت إلى الداخل فتبادل الحراس النظرات بتعجب، تجاهلتهم هي وقصدت الغرفة التي يجلس بها جدها غالبًا، فوجدت اثنين من الحراس يقفون بالخارج يمنعونها من الدخول.
نظرت لهما كارلا بتعجب، فتاةٌ جامدة الوجه تنظر إليها ببرودٍ وتحدق بها كأنها لا تملك الحق في الدخول، تعقد شعرها إلى الخلف وتقفُ بصلابةٍ لا تتحدث حتى... بينما الآخر، يبدو مترددًا وعلى استعدادٍ للحديث أكثر منها على الرغم من امتلاكهما لنفس قسمات الوجه.
"أريد أن أدخل!"
قالت كارلا بملل.
"ومن أنت؟"
قالت الفتاة بعمليةٍ شديدة.
نظرت لها كارلا دون أن تتحدث فتابع الآخر:
"نحن لم نركِ من قبل يا آنسة."
كادت كارلا تجيبهم لكن باب الغرفة فتح من خلفهم بهدوء وأطل منه رجلٌ كبيرٌ في السن، قد ملأ الشيب رأسه، ذو حاجبين كثيفين تطل من تحتهما عينان حادتان لانتا فور وقوعهما على وجه كارلا.
"جدي."
قالت كارلا بهدوء.
ابتسم لها الجد واقترب منها يلفها بذراعيه وهو يمسح على شعرها في حنو:
"مرحبًا بعودتك يا صغيرتي."
ألقت كارلا برأسها على كتف جدها وأغمضت عينيها بارتياح، لم تكن تعلم أنها تشتاق له... لكن وهي تعانقه الآن تعلم كم اشتاقت له ولحديثه.
ابتسمت وقالت:
"اشتقت لك كثيرًا."
ابتسم لها الجد قائلًا:
"وأنا أيضًا يا صغيرتي."
ثم أبعدها عنه قليلًا وكوّب وجهها بكفيه ينظر لها بحب ثم قال:
"هيا... فلتأتي للداخل."
ابتسمت كارلا وتبعت جدها للداخل، بينما نظر الشاب إلى الفتاة بجواره خلسةً وقال:
"تبيَن أنها حفيدته."
لم تبدِ الفتاة رد فعلٍ بل بقيت كما هي فالتفت لها وعندما رأى عبوسها وقال:
"لا تعبسي هكذا... تبدين مخيفة!"
لم تنظر له لكنها قالت:
"لا يفترض بي أن أكون ودودة أثناء العمل."
ثم نظرت له وقالت تلومه:
"ولا يفترض أن نوضح أفعالنا لغريب."
لوى الشاب شفتيه وقال:
"لقد كانت حفيدته."
"لم نرها من قبل فلم نعرفها... ماذا لو كانت شخصًا خطيرًا؟ واجبنا هو حماية السيد وألا ندع أي مكروه يصيبه، أفهمت؟"
قاطعته بقسوةٍ تنهره.
تمتم الشاب بضيق:
"ولكنها مرت من الحراس والمبنى دون عوائق... كيف من المعقول أن تشكل تهديدًا!"
ثم عاد يقف باستقامةٍ وقد قطعت عليه الأخرى الحديث بصمتها الحاد ووجهها العابس.
جلست كارلا إلى جوار جدها في الغرفة على الأريكة، تتأمل المكان حولها لتجد أن كل شيء لا زال كما هو، عادت ببصرها إلى جدها الذي كان ينظر لها في صمتٍ وترقب.
سألها الجد:
"هل كانت أمورك تسير على ما يرام؟"
ابتسمت كارلا تجيبه:
"أجل، لكن في الآونة الأخيرة طرأ شيءٌ منذ مدة لكنني سأتعامل معه."
سال الجد مجددًا:
"أكل شيءٍ على ما يرام؟"
"أجل... إنه لا شيء، سوى الماضي!"
قالت كارلا تتأمل ملامح وجه جدها التي شعرت أنها أصبحت أكثر حدةً وقلقًا على نحوٍ مفاجئ، حاول الأخير تدارك ردة فعله لكن الأوان كان قد فات، فسألته كارلا:
"هل هناك شيءٌ يقلقك؟"
ابتسم الجد مرةً أخرى بودٍ وقال:
"لا... كل شيءٍ على ما يرام يا عزيزتي."
نهض الجد يصب لها كأسًا من العصير وهو يقول:
"قابلتِ إيلينا وكاي."
"تقصد الحارسان اللذان بالخارج؟"
"أجل... لا أتوقع أنهما تعرفا عليكِ، فهما جديدان."
أكَّد الجد كلماته وهو يومئ برأسه.
"ماذا حدث لتغير حرّاسك؟ لم تكن لتفعل هذا سابقًا مهما حدث."
سألت كارلا بتعجب.
قدّم لها الجد كأسها وهو يقول:
"أحيانًا تجبرنا الحياة على أشياء لا نريدها وقراراتٍ لا نرضاها يا عزيزتي."
رفعت كارلا حاجبيها باستغرابٍ تام:
"أنت... تأخذ قرارات لا ترضاها؟"
ابتسم لها الجد يعلم مقصدها:
"حتى أنا يا عزيزتي."
ارتشفت كارلا بعضًا من كأس العصير الخاص بها، ثم قالت:
"من غير المعقول أن أتخذ قرارًا ما ثم أتعلل بالحياة وما فعلته به... إن كنت تعلمت شيئًا ما من كوني شرطية، فهو أن للجميع أسبابه... لا يوجد شخص مسالم، كل ما في الأمر أنه يجيد إخفاء دوافعه جيدًا."
لم يجبها الجد وظل يحدق بها فنهضت قائلةً:
"إذًا... سأغادر أنا الآن."
غادرت كارلا الغرفة ثم ألقت نظرة عابرةً على إيلينا وكاي وابتسمت قائلةً:
"أحسنتما عملًا."
نظر كاي إلى إيلينا بتعجبٍ بينما ركزت إيلينا بصرها على كارلا التي أدارت ضهرها وابتعدت لا تنتظر إجابتهما وغادرت المبنى بأكمله بثباتٍ وثقةٍ لم ترهما إيلينا من قبل.
خرج شخصٌ من أحد زوايا الغرفة فقال الجد:
"لم تكتشف شيئًا بعد... أليس كذلك؟"
"ليس بعد يا سيدي."
أومأ الجد برأسه بهدوء وهو يقلب كأسه بين يديه ثم ينظر له بغموضٍ وترقب، ثم قال متمتمًا:
"تقول إن للجميع دوافعه صحيح؟ ... لقد نضجت صغيرتكما حقًا، ولكن... أكنتما ستكونان راضيين عن الطريقة التي نضجت بها والشخص الذي أصبحت عليه؟ ... أشك بذلك."
عادت كارلا إلى شقتها تبدل ملابسها وتستعدُ للحفل الذي أقامه المحقق ستيفن، ضحكت حين تذكرت تعابير وجهه وسعادته بها، لم تتوقع مطلقاً أن يكون خبر عودتها يشكل كل هذا الفرق بالنسبة له.
توجهت نحو خزانتها ولازالت الابتسامة على وجهها وهي تتذكر مرافقته لها عندما بدأت العمل بمركز الشرطة ذاك كشرطية مبتدئة، شعرت بالامتنان يغمرها وهي تتذكر كيف أنه لم يتوقف أبدًا عن تشجيعها أو دعمها والانصات لها.
أخرجت أكثر الملابس المريحة لها والتي تحبها، لم تلق بالًا لما يتوجب عليها ان ترتديه، فهي تريد أن تشعر بنفسها قليلًا. ارتدت ملابسها ثم خرجت، شعرت بالقلق قليلًا لأن ماريا لم تهاتفها اليوم أو ترسل لها برسالة حتى، تفقدت هاتفها علها تكون المشغولة ولم تنتبه لرسائل ماريا.. لكنها لم تجد شيئاً، ساورها القلق قليلًا لكنها هدأت نفسها وأسكتتها أن ماريا قادرة على التصرف بأي طريقة لو حدث لها شيء ما، وبالتأكيد... كان ستتواصل مع كارلا بأي شكلٍ كان.
ركبت سيارتها وتوجهت إلى منزل ستيفن، قابلتها زوجته سارا على الباب وابتسمت لها مرحبةً بشدةٍ فعانقتها كارلا بحب، نظرت كارلا إلى الفتى الصغير المختبئ خلف والدته يتمسك بملابسها بشدة، فابتسمت له وانحنت على ركبتيها تتحدث له بودٍ ولطف.
دقائق وتوجهت إلى باحة المنزل لتجد الجميع هناك، رأت رئيسها والمحقق فذهبت تلقي عليهما التحية، ثم رأت أكثر أفراد الشرطة متواجدين بالمكان، أشارت لهم بيدها وابتسمت فبادلوها الابتسامات.
بحثت بعينيها عن بيتر وألبيرت لسبب لا تعلمه فوجدتهما يقفان في أحد الزوايا وبيدهما بعض المأكولات الحلوة، ضحكت على منظرهما واعتذرت من رئيسها والمحقق ستيفن ثم توجهت لهما.
حين رآها بيتر قادمةً توقف عن تناول الطعام وكاد يغادر لكن ألبيرت رأى ما حدث وأمسك بذراعه يثبته في مكانه.
ألقت كارلا عليهم التحية وقالت:
“يبدو لذيذًا!"
نظر بيتر إلى الطبق الذي بيده وناوله لألبيرت ثم أشاح ببصره عن وجهها، بينما مد ألبيرت يده بالطبق تجاهها كاعتذار عن تصرفات بيتر وقال:
“بإمكانك تذوقه بنفسك."
ابتسمت كارلا له وتناولت القليل منه ليعجبها مذاقه فتقول:
"لذيذ حقًا!"
زفر بيتر بنفاذ صبرٍ، فقالت كارلا وهي تستدير مبتعدةً عنه:
"طفولي."
نظر لها بيتر بحدة وهي تبتعد وقال:
"ماذا؟ طفولي؟ من الذي تنعته بالطفولي؟"
ضحك ألبيرت من مظهره، لكنه توقف عن الضحك حين رن هاتفه معلنًا عن اتصال وارد، أجابه فتبدلت ملامح وجهه وقال:
"قادمٌ على الفور!"

وفي نفس الوقت،
رن هاتف كارلا باسم ماريا فتنفست كارلا الصعداء وقالت وهي تجيب:
"ها أنت ذا، لقد كنت قلقةً حقًا... أين أنت؟"
ثوانٍ معدودةٍ وابيض وجهها وشحبت عيناها،
ثم خرجت من الحفل راكضةً،
لا تأبه لمن يناديها،
ولا تسمع صيحات أحدٍ من خلفها...
ركبت سيارتها وزمجرت بها ثم انطلقت تشق الهواء بسرعة وخوف، كان جسدها باردًا وعيناها زائغتان... تشعر كما لو أن روحها تنسحب منها ببطء وألم.
قبضت بيديها على المقود بقوةٍ وقالت تهدأ من روعها:
"ليس مرةً أخرى... كل شيءٍ سيكون بخير!"
توقفت أمام المشفى لترى سيارة ماريا أمامه، ارتجفت أوصالها وركضت إلى الداخل غير عابئةٍ بصراخ رجال الأمن عن كيفية إيقافها السيارة، استمرت بالركض لا تعلم إلى أين، ثم أوقفت أحد الأطباء تسأله ولحسن حظها... أرشدها على الفور إلى حيث تريد.
شكرته كارلا وهرولت في طرقات المشفى وعلى الدرج لا تعبأ بنظرات الأشخاص من حولها، هاجسٌ واحدٌ يهاجمها وتأبى الانصياع له أو أن توليه اهتمامًا حتى.
وصلت إلى وجهتها ثم وقفت أمام الغرفة بخوف، ترتجف يدها فوق المقبض، وأنفاسها متقطعةٌ إثر ركضها، لا تريد فتح هذا الباب لكنها مجبرة على دحض خوفها.
فتحت باب الغرفة وهي تكاد تفقد الوعي، وحين وقعت عيناها على ماريا الممددة على السرير مغمضة العينين، خارت قواها وارتكزت على حافة الباب بألم...
دخلت تجر ساقيها بثقلٍ شديد،
وعيناها تذرفان الدموع بحسرة...
ها هي تفقد عزيزًا مرةً أخرى...
ها هي تقف خاسرةً مرةً أخرى!

****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)Where stories live. Discover now