الفصل الثامن

138 4 0
                                    

حل الصباح بمزيد من المشاغبة، إذ لم تنعم نارة بنوم هادئ حالما كانت الكوابيس المضحكة تطاردها، من يعلم أي دماغ هاته التي ترى مثل هذه الأشياء العجيبة الأشبه بفيلم الكرتون لدرجة أن نهضت عازمة على الخناق، مع من ولماذا؟ لم تشغل بالها بالتفكير كثيرًا، نهضت عن السرير بشراسة وخرجت من غرفتها تتمايل، مشعثة الشعر وعيناها لاتزالا مغلقتان حتى حدث ما يجبرها على الاستفاقة إذ تعثرت قدمها بطرف رقعة السجاد في الطرقة فانكبت ساقطة على وجههًا وأطلقت على إثرها تأوه عالٍ.
لم يكن التأوه سبب انتباه شهاب الذي كان يرص طعام الافطار على السفرة، بل كان صوت ارتطامها بالأرض وكأن نيزك سقط بها كافٍ لينزع قلبه من الخضة.
ركض نحو الرواق في ذعر وما كاد يراها على تلك الهيئة حتى تحول فزعه إلى نوبة من الضحك الشديد أسقطه أرضًا.
رفعت رأسها قليلًا عن الأرض وهي تتأوه، رمقته بنظرة شزراء قائلة:
- هتفضل تضحك كده كتير، دي الرجولة يعني!
حاول شهاب كتم ضحكاته ونهض عن الأرض قائلًا:
- لا طالما دخلنا ف الرجولة هاتي إيدك.
وهمَّ بمساعدتها لتنهض وما كاد ينهضها حتى باغتته نوبة من الضحك فأفلت يدها رغمًا عنه وخرّت ساقطة مرة أخرى؛ فصرخت به:
- شهااااااب!!!!
- خلاص خلاص متأسف..
وتناول يدها وجذبها بقوة لتنهض دفعة واخدة وترتطم به،  كشمس الأصيل حينما تضرب عينيك فتعجز عن رؤية شيء آخر كانت تنظر هي إليه وهو بدوره لم يُحل نظراته الشاردة عن عينيها، تفرس في وجهها مليًا، يتأمل قسماته الفتانة وهي بصعوبة استطاعت كبح رغبتها في الغرق بين ذراعيه دون محاولة للنجاة، غمز لها بعينيه في تساؤل فبدا وسيمًا جذابًا لكنها ارتبكت وابتعدت عنه قليلًا وصاحت في محاولة لإخفاء ما يعتمل بدواخلها:
- كله منك أنت السبب، وفي الآخر تقعد تضحك عليا.
- يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، وأنا عملت إيه ع الصبح هو أنا كنت جيت جنبك أصلا يا بنتي، هو رمي جتت وبلاوي بتتحدف وخلاص.
شهقت وأشهرت سبابتها في وجهه هاتفة:
- watch your language
- أيوا اعوجيلي بؤك بقا، بقولك إيه يا بت خسارة فيكي الأكل اللي كنت محضرهولك أنا هاكل لوحدي كتك القرف.
وتركها عائدًا إلى المائدة بينما تدلى فكها السفلي في ذهول من أسلوبه في الحوار وهتفت صائحة:
- هه بالسم الهاري أكل إيه اللي هتعمله يعني مفكر نفسك الشيف بوراك.
وما كاد يستوي على مقعده حول الطعام حتى سمع صرختها وتذمرها مرة أخرى فضحك وقال وهو يتناول حبات البطاطس المقلية:
- أحسن وربنا ما أنا قايم.
وصلت إلى الصالة وهي تضع يدها ع جنبها من الألم وقالت:
- دا أنا لو متجوزة دكر بط كان هيبقى أفيد لي منك.
انتهت من جملتها وعلامات الاشمئزاز جلية على وجهها وما لبثت أن وقع ناظراها على المائدة سال لعابها وخاصة حينما رأت البيض بالسطرمة والبطاطس المقلية التي هي نقطة ضعفها؛ فقالت بارتباك:
- أنت.. أنت اللي عملت الأكل ده؟
نهض عن المائدة وسار نحوها بخطوات تحمل من الخبث قدرًا ليس هينًا ونظراته تخترق عينيها بابتسامة لئيمة، حتما أضحى قبالتها لا يفصل بينها سوى بضع سنتيمترات قليلة، أخذ يحدق بها طويلا بتلك النظرات الباردة والابتسامة الساخرة وعلى حين غفلة مد يده بطبق البطاطس وغرف منه وحشر بفمها كمية من أصابع البطاطس كتمت أنفاسها وصوتها الذي حاولت إخراجه بمحاولات عديمة الفائدة ولم تملك سوى تحديجه بنظراتها المتسعة على حين قال بصوت ساخر:
- علشان تعرفي إنك مش متجوزة دكر بط.
وبعد دقائق نجحت فيها بمضغ وابتلاع البطاطس وهي تنهج صرخت به قائلة:
- على فكرة دمك مش خفيف أوي يعني بالتصرفات دي، دي اسمها قلة ذوق.
اقترب منها بحركة عدوانية وافتعل أنه سيلكمها بوجهها إلى أن لكمته لم تصل إلى وجهها وقال يجز على شفتيه:
- يا بت أنتِ مجنونة؟! بتتحولي يعني بعد ما بتصحي من النوم؟ إيه جر الشكل ده! ما كنتِ نسمة وديعة امبارح.. أقولك على حاجة أنا سايبهالك وماشي خانقي دبان وشك بقا براحتك.
وتركها ليغادر إلى عمله بينما سألت هي نفسها عن سبب تصرفاتها الغريبة منذ استيقاظها وقبل أن يفتح باب الشقة استوقفته:
- استنى عندك..
- خير عايزة إيه تاني؟
- هعوز منك إيه يعني، أنا.. أنا بس كنت عايزة أسألك أعمل إيه ع الغدا النهاردة؟
أطلق ضحكة جذابة واقترب منها قائلًا:
- اللي يسمعك بتقولي كده يفكرنا اتنين متجوزين بجد أو بشكل طبيعي..
كان لكلماتها وقعًا مريرًا في نفسها، لكنها حاولت إخفائه بينما تابع يقول:
- على العموم ارتاحي النهاردة هنتغدا برة أنا معدتي مش هتستحمل العك بتاعك يومين ورا بعض.. ياللا باي.
وما إن أغلق الباب خلفه حتى ارتطم به نعلها وهي تطلق وابلًا من السباب حالما كان يضحك في الخارج ثم ارتدى نظارته الطبية وغادر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج شهاب من غرفة العناية المركزة بعد فحصه أحد المرضى مصطدمًا برانيا فأسقط سماعتها الطبية المعلقة حول رقبتها، والتي لم تنتبه لها فقد أسرت المفاجأة حواسها بمجرد التقاء عينيها بعينيه مسببًا خفقان قلبها من جديد وظلت تحدق به هائمة ولوهلة لم يكن أقل منها إذ عادت به الذاكرة سنوات للخلف أثناء دراستهما بالقصر العيني متذكرًا نفس المشهد بينهما ولما سقطت سماعتها حينها انخفضا في نفس الوقت لالتقاطها فاصطدمت رأسيهما في مشهد كلاسيكي قديم ومن ثمَّ اشتعلت المشاجرة بينهما والعشق أيضًا.
دمعت عيناها بما يعني تذكرها للحدث نفسه، وصحا شهاب من غفلته وانخفض يحضر لها سماعتها وهو يشير لها بيده ألا تنخفض هي أيضًا وإلا لن يرتفعا من بئر حبهما المظلم مرة أخرى.
أعطاها سماعتها دون أن ينبس بحرف فأومأت برأسها شاكرة وحرك هو رأسه بما يعني لا بأس.
وانفصلا صامتين كما اصطدما لكن بداخلها ضجيج لا يعرف الصمت، وبالأخص شهاب الذي بات يعيش مشاعر متحيرة فمنذ ظهور رانيا ومعرفته بما حدث معها ومأساة زواجها الذي انتهى بعد شهرين فقط وهو يكاد لا يخرجها من عقله وفي الوقت ذاته يشعر وكأنما بذلك يخون نارة ثم يعود ويقنع نفسه بأن علاقته بزوجته زائفة ولا عليه أن يشعر بذلك الذنب ثم يعود ليكتشف أن ما يؤرقة ليس إحساسه الذنب بل ربما أمر أشد رهبة..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخذت نارة تذرع الشقة ذهابا وإيابًا بلا هدف، سئمت جلوسها في المنزل دون عمل، أطلقت تأففًا طويلًا وجلست تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي ريثما انتفضت فجأة على صوت جرس الباب إذ لم تكن تنتظر أحدًا ولا تعرف من ممكن أن يكون الطارق، و ما كادت تفتح الباب حتى أطلقت شهقة مفاجأة حينما رأت بالباب والدتها وأختها.
انتشت فرحًا وجذلًا وراحت تعانقهما في شوق ولهفة قائلة:
- ماما! بتول! وحشتوني أوي.. أنتوا إزاي وصلتوا هنا وليه ماعرفتونيش.. اتفضلوا!
- على مهلك يا بنتي كل الأسئلة دي، أنا طالعة ست أدوار على رجلي، ازاي مافيش أساسنسير شغال في العمارة دي، هاتيلي كوباية ماية.
- حاضر عنيا، اتفضلي ارتاحي.
عادت نارة وناولت والدتها كأس المياه، فجرعتها وهدأت أنفاسها قليلًا، ثم قالت:
- نارة، أنا مش عاجبني الوضع ده، يعني إيه تتجوزي في يوم وليلة لمجرد العناد مع باباكي، طب وأنا فين ليه ماخدتيش رأيي، و.. والراجل اللي أنتِ اتجوزتيه ده مافكرتيش ليه قبل يتجوزك ويجازف بحياته ونفسه وشغله ويقف قدام أبوكي وخطيبك وهو عارف كويس ممكن يعملوا فيه إيه؟! أكيد وراه هدف تاني من اللي عمله ده ما يمكن طمعان فيكي..
- مامي! اهدي بليز وسيببني أشرح لك وأوضح لك كل اللي حصل، بعدها هتعرفي إن شهاب أنبل راجل ممكن تعرفيه في حياتك وإنه لا يمكن يؤذيني.
لم تهدأ ثائرة والدتها في البداية حتى سمعت الحكاية من بدايتها حتى تلك اللحظة التي يتحدثن بها، يتغير تعبير وجهها بين الذعر لما حدث مع ابنتها تارة والعضب من آل شهاب تارة أخرى وأخيرًا الامتنان لذلك الرجل الشهم الذي لم يتخل عن ابنتها وسط كل هذه الأحداث وهو لا يكاد يعرفها، ومع كل ذلك انتبهت الأم لرنة الحب في حديث ابنتها، تلك الرنة ولمعان الأعين الذي لا يخفى عن أم أبدًا، وأنهت نارة حديثها تقول بمرارة:
- وبس هو ده اللي حصل، كلها كام شهر..و ونتطلق وننسى بعض، كأني ماكنتش في حياته في يوم من الأيام.
تبادلت الأم وبتول نظرات غامضة توحي بفهمهما ما يجول بخاطر نارة ومزيج الخوف والحزن من حلول تلك اللحظة؛ فقالت والدتها وجاء ذلك كالصاعقة على مسامع نارة:
- وليه يا بنتي تنفصلوا؟
- مش فاهمة يا مامي تقصدي إيه؟
- لا فاهمة كويس، ليه تطلقوا، صحيح جوازكم كان غريب ومش مترتب له بس في النهاية هو جواز وجوزك ما شاء الله مايتعايبش يبقى ليه ما تحافظيش عليه و على بيتك.
- إزاي بس يا مامي ده كان اتفقنا بس..
- بس أنتِ حبيتيه يا نارة، مش محتاجة تقولي ده ولا احنا محتاجين نسمعه علشان نتأكد، باين أوي في عنيكي.
- لا يا مامي حبيته إيه بس هو أنا لحقت..
- مش محتاجة شهور وسنين علشان تحبي وتتعلقي بحد يا بنتي، الحب مدة حدوثه لحظة يتخطف فيها قلبك ويتحد مع قلب اللي بتحبيه، وتبدأي تحسي بيه وكأنكم روح واحدة في جسدين، لما عنيكي ماتقدرش تشوف غيره كمان أنا متأكدة دلوقتي إن شعورك مختلف عن كونه مجرد حب لأنك متجوزاه حاسه إنه ملكك وإن البيت ده مسئوليتك ومملكتك مش قادرة تتخيلي إن ييجي اليوم يتسحب منك كل ده مش كده؟
هزت نارة رأسها موافقة في يأس وصمتت قليلًا ثم قالت:
- بس للأسف يا مامي مش هينفع.
- ليه يا حبيبتي، هو مابيحبكيش؟ حبك من طرف واحد؟
- مش عارفة بس..
- بس إيه؟
- أنا مش هقدر أقوله إني مش عايزة أتطلق كفاية اللي حصل معاه ومع أهله بسببي وكمان أهله مختلفين عننا ومش هيتقبلوني بسهولة زي ما بابا بردو مش هيتقبله بعد ما اتحداه.
- شغلك صعب يا بنتي بس نصيحة من أمك ما تستسلميش ما ضاقت إلا ما فرجت ولو حبتيه بجد زي ما أنا شايفة في عيونك كده ماتتخليش عن الحب ده.
ابتسمت نارة واحتضنت والدتها وهي تفكر ماذا تخبئ لها الأيام، على حين انتشلتها أختها من التفكير بقولها الماكر مصاحبًا لغمزة خبيثة:
- وبعدين يا نارة المز يستاهل، جوزك مش سهل بردو جان وحليوة وفوق ده كله دكتور ده هما اه معظمهم نسوانجية بس أنا بشوفهم بس وهما لابسين الاسكرب بتجنن.
- بس يا تافهة.
- تافهة؟! خليكي أنتِ كده لحد ما تيجي واحدة تخطفه ع الجاهز، يا عبيطة جوزك معاه ف الشغل ستات من كل صنف ولون ممرضات ودكاترة ومرضى وسكرتيرات وغيرهم.. حلقي عليه بقا اه وبلاش بقا الدبش بتاعك ده لا يطفش.
- مامي هي مين دي؟! إيه يا بنتي ده كله بتتحولي كده إزاي؟
- أنا نصحتك بقا وأنتِ حرة خليكي ف كلاسيكيتك دي مش هتنفعك وهترجعي لنا مطلقة في الآخر.
شهقت والدتها قائلة:
- يا ساتر أعوذ بالله، الملافظ سعد يا بنتي.
كادت نارة أن تهمّ بتلقين أختها درسًا لن تنساه لكن أوقفها رنين هاتفها وجدت المتصل شهاب فأجابته:
- أفندم!
- يا ساتر هو البوز ده مالوش حل.. المهم أنا نص ساعة وهعدي عليكي آخدك علشان نتغدا تمام؟
- أوكيه.
- تكوني جاهزة أنا مابحبش أتلطع كتير وأستنى حوارات البنات بتاعتكم دي.
- يييي قلت أوكيه، باي.
أنهت مكالمتها وسط نظرات ذاهلة محدقة بها وأفواه متسعة دهشة؛ فتساءلت:
- إيه مالكم؟
ردت والدتها:
- مالنا؟ هي دي طريقة المعاملة بينكم؟ أومال لو بتكرهوا بعض هتعملوا في بعض إيه؟
- مفيش فايدة في بنتك يا مامي أنا بقولك أهو من دلوقتي.
- إيه يا جماعة الأوفر ده، عادي يعني شدينا مع بعض شوية.
- أنتوا لحقتوا يا حبيبتي؟ ما علينا هو راجع امتى علشان نمشي قبل ما ييجي؟
- قاللي نص ساعة وهننزل نتغدا برة.
- لا كده بقا ياللا قدامي نختارلك اللي هتلبسيه والميكب وكل حاجة.
- إيه ده يا مامي أنا هنزل كده.
- ليه يا حبيبتي نازلة تقابلي صاحبتك؟
- نارة يا حبيبتي اسمعي كلام مامي بدل ما يطفش بجد.
- أوووف أمري لله ياللا اتفضلوا.. بس بسرعة مش عايزة أتخانق معاه تاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاد شهاب إلى المنزل وما إن دلفه وأغلق الباب حتى وقع نظره على نارة تخرج من الرواق إلى الصالة، تسمر مكانه وكأن قدماه تتشبث في الأرض خشية انهيار جسده الذي لم تعد تتحمله، حدق بها مليًا ومقلتاه تتسعا في انبهار من حسنها وأناقتها، كانت ترتدي فستانًا طويلًا بلا أكمام باللون السماوي، وتعقص شعرها للخلف في تسريحة أنيقة إلا من بعض الخصلات المنسابة على وجنتيها تضفي عليها جمالًا فاتنًا، كما أبرزت بعض المساحيق التجميلية تفاصيل وجهها الجميل لتبدو أكثر أنوثة. ابتسمت في خجل وهي ترى نظرات إعجابه وقالت على استحياء:
- أديني جهزت أهو قبل ما توصل كمان.
اقترب منها ومازالت أنفاسه مخطوفة حتى توقف أمامها قائلًا:
- امم دي حقيقة بس كده للأسف مضطرة إنك تستنيني أجهز.
احتدت في وقفتها ورمقته بغضب قائلة:
- أفندم، يعني عمال تديني محاضرات في الفون وفي الآخر..
- بدون عصبية بس يا زوجتي العزيزة، أنا ماكنتش عامل حسابي على الشياكة دي كلها فكده هضطر ألبس حاجة عليها القيمة أنا كمان.
منعت ابتسامتها لاطرائه في صعوبة وقالت وهي تلوح بيدها في خجل:
- أاا..  تمام بس بسرعة مش بحب أستنى كتير.
- هوا.
قالها ورمى ابتسامة خاطفة ثم دلف إلى غرفته ولم يتم الدقيقة حتى خرج قائلا:
- ياللا بينا؟!
تعجبت لسرعته فالتفتت إليه في سرعة تطالعه وما لبثت أن تعالت ضحكتها وهي ترمق ثيابه وقالت:
- بس كده؟!
لم يكن ليبدال ثيابه بل ارتدى فوق قميصه سترة رسمية وحسب..
- أومال أنتِ فاكرة إيه، هو إحنا زيكوا؟! إحنا بنعرف نصرف نفسنا ياماه.
في منتصف الطريق، وبينما كان الحرج يتملك نارة وهي تراقبه يقود في صمت لولا المذياع الذي كان يرمي بأصواته دون أن يلقَى لها بالًا، شجت ذلك الصمت بسؤالها:
- هو.. إحنا رايحين على فين؟
- والله أنا كنت ناوي أؤكلك في مسمط الصراحة بس بعد الجمال والشياكة دي لو رحنا هناك إما هبات الليلة دي في التخشيبة أو في المستشفى.
ضحكت وقالت:
- ما هو ده جزاء اللي يعزم بنت في مكان زي ده، هو انت واخد واحد صاحبك؟!
ثم صمتت هنيهة وبعدها قالت:
- احم وبعدين ليه تتخانق علشاني يعني أنا مش مراتك بجد.
رد في لهجة شبه دبلوماسية:
- هو إحنا آه متجوزين كده وكده بس قدام الناس أنتِ مراتي يعني شرفي وبعدين حتى لو مش مراتي لو مجرد زميلة وقاعدة معايا وحد رفع عينه فيها واجب عليا أفقعهاله. دي رجولة يعني مالهاش علاقة بصلة قرابة فهمتي؟
هزت رأسها بخيبة وهمهمت:
- فهمت.
لاحظ حنقها وانكسارها الباديين على محياها فابتسم في خباثة إذ تقصد ما قاله على أن يصلها بالمعنى الذي فهمته وقال في سره:
- ربنا وحده يعلم أنا ماسك نفسي عنك إزاي، الشيطان عمال يوزني عليكي وأنا مش عايز أسمع كلامه، اهمدي بقا يخرب بيت حلاوتك.

توقفت السيارة أمام مطعم شهير راقٍ، نزلا منها وتقدما بضعة خطوات نحوه وبمجرد دخولهما استقبلهما النادل مرحبًا وحينما همَّ شهاب بالتحدث معه اندهش لتلك الذراع الرقيقة التي تأبطته في هدوء، ألقى بنظره على يدها الملتفة حول رسغه ثم إلى عينيها المتألقة غي بريق ساحر يتناغم مع ابتسامتها الباهرة وما لبثت أن تحولت نظراتها إلى إشارة له ليستفيق من شروده وينتبه للنادل الذي يحادثه..
دلهما النادل على طاولتهما وانتظر ليأخذ طلباتهما وقد أعطى كلا منهما قائمة الطعام، لم يهتم شهاب لنوع الطعام فقد شعر بالشبع فعلا وتبدل جوعه باهتمامه بتلك الفاتنة التي ترافقه وهو مازال غير مصدق أنه يجلس برفقة فتاة كان يتمنى لو أن تلقي له مجرد نظرة، راقبها بأعين هائمة وهي تطالع القائمة وقد تحيرت فيها قليلًا حتى انتشلته من ضياعه لتصدمه بقرارها:
- أوكي إيه رأيك ناكل سوشي وجمبري وسي فود؟
برقت عيناه وهو يهمهم بسره:
- يا نهار مش فايت، سي فود وجمبري إيه يا ست هوديه فين الفوسفور ده كله!!
ثم قال بصوت مسموع:
- أكيد؟
- آه أنا بحبه جدا أنت مش بتحبه؟
- لا ازاي بس أنتِ اللي جبتيه لنفسك بقا..
- هاه؟
- يعني أنا مش مسؤول عن اللي هيحصل.. خالص بقا يعني فهماني.
- أنت بتقول إيه مش فاهمة حاجة؟
حينذاك لمح شهاب النادل وهو يضحك خلسة وقد فهم ما يرمي إليه شهاب، فحدجه بنظرة غضب مصطنع وأمره بأن يهمّ بتحضير ما طلبا.
في نفس الوقت بمدخل المطعم دلفت صديقتان وكما جرت العادة استقبلهما النادل في ترحاب واحترام وقبل أن تخبره إحداهما برقم طاولتهما المحجوزة، ترنحت وتشوشت رؤيتها حتى أظلمت تمامًا وسقطت مغشيًا عليها، سادت حالة من الضوضاء والهرج وهم يتساءلون عن طبيب في المكان، وحين سمع ذلك شهاب نهض سائلًا أحد النادلين:
- أنا دكتور، خير فيه إيه؟
- تعال معايا يا كتور لو سمحت، فيه واحدة من الزباين أغمى عليها.
سار معه شهاب ومن خلفه نارة حتى وصلا إلى مكان المريضة، تجمد شهاب من الدهشة وهتف بفزع:
- رانيا!!

نارة (مكتملة) Where stories live. Discover now