مراجعات كتب

دلشاد: سيرة الجوع والشبع

كانت هذه الرواية مرشحة في القائمة القصيرة للفوز بجائزة البوكر العربية، وقلت في نفسي لماذا لا نخوض هذه التجربة العُمانية الجديدة؟ لم تطأ قراءاتي عُمان قبل ذلك، لا قرأت لروائيين من هذا البلد، ولا روايات من هذا المكان، واستحق الأمر التجربة، التي سأقف على حيثياتها هنا.

أمسك بالجانب المشرق أولًا، لقد نقلت إلينا بشرى خلفان عمان بشكل مفصل، السوق.. الفقر.. التاريخ، التاريخ الذي يفرد بساط أحداثه فوق حقبات من الحروب، جلبت الموت والجوع إلى مسقط وإلى مطرح، وإلى دلشاد وابنته.

استخدمت الكاتبة التعدد الصوتي، فأججت نيران التشويق في هذه الرواية، فإننا لا نرى جوعًا واحدًا ولا فقرًا واحدًا.. ولا معاناة واحدة، بل يتمثل في كل شخصية هنا، الجوع هو دلشاد.. الجوع هو نورجيهان.. الجوع هو مريم! هل استمر ذلك إلى نهاية الرواية؟ كلا، بدأت الشخصيات تتزايد، ولكل منها دوره في السرد، فتسارعت وتيرته، وأصبح من الصعب على القارئ إدراكه رغم متعة الحكايات.

وما زاد الطين بلة، أن الاتفاق الذي عقده القارئ مع الكاتبة في إطار الرواية كان ناقصًا! فالأحداث لا تدور حول دلشاد.. الطفل الضحوك الذي يجابه الآلام تباعًا.. بل حول ابنته، منذ اللحظة التي تخلى عنها ليقطع نسل الجوع الذي يطوف حولها، ولا تقع الرواية في جزء واحد يضم سيرتي الجوع والشبع، بل تقع في جزئين، ويكتشف القارىء هذا في خاتمة الرواية بسطر قصير، فتعود إليه أنفاسه.. بعد أن اختفت، فكيف سقطت النهايات والشخصيات ناقصة على الورق؟ لابد من تتمة، وها هي ذي نوعد بها، أتمنى أن تكون سيرة الشبع هي التتمة التي ننشدها جميعًا لإشباع تعلقنا بهذا العمل الأدبي، وربما نعقد اتفاقًا كاملًا منذ البداية، لبناء صورة كاملة عما نقرأ.

لم تغننا الكاتبة بتتمة أحداث وتفاصيل أخرى لا علاقة لها بالجزء الثاني، ففي حكاياتها المزيد، الذي تبعده عن أعيننا، فتبعدنا عن دلشاد عند موت زوجته، وعنه عندما يهرب من ألم فراق ابنته طول السنين، وتنساه كما نسيه أصحابه في الهند بعدما ضاع، وهو البطل المنتظر! كما تشتتنا بفردوس أخت عبد اللطيف، فأما فردوس فقد طافت حولها شكوك وإيحاءات متعددة.. مرة تتحرش بالخادمات ومرة تنهار لحبيب مغادر وأخيرًا تتزوج لتنجب، كما نراها تارة تحسن معاملة مريم وابنتها وتارة أخرى نراها تتوعد لمريم بسلب ابنتها وإيذاقها الويل، كان بناء شخصية فردوس متزعزعًا..

وبالرغم من ذلك تستحق هذه الرواية فرصة، كان سرد بشرى خلفان ووصفها خلاقًا، سلس بسيط.. وغني باللهجات واللغات، التي تمنيت رؤية معناها وتفسيرها في الحاشية، ربما في الجزء الثاني! تستحق هذه الرواية فرصة.. لأنها على بعد شعرة من الوصول إلى شكلها الأجمل والأكمل.

اقتباسات:

«لم أكن أعرف أن العالم خلق محمولًا على أكتاف الآباء، وأن السماء تسقط متى ما رحلوا، وأن الحياة، كل الحياة تصبح خالية إن خلا منهم المكان، وأن نظرة العتاب في عيونهم، ما هي إلا دروس قصيرة، تمرر بين القلب والعين.»

«الجهل أشد الضعف» يقول أبي، ينخر الأمم من داخلها كجيش من الرمة، ثم يجعلها تتهاوى عند أبسط لمسة من العدو. «السور لا يحمي أحدًا» كان يقول محاججًا الكبار في المأتم: «العلم وحده يفعل ذلك».

«ورغم أني لم أشهد أيًّا من تلك الحروب القديمة، ولم أعرفها، فإني أعرف الجوع، وأتذكره جيدًا، فمن عرف الجوع يعرف أنه يبقى في الدم، مثل مرض، ولا يمكن لأي شبع بعده أن يشفيك منه»

«وكأن الوجع لا يغادر القلب إلا ليفسح مكانًا لوجع آخر يحل محله.»

«ترى هل هذا ما يحدثه الغنى والشبع في النفوس؟ أن يتحول خيط الدم إلى صرة مال، ويصير الحليب مجرد قروش تعد؟»

«قاسٍ هو الجوع… قاسٍ وقبيح، ومثلي يقف عاريًا بلا أب.»