الفصل الثانى

367 8 0
                                    

الفصل الثاني : مكاشفة و قرار

دخلت خلفه إلى غرفته على استحياء. لأول مرة في حياتها تتواجد في غرفة رجل غريب عنها. رجل تملؤه الشكوك في شخصها وخلقها. تنهدت في سرها و كررت لنفسها أنها ليست لديها العديد من الخيارات.
تأملت الغرفة البسيطة بنظرات سريعة ثم جلست على أحد الكرسيين بينما اختار هو الوقوف متكئا على الحائط. عقد ذراعيه على صدره و انتظرها لتبدأ حديثها.
لأول مرة منذ قابلته تتاح لها فرصة تأمل ملامحه بشكل واضح. كان الفانوس بجانبه بينما كانت هي نسبيا في الظلام إضافة إلى أن خمارها كان مازال مسدلا على وجهها ، لذلك لم يكن في استطاعته تبين نظراتها إليه.
بدا لها مختلفا عن أي رجل رأته من قبل و اعترفت لنفسها أنه كان رجلا وسيما جدا ، كانت وسامته لا تكمن فقط في تناسق ملامحه بل في قوتها و جاذبيتها. و رغم طيف الحزن الذي كان يغلف نظراته و قسماته إلا أن ذلك لم ينقص شيئًا من السحر الذي ينساب منه. شعرت بالضعف وهي تحدق في عينيه. كانتا سوداوين تتلألأن في وجهه العريض، كجزيرتين غامضتين تأسران كل من يقترب من شواطئهما. شعرت بإدراكها يتعطل شيئًا فشيئًا و لأول مرة في حياتها تعجز تماما عن فهم أحاسيسها.
أما هو فقد انتظرها عبثا لتبدأ بالكلام فلما طال صمتها بادرها قائلا بصوته العميق : لا داعي للعجلة أبدا يا فتاة ، لدينا الليل بأكمله كما تعلمين.
أحست بحرج شديد فأسرعت تقول مبررة : كنت فقط أحاول استيعاب الأحداث الأخيرة التي مرت بي.
علق بخشونة : إذن فلتوقيظيني حين تكونين مستعدة للكلام.
تنهدت و بدأت في سرد قصتها بقدر ما يمكنها من إيجاز. انبعث صوتها الرخيم و هي تقول :
- كان أبي تاجرا معروفا موفور الثراء و كنت أنا ابنته الوحيدة إلى أمد غير بعيد. عندما بلغت السادسة عشر أنجبت أمي ولدا ذكرا و ما لبثت قليلا حتى وافتها المنية. ساءت حالة أبي كثيرا بعد موت أمي و لم يعد بقادر على القيام برحلات تجارية كما في السابق فتوليت أمرها بنفسي بمساعدة صديقه الأقرب إليه. بعد أربع سنوات من وفاة والدتي و إثر عودتي من رحلة طويلة، وجدت أبي قد عقد قرانه على إحدى النساء. كانت امرأة قد ترملت حديثا وقررت أن تعود لتقضي بقية عمرها في مدينتنا حيث ولدت و شبت. جاءت مع ولدها الأصغر الذي كان لا يزال أعزبا. و على قدر ما كانت هي ظريفة المعشر و لطيفة الطبع على قدر ما كان ابنها ثقيل الظل كريها و لزجا. منذ أن دخل حياتنا و هو يفرض نفسه علي يريد الزواج مني. و ما زاد الأمر سوءًا أنه اتخذ لنفسه منزلا غير بعيد عنا فأصبح ضيفا شبه دائم لدينا.
صمتت قليلا لتلتقط أنفاسها ثم واصلت بلهجة خاوية:
- بعد مضي عامين على زواجه الثاني بدأ والدي يتعرض لنوبات مرضية متتالية انتهت بوفاته. في إحدى الليالي التي تلت موت أبي غفوت في الحديقة و لم أصح إلا في النصف الأخير من الليل، سرت إلى البيت بهدوء حتى لا أوقظ أحدا. حين اقتربت من نافذة المطبخ سمعت همسا ، اقتربت و أصخت السمع فميزت صوت "أسعد" ابن زوجة أبي يكلم امرأة. كان صوته واضحا لقربه من النافذة بينما كانت المرأة بجانب باب المطبخ لتراقب باقي المنزل، كان يخبرها أنني لو لم أوافق على الزواج منه قريبا فإنه سيقوم باختطاف أخي بعد أن قام بقتل أبي و سيستغل فرصة انشغالي في البحث عنه و يقوم بنهب ما يستطيع نهبه من أموالنا.
قاطعها متسائلا : و أي حق له في أن يتصرف في مال ابيك.
أجابته بحزن : كان أبي رحمه الله بناءًا على طلب زوجته جعله شريكا صغيرا له. كنت أنا شريكة أيضا و كان صديق أبي يتابع الوضع بين فترة و أخرى و لذلك فهو يستطيع بغيابي أن يستولي على الكثير.
صمتت فأمرها أن تكمل. أجابته بأسى : هذا كل شيء. مادام وغد مثله ينوي اختطاف أخي و ربما قتلي من بعده فلن أستطيع منعه خاصة و أنا أعيش في هذه المدينة التي يكثر فيها أصحاب الأنفس الوضيعة.
مهما حاولت إخفاء أخي فسوف يصل إليه. صدقني لو كان الأمر متعلقا بي لما اكترثت فلم يعد لي أي مبالاة بالحياة بعد أبي و أمي. و لكني مسؤولة عن سلامة أخي و لن يرتاح لي بال إلا حين أرحل به بعيدا.
سألها باهتمام: لماذا لم تحاولي قتله انتقاما لأبيك و اتقاءًا لشره؟؟
أجابت بعد تنهدة عميقة : أتظن أني لم أفكر في هذا الأمر، كن واثقا أني فكرت كثيرا بذلك و تأكد أني سأعود يوما ما لأنتقم منه. لكن المشكلة أني لم أعرف شريكته فلم أستطع تمييز صوتها في تلك الليلة و لم أتوصل إليها إلى هذه اللحظة.
قاطعها متسائلا : و من عساها تكون سوى والدته!؟؟
أجابت بحيرة : لا أكاد أصدق أنها هي. أشك بذلك كثيرا ، الأرجح أن تكون شريكته هي إحدى وصيفتي أمه و أخشى إن قتلته أن تقوم شريكته باستكمال خطته انتقاما مني. و لعلك لا ترى أن أقتلهن جميعا درءًا للشك.
صمت قليلا ثم سألها و قد تذكر شيئًا ما : لم تخبريني عن قصة ذلك الرجل الذي حاول إرغامك على الدخول إلى بيته.
أجابت بمرارة : عديم الشرف ذاك؟ القصة و ما فيها هي أن صديق أبي الذي أخبرتك عنه و الوحيد الذي بإمكاني الوثوق فيه سافر في رحلة طويلة لن يعود منها قبل شهر. لذلك وجدتُني بلا سند. و كنت ملزمة أن أرحل مع رجل خبير بالسفر لأني إن استطعت أن أرعى نفسي فلن أقوى على حماية أخي.فبدأت أسعى إلى رجل موثوق به.
صمتت وهي تتذكر كيف ذهبت إلي ماشطتها و ألفت قصة من نسج خيالها عن صديقة لها تريد الهروب لتقابل محبوبها في إحدى المدن البعيدة و تتزوجه فرارا من سطوة أبيها و إخوتها . طلبت من الماشطة أن تدلها على رجل ذي مروءة لا يطمع في الفتاة حين تسافر معه وحيدة. تذكرت كيف شعرت بقرب الخلاص حين بشرتها المرأة بعثورها على الرجل المنشود و كيف طلبت منها عربونا تقدمه له.
أخرجت نفسها من ذكرياتها لتكمل موضحة : عندما قابلتني هذه الليلة كنت متوجهة إلى بيت الرجل الذي دلوني عليه لأتفق معه على تفاصيل الرحيل. حين طرقت الباب خرج لي صاحب له و أخبرني أن رفيقه ذهب ليثمل بعد أن حصل على مبلغ من المال. ثم أخذ يدعوني إلى الدخول و قال لي ما معناه أنه و صاحبه واحد و يبدو أنه ظن في نفس ما ظننته أنت. عندما لم أر في طاقة بمقاومته تظاهرت بالانصياع له و حين استدار ليغلق الباب طعنته بخنجري في ذراعه و لذت بالفرار.
علق باقتضاب : خيرا فعلت.
ثم تساءل بصوت هادئ : اذن لهذا تريدين الرحيل؟
أومأت بالإيجاب فواصل موجها الحديث لنفسه أكثر مما إليها : و بما أنك ستصطحبين أخاك معك فهذا يعني شخصين إضافيين يرافقانني.
صححت له بصوت خجول: ثلاثة
كرر كلمتها باستنكار : ثلاثة!!! ماذا تعنين؟
أجابته بصوت مرتجف : أنا و أخي و مربيته
أكمل هازئا : و أصدقاؤه و جيرانه و جميع معارفكم.
انتصبت واقفة وهي تقول : أرجوك إنه لا يستطيع العيش بدون مربيته و أنا لا أعرف شيئا عن تربية الأطفال. ثم إني سوف أدفع لك أجرة كل منا على حدة. أرجوك لا ترفض و إن كنت لا تستطيع فدلني على من تثق فيه و يستطيع مساعدتي.
شبكت أصابعها في توتر و هي تنتظر إجابته. كانت تكاد تسمع وجيب قلبها و هي تراقبه مستغرقا في التفكير ثم التفت إليها أخيرا و قال لها بإيجاز : سآخذكم معي
قبل أن تطلق تنهدة ارتياح فاجأها بطلب غريب حين أمرها قائلا : و الآن أريني وجهك
تبعثرت الكلمات من عقلها للحظات ثم سألته حائرة : لماذا ؟ ما الغرض من رؤيتك لوجهي؟؟!
شرح لها بصبر : حتى أرى إن كنت مناسبة لأداء المهمة التي وعدتِ بتنفيذها مقابل مساعدتي لك.
ظلت مترددة لبعض الوقت، و رغم أنها في العادة لا تغطي سوى شعرها. لكن كشف وجهها أمام هذا الرجل الغريب و في هذا المكان الغير مألوف بدا لها صعبا بشكل لا يصدق.
تهكم منها قائلا : صدقيني سواءًا كنت قبيحة كالأبالسة أو جميلة كالحوريات فلن أقع مغشيا علي.
قالت و هي ترفع خمارها ببطء : لست بهذه ولا تلك...
عندما كشفت عن وجهها ظل يتأملها لبرهة . فاجأه جمالها و حرك فيه مشاعر ظن أنها ماتت منذ زمن. لم تكن حتما أجمل امرأة رآها في حياته لكنَّ شيئا في قسماتها كان يجعلها تبدو مألوفة، عذبة و قريبة من القلب. نفض عنه هذا الخاطر بعنف فلا مكان لأي امرأة في قلبه.
كانت ما تزال تحدق في الأرض فسألها ساخرا ليبدد حرج تلك اللحظات: عمّ تبحثين في الأسفل؟
- عفوا؟ سألته و هي ترفع عيناها إليه لأول مرة. حبس أنفاسه عندما التقت نظراتهما. كانت عيناها عالما كاملا، تخفيان الكثير و تقولان الكثير في الآن ذاته. صافيتان، صريحتان، خلابتان . عندما أسبلت الفتاة جفنيها أخيرا خجلا من تحديقه فيها شعر باستياء شديد و أحس أنه لم يكد يرتوي من رقة نظراتها. أغمض عينيه قليلا ليتمالك نفسه ثم خاطبها بصوت حاول أن يكون هادئا :
- سنخرج من هنا الآن و سأشرح لك المهمة في الطريق . إن رأيت أنك تستطيعين أداءها فليكن و إن وجدت أنها عسيرة الأداء سأبحث عن فتاة اخرى

انتهى الفصل

رواية الرحيل اليه لكاتبة نغم الغروبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن