الفصل الثامن

ابدأ من البداية
                                    

**************

بعد أيام قليلة انتهى عمل المباحث الجنائية وتحريات الشرطة وأغلق المحضر
بتسجيل حادث الحريق قضاء وقدر
توجه جلال ويوسف إلى أرض الحظيرة أو ماتبقى منها
دارت نظرات جلال بالمكان بحزن وغضب مكتوم فها هو يفقد جزء جديد من أرث العائلة
ولا يملك من الأمر شئ
أقترب يوسف منه بعد أن استشعر آلمه ووضع كفه على كتفه بقوه مؤكداً بعزم
:- هتتبنى تانى وأحسن من الأول
ضم جلال شفتيه بحنق ثم زفر بقوه قبل أن يتوجه بنظره نحو يوسف يبوح بما فى صدره
:- أنا طول عمرى عايش فى البلد ... كل شبر فيها جزء من ذكرياتى ... أهلى طول عمرهم
بيبنوا ويعمروا ويزرعوا ... لكن اللى حصل فى السنين الأخيرة أتسبب فى بيع أراضينا
عشان نسدد الديون وأدى خسارة جديدة ... ميراث عيلتنا بيضيع قدام عينيا يايوسف وأنا واقف أتفرج
تنهد بقوة قبل أن يردف
:- أحنا حالياً كل اللى نملكه مزرعة الفواكه ومبلغ بسيط فى البنك
(طأطأ رأسه مردفاً بشجن) وأنا دلوقت بشتغل وبشرف على مزارع فى
قرى جنبنا عشان أزود الدخل شوية
... أعمل إيه تانى؟ دبرنى يايوسف!!
شعر يوسف بمدى الألم والمرارة بصدر ابن عمه وحجم المسئولية الملقاة على عاتقه
للحفاظ على اسم عائلته ومدى عبء الثأر وتبعاته ورغم ذلك حاول الابتسام
قائلاً بمواساة ومؤازرة
:- أنا معاك دلوقتِ ياجلال وأيدى فى أيدك هنرجع كل حاجة مرة تانية إن شاء الله
(نظر فى الأفق وأردف بشرود) والتار هيكون له نهاية
أومأ جلال بصمت قبل أن يقول بعد عدة لحظات
:- المهم نبدأ دلوقتِ نبنى الحظيرة .... أنا هتفق مع آآآآآ
قاطعه يوسف بإصرار :- هنبنيها أحسن من الأول ... أنا عاوزك تعمل دراسة جدوى
(مرر نظره على الأرض الشاسعة أمامه مردفاً) مساحة الأرض كبيرة نقدر نعمل
حظاير مناسبة وأماكن مجهزة للحلب ونزرع جزء برسيم وعلف
قطب جلال بين حاجبيه قائلاً بتعجب
:- الكلام ده عاوز مبالغ كبيره أوى ... عشان تبنى وتجيب بهايم أكتر من اللى عندنا
وتزرع كمان .... هنجيب فلوس منين يايوسف
مسح يوسف على ذقنه مفكراً للحظات قبل أن يقول بحماس
:- أنا عندى مبلغ كويس جداً فى البنك هنبتدى به ومش لازم ننفذ كل المراحل مرة واحدة
ممكن بالتتابع ولو زنقت أوى ناخد قرض
رفع جلال يده برفض وقال معترضاً
:- لا يا يوسف أنا مش هعرض باقى أملاك العيلة لضمان قرض مانقدرش نسدده
ويحجزوا على باقى أملاكنا
فرك يوسف رأسه قبل أن يقول بتعقل
:- بلاش قرض ... نبتدى خطوه خطوه ... وأنا عندى شغلى وأنت عندك شغلك كمان
ولو أحتجنا نشوف شريك
أقترب خطوه من جلال وشد على كتفه بمؤازرة ثم قال بجدية شديدة
:- أنا معاك وهدفنا واحدة وهننجح إن شاء الله
بدأ الأمل يُشرق فى نفس جلال وقد شعر أنه لا يقف وحده أمام المشاكل بعد الأن
فابتسم بهدوء فى وجه ابن عمه لتتصافح أكفهم برجولة فى عهد صامت
على المحافظة على اسم العائلة

*************

فى فيلا السمرى تجلس فهيمة متربعة على الأريكة فى بهو المنزل تتناول قهوتها
بهدوء حين دلفت لبيبة بائعة الملابس المتجولة (الدلالة) هاتفه
بأنفاس هاربة من حملها الكبير
:- صباح الجشطة على ست الستات
رمقتها فهيمة باستغراب وهى تراها تضع حقيبتين ضخمتين أرضاً وتساءلت بتعجب
:- خير يا لبيبة ... إيه اللى فكرك بينا على الصبح إكده
تقدمت لبيبة وجلست أرضاً تلتقط أنفاسها بجانب أريكة فهيمة وقالت موضحة
:- سى فاروج بيه ربنا يسعد أيامه ... كلمنى من يومين وطلب شوية حاچات لأم الرچال
لوت فهيمة شفتها بامتعاض تمرر نظرها على الحقائب الضخمة وغمغمت بخفوت
:- كل ده شوية حاچات
انزلت ساقيها أرضاَ ووضعت الفنجان جانباً لترن الأساور الذهبية في يدها بصخب
ثم أمرت لبيبة :- افتحى وفرچينى ... معاكِ إيه؟
أسرعت لبيبة فى تنفيذ الأمر هاتفه بحماس
:- حاچات زى الفل .... أول ما فاروج به أمر نزلت على المحافظة طوالى ...
لفيت ودورت وچبت أحلى حاچة فى السوق
وضعت بعض العبائات أمام فهيمة مردفة
:- شوفى يا حاچة ... اتفرچى لبس أخر موضة
قلبت فهيمة فى الملابس بنفس غيورة ثم انتقت أحدى العبائات المنزلية المطرزة
لنفسها لكن لبيبة تنحنحت بحرج قائلة
:- لامؤاخذة ياحاچة ... دول مجاس الست أمل
مدت ذراعها تجذب بعض البضاعة من الحقيبة الأخرى مواصلة الحديث
:- عندى حاچات مجاسك شغل عالى (عرضتها أمام فهيمة مردفة) شوفى ياحاچة
فى نفس اللحظة دلف فاروق من الخارج وتفاجأ بوجود لبيبة وغياب أمل عن الجلسة،
ألقى السلام على الحضور فجاوبته لبيبة بترحاب
:- أهلاً بأبو الرچال ... چبت شوية حاچات مفيش زييهم فى البلد كلاتها هيعچبوك جوى
طالع فاروج وجه والدته الممتعض وقال بعفوية
:- المهم يعچبوا أمل
حركت لبيبة كفيها فى الهواء لتضع واحد فوق الأخر قائلة بثقة
:- وهو أنا مش خابرة ذوجها ... ده أنا اللى بلابسها على طول حتى چهاز چوازكم
أنا اللى چبته كلاته ... وأكيد عچبك
أخفض فاروق نظراته بحرج وتنحنح بخفوت ثم سأل والدته
:- فينها أمل أومال
لم تجيب والدته على تساؤله ولبيبة تحرك نظراتها بينهم بصمت
... فأردف وهو يتحرك للداخل :- هنادم عليها
عند باب المطبخ من الخارج نادى على زوجته دون الدلوف
حتى لا يسبب الحرج للعاملات بالمطبخ
أسرعت أمل بالخروج مجيبة ندائه فقبض على ساعدها برفق وانتحى بها جانباً قائلاً بخفوت
:- خالة لبيبة بره ... اخرچى اختارى اللى تريده واللى مش موچود اطلبيه وتچيبه
حدقت بعينيه السوداء الحنونة بعدم فهم وهو يكمل حديثه بعاطفة
:- سامحينى لو جصرت معاكِ ... أنا خابر أنك لابتروحى ولا بتاچى والمفروض
أنا اللى أچيب اللى تحتاچيه
واصلت تحديقها بوجهه بنظرات اتهام لانشغاله بحب امرأة أخري وقالت لائمة بخفوت
:- اللى واخد عجلك
مال بقامته الفارعة يقترب برأسه من وجهها الجميل ...يغوص بشهد عينيها اللوزية
هامساً بغزل يتراقص بعينيه
:- يتهنى به ... وبالهنا والشفا على جلبه
رفعت كفها مقبوضة ووضعتها على شفتيها تكتم بسمتها الخجلة
بينما كفه الدافئ يمسد ساعدها بحنو
تعالى صوت فهيمة ينادى بضجر :- يا فاروج
ثم غمغمت متذمرة بصوت لايسمعه سواها (كل مايروح ينادم عليها يجعد چارها)
استقام فاروق فى وقفته بعد نداء والدته ومرر كفه من على ساعد زوجته ليفردها
على ظهرها بدفء يحثها على أن تتقدمه ... هامساً بقلة حيلة
:- يلا بدل أمى ما تجلب علينا
تقدمت أمل نحو البهو يتبعها فاروق وكلمات لبيبة المرحبة تستقبلها بحرارة
جلست على مقعد قريب من لبيبة التى قامت بإخراج محتويات حقائبها حولها
وبدأت فى عرض بضاعتها قائلة
:- اتفرچى واختارى ياست الحسن ... سى فاروج موصينى أچيب كل اللى
تحتاچيه من الإبرة للصاروخ
اختلست نظره خجلة نحو فاروق الذى يتابعها باهتمام بينما مصمصت فهيمة شفتيها
وكتفت ذراعيها تحت صدرها تتابع بحنق
التقطت أذنى فاروق صوت اعتراض والدته فتنحنح بخفوت والتفت نحوها
يشتت انتباهها عن زوجته قائلاً بصدق
:- ماتشوفى حاچة لكِ يا أماه
لوت شفتيها بانزعاج وأشاحت بنظرها بعيداً مرددة بكبرياء
:- لاه ... أنا بنتِ بتچيب لى حاچات من بره مصر وهى معاودة من السفر
أجابها فاروق بتلقائية
:- أختى هتتأخر فى الرچوع السنة دى ... چوزها عنديه شغل
تأففت فهيمة وقالت متذمرة
:- وهى مالها به … ترچع وتهمله (غمغمت بخفوت) كان يوم أخبر يوم ما أخدها وسافر
تابع فاروق بطرف عينيه حركة أمل وحديثها الجانبى مع لبيبة ثم أجاب والدته
:- چوزها يا حاچة ... تهمله كيف يعنى .. مش أصول
خبطت بكفها على ظهر كفها الأخر معترضة وأساورها تصدر رنينهم الذهبى بصخب
ثم عادت لتركز نظراتها على الملابس التى انتقتها أمل ووضعتها بجانبها ...
كادت تعترض على كم الملابس المختارة
ولكن فاروق الجالس لغرض فض القوات وحماية زوجته من لسان والدته سبقها قائلاً
:- تعالى نجعد مع أبوى فى الچنينة يا أماه ... مادام مش محتاچة حاچة من خالة لبيبة
لم يعطها فرصة للتفكير أنما نهض من مكانه ومد كفه نحوها يحثها على النهوض
رمقته بغيظ ولكنها استجابت لكفه الممدود بصمت لوجود لبيبة بينهم
ونهضت معه مغادرة البهو متأبطاة ذراعه
لوى رأسه للخلف يُلقى نظره على ابتسامة زوجته الفرحة بملابسها الجديدة
والتى رفعت مقلتيها نحوه بسعادة طالت غيبتها عن مقلتيها فغمز لها بخفة
جذبت فهيمه ذراعه بسخط لينتبه لها قائلة من بين أسنانها
:- لما الهانم تطلب لازم تطيع ... كان لازمتها إيه كل الحاچات ديه
حرك نظره نحو والدته وانتظر ثوانى حتى خرجوا إلى شرفة الفيلا حيث يجلس
والده فى الشمس يطالع الجريدة
توقف فاروق أمام الباب الخارجى والتفت نحو والدته قائلاً بتأكيد
:- أمل عمرها ماطلبت حاچة لنفسها يا أمى وحضرتك خابرة مليح ...
أنا اللى طلبت من لبيبة ... ماهو مش معجول مراتى تلبس لبس جديم
ومتبهدل وحضرتك خابرة أمل مابتخرجش بره الدار
هتفت بغيرة واضحة
:- تطلب عباية ولا اتنين ... مش كل ده
أرخى جفنيه بقلة حيلة فى التعامل مع والدته ثم قال يحاول التحكم بأعصابه بقوة كبيرة
:- يا أمى يا أمى ... أمل بجالها سنين ماچبتش لبس چديد ... وكله فى وشى
وأديكى شفتِ فى عزومة أحمد لبسها من لبس نچوى ... أهمل مراتى تلبس هلاهيل
أنهى جملته ونبرته تعلو قليلاً وأعصابه تنفلت عن السيطرة
فأضاف بنبرة أعلى خارجة عن إرادته مؤكداً
:- أمل لا بتطلب ولا بتشتكى… وصابره وساكتة وأنا كمان صابر وساكت يا أماه
لاحظت والدته انفعاله الواضح وبداية انفلات أعصابه فرمقته بكبرياء
ثم تحركت مبتعدة ببرود لتنضم لجلسة زوجها

التقينا فأشرق الفؤاد بقلم / إيمان سلطانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن