الفصل الثالث

ابدأ من البداية
                                    

******************

مرت الساعات ويوسف حبيس غرفة البدروم لايدرى عما يدور بالخارج، يكتنف رأسه صداع ثقيل من أثر الضربة التى تلقاها على رأسه ومن تسارع الأحداث التى وجد نفسه طرف بها دون جريرة
يحاول استعادة ذاكرته فى اللحظات التى تلت توديعه لشمس على محطة القطار
فما أن غادر المحطة وتقدم بضع خطوات بين السيارات المركونة متجه للشارع الرئيسى حتى شعر بآلم رهيب في مؤخرة رأسه أسقطه أرضاً
ليرى بعين مشوشة اثنان من الرجال يسارعان لحمله ووضعه فى سيارة كانت في الانتظار ويطمئنان الناس بكلمات كاذبة مدعين أن نوبة سكر هاجمته وأنهم أصدقائه قبل أن يغيب عن الوعى تماماً
وبعد فترة من الزمن استعاد وعيه مرة أخرى ليتفاجأ أنه داخل سيارة متحركة على طريق الصعيد مكبل اليدين
لم يفتح سائق السيارة فمه بحرف وكأنه يترفع عن الحديث معه رغم إلحاح يوسف فى طرح الأسئلة ليتبين ما حدث له
اكتنف الألم رأسه طوال الرحلة فالتزم الصمت الذى ساعده عليه تجاهل السائق لوجوده ... أما يوسف فقد أدرك أن مايحدث نتيجة مساعدته لشمس
وقد تأكد من حدسه بوضوح حين شاهد شمس تُسرع الخطى قهراً مغادرة محطة القطار خلف سائق السيارة والذى أدرك الأن أنه شقيقها الأكبر قبل أن يزج بها فى المقعد الأمامى للسيارة
مع شروق الشمس عاد حسام مرة أخرى ليستجوب يوسف بالتفصيل عن علاقته بشمس فى جلسة طويلة ألقى فيها حسام الاتهامات على يوسف والذى أجابه بمنتهى الهدوء والصدق والثقة
وهذه الثقة استفزت حمائية حسام فحاول الانقضاض على يوسف أكثر من مرة إلا أن يوسف دافع عن نفسه ببراعة
فكانا مثل أسدين يتعاركان بقوة متعادلة نظراً لتقاربهم فى التكوين الجسدى لولا أن تغلب حسام على يوسف حين قام بلكمة بقوة فارتدت رأس يوسف المصابة مرتطمة بالحائط  خلفه
فسقط أرضاً متألماً ... يكتنف رأسه ضباب الرؤية ليسقط مغشياً عليه

******************

مع أشعة الغروب المغادرة أطلق حسام سراح يوسف واصطحبه لبهو المنزل حيث وجد شمس فى الانتظار أمام غرفة مغلقة ... جرت نظرات يوسف على ملامحها المنهارة وقد تلون جبينها بلون أزرق ممزوج بالحمرة من أثر ارتطامها بتابلوه السيارة ... كما يوجد علامات لأصابع حمراء على وجهها من أثر الصفعة
فى غرفة المكتب الفخمة الخاصة بالحاج سليم الذى استقبلهم بملامح صارمة رغم هدوءه الظاهرى جرت نظراته الثاقبة على ابنته ويوسف ببطء
أما شمس بمجرد أن وقعت مقلتيها على والدها هرعت بالجلوس تحت قدميه تحاول تقبيل يده ولكنه أبعدها سريعاً باستنكار وأشاح بنظره بعيداً عنها لتستقر نظراته المتفحصة على وجه يوسف الواقف بثقة وثبات أمامه، يتبعهم حسام بعد أن أغلق باب الغرفة بإحكام خلفه
جلست شمس على ركبتيها بجانب قدمى والدها وحاولت توضيح ماحدث للمرة الثانية هذا اليوم ولكن هذه المرة أمام والدها شخصياً بعد أن قصت على شقيقها ماحدث لها بالتفصيل، خرج صوتها متحشرجاً مبحوح من كثرة بكائها ونحيبها
:- آ آ أنا آسفة يا أبوى ... أناغلطت فى حق حضرتك وحق نفسى... بس أقسم بالله العظيم أنا محافظه على نفسى ومفيش مخلوق لمسنى وحضرتك أتأكدت من الدكتورة
(الدكتورة) قطب يوسف بين حاجبيه وقد أدرك من خلال تلك الكلمة ماحدث لشمس خلال الساعات السابقة فيبدو أن أهلها أخضعوها لكشف العذرية ... للاطمئنان والتأكد من صدق حديثها
لكزه حسام فى كتفه بعنف ليخرج من شروده وقال بغيظ
:- الهانم كانت بايته فى بيت الأفندى ديه
أرخى يوسف جفنيه لثانية محاولاً السيطرة على أعصابه فقد سرد ماحدث بالتفصيل لحسام ولكنه لم يصدق واشتبك معه
التفت يرمق حسام بتحدى قبل أن يتوجه بالحديث للحاج سليم
:- من فضلك يا حاج ممكن نتكلم بهدوء ومن غيرعصبية .... على الأقل نوضح اللى موقفنا لحضرتك
تفرس الحاج سليم بنظره ثاقبة فى ملامح يوسف الهادئة الواثقة بينما صاح حسام بإهتياج
:- هتجول إيه تانى .. التنين (الاثنين) كلامهم واحد وكأنهم متفجين عليه
التفت يوسف نحوه بعصبية وهتف بوجهه
:- وليه ما يكونش لأننا قلنا الحقيقة بمنتهى الصراحة
زحفت شمس على ركبيتها وتطلعت لوالدها قائلة بصوت مرتجف :- والله أنا قولت الحقيقة كلها زى ماحصلت ... يوسف وقف جنبى من غير مايعرفنى وساعدنى عشان أرجع لكم
ارتسم الرضا على ملامح يوسف تأثراً بصدقها ... فأى فتاة أخرى فى وضعها ربما كانت اتهمته شخصياً بتلك الفعلة المشينة لتتخلص من ورطتها
تابعت شمس حديثها وقد رفعت كفها لتستريح على صدرها لتؤكد على صدق كلامها
:- أنا كنت راجعة بنفسى يا أبوى .. أنا ماليش غيركم سند وحماية بس كنت خايفة .... خايفة أوى
تحشرج صوتها بالنحيب منكمشة تحت قدمى والدها الذى حرك مقلتيه بينهم ببطء مفكراً بينما اندفع حسام يهتف بإنفعال
:- قضت الليلة فى بيته لحالهم (وحدهم) ... يبجى ده اسمه إيه؟
شهقت شمس مستنكرة وقالت مدافعه
:- والله ما حصل حاجة ... أنت أتأكدت من الدكتورة بنفسك ياحسام ... ومن غير دكتورة لازم تكون واثق فى أختك ... تربيتك
أعجب يوسف بقوة شمس فى دفاعها عن شرفها حتى أمام شقيقها ... فأسرع لمؤازرتها موضحاً
:- اللى حصل إنى لقيت الأنسة شمس مغمى عليها .. ماكانش ممكن أسيبها مرمية على السلم ... عشان كده أخدتها شقتى ولولا أن زميلتها وأسرتها اللى هما جيرانى مسافرين ما كنتش دخلت شقتى أصلاً
حول نظره نحو حسام واستطرد بصدق 
:- أما حكاية أنها كانت فى شقتى لوحدنا ... فالأنسة شمس إنسانة محترمة وتعرف تحافظ على نفسها ... وأنا الحمدلله أهلى ربونى كويس وبخاف ربنا فى كل تصرفاتى ومش ممكن أتعدى على أى إنسان ضعيف ديه مش أخلاقى
تفحصه سليم من أعلى رأسه لأخمص قدميه ... هذا الوجه وتلك الملامح الواثقة تذكره برجل أخر، رجل من زمن بعيد .... حول نظره نحو ابنه وسأله بهدوء :- عِملت اللى جولتلك عليه
أومأ حسام سريعاً بتأكيد :- طبعاً يا أبوى .. جبل الفچر يكون تحت رچليك
هز سليم رأسه ببطء ثم أشار بنظره نحو مقعد قريب قائلاً بصوت رخيم :- أجعد .. اسمك يوسف مش إكده
أومأ برأسه بتأدب واتجه حيث أشار الحاج سليم الذى أعجب بثقة يوسف وصدق حديثه بينما تأجج الغضب بمقلتى حسام وهتف بعصبية
:- يجعد كيف يا أبوى .. حضرتك هتصدج حديتهم
تأمل سليم ولده برزانه وقال بحكمه رجل تخطى الستين من عمره
:- أهدى ياحسام وخد خايتك (أختك) لأوضتها وهمل يوسف معاى شوى
تجمد حسام للحظات يطالع والده بصمت ثم أومأ بتجهم مردداً بطاعة :- آمرك يا بوى
ولم ينسى أن يُلقى نظره غيظ نحو يوسف قبل أن ينادى بحنق على شقيقته
نهضت شمس بجسد منهك لتقف بخزى بجانب والدها، منكسة الرأس باكية بندم على تهورها الذى أوشك أن يُلقي بها فى أحضان الموت لولا حكمة وهدوء والدها فى إدارة الأمور
انحنت فى محاولة منها لتقبل كف أبيها المتكئة على مسند مقعده راجية عفوه ولكنه أبعد كفه للمرة الثانية بنفور بعيداً عنها مما أعاد العبرات الصامتة إلى مقلتيها
امتدت قبضة حسام إلى ساعدها ليجذبها بخشونة معه للخارج تحت وطأة نظرات الأب الغاضب ونظرات يوسف المتعاطفة

التقينا فأشرق الفؤاد بقلم / إيمان سلطانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن