الفصل الرابع والثلاثون:بيضاء

Start from the beginning
                                    

إتكئ على الباب بِظهرِهِ جالسًا مَصدومًا ..
وهي تُكفكف دُموعها تُشارِكهُ المجلسا ..
يَفصلُ بينهما بابٌ ومرضٌ ..
والمَدامعِ لم تُوقف الدمع ..

إنضمت لهم إبنتهم .. التي جاءت تركضُ حتى لمحت والِدها في مجلسهِ ..
عَرفت الحقيقة ..
بكت هي أيضًا بينما تتقدم بوهنٍ ..
رآها والدها ..
عانقها .. بكيا ..

-أمي .. 

-ليليا .. 
أردف والدها ..

-آسفة ..
نبست من خلف الباب بين بكائها .

*

-اعتذر جلالة الإمبراطور.. أنا حقًا لا أملك علاجًا .. هذا المرضُ معدٍ من خلال الرذاذ .. لا يمكن لاحد ان يقترب منها .. إن العدوى تنتقل من العطاس او السعال .. وهي في مرحلتها تسعل كثيرًا ..

-إذًا أتخبرني أن لا أرى زوجتي ؟ .. حتى وهي تفارق الحياة؟!

-آسف جلالة الامبراطور .. هنالك حل واحد .. أن تضع حاجزًأ من الزجاج على أن يكون محكمًا .. لكن على الاغلب الإمبراطورة لن تبقى على قيد الحياة لأكثر من شهرين .. حمدًا لله بانها كانت منشغلة ولم تكن على صلة مباشرة بأحد ..

-هي أبعدت نفسها ..
نبس بصوتٍ خفيض .

-عذرًا؟

-فلورنسا .. لها خِبرةٌ ولو كانت قليل بالطب .. أثق بانها كانت تعرف .. لذلك هي أبتعدت عني وعن ايديليا وعن الجميع في الشهر المنصرم .. لم ترد أن ينتشر الوباء في المملكة .

نزلت من الطبيب بضع دموع عجز عن ايقافها ..
الجميع يحب الإمبراطورة ..
ومجرد تخيل خبر مرضها وقربها من الموت يجعل القلب يتهشم حزنًا ..

في النهاية ..
الموت يلاحقنا جميعًا ..
يَسرِقُ من تُحِبُ أنفسنا ..
يسرق من الشباب احلامهم ..

تُرى ..
متى سنموتُ نحن؟

*

يَقفُ امام حاجِزِ الزُجاج الذي بُني بينهما ..
يُناظِرُ جسدها الذي باتَ هزيلًا للغاية ..
فقدت الكثير من الوزن بوقتٍ ليس بطويل ..
شَفتيها باتا بيضاوتان ..
وجهها شاحب ..
وقفت أمامه تُحاول أن تبتسم ..
تَرى الحُزن في عينيه ..
ويرى اليأس في عينيها ..
وضع كفهُ على الزجاج لتضع كفها مُقابل كفه ..
أتكئ بجبينه .. وهي بدورها فعلت ذلك ..
يَشعران ببرودة الزجاج بينهما ..
إحمر خداها وكريستالاتٌ قد غطت سماءَ عيناها ..

-مهما حاولت تقبل الأمر .. لا أتخيلني بدونك ..

-عليك أن تتقبل الأمر تاي .. لم يتبق لي الكثير من الوقت ..

-لا أستطيع .. 
قال منحبًا ليكمل ..
-أنا أحبكِ .. أهيمُ بكِ وأهواكِ .. كيف يمكنني أن أنساكِ ؟

-لا تنساني  سأكون سعيدة أن تذكرتني ..

-إنه مؤلم ..

-لست الوحيد الذي يتألم ..
أردفت بمزاح لكن هذا زادَ أنينه ليس إلا..

-كَفاكَ بكاءًا ..
اردفت وهي أيضًا أجهشت بالبكاء ..

-تاي ..

-عَيناه .. حَياته .. حُبه وقَلبهُ وكلُ ما له ..

مسحت بأناملها الدمع من خديها بينما وضعت منديلها على فمها وإستدارت تسعل بقوه ..
شَعر بقلبهِ يعتصر لألمها وعَض شفتيه لعجزه عن فعل شيء ..
شَد خصلات شعره متنهدًا ..
إنتهت نوبةُ سعالها لتتكلم بصعوبه بينما جلست أرضًا ليجلس بمستواها ..

-أُحبك .. وأُحب ليليا .. قال الطبيب بانني قد اموت في هذا الشهر .. لا تخبر الشعب او ايديليا قبل هذا .. لكن سأوصيك بشيء ..

*

لقد رحلت بالفعل ..
أمام عينيه ..

كان واقفًا ..
ولم يستطع فعل شيءٍ غير النظر باعينٍ جاحظة ..
والدمعُ يسيل على وجنتيه ..
فقط صامتٌ .

مر كل شيءٍ كالكابوسِ عليه ..
حُزن الناس ..
قبرها ..
ابنتها وأُختها واصدقائهم وحارسها ..
المطر والاوراق الخريفية ..
بتلات الازهار البيضاء التي تناثرت على قبرها ..
الجميعُ قدم يحييها ..
برداءٍ ابيضٍ كما طلبت ..
على الرغم من صمته ..
لم يسهُ عن اي تفصيل دقيق ..
لا يمكنه نسيان اي شيء ..
لو سالتوه بعد اعوام ..
سيسرد لكم كل التفاصيل ..

*

تايلر ..

النومُ قرر أن لا يزورَنِي فِي هَذِهِ اللَيلةِ الخَريفية ..
وكبديلٍ عنه زارني أرقٌ مجحف رافقني حد الهلوسة ..
ما بال هذه الليلة الخريفية؟ .. إنها باردة اكثر من المعتاد .. وكئيبة حد الأسى ..
ألِفراقِكِ هذا الأثر أم إن الشَوقَ بدأ يتآكلني ؟
أصبَحَ لعقاربِ الساعةِ ضَجيجٌ عالٍ لِما أحدثهُ غِيابُكِ من هدوء ..
كُنتِ دائِمًا حولي ..
كَيفَ لي أَن أتحمل فراقَكِ؟
كَيفَ لي أن أُعزي إبنتكِ وأنا الغَريقُ الفَقيدُ هنا؟
فأخبروها ..
أخبروها إنني ..
مازِلتُ أهواها .. وأُلاقي طيفها في كُلِ زاويةٍ ويُؤنسني ذِكراها ..
فِي كُلِ مرةٍ يَزورُني طَيفُها تُنيرُني عَيناها ..
وأُناجي المَوتَ عَلهُ يُرجعها ..
أخبروها أن روحي قد هامت لفراقها ..
وأَصبحت تَتجَولُ علها تَلقاها ..
فِي نسماتِ الصَباحِ يُجاوِرُني ظِلها ..
وفِي كُلِ مساءٍ تَزُورُني ذِكراها ..
كل قَمرٍ .. 
كُلُ نَجمٍ ..
فيهِ ذِكراها ..
أُلاقي فِي كُلِ حُلمٍ بَسمةَ ثَغرِها ..
وأَجِدُ نَفسي أَخيرًا لا أَحمِلث فرقاها ..
وفي بُكاءِ الغًيمِ رأيتُ عَيناها ..
وعٍندَ الشُروقِ أحسستُ بِحُضنها ..

كانت كُلي وبَعضي ..
كانت رائِحتي بدون الهمزة ..
مسكني بِشدِ الميكِ وضَمِها ..
وفي كياني شيءٌ لها ..

لا يُناجي قلبي غَيرَكِ واللهِ .. في كُلِ سقوطٍ تُلملمينَ شِتاتي ..
تُعيدينَ كُلَ جُزءٍ مَكسورٍ إلى مكانِهِ ..
وتُشافينَ روحي وما بَينَ أَضلاعي ..

ونِهايةً ..
أَودُ ان أُعلِمَكِ .. بان ..
عِناقٌ في كُلِ حُلمٍ .. يُقرِأُني منكِ السلام ...


لِنودِع فلورنسا والباقين بنجوم مضيئة ...

سهم ورَقصَةWhere stories live. Discover now