الفصل الثاني

6.5K 166 26
                                    


لم تكن قد بلغت التاسعة من عمرها حين توفيت والدتها. أما والدها فتوفي قبلها بسنوات، مُخلّفا عائلته الصغيرة تعيش

 الفاقة و الحرمان. و كان يجب على الأرملة الوحيدة أن تبحث عن عمل. لم يكن بإمكانها أن ترفض عرض جيرانها اليهود

 الأغنياء بالعمل عندهم كمدبّرة منزل، فهم سيوّفرون لها المسكن و المأكل، و يتكفّلون برعاية ابنتها الصغيرة، حتى

 تواصل تعليمها و تنشأ في ظروف مناسبة. و لم يكن اختلاف الديانة ليُغيّر في الأمر شيئا. طوال سنوات من التجاور،

 نشأت علاقة فريدة من نوعها بين العائلتين، ما جعلهما موضع سخرية من البعض، و حسد من البعض الآخر.



نشأت ريما بين أحضان عائلة جاكوب اليهودية و هم يعتبرونها فردا منهم. فقد كانت بهجة البيت الذي يُقيم فيه الأبوان

 المتقدمان في السن و ابنهما جاكوب، و روحه النابضة بالحياة، بعد أن تزوّجت ابنتهما الكبرى و سافرت مع زوجها إلى

 لبنان. و كان جاكوب أكثرهم تعلّقا بها و حبا لها. كان شابا في الثانية و العشرين من عمره حين دخلت ريما ذات السنوات

 الخمس حياته. فصار يقضي جلّ أوقاته معها. يلاعبها و يداعبها، يقرأ عليها القصص و الحكايات، و يستمتع بانفعالاتها

 البريئة و ضحكاتها العفوية، يشتري لها الألعاب و الهدايا، و يستغل أوقات العطل للسفر معها... و كانت والدتها تطمئن

 عليها بين يديه، و يسعدها أن يمنحها حنان الأب الذي تفتقده.



_كيف كان الدرس اليوم؟

تردّدت ريما لبرهة، ثم همست بصوت منخفض:

_جيداً.

رفع جاكوب حاجبيه في استغراب. فمن عادتها أن تحدّثه عن كلام الشيخ بالتفصيل، و تسرد على مسامعه كل ما تحفظه

 من دروسها. لكنها اليوم بدت ساهمة، و كأن أمرا ما يشغل عقلها الصغير. بالكاد أجابت عن سؤاله بكلمة واحدة، و عادت

 إلى إطراقها. لم يُرد أن يضايقها بالإلحاح، فانشغل بتأمل واجهات المحلات في طريق«الحارة الكبيرة»، أحد أكبر الأحياء

 التي يقطنها يهود جربة.

كانت والدتها قد أوصته بالحفاظ على دينها، و عدم محاولة التأثير عليها. و هو يفعل ما بوسعه حتى يحترم وصيتها، و

 يؤدي الأمانة على أكمل وجه. كانت والدتها تأخذها معها أيام الجمعة للمسجد لحضور الصلاة و الدرس الذي يليها، لذلك

 لم يفكر مطلقا في حرمانها منها. كان يأخذها بنفسه، ثم يكتفي بالاستماع إليها و هي تحدّثه عمّا تتعلّمه من أمور دينها،

 دون أن يطرح سؤالاً واحداً، مع أن أسئلة كثيرة كانت تخامر ذهنه...فلم يكن يريد أن يُدخل الشك إلى نفسها بخصوص

 دينها، كما أنّه يعلم أنّ صغيرةً في مثل سنها لا يمكن أن تحمل الإجابات على تساؤلاته المعقدة.

وصلا إلى المنزل، فأفلتت الصغيرة كفّه و انطلقت تركض إلى غرفتها. تابعها في صمت متعجّب. إنّ تصرفاتها تبدو غريبة

 اليوم. هل هناك من ضايقها في المسجد أو أساء معاملتها؟ يجب أن يتأكد من ذلك. كان يهّم باللحاق بها حين ظهرت

 تانيا عند باب المطبخ، و في عينيها نظرة غريبة. يعرف جيداً نظرة الاحتجاج تلك التي تطالعه بها زوجته في كل مرة

 يخصّص قسطا من وقته لرِيما و ممارساتها الدينية. توّجه نحوها مبتسما، و هو يحاول تجاوز العاصفة المقبلة بسلام.

 رغم مرور ثماني سنوات على زواجهما، لم تتقبل تانيا تماماً وجود ريما بين أفراد العائلة. فهي تبقى بالنسبة لها دخيلة، و

 لن تصبح يوما من أصحاب البيت. طبع على خدها قبلة سريعة و هو يقول مداعبا:

_رائحة شهية... ماذا تعدّ لنا الطاهية الماهرة؟

كظمت تانيا غيظها بصعوبة، و قالت و هي تمسح يديها في منديل المطبخ:

_لم يعد لدينا لحم ... و حين عدت لم أجدك في البيت حتى أطلب منك شراءه... لذلك فقد أعددت حساء الخضروات.

رمت المنديل جانباً، و غادرت المطبخ في خطوات عصبية. تبعها جاكوب في ارتباكٍ و هو يقول مخفّفا:

_لا عليكِ...لا بأس بحساء الخضر...الأطفال يحبّونه على كل حال!

لم تُلقِ تانيا بالا لتبريراته، و مضت في اتجاه غرفتها، ولم تنس أن تغلق الباب بقوة وراءها. تنهّد جاكوب و هو يهز كتفيه

 في تسليم. إنها المسرحية الأسبوعية نفسها، ولا سبيل إلى تلافيها. لكنّها محقة هذه المرة، فغدا السبت،و ما لم تطبخ

 قبل مساء اليوم فإن العيد الأسبوعي سيكون شنيعا. قد تعمد إلى تجويعه! عادت نظراته لتستقرّ على باب غرفة ريما

 المغلق. هل يذهب إليها؟ ربما كان من الأفضل أن يدعها بمفردها لبعض الوقت 

في قلبي أنثى عبريةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن