الفصل الاول

9.6K 212 11
                                    

     مدّت أشعة الشمس الساطعة خيوطها الذهبية في ذلك اليوم القائظ من أيام الصيف التونسي،  لتداعب الواحات و

 القرى المتناثرة و تدفئ ثناياها إلى درجة الالتهاب.

 
لم تكن جزيرة جربة التي تعانق أمواج البحر شواطئها الرملية بأحسن حالا من باقي المدن الجنوبية. لكن الحرارة

 الخانقة لم تمنع السائحين و أهل البلاد من ارتياد السوق العتيقة التي تتربّع في طرقات «حومة السوق»،  قلب جربة

 القديمة،  و الانسياق عبر طرقاتها الضّيقة المرصوفة بالحجارة الملساء في نسق بطيء متأنٍ يحاكي نسق الحياة العامة

 في الجزيرة. يغتنمون معجزة المكان، حيث يتهادى الزمن في مشيته متخلّيا عن طبعه المتعجّل،  معلنا عن إجازة

 مفتوحة على إيقاع رقصة «الشالة»  التقليدية الهادئة التي تنساب في غير ضوضاء من بعض المحلات المتاخمة للسوق.


    وقف جاكوب قرب مدخل السوق،  و عيناه معلقتان بالبوابة الجانبية للمسجد الذي يبعد عنه بضع عشرات من الأمتار.

  أخرج منديلا ورقيّا ليمسح حبيبات العرق التي تجمّعت عند جبينه،  و هو يحوّل بصره ليتأمل باحة المسجد المفروشة

 بالرخام الأبيض و صومعته الباسقة التي ترتفع إلى عنان السماء. لم يكن يستطيع في كل مرة يقف فيها هذه الوقفة أن

 يُخفي إعجابه بهندسة المسجد و تناسق أبعاده. فرغم أنه لا يحتوي على الزخرفة المعروفة في مختلف المساجد

 التونسية المشهورة، فقد كان ذا طابع فريد، مثل كل مساجد جربة القديمة، بلونيه الأبيض و الأخضر،و جمال ثناياه

 المتخلّية عن كل أشكال البهرجة...و لم تكن روح البساطة لتنقص شيئا من سحر جماله.باستثناء الصومعة،فإنها تظهر و

 كأنها الجزء الذي يجوز للمصمم أن يتصرف فيه ليطبع المَعلم بطابع يُميّزه عن بقية المعالم الجربية الأخرى.


     لكن جاكوب لم يفكر يوماً في دخول المسجد، و لا يريد أن يفكر في ذلك. بل لعله يخشى أن يلمحه أحد معارفه يقف

 تلك الوقفة الغريبة فلا يسلم من تجريح أو تلميح...و مع ذلك،فإنه لا يزال يواظب على القدوم كل جمعة،ليصطحب

 صغيرته إلى الصلاة و الدرس الأسبوعي، و يقف في انتظارها دون ملل أو تعب.

     كانت الأصوات المختلطة القادمة من السوق تطرق مسامعه في حدة، و تخرجه بين الفينة و الأخرى من تأملاته

 الهادئة المطمئنة. كثيرا ما يترك العنان لنفسه،و تأخذه قدماه في جولة عبر السوق العتيقة،فيسرح بين الألوان و الروائح

 و الأشكال. يتأمل رسوم الزرابي و المفروشات المصطبغة بشتى ألوان الطبيعة،و يتوقف أمام نقوش أواني الفخار التي

 تزدان بها جوانب الطرقات، و قد ينحني من حين إلى آخر ليقلب وردة من ورود الرمال الصخرية التي تختزل سحر

 المنطقة كلها، و تنطق بإبداع الخالق الّذي صوّر المكان و حسّنه...لكنه سرعان ما يعود أدراجه بعد جولة قصيرة، فقد كان

 يخشى أن تخرج الصغيرة و لا تجده فتفزع.لذلك آثر في هذا اليوم الحار أن يقف عند ظل المبنى القريب، يعّد الدقائق،

 و يتابع عقرب الثواني البطيء تارة، و وجوه المارة تارة أخرى

    ما لبث أن رأى الباب يُفتح، و اندفعت جموع الفتيات إلى الخارج.أخذ يتفرّس في الوجوه في ترقّب،قبل أن يلمح

 فتاته تجتاز العتبة و هي تجرّ ثوبها و تسوّي خصلاتها المتمرّدة التي أطلت من تحت غطاء رأسها.اقترب منها مبتسما،و

 هو يتحسّس قطع الحلوى التي استقرت في جيب سرواله. تناول كفّها و انحنى يقبل خدها في حنان و هو يدسّ قطعة

 الحلوى في كفّها الأخرى. رسمت الصغيرة ريما ابتسامة خفيفة على شفتيها و هي تُسلمه كفها، ليمضيا معا في الطريق

 إلى المنزل.كانت ريما تقترب من الخامسة عشرة من عمرها. لكن شكلها الضئيل و قامتها القصيرة يوحيان بأنها بالكاد

 تجاوزت الثانية عشرة،مما كان يُعطي لجاكوب مبررا لتدليلها و المبالغة في الاهتمام بها.

في قلبي أنثى عبريةWhere stories live. Discover now