الفصل الرابع والعشرون

8.5K 215 12
                                    

الفصل الرابع و العشرون

بداخلنا...
كثيرة هي الكلمات...
و قليلٌ من يَستمع...

*********
اللون الأخضر في عينيها يزداد قتامة توازي قتامة الأزرق في عينيه...ترى بوضوح تشنج كفيه المتمسكين بعجلة القيادة...تكاد تسمع طقطقة عظامهما كما تسمع صوت طحن ضروسه...هذه هي الطريقة التي اختارها ليصمت بعدما فجر مصيبة عظيمة في وجهها قبل أربع ساعات...مر أربع ساعات استكمل فيهم عمله على اكمل وجه و تركها تتخبط بين جدران اعترافه...لكن من قال انه لا يتخبط ايضا؟! مؤيد جوارها يتماسك بأخر ذرة من اتزانه...ما كان يجب ان تعرف ابدا...كان عليه ألا ينصاع لرغبتها و يفشي سر ابنه الذي وعد نفسه ان أريج بالذات لن تعرفه...ماذا لو تعاملت مع يائيل بدونية و احتقار كما فعل الجميع...ماذا لو تركته خلفها اشمئزازا منه...ازداد تمسكه بعجلة القيادة يعتصرها بقوة لا يريد ان يصل ابنه معها الى هذه النهاية...يائيل لا يستحق كل هذا...
(توقف!!)
صوتها المتحفز نبهه من شروده ليجد انه عبر بوابة بيته و لم يرها...خفت قبضته فوق عجلة القيادة ليعود بالسيارة للخلف و يدلف بوابة بيته...لحظات و كانا خارجها يتوجهان الى باب البيت الداخلي بصمت ليس صمتا فأجسادهما ترجها نظرات العين المستفهمة بكلمات كثيرة من كليهما...ولجت أريج للبيت قبله فكان أول من استقبلها هو يائيل الجالس على أريكة مقابلة لنافذة زجاجية تطل على حديقة البيت...كان ساكنا شاردا بصمت ظنت انها كسرت جزءا منه منذ عرفته...طالت نظرتها المتجهمة له تتفحصه بتدقيق و كأنها تُركِب حقيقة ما قاله والده عليه...هذا الطفل غير شرعي!!!
(نبيلة خذي يائيل الى غرفته في الحال)
صراخ مؤيد خلفها بأمره الصارم جعلها تنتفض شاهقة بجزع من مباغتتها به...هرولت المربية من المطبخ الى الصغير لتحمله و تنفذ أمر والده بطاعة مرتعبة...تلاقت عينا أريج بعيني الصغير و هو بين ذراعي المربية و تتحرك به نحو الدرج...ناظرته نظرة قليلة الحيلة و لا تعرف لمَ شعرت بأنها أضعف من أن تبدل حياته كما ظنت!...تتبعت المربية و هي ترتقي به درجات السلم حتى اختفيا فكادت تسبل اهدابها لتركن لتساؤلات عقلها الغير منتهية لولا جذبه لها بقسوة من ذراعها يوجهها اليه صائحا فيها بتحذير مهدد...
(ابدا لا تنظري الى ابني بهذه النظرة...)
نفضت ذراعها بقوة من قبضته لتصيح بحدة...
(لا تصرخ في وجهي و تأمرني بتبجح قبل أن تعرفني كل شيء)
رفع سبابته في وجهها بتهديد لم تعره اي انتباه فتداخلت حروفها مع حركته لتأمره هي هذه المرة...
(ليس خيارا مؤيد ماضيك أصبح مباحا لأعرفه مادام ادخلتني حياتك و حياة ابنك...أخبرني ما هي حكايتكما)
انزل سبابته ببطء يناظرها بنظرات متقدة جهلت معناها كليا...فبداخل مقلتيه يوجد غضب... خوف...رجاء و ألم...اجفلت حينما قبض على كفها يعتصره داخل كفه ثم يسحبها خلفه دون حرف يصعد معها درجات السلم...توقفت خطواتهما امام باب غرفته التي يقضي بها معظم وقته...لحظات مرت و هو ساكنا لا تسمع منه سوى صوت انفاس يعلو بوتيرة متوترة!...و كأنه كان يرتب افكاره و يهيئ نفسه لما هو مقبل عليه فتوجهت كفه الحرة الى مقبض الباب يفتحه و يخطو للداخل متمسكا بكفها لتدخل...التفت يغلق الباب ثم يترك كفها و يتحرك الى السرير ينزع سترة حلته بهدوء رغم تشنج عضلاته الواضح يلقيها عليه...أحلَّ رابطة عنقه بينما يلتفت لها متسائلا بصوت يبث بها الخوف
(أي شيء تودين معرفته عن حياتي أريج؟!)
رمقته بحذر تهمس بتوتر...
(كل شيء...)
القى رابطة عنقه لتجاور سترته على السرير ثم اعتدل يقابلها بوجه متحفز قائلا بسخرية مريرة...
(لم أجد شخصا واحدا يستمع لي حينما رغبت في الكلام...فأين كنتِ عندما تصدعت الجدران من صراخي؟!)
أدخل كفيه في جيبي بنطاله يعتقل عينيها المتسعتين بذهول مصدوم ليكمل بصوت اهتز كثيرا...
(هل نبدأ الحكاية من حيث مؤيد الطفل الذي فقد أمه في سن الخامسة أم نختصر الطرق لنصل الى مؤيد ابن الثانية عشر و الذي أرسله والده لأمريكا كي يدرس و يتفوق ليعود له طبيبا ناجحا يؤازره في مشفاه؟!)
ارتعشت شفتاها تهمس برجاء...
(و ما بين الخامسة و الثانية عشر أخبرني عنه)
ابتسم بسخرية قاتمة بسمة تكاد تنحني لتشكل رعشة بكاء...
(حياة لا حياة بها...فقدت الحياة مع خسارة أمي و بدلا من أن اتلقى حنانا و اهتماما مضاعفا من والدي ما وجدت سوى اوامر و صرامة قتلت طفولتي...ثم يختمها ختاما متخما بمشاعر الأبوة و هو ينفيني بعيدا عنه و عن بلدي طامحا بأن أعود يوما كما يريد)
ابتلعت أريج ريقها بألم كبير فهي تعرف شعور أن تطلب حنان والديك و لا يمنحاه لك...و إن كان سبب بور أرض قلبهم مختلف فتبقى النتيجة واحدة دوما...راقبت كفيه خلف قماش بنطاله كيف يعتصرهما بقوة ليداري عنها ألمه...منحها جانب جسده ليسترسل بوجع...
( سافرت و بقيت هناك لسنوات...سنوات كنت ضائعا منفصم الشخصية لا أعرف أأنا عربي تحكمني عادات و تقاليد يترأسها دين معين أم أنا شاب فتحت له الدنيا احضانها ليلهو و يلعب و يفعل كل ما يريد دون رقيب...فالرقيب بعيد حتى بصوته و قد شغلته مهنته و مشفاه و نجاحه العظيم عن ابنه...تركني أربي نفسي بنفسي فبسخاء منحت لها كل ما تشتهي...)
التفت بجانب وجهه ينظر لها قليلا ليفسر بصوت ضعيف...
(و أنا أعني كل شيء قد يفعله شاب في مقتبل حياته دون أهل في بلد تُسمى بلد الحريات)
جزعت روحها من التخيل فقط فطردته من عقلها لتتفحص وجه مؤيد و الذي لن تراه ثانيةً في حياتها...بسمة صادقة شقت سواد الذكرى التي جرفت ملامحه فتركتها يابسة ليهمس بتأثر كبير...
(رغم عبثي و حريتي كنت وحيدا متألما أموت في الليلة عشرات المرات حتى ظهرت هي...إيڤا)

لقياك لي المأوى(مكتملة)Where stories live. Discover now