الفصل الثالث

8.9K 222 7
                                    

الفصل الثالث

عيناها الخجولتان اللتان تتلقيان نظراته العاشقة عبر المرآة جعلتها تبتسم بحلاوة خاصة برقتها... بينما هو مضجعا على سريرهما يستند بظهره عليه و يراقب يديها المتحركة بخفة... تدهن ذراعيها بكريم مرطب طيب الرائحة لتزيل عنها تعب يوم طويل في البيت... اتسعت بسمته بعدما انتهت و وقفت تعدل قميصها الحريري لتتجه نحوه بنفس البسمة الرقيقة... فتح ذراعيه لها كدعوة لأن تقترب منه و قد لبتها لتنزع نعلها و تتكور داخل احضانه بسعادة... همس بصوته الذي يداعب مسامعها...
(سلمت يداكِ على طعام اليوم يا هبه...)
تشبثت يدها بقميصه البيتي لتستريح برأسها على صدره تربت عليه هامسة ببسمة...
(بالهناء يا صالح... لقد تشاركنا فيه و كان نصيب قمر الأكبر)
شدد من ضمها قائلا بتأكيد...
(لكن نفسكِ الطيب كان يسيطر على كل الطعام)
ضحكت برقة خافتة لترتفع بوجهها حيث وجهه و تقبل وجنته بشكر هامسة...
(ربي يجبر بخاطرك كما تفعل معي...)
اصاب صوتها الوهن و الحزن فأخفضت وجهها لتكمل...
(و يرزقك الذرية الصالحة يا صالح...)
ضيق عينيه حينما انتبه لصوت بكائها الخافت... امتدت اصابعه حيث ذقنها يرفع وجهها الجميل و يراقب عينيها الطيبة التي امتلأت بالدموع... مسح بإبهامه دموعها يقول...
(و لمَ البكاء يا هبه؟!... نحن راضيين بقضاء الله و حكمته)
زاد صوت بكائها لتتحدث بصوت متقطع...
(اليوم نادى لي كرم بأم صالح... كم اتمنى يا صالح أن يستجيب الله لدعائي و أعود لأحمل ابنك في رحمي)
أغمض عينيه بألم لتتحرك يده حيث بطنها يملس عليه بحنو هامسا...
(من رزقنا بهما أول مرة سيرزقنا ثانيةً)
خفت صوت بكائها قليلا لتنزل يدها حيث يده و تربت عليها قائلة...
(مهما وصفت لك شعوري حينها و أنا أحمل ابنائك لن أوفيه حقه... و لو وصفت لك شعوري عند فقدهما لن تفيه دموعي و وجع قلبي حقه..)
لثم رأسها بوجع مشترك بينهما يستمع لصوتها المتألم..
(و لكن شتان بين الشعورين يا صالح... شتان)
ابتلع ريقه يتذكر كيف فقدت زوجته توأمهما قبل ميلادهما بأشهر... ولدان رزقه الله إياهما من حبيبته طيبة القلب و الروح... لكنه شاء أن يختبر صبرهما حينما أخذهما قبل ميلادهما... أربع سنوات مرت على موتهما و من وقتها و رحم زوجته جف نعيا لرحيلهما... و كأنه زهد في حمل بذرته من جديد...
سحب نفسا عميقا ليعود يقبل رأسها مجددا قائلا ببعض المرح الزائف...
(سيبدلنا الله خيرا... ثم أننا لا نقصر و نتابع مع دكتورتكِ النسائية و ان شاء الله سيأتي العوض قريبا و حينها لن أدعكِ تلتقطين انفاسكِ... كل عام ستأتين لي بطفل)
ضحكت بخفوت مقدرة مزحه معها و تخفيفه عنها هذا الشعور البارد بكونها عاجزة عن منحه ابناء... ارتفع جسدها قليلا ليقابل وجهها وجهه ببسمة مختلطة بدموعها هامسة بحبه...
(لو تعرف كم أحبك يا صالح... كم أود أن أمنحك طفلا منك و مني لأنك تستحق أن تفرح)
تحركت يده فوق ذراعها يستشعر رطوبته حيث يفوح منه رائحة الكريم العطرة فيبتسم بسمة يشرق معها وجهه البشوش قائلا...
(أعرف يا هبه... أعرف حبيبتي و الله)
***************
نائما فوق سريره يغطي وجهه بذراعه و عقله لا يتوقف عن التفكير في الشادر الغربي... شعور الخوف و وضع حساب لمن لا قيمة له يكرهه... يعرف أن والده له حكمة في ابتعادهم عن هذا الشادر لكن أليسوا رجالا قادرين على حماية ممتلكاتهم؟!... على والده أن يعرف بأنهم سدادين و كُفء للدفاع عن ما يخصهم... افكاره تأخذه عن العالم المحيط حوله و عقله يرفض بقوة الرضوخ لمعاهدة سلام زائف بينهم و بين السمري... لن يكذب و يقول بأنه نسي أيام مشاجراتهم المريرة و التي تناحر بها الرجال حتى الموت... لم ينسَ كم بيت اصابه الخراب بسبب عائلة ملعونة تجري الخيانة في عروقهم كما الدم... لا يتذكر من منهم الأقدم في الحي هل عائلة المراكبي أم السمري لكنه منذ نعومة اظافره و هو خير شاهد على تاريخهما الدموي... حتى تدخل والده ليضع نهاية لكل هذا مع اتفاق بين رجال الحي و العوائل الأخرى و غصبا رضخت عائلة السمري له... و عم هدوء مقيت أسود تسربوا من أسفل ستائره يثيرون المشاكل و منهم يتاجرون في المواد المخدرة و خصوصا داغر... هذا الشاب الطالح الذي يسبق كرم بحوالي ثلاث سنوات... و كم كان حظه من السماء حينما تم القبض عليه بسبب المواد السامة هذه ليبقى في السجن... هناك بعيدا عن قبضته بعد فعلته في كرم التي كادت أن تنهي شبابه لولا رحمة الله... رفع ذراعه بعيدا عن عينيه بعدما تدخل صوت أنفاسها الغاضب ليزاحم تفكيره... ضيق عينيه بترقب لحالها منذ عاد للبيت على الغداء و هي تتلون بألف لون للغضب... زفر بخفوت غير مسموع ليسألها بقنوط...
(خير يا سهر ماذا هناك؟)
تحركت من أمام باب الغرفة لتقف قبالته و وجهها يتعكر بسواد خالص تتحدث بصوت مكتوم من الغيظ...
(و هل لاحظت الآن أن زوجتك بها شيء... كثر خيرك و الله)
نبرتها المتهكمة هذه لا يحبها و تسبب له فوران... لذا ما فعله بعدها جعلها تنكمش رغم احتفاظ ملامحها بالغضب و هي تراقبه ينهض من نومته يهتف بقلة صبر و حدة...
(سهر انضبطي في حديثكِ معي و إلا...)
ثورته عليها لن تفيد و لن تنال منها سوى خسارة جديدة... لذا قاطعته ببكاء مصطنع تهمس بمسكنة مبالغ بها...
(و إلا ماذا يا أبا مازن... هيا استبيح ضعفي و صغر شأني لتفرض سيطرتك عليّ... لا بأس فكرامة ابنة الاسكافي مباحة للجميع)
زفر مرات متتالية ينفث غضبه ليسألها بعدم فهم...
(عن أي ضعف و كرامة تتحدثين؟!)
اقتربت منه بحركات مدروسة تراقب نظرة عينيه التي دوما تثير رعبها... خصاله متشربة من والده الكثير و روحه أبية كروح والدته... تبا لغرور هذه العائلة الذي يتوارثونه ليرفع أنوفهم للسماء... وقفت قرب ذراعه تمسح دموعها و تهمس بتقطع و نحيب...
(ضعفي أنا يا سندي... و كرامتي التي نسوا أنها كرامتك..)
يرفع كفه يمشط به شعره و عقله يلعن مشاجراتها اليومية التي لا تنتهي... ليس به ذرة تحمل واحدة تستقبل منها هذه التفاهات... لكنه كظم غيظه و رفضه ليسألها بنبرة خشنة...
(دون ندب يا سهر... ماذا حدث؟)
لامست ذراعه بكفها لتشتعل عيناها بكره دفين و هي تميل ناحية أذنه تهمس...
(قمر...أتت اليوم خصيصا لتنتقص من شأن زوجة أخيها الكبير... جاءت لبيتنا تسمعني تقريعا يسيء لأهلي... إنها قالتها صراحةً أن ابنة حسونة الاسكافي تسمع و تطيع دون جدال..)
عيناها امتلأت بتخمة النصر حينما راقبت نظرته التي منحها إياها من طرف عينيه... كانت متحفزة رافضة و غاضبة... ابتعدت قليلا عنه تنتظر رد فعله بأن يخرج من هنا ليصيح في والدته بأن توقف قمر عند حدها... سيعيد كرامتها و هي ستستكمل باقي اعادتها كما تريد و بالطريقة التي تحب... لكن تجهم ملامحها الذي أصابها جعلها تكتم شهقة عدم استيعاب بعدما قال هو بصوت حاد آمر...
(أخر مرة اسمعكِ تصفين قمر كضيقة بقولكِ "بيتنا" هذا... انه بيت والدها تأتيه وقتما تشاء و تفعل به ما تشاء... ثم منذ متى و ابناء سليمان المراكبي يعايرون الناس بما يسوء؟!... سهر رأسي مزدحم بأمور العمل و به ألف شيء أكثر أهمية من تفاهات النساء هذه)
تقبضت يدها جوارها ترمقه بحدة مشتعلة... بينما هو اتجه نحو السرير يستوي عليه قائلا...
(أطفئ الضوء و استهدي بالله... صفي نيتكِ يا سهر و لا تجعليني اتعامل بشكل لن يرضيكِ)
جزت على اسنانها بحدة لتتجه بخطوات حانقة تطفئ الضوء... التفتت تراقب جسده الذي سقط في نوم عميق بسرعة... كره كبير ارتسم فوق ملامحها... كره تأصل بداخلها منذ زمن و هي دوما تنظر لعائلة المراكبي كالسادة و هم العبيد... حتى حلمها بأن تدخل بيتهم و تعيش وسطهم لم يمنحها كل ما تتمنى... خالد ليس غرا سهل كسب عقله لكنه رجل و الرجال مهما بلغت صعوبتها تلين... و هي تعرف جيدا كيف تجعله ينفذ لها ما تريد... و أول ما تريد هو كسر أنف قمر...
****************
ضوء الهاتف الذي يقتحم ظلمة الغرفة و ينعكس فوق وجهها يزيد من رونق و لمعان عينيها المتابعة له باهتمام... تقضم أظافرها و عيناها تتحرك يمينا و يسارا و كأنها تقرأ شيئا ما... حانت منها نظرة للساعة في أعلاه لتجدها قاربت على منتصف الليل... يجب أن تنام فغدا جامعتها و لكنها لا تقوى... بعدما سجلت رقمه عندها و هي تجلس في غرفتها تراقب حسابه على موقع التواصل... انتفضت فجأة و هي تقرأ بعينيها كلمة "متصل الآن"... ابتلعت ريقها بوجل و ارتعشت اصابعها بخجل بينما ضربات قلبها باتت تقرع كطبول حرب ضارية... هل تراسله الآن في هذا الوقت المتأخر؟!... ماذا ستقول و ما حجتها لو فعلتها؟!... تنفض رأسها من أفكارها الغريبة عليها لتسرع و تفتح محادثتها مع أريج و الحمد لله فهي " متصلة الآن" مثله... أصابعها تكتب لها شيئا ما... أي شيء يوقف تهورها كي لا تراسله... لكنها مسحت ما كتبته و قلبها يحثها أن تستغل فرصة تواجده و تحدثه... نهرت نفسها مرات و لكن الهوى غلاب...
«مساء الخير...»
غبية... متسرعة... حمقاء... و عاشقة حتى النخاع...
تراقب رسالتها بأنفاس تلهث رغم أنها لم تترك سريرها لوهلة... نبضاتها تهدر رغم أنها لم تبذل جهد... عيناها تتسع و تراقب رغم التصاق الهاتف بوجهها... و أظافرها أوشكت أن تنتهي من كثرة القضم و التوتر... ماذا فعلت هي سوى غباء لا نهاية له!!... أنها تكسر كل حواجز عقلها و تربيتها معه... لقد أرسلت للتو رسالة لشاب غريب في ساعة متأخرة... و السبب دون سبب... لكن كيف دون سبب و هي الغارقة في بحر حبه... كتمت شهقة فلتت منها و هي تراه قد شاهد رسالتها... كفها الذي وضعته فوق صدرها تهدأ عنف قلبها البكر انقبض فجأة فوق منامتها و هي تقرأ بعينيها كلمة "يكتب"... لحظات مرت عليها سنوات و هي تنتظر رسالته... ترى بماذا سيجيب... هل تعجب من وقت مراسلتها له... هل ذم تربيتها... و قبل هل التالية غامت عيناها بلهفة و تبخرت كل اسئلتها و هي تقرأ رسالته...
«مساء الخير... كيف حالكِ؟»
و كأنه غازلها بأنعم جمل العشق الذي داعب روحها بقوة... يسألها عن حالها و هو كل حالها!!... ارتعشت اصابعها بمزيج من حماس و لهفة... تطير هي في سماء حبه الساكن بضلوعها... كتبت له بقلبها العازف لحن جديد عليها...
«بخير الحمد لله... آسفة على محادثتك و ازعاجك في وقت متأخر»
تنتظر كتابته بفارغ الصبر و عيناها تلتمع بألف نجمة حب تشرق و تزلزل ظلام قلبها...
«لا لم تزعجيني أنا مستيقظ على كل حال..»
غردت حروفها من جديد لتكتب له بقلب يتراقص...
«شكرا على عرض مساعدتك اليوم لي...»
«على الرحب دوما غسق»
اسمها الذي خرج للتو من تحت أنامله جعلها تبتسم بخجل كبير... تسمعه بصوته و تتخيله بنبرته الدافئة...لم تكن متهورة في يوم كما هي الآن لكن ما أحلاه التهور إذا كان سيجلب سعادة مثل ما تشعرها هي في هذه اللحظة...
سرقهما الوقت تتحدث معه في كل شيء و عن أي شيء... و تخمد صوت عقلها الرافض بحجة أن ما تفعله لم يتعدَ حدود الاحترام و العلم... رغم ان محادثتهما لم تحتوي على أي معلومة علمية... نظرت في ساعة هاتفها لتشهق بجزع و هي تراها تقارب على الثانية صباحا... اسرعت تكتب له بحرج و خجل...
«لقد سرقنا الوقت دون شعور... يجب أن أنام فلدي جامعة صباحا... اعتذر على ازعاجك و شكرا لك»
تجمدت كليا و هي تقرأ ما أرسله بلسان قلبها المحب...
«لم تزعجيني فكفي عن قول هذا... لم أشعر بالوقت أبدا فحديثكِ لا يُمل منه... لقد تأخر موعد نومك بالفعل... تصبحين على خير»
اغلقت هاتفها تستلقي بظهرها على سريرها و بسمة كبيرة متسعة تزين ثغرها... لقد تحقق حلم من احلامها... هي و هو في حوار طويل جدا... وضعت يدها فوق قلبها المتأثر بمحادثتهما لتغمض عينيها  و تهمس بنعس متشبع بفرحة...
(ماذا فعل بي الحب؟!... فأنا أكاد أطير من سعادتي!)

لقياك لي المأوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن