المشهد الثانى

297 9 0
                                    


   
المشهد الثاني

الهواء مشحون بذبذاتٍ كثيفة خانقة، بروح الكآبة والأنفاس المتحشرجة....
ما تزال على وضعيتها تتبعه بنظراتها المهتزة، يخلع سترته الفيرساتشي التي ثمنها يطعم عائلة بأكلها لأشهر عديدة، تتبع حركة أنامله وهو يفك أزرار قميصه الأبيض ويطويه بعناية، نعم، إنّه مهووس ترتيب ونظافة، مهووس تفاصيل.....
رفع كمي قميصه الى حد كوعيه يضغط على زر إستدعاء السائق لإعلامه بأنّه أصبح جاهزاً لمغادرة السيّارة، وسرعان ما فُتح الباب العريض على مصراعيه يطلب منها أن تترجل قبله....

« عماد» همست ولا تعلم لما
الذعر يسكن جنباتها، يسيطر على حواسها، يهيمن على ساقيها، عاجزة عن تحريكهما، خائفة من القادم، خائفة من المجهول الذي ينتظرها، لأنّها في كل مرّة تلقى منه عقاباً تجده يزداد عنفاً وشراسة ووحشية من ذي قبل.....

وعقابها الأخير كان الأقسى على الإطلاق، عجزت عن مغادرة السرير على أثره لأيّام.
« إنزلي نايا» أخبرها بنبرته الهادئة محذّراً
إذ غضب سيفقد أعصابه ويضربها، سيضربها بوحشية، ومن ثمّ سيزداد غضبه لأنّها أثارت غضبه وأجبرته على ضربها.....

فأذعنت لأمره تترجل من السيّارة يلفحها الهواء البارد في الحال، ترتعش أوصالها برداً وذعراً...
تلفّتت حولها لا ترى سوى الظلام الدامس، تشاهد سيّارة مرافقيه تنتظر على مقربة، التفتت يمينها ترى مبنى قديم ومهجور، تقهقرت بجزع، تشعر بأنّ مجيئه بها الى هذا المكان ليس عن عبث.....
تقهقرت تصطدم بشيئ صلب إحتواها من الخلف، فشهقت بخفوت تنتفض بين ذراعيه تشعر بأنامله تغرز بلحم خاصرتيها، يؤلمها، ولكنها لم تتذمر، مشغولة بالتفكير بسبب إحضارها الى هنا، تتذكر كلامه حين قبض عليها تحاول الهرب منه مع يزن.

غضبه كان أشبه بآتون، على أتم إستعداد لأكل كل ما يعترض دربه......
إرتخت ساقيها على وشك فقدان توازنها لولا ذراعيه اللتين تحاوطان خصرها، تحثانها على التقدم، تضج قرمشة الحصى تحت قدميها بأذنيها، تزيدها رعباً وقشعريرة، سارت معه نحو هلاكها، يتردد بعقلها صدى مشاحنتهما تلك الليلة المشؤومة، حين أعادها الى القصر ذليلة، يتطاير أملها بالهرب من بين براثينه مهب الريح، يلجمها، يمسكها من اليد التي تؤلمها، كل ما كان يجول بفكرها يومها هو سلامة يزن،
ماذا فعل به؟
أين أخذه؟
هل ستراه ثانية؟
أم سيحرمها منه عقاباً لها؟

يومها كانت قد وصلت للقعر، تقامر بمصيرها، تسعى خلف هدف مستحيل، الآ وهو الهرب منه، ولكنّها إصطدمت بصخرة الواقع، تتحطّم فوقها أمالها وتتكسر، تدرك بأنّها من المستحيل أن تتخلّص منه الاّ بوسيلتين، إمّا قاتلة أو مقتولة.....

يومها إنفجرت بوجهه لأوّل مرّة منذ زواجهما هادرة به بكل القهر والحقد الذي تحمله له بقلبها.....
« أنا أكرهك، لا أطيقك، أشمئز من كل ما يجمعنا حدّ الغثيان» بصقت بالعبارات تتمزّق روحها الماً قبل جسدها الذي ناله منه ما يفوق قدرة إحتماله،
تفكّر بالنساء اللواتي كنّ رهن إشارته، يَتُقْنَ لنظرة منه، مستعدات لتقديم أنفسهن له دون أدنى ممانعة،
تتساءل لما هي؟
لماذا إختارها هي من بين كل تلك النساء؟ 
لماذا هذا الهوس الغير طبيعي بها، نزعة التملك تلك، الغيرة الغير مبررة.
لماذا هي بالرغم من الرفض الدائم الذي تقذفه بوجهه،
لما هي ولا أحد سواها، بالرغم من وجود عشرات النساء المستعدات لمنح أنفسهن له دون مقابل...
لماذا لا يتّخذ عشيقة أو زوجة أخرى، أو حتّى عشرات العشيقات؟
لماذا هي ولا أحد سواها،
بالرغم من أنّه لا يحاول حتّى نيل رضاها؟

يومها كان غضبها قد وصل لذروته، يلغي عمل عقلها نهائياً، اليأس نال منها لا تفكّر سوى بالبوح بكل ما تحمله له بجوفها، مسحت أنفها تتذوق طعم دمائها بفمها، تحاملت على نفسها تواجهه بغباء هادرة به« لماذا لا تختار لنفسك عن إمرأة تناسب أهوائك، ترضخ لساديتك، هناك الكثيرات المستعدات للخضوع لك بكامل إرادتهن، فتّش لنفسك عن إحداهن، أنا متأكدة بأنّها سترضي غرورك الذكوري أكثر منّي»  

ثورتها زادته غضباً، لا يتقبّل ردّة فعلها على الإطلاق، يستنكر رفعها لصوتها بوجهه بتلك الطريقة، يستهجن ما تفوّهت به من قول، يدرك بأنّه يفقد سيطرته عليها، يتوعّد لها بعقاب يعيدها لصوابها، ويلجم تمرّدها الذي فاجأته به دون سابق إنذار.
عاد اليها بعد أن كان قد أجبر نفسه على خلق مسافة بينهما كي يتوقف عن تعنيفها، قبض على فكها بعنف، يجبرها على النظر مباشرة اليه، يحوم حول ملامحها بنظرات متقافزة بشرارات الغضب هادراً بها« وهل تحثيني على خيانتك أيّتها الغبية؟»

ضيّق بها حدقتيه يشتد ضغط أنامله حول فكها، تشعر بأطرافها تنغرز ببشرتها، حدّق بها للحظات طويلة، تشعر بنظراته تحرقها بوهج نيرانها، تدرك فذاحة ما تفوّهت به من قول، عندما ردّ على إقتراحها المبتذل بنبرة هادئة وباردة، أرسلت قشعريرة سميكة بكامل أنحاء جسدها المتهالك:
« نايا العزيزة، من الأفضل لك أن تُصلّي كي لا يأتي هذا اليوم أبداً، لأنّي عندها لن أحررك من قيودي كما تظنين، بل سأدفن عظامك المتكسرة في قبو قصري، سأجعل من الظلمة مائدتك اليومية والجراذين أصدقائك الأوفياء، وجنونك رفيقك الأبدي، هل فهمتي؟» أخبرها يدفعها نحو الخلف بعنف، تتلقفها الأرض بقسوة....

شهقت تعود للحظة على صوت صرير الباب الحديدي العملاق تنفصل فلقتيه على مصراعيهما، تظهر لها معالم المستودع المهجور بإضائته المتوسطة.....
التفتت اليه تحاول رصد نيّته تهمس بنبرة مرتعشة « ماذا نفعل هنا؟»
سألته تعود لوعده،
هل سيتخلّص منها؟
هل سيدفنها في المكان؟ 
« لا تستعجلي على قضاك يا عزيزتي، أدخلي وسترين بنفسك» أجابها يدفعها لتدخل يمشي بجوارها، تشاهد بأنّ هناك من ينتظرهم بالداخل.

    يتبع

مشاهد سجينة جدران قلبه لكاتبة أمل القادرىWhere stories live. Discover now