الفصل الخامس

93 6 0
                                    

تدخلت چومانا قائلةً بالعربية: قتل... حراس.
اتسعت عينا الحكيم وهو يدير عينيه بين خالد وچومانا قائلًا:
- هذه كارثة.
تحدثت چومانا لبعض الوقت بالأوبجازية مع الحكيم وفي عينيها علامات ابتهاج واضحة.
قال الحكيم لخالد وصوت دقات قلبه يكاد يصل لأذن خالد:
- تقول چومانا أنك قتلت ثمانية من الحراس بمفردك.
قال خالد: وسأقتل كل من يفكر أن يؤذي فاطمة.
قال الحكيم: هذه مشاعر نبيلة سيد خالد، ولكن الموضوع يختلف هنا.
قال خالد: لا يهم، كل ما يهمني حاليًا هو أن أبقى مع أختي.
قالت چومانا شيئًا ثانيًا ففكر الحكيم للحظات ثم قال:
- يمكنك أن تبقى هنا وسأقوم بتسجيلك كمريض وسأجعل هذه الغرفة لكما فقط ولكني لا أضمن منع الفضوليين.
قالت چومانا بالأوبجازية:
- دعهم لي.
قال خالد بالعربية وهو يشير بعد اكتراث:
- لا أهتم.
قال الحكيم: الأمور لا يتم التعامل معها هكذا وخاصة إذا كان هناك الكثير من الأرواح على المحك.
قال خالد:
- سأعيد ما قلته ثانية، أنا لا أهتم بكل الهراء الذي تقوله.
قال الحكيم بنفاد صبر:
- أمامك الكثير لتتعلمه أيها الشاب.
قال خالد: لا أظن أن أيًّا منكما يمكنه تعليمي شيئًا.
ابتسم الحكيم محتوب متجاهلًا كلامه ثم أكمل وهو يبدأ العمل على جراح فاطمة ثانيةً:
- لا أظن أن تظاهرك بالبكم سيفيد، فربما يسمعك أحد صدفة، الأفضل أن تتعلم بعض الجمل الأوبجازية حتى تستطيع التعامل هنا.
قال خالد:
- لا حاجة لأتعلم شيئًا لن يفيدني.
قال الحكيم:
- كل العلوم مفيدة حتى وإن لم تعرف قيمتها في حينها، فسيأتي يوم وتعرف.
تجاهل خالد تعليقه ولم يتكلم الحكيم مرةً أخرى وأخذ يعمل على جراح فاطمة مرة أخرى وخالد يتابع ما يفعله.
قال خالد بعد مدة:
- لماذا تعيشون هنا وليس على ظهر الأرض؟
قال الحكيم:
- هذه قصة طويلة.
قال خالد وهو يتحرك ليسند ظهره للحائط ويمد رجليه أمامه:
- ليس لدي ارتباطات مهمة اليوم ويمكنني سماعها.
ابتسم الحكيم ثم قال:
- سأحكيها لك باختصار...
لقد كان غالبية المصريين قديمًا يعبدون الإله "آمون" والبعض كان يعبد "رع" إله الشمس وآخرون كانوا يعبدون آلهة أخرى كثيرة. أما نحن فاتبعنا أمنحتب الرابع - إخناتون - الروح الحية لآتون والذي دعا لتوحيد الآلهة. استجاب لدعوته بشرٌ كثيرون من مشارق الأرض ومغاربها وجميعهم تركوا بلدانهم وقدموا إلى بلدنا. ولكن بعد فترة بدأ أعداؤنا يضيقون علينا حتى وصل الأمر إلى حرب بيننا وبينهم. انتصرنا في بعض المعارك ولكن حدث شيءٌ ما لم تذكره كتب التاريخ.
صمت للحظة ثم أضاف:
- يمكن أن تقول خيانة أو شيئًا من هذا القبيل، فجأة انقلبت كفة الحرب ولم يكن لأسلافنا بد من الهرب. حاولوا الهرب ولكن الأعداء حاصروهم، وأثناء ذلك اكتشف أجدادنا الكهف والذي قادهم إلى هذا العالم وهذا هو بداية التقويم والتاريخ الذي نستعمله فنحن في عام 3371 من الانتقال.
مال خالد بظهره للأمام قائلًا:
- هل أنتم من الفراعنة؟!
قال الحكيم:
- أنتم تطلقون علينا "المصريون القدماء"، أما نحن فنقول على أنفسنا إما أوبجازيين أو نيروسيين.
قال خالد:
- وما الفرق؟
قال الحكيم:
- الأوبجازيون تقريبًا سبعة وتسعون من كل مائة ولكن النيروسيين هم المتحكمون في كل شيء.
قال خالد:
- إذا كنتم من الفراعنة، أقصد المصريين القدماء، فهل لغتكم هذه هي الهيروغليفية؟
قال الحكيم: الهيروغليفية ليست لغة بل طريقة كتابة.
قال خالد:
- حسنا، ولكن لماذا لم تعودوا للسطح ثانيةً، أعني فوق الأرض؟
قال الحكيم:
- بعد لجوء أسلافنا الأوائل إلى هنا قام الحكماء القدامى باستخدام كل علومهم لتحويل هذا المكان إلى ما يشبه الجنة وقد كان، قاموا بإنتاج هذه الطحالب المضيئة والطعام كان متوفرًا وبالطبع العدل والأمان كانا أفضل بكثير من سطح الأرض.
صمت الحكيم للحظات ثم أكمل:
- وبعد مرور عدة أجيال ومات من قاسوا ويلات الحروب حاول الأحفاد الصعود إلى أعلى ولكن أفراد الاستطلاع رجعوا قائلين إن الفساد استشرى في المجتمع والظلم كان هو السيد، فاتخذوا قرارًا بعدم الصعود إلى السطح. وبعد مرور عدة أجيال أخرى حاول آخرون الصعود إلى أعلى ولكنهم لم يتحملوا الشمس، حتى إن بعضهم مات من تعرضه للشمس بطريقة مباشرة وآخرون أصيبوا بالعمى.
هز خالد رأسه قائلًا:
- فهمت.
ظل خالد صامتا مراقبًا ما يفعله الحكيم الذي احترم صمته. كان الجو هادئًا ولا يوجد صوت إلا صوت أنفاس الحكيم وهو يعمل بجدٍّ على جرح فاطمة أما چومانا فكانت جالسة بصمتٍ وكأنها تمثال.
بعد مدة من الصمت تعدت الخمس دقائق سأل خالد فجأة:
- لماذا خطفتم أختي؟
قال الحكيم:
- أنا بالفعل أعتذر عن هذا، ولكن ما باليد حيلة، إنهم مجبرون على ذلك.
قال خالد:
- ماذا تعني؟
قال الحكيم:
- چومانا من الأوبجاز الصيادين ومهمتها هي جذب البشر بجمالها ومن ثم يقوم الحراس بخطف من يقترب منها من البشر.
اختلس خالد نظرةً سريعةً إلى چومانا وبالفعل رأى ملامحها رقيقة حتى بمقاييس البشر.
أكمل الحكيم وهو ما يزال يعمل على جراح فاطمة:
- يتم أخذ الفريسة من البشر وجرحها في أماكن متعددة في جسدها ووضع بعض المواد في جسدها ل..."
لم يستطع الحكيم أن يكمل فسأل خالد:
- لماذا؟
قال الحكيم بعد تردد:
- الملك والحاشية يحبون لحوم البشر العلويين فهم يعتقدون أنها تزيد من قوة الرجل وجمال المرأة.
قال خالد وهو يكتم غيظه:
- هل كنتم تريدون أكل أختي؟
قال الحكيم:
- ليس نحن بل هم. الشعب منقسم إلى قلة من النيروسيين المسيطرين على كل شيء وأغلبية ساحقة من الأوبجازيين، سيطر النيروسيون ومنهم الحاشية على الحكم منذ مئات السنين ولولا أنهم يحتاجون إلى علوم الحكماء لقتلونا شر قتلة.
قال خالد:
- هذا المكان كالوباء.
تنهد الحكيم بأسى قائلًا:
- لم يكن كذلك، ولكن مع ذهاب العدل ذهب الجمال.
ظل خالد صامتًا والحكيم يعمل على جراح أخته وهو ما زال يدير الأمر في رأسه، أخذ ينظر إلى الحوائط المتسخة من علامات أيدي المرضى ثم قال فجأة:
- لماذا أصابك الذعر عندما عرفت أنني قتلت الحراس؟
قال الحكيم:
- إذا حدث أي خلاف حتى إن كان بسيطًا بين أحد الأوبجازيين وأحد الحراس فغالبًا سيتم قتل الأوبجازي، أما أن يصل الأمر أن يقتل أوبجازي أحد الحراس فإنهم يعذبونه حتى يكون عبرة لغيره، وأنت قتلت ثمانية من الحراس ولكنهم لن يصلوا إليك ولذلك فستكون چومانا هي كبش الفداء، وسينزلون بها وبأخيها العذاب أصنافًا وألوانًا، في الحقيقة أنا أعدّها الآن في عداد الموتى.
تحدثت چومانا بالأوبجازية:
- ليس لدي ما أخسره.
قال الحكيم بنفس لغتهما:
- لا، لديكِ أخ ومستقبل.
قالت: أخ سيموت معي، ومستقبل مليء بالظلم والقهر والاستعباد.
قال خالد:
- تحدثا بالعربية لأفهمكما.
ترجم له الحكيم ما قالاه فقال خالد:
- يمكنها أن تهرب إلى أي من الحفر التي ذكرتها من قبل.
ابتسم الحكيم ابتسامة حزينة اختفت سريعًا مع تجهم وجهه ثم قال:
- عقوبة إخفاء أحد المطلوبين هي منع الماء والطعام عن مناطق كثيرة ولذلك فلا أحد يمتلك الجرأة على إيواء أحد المطلوبين لأنه يعلم أن ذلك سيجلب ويلات عليه وعلى أهله جميعًا.
قال خالد:
- لماذا ستبقيني هنا إذًا؟
ابتسم الحكيم قائلًا:
- لأني أحمق. أحمق ولكن لا أرضى بالظلم الواقع على الأوبجازيين وغير موافق على اختطافكما.

ابتسم خالد لأول مرة وهو يرجع بظهره ليلامس الحائط ثانية ثم قال وهو يشير إلى چومانا:
- ما هذا الكتاب الذي تقرئين فيه يا چومانا منذ أن جئنا؟
قال الحكيم:
- تم اختيار چومانا من ضمن الصيادين وتعليمها بعض أساسيات اللغة العربية البسيطة لأن ملامحها من النوع الذي يروق للبشر العلويين فبذلك تستطيع اجتذاب الفريسة لها، ولكن الكتاب مفيد في نواحي عديدة.
لم يعلق خالد وتحرك من مكانه ليجلس قريبًا من قدمي أخته وأسند رأسه على الحائط الصلب ولم يدرِ بنفسه.

*****

رواية جومانا (الحلم) / للكاتب محمود حسن دسوقيUnde poveștirile trăiesc. Descoperă acum