الفصل التاسع عشر

13K 802 88
                                    

الفصل التاسع عشر

رنات متتابعة على باب الشقة دفعت تسبيح للإسراع رغم حالة قدمها لتفتح ليواجها حازم الذي اندفع للداخل بشكل هيستيري حتى وصل لغرفة ابنته بدور وتسبيح في اعقابه تهتف في ذعر : فيه ايه يا حازم !! إيه اللي بيحصل !!
دفع حازم الباب لتنتفض بدور من موضعها هاتفة في تعجب : خير يا باب فيه إيه !!
جذب حازم هاتفه من جيب سترته هاتفا وهو يلتقط أنفاسه في تتابع صارخا في انفعال : فيه ده يا آنسة .. الباشا اللي كان بيحفى عشان نوافق على جوازكم .. اسمعي بنفسك بقى ايه وفين .. الكلام ده مش المفروض إني اسجله اصلا بس كان لازم اعمل كده عشان تسمعيه بودانك وتبصي بقى لمستقبلك اللي هيضيع وانت طول الوقت بتبكي وبتقكري فالباشا ورامية البكارليوس اللي امتحاناته كمان كام اسبوع.. وأنت ولا هنا ..
دمعت عينى بدور، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يتحدث أبوها إليها بهذا الشكل الشديد اللهجة معنفا، ضغط حازم على زر التشغيل على جواله ليندفع صوت أحد القادة الزملاء مؤكدا له : أه والله يا حازم زي ما بقولك كده .. ده الإدارة مقلوبة .. الولد ده كان من أكفء الظباط وكان الكل حاطين له توقعات عالية .. اللي حصل ده صدمة .. ايه اللي خلاه يعمل كده .. ده سرب كل خطط المجموعة بتاعته للزفت اللي اسمه سعفان ده .. واللي بقالنا سنين وراه ومش طيلينه .. أنت عارف إن صاحبه ودفعته كان معاه في المأمورية .. الولد حالته صعبة بين الحيا والموت فالمستشفى .. ده لسه عريس جديد وكان يومها لسه عارف إن مراته حامل .. ربنا ينجيه .. بجد الولد منتصر ده هيخلينا نعيد حساباتنا في حاجات كتير ..
هتف به حازم في صدمة : أنت متأكد من اللي بتقوله ده يا وفائي .. أصل أنا أعرف منتصر كويس .. الولد ظابط شاطر ومش ممكن الخيانة دي تطلع منه .. أكيد فيه سر فالموضوع..
هتف اللواء وفائي : السر الوحيد فالفلوس.. ده اشتروه بالفلوس .. وباع القضية ..
اغلق حازم الكلام المسجل على هاتفه لتهتف تسبيح في صدمة : أنا مش مصدقة يا حازم .. هو بيتكلم على منتصر اللي كان عايز يخطب بدور!!
أكد حازم هاتفا في حنق : ايوه يا ستي .. هو سي زفت ..اللي بحمد ربنا ألف مرة إني سمعت كلام عمي عاصم وموافقتش أن اسمه يرتبط باسمنا .. أدي أخرة أمثاله .. حتى لما بيعلى بيختار الجانب الواطي ويروح له .. كل واحد بيحن لأصله..
ربتت تسبيح على كتفه مهدئة ليندفع هو مبتعدا تاركا بدور التي كانت ما تزال تحاول استيعاب الموقف وتلك الصدمة التي استمعت لها منذ لحظات .. لا يمكن أن يكون من يتحدث عنه أبيها بهذا الشكل هو منتصر الذي كان يعشق عمله بكل ذرة في كيانه .. لا .. هناك بالتأكيد أمر مريب .. لكن هذه الحقائق التي أكدها صديق والدها مذكورا فيها بالاسم .. كيف لها أن تكذبها !؟
شهقت في قهر محاولة إنكار تلك الحقيقة الجلية أمام ناظريها كشمس الظهيرة ..
لقد انتهت حكايتها مع منتصر بأسوء نهاية يمكن أن يتخيلها بشر .. حتى ذاك الأمل الذي كان يراودها والذي حلمت بتحقيقه يوما ما .. واجتماعهما بعد اقناع جدته لم يعد متاحا من الأساس .. حتى الأمل اغتيل بيديه .. ما عاد لها أن تحلم .. ما أضحى لها الحق في ذلك ..
جلست منهارة موضعها، تتابع شهقاتها في وجيعة .. على كل ما كان.. ظلت على حالها، لا تعلم كم مر عليها وهي تبكي، لكنها أمسكت الهاتف وبلا وعي، وجدت نفسها تدق على رقمه، لعله يخبرها أن ما يدعيه أبوها عنه غير صحيح، ظل الهاتف يرن بلا إجابة، ما دفعها لتزيد من وتيرة بكائها، لم لا يرد عليها!؟.. لم لا يريح بالها!؟
لم تشعر بنفسها إلا وهي تضع إحدى الأغنيات على حالتها على الواتس لعله يراها كما حدث سابقا، انتفضت عندما رأته يشاهدها بعدها بدقائق، رنت من جديد، فبالتأكيد سيرد الآن، لكن يا لخيبة أملها!! فقد أغلق هاتفه تماما، تاركا إياها تموت من قهرها.
               *************
أصدرت العربة صوتا مزعجا ثم توقفت فجأة على ذلك الطريق الجانبي الذي يتاخم سراي الهواري .. ماذا حدث !؟
لا يعلم ما عليه فعله وهو وحيدا هنا .. قرر الاتصال بسمير ليأتيه .. حتى يرى التصرف المناسب في مثل هذا الوضع .. فقد أصبح عالقا ما بين هذه الدار والأرض المتاخمة في هذا الطريق الضيق الذي يبدو أنه سلكه عن طريق الخطأ ..
تطلع لشاشة جواله وزفر في حنق .. فلا إشارة تذكر ورغم ذلك داس زر الاتصال لعل وعسى .. لكن فشل الاتصال .. ما دفعه ليضع هاتفه بجيب سترته من جديد .. ويتطلع حوله ربما يجد من يستطع مساعدته.. لكن بلا جدوى .. فما من بشري واحد بالجوار، وكأن العالم قد خلا من قاطنيه فجأة ..
استند على مقدمة السيارة ينتظر الفرج .. لكن تناهى لمسامعه صوت بكاء .. أنين خافت جعله يشرئب بعنقه محاولا البحث عن صاحبه بين هذه الأشجار الممتدة حوله على طول ذاك السور الخلفي المنخفض لهذه الدار العريقة .. كان ثمة فتحة طولية كشق بجدار السور أشبه بباب خلفي غير معلن .. لا يعلم ما الذي دفعه لاختراق خصوصية المكان، على غير عادته، والولوج عبر هذا الشق باحثا عن موضع الهنات الموجوعة التي يسمع .. والتي بدأت وتيرتها تعلو وتقترب .. يبدو أنه أصبح قاب قوسين أو أدني من صاحبها .. أو صاحبتها ..
نعم صاحبتها التي طالعته صورتها الجانبية وهي تجلس تبكي تتطلع لشاشة ما .. تعاتب عليها شخصا في لوعة هامسة من بين أنينها : ليه كده !؟ حرام عليك .. كنت قلت.. ليه تعمل فنفسك كده !؟ ..
تطلع في تعجب لمدى تأثرها.. هل تعاتب حبيبا قاسيا قرر الرحيل !؟ .. أم من تعاتب بهذه الحرقة وذاك الوجع !؟ ..
أقترب في جرأة، لا يعرف من أين واتته .. الفضول كان قاتله، إن لم يدرك لمن كل هذه اللوعة التي مست شغاف قلبه شخصيا !؟ ..
وقع ناظره على شاشة الحاسوب وكاد أن يشهق في صدمة .. إنها تشاهد فيلمه المفضل .. كانت تبكي بطل الفيلم الفرنسي، الذي كان يموت اللحظة، وهو يعترف بحبه لأبنة عمه التي يعشق .. كان يرى نفسه دميما لا يصلح للحب .. فأخذ يرسل لها الخطابات يبثها لواعج قلبه وأوجاع الهوى، عبر صديقه الوسيم الذي علم أنه يحبها كذلك، والذي ظنت بن عمه أنه هو الذي يرسلها .. فأعجبت به، بل هامت به عشقا.. ليقرر البطل الابتعاد والانخراط في المعارك .. حتى يسلم الروح أخيرا، بأحضانها، وهو يعترف اعترافه الاخير بعشقه لها ..
كان اعتراف البطل موجعا، حتى أنه كان يحفظه عن ظهر قلب، لذا هتف به دون وعي منه، بفرنسية خالصة، حتى أن سجود اختلط عليها الأمر، وهي تسمع اعترافين، أحدهما كان من فم ذاك الذي يقف خلفها، ما جعلها تنهض منتفضة من موضعها .. فسقط الحاسوب من على حجرها وشهقت في صدمة وهي تتطلع له هاتفة : أنت !؟
هتف هو بنفس الصدمة : أنتِ!؟
ظل كلاهما على حالة الصدمة التي شملتهما حتى هتف هو أخيرا قاطعا ذاك الصمت المربك : أنا يوسف .. يوسف حسام التهامي..
شهقت من جديد : حضرتك بن عمي حسام اللي ففرنسا !؟
هز رأسه بالإيجاب لتستطرد : أهلا وسهلا.. اتفضل ..
هتف يوسف : أنا آسف إني اقتحمت المكان كده .. بس العربية عطلت بره ومعرفتش اوصل لسمير عشان مفيش شبكة ..
هزت رأسها متفهمة : ولا يهمك .. ما ده بيتك برضو .. هروح أنادي لك على عاصم اخويا يعمل اللازم .. وكمان ستي زهرة .. أكيد هتبجى حابة تسلم عليك .. دي تبجى أخت چدتك ندى الله يرحمها ..

زاد العمر وزواده .. ميراث العشق والدموع ٤ Where stories live. Discover now