الفصل السادس

13.2K 740 82
                                    


دخل عاصم للقاعة التي يقبع بها جده.. منحنيا نحو هامته مقبلا في إجلال .. وما أن هم جده ليخبره بما كان من أمر رغبة الدكتور محمد عزام في الزواج من زهرة حتى استبقه عاصم ليزيح عنه الحرج : عرفت يا چدي ..عرفت .. ربنا يهنيها ..
هتف عاصم الجد : بس أنت رايدها يا ولدي!!
ابتسم عاصم مؤكدا في نبرة حاول أن لا تظهر بها تلك الوجيعة التي ترتع بصدره رأفة بجده : بس هي جلبها رايد غيري يا چدي .. إيه هخدها غصب !؟..
واتسعت ابتسامته يحاول أن يظهر عدم اكتراثه بالأمر حتى لا يحمل جده هم قلبه الموجوع : مش كل الغصب ينفع يا چدي !!
انت وستي زهرة حكاية مش هتتكرر ..
ربت عاصم الجد على كتف حفيده وساد الصمت ليهتف عاصم مؤكدا : چدي .. مش عايز حد يعرف إني كنت طالب يد زهرة .. وخصوصي أبويا وأمي ..
تطلع إليه جده متعجبا : ليه يا ولدي هي عيبة !! .. ما اللي يعرف يعرف ..
أكد عاصم متضرعا : عشان خاطري يا چدي بلاش .. أصلك أنا عارف أبويا وأمي ممكن يضايجوا على رفضها .. وده ممكن يعمل حساسيات بين أبويا وعمي ..أو بين أمي وعمتي إيمان .. طب ليه من أساسه!! مش عايز اللي ما بينهم يتعكرعلى موضوع ملوش عازة ..
هتف به جده في إكبار : ربنا يكملك بعجلك يا عاصم .. ويريح جلبك يا ولدي ..
نهض عاصم مقبلا هامة جده من جديد مغادرا القاعة لحجرته، التي ما أن دلفها حتى توجه حيث يقبع حاسوبه اللوحي فتحه وبدأ يخط عليه خواطر قلبه المعذب في إحدى منشوراته خاطا في وجع :
"أجهدتني أحلامي الحبلى بحبك فقد استهلكني غثيانها الصباحي واشتهائها لنظرة عشق من عينيكِ أبصرتها يوما وما كانت لقلبي .. فعلمت ان أحلامي حملت سفاحا فقررت وأدها والتخلص من عاري"..
وزيلها في ثقة .. شيخ العاشقين .. ثم اغلق حاسوبه وتمدد على فراشه يتطلع لسقف غرفته التي ضاقت حتى أطبقت على أنفاسه.. لكنه استعاذ ونهض ليتوضأ هامسا وهو يتوجه للقبلة على مصلاه : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ..
مذكرا نفسه أن العبد يكون أقرب ما يكون لربه وهو ساجد .. راغبا في الوصول بقلبه لحالة الطمأنينة التي بحث عنها طويلا .. فهل يجدها وفؤاده مثقل بهكذا عشق !!..
              ***************
طرقات على باب شقة المعلم خميس والكل مجتمع في مثل هذه الساعة قرب المغرب.. جعلت نعمة تنهض في عجالة لتفتح ..  طالعتها صورة حُسن التي كانت قسمات وجهها تنم عن حزن عميق جراء مرض والدها .. جذبتها نعمة لتدخل على استحياء بعد أن تمنعت قليلا ..
ألقت التحية في حياء : السلام عليكم ..
هتف الجميع مجيبا تحيتها مستطردا خميس في اهتمام : عامل ايه أبوكِ دلوقتي يا ببنتي!؟..
أدارت رأسها نحو موضعه مجيبة : بقى أحسن الحمد لله يا معلم .. مطلعتش إلا بعد ما اطمنت إنه نام بعد ما صدره هدّي شوية من الكحة اللي مكنتش بتنيمه ..
هتف ناصر : طب الحمد لله ..ربنا يطمنا عليه ويخليهولك يا بنتي ..
جلست حُسن وهي تحاول أن تقنع نفسها أنها جاءت من أجل المحاضرات لا من أجله.. وخاصة وعيونها تحاول البحث عن محياه بين الجالسين.. هتفت وهي تتلعثم موجهة حديثها لخميس من جديد : أنا عارفة يا معلم إنك بتعتبر أبويا أخوك ..بس أنا عايزة أعرف الباشمهندس نادر دفع كام للدكتور اللي جابه !؟ .. والدوا اللي اشتراه كمان بكام !؟ .. دول دين عليا وبإذن الله ها..
هتف خميس في تعجب : فلوس إيه ودين إيه اللي بتقولي عليهم !؟ ..أنتِ هتخليتي أزعل منك ولا إيه !؟
هتفت نعمة في تعجب : هو فيه بين الأهل ديون ولا حساب !؟ .. أخس عليكِ يا بت يا حُسن .. طلعتي خايبة وأنا اللي كنت فكراكِ جدعة !!..
همست حُسن على استحياء : بس أصله ميحصحش يعني ..
هتفت شوشو وهي قادمة من داخل المطبخ حيث كانت تحضر العشاء : اللي ميصحش هو اللي بتقوليه ده يا خايبة ..على رأى أمي.. تعالي بقى أنتِ والخايبة التانية .. وأشارت لنعمة ابنتها مستطردة..وساعدوني في عمايل العشا ..هموا ياللاه ..عشان تلحقي تتعشي معانا..
امتعضت نعمة بينما هتفت حسن في اعتراض : لا مش هينفع يا خالتي والله .. أصل لازم أنزل بسرعة لحسن بابا يصحى ويحتاج حاجة وميلاقنيش ..
هتف خميس : انتِ مش بتقولي لسه مدياله الدوا ..يبقى قدامه شوية على بال ما يقوم تكوني اتعشيتي وشربتي الشاي كمان ..
هتفت نعمة الجدة : قومي ياللاه يا نعمة وخدي حُسن فأيدك ..اعملوا لكم همة لحسن جوعنا ..
لم تستطع الاعتراض أكثر .. فتحركت خلف نعمة إلى المطبخ وكل همها رؤيته .. وأن تعطيه أمانته التي فقدها لديها ..والتي من المؤكد أنه يبحث عنها .. لكن يبدو أنه ليس هنا .. وهي لن تفرط في فرصة تجمعها به .. بإعطائها أمانته مخلوق دونه..
             **************
رنين متواصل ملح على هاتفها جعلها تتأفف وهي تعدل من هندامها أمام المرآة فقد كانت على موعد عمل هام ولا تريد أن تتأخر بل عليها الوصول أبكر من الجميع حتى تتأكد أن كل الإعدادات المطلوبة على ما يرام .. إلحاح الرنين الذي انقطع ثم عاود مرة أخرى جعلها تتطلع لشاشة الهاتف قبل أن تتناوله وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة وهي ترد في مرح غاب عنها لسنوات كان مخبأ فقط ولا يظهر للعلن إلا معها هاتفة : ايوه يا غلباوية يا زنانة !!
هتفت بدور : أحسن منك يا براوية ياللي مبتسأليش ..
قهقهت فريدة هاتفة : وأنا من أمتى هقدر عليك وعلى لسانك !؟ ياااساتر ..
هتفت بدور : طب لما أنت خايفة قوي كده من لساني اللي بينقط عسل ده مش بتسألي ليه بقى !؟
هتفت فريدة متنهدة : والله يا بدور من ساعة ما نزلت الشركة مع بابا وأنا مش لاقية وقت لأي حاجة خااالص .. الشغل واخد كل وقتي ..
هتفت بدور مازحة : يعني بقيتي بسبس وومن ومش هنعرف نكلمك بقى !!
ضحكت فريدة مؤكدة : أه بقيت بسبسوومن يا ستي .. وعمك حمزة مطلع عيني .. ومشيلني مسؤلية مشاريع بالملايين ..
تنهدت فريدة من جديد هاتفة : سيبك بقى مني وقوليلي .. أنتِ اللي أخبارك إيه في قاهرة المعز !؟ ..الكلية بتاعتك اخبارها تمام ولا..؟
هتفت بدور في حماسة : كنت مش متحمسة فالأول الصراحة .. لكن بعد كده الدنيا بقت لذيذة ..عارفة المعلم خميس اللي يعرفه جدي زكريا !؟
أكدت فريدة : أه اسمع عنه.. ده جدو زكريا يغيب وينسى كل الناس ويرجع يفتكره ويقول نفسي أشوفه ..
هتفت بدور بنفس النبرة المتحمسة : أهو حفيده بقى .. معايا فالكلية وأتعرفنا على بعض .. والصراحة شاطر جدا وبيطلع من الأوائل ع الدفعة وسهل لي حاجات كتير..
هتفت فريدة : طب كويس والله .. أنا اسمع إنهم ناس طيبين ..وياما جدو زكريا شكر فيهم ..
أكدت بدور : فعلا ناس طيبين .. ونادر شاب كويس ومحترم.. وثورجي كمان ..
انتفضت فريدة هاتفة في اضطراب : ثورجي يعني إيه !؟ أوعي يا بدور تتجري وراه في أي حاجة !؟ أنت ..
هتفت بدور تقاطعها : هو أصلا مش موافق أكون معاه .. بس أنا نزلت المظاهرة غصب عنه ..و
صرخت فريدة مقاطعة في صدمة : مظاهرة يا بدور !؟ أنتِ أتجننتي !!
هتفت بدور في حماس لم ينقطع : ايوه مظاهرة .. بس كانت أجمل مظاهرة والنعمة..
ثم أطلقت بدور تنهيدة طويلة خارجة من أعماقها، جعلت فريدة تهتف في سخرية : مظاهرة إيه بقى دي !؟ ..كان بيحدفوا فيها ورد وبرفان !؟
أكدت بدور ضاحكة : لا .. دي كانت مليانة عساكر وخبط ورزع.. وقنابل مسيلة للدموع.. وهو ..
هتفت فريدة في شك : هو مين ! نادر؟
هتفت بدور في حنق : نادر مين بس !؟ ما أنا قلت لك مكنش راضي أشارك معاه .. أنا قصدي .. منتصر منصور أبو النصر .. وأبو النصر دي من اختراعي ..هو قالي كده ..
وقهقهت لتهتف بها فريدة : منتصر مين يا مجنونة أنتِ!؟
هتفت بدور تذكرها في لهفة: فاكرة الظابط اللي مسكنا من قفانا يوم ما كنا عايزين نعمل مقلب في ..
توقفت بدور ولم تكمل اسم نزار الغمري .. استشعرت صمت فريدة وشعرت بغبائها لكن فريدة أكملت في هدوء : ايوه يا بدور.. يوم ما كنا عايزين نعمل مقلب في نزار الغمري .. هو بقى الظابط اللي مسكنا!؟
اكملت بدور محاولة تخطي أمر نزار الغمري وقصته : ايوه ..لقيته في حرس الجامعة ..هو اللي سحبني من وسط دخان قنابل الغاز وأنا خلاص بقى هقع من طولي..
ثم غيرت نبرة صوتها لتصبح أشبه براوي في أحد الأفلام التاريخية هاتفة : ثم ظهر الفارس على صهوة حصانه لينقذ الأميرة من الأشرار..
قهقهت فريدة هاتفة : فارس إيه بس وأشرار مين !؟ ده أنقذهم هم منك ..
ثم تنبهت فعدلت صوتها في نبرة قلقة : بدور .. لو خالو حازم عرف .. أنت عارفة ايه اللي ممكن يحصل بسبب جنانك ده !؟
أكدت بدور في نبرة مضطربة : متفكرنيش يا فرفر .. ده أنا بقول ربنا ستر والله .. ومنتصر نفسه قالي كده ..
هتفت فريدة : أنا ابتديت احترم حضرة الظابط .. شكله إنسان ملتزم وعاقل ..
هتفت بدور مازحة : هو مش عرفني.. وحياتك لهيتجنن على أيدي .. والله الموفق والمستعان..
قهقهت فريدة هاتفة : طب ياللاه اقولك مع السلامة يا مجنونة هانم .. أنا عندي ميتنج .. وهتأخر عليه بسببك ..
وصمتت للحظة .. وعلى الرغم من رعونة بدور إلا أنها أدركت أن ابنة عمها لديها ما تفصح عنه فالتزمت الصمت حتى هتفت فريدة في صوت متردد : أنا قابلت نزار يا بدور .. شركته عامله بزنس جامد مع شركتنا .. وأنا مشرفة على التعاون بين الشركتين ..
هتفت بدور في صدمة : يعني قابليته بعد السنين دي كلها !؟ ..
هتفت فريدة تحاول اطفاء بعض المرح على الحديث الجاد : زي ما أنتِ قابلتي حضرة الضابط بعد السنين دي كلها ..
هتفت بدور في حماس : طب إيه !؟
هتفت فريدة تتهرب من الإجابة التي لا تعرفها هي من الأساس : لا بقول لك إيه..  أنتِ شكلك مصرة إني أتأخر.. مع السلامة.
هتفت بها بدور : مع السلامة يا ستي .. بس برضو مش هسيبك إلا لما تحكيلي كل حاجة بالتفصيل ..
ابتسمت فريدة في شجن لم يكن بمقدور ابنة عمها إدراكه مرسوم بهذا العمق على قسماتها وهمست : بإذن الله .. سلام ..
همست بدور بدورها في عجالة : فريدة .. خلي بالك على نفسك.. سلام ..
أقفلت فريدة الهاتف متنهدة .. ورغم أن الحديث نكأ جرح بعض الذكريات التي تحاول جاهدة التخلص منها وحذفها من الذاكرة، إلا أنه أعطاها الطاقة التي كانت في حاجة إليها وهي في طريقها لهذا الاجتماع الهام ..
حملت حقيبة يدها ومفتاح عربتها وغادرت غرفتها في هدوء تحمل قناع تلك الفتاة الجادة التي أصبحت عليها ..
           ***************
صرخت تسنيم في حنق وهي تضع الهاتف على أذنها مؤكدة : أنا كنت عارفة إن ده اللي هيحصل .. عشان كده مكنتش موافجة عليها المرواحة دي ..
هتفت نوارة تحاول تهدئة روع أمها : فيه إيه بس يا دكتورة !؟ أهدي محصلش حاچة لكل ده!؟ هو أنا بايتة فالشارع !! أنا في استراحة مخصوص مجفولة عليا .. أعتبريني فنبطشية يا ستي ..

زاد العمر وزواده .. ميراث العشق والدموع ٤ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن