مُلحق الفصل الخامس

2.8K 163 3
                                    

يكرهها ،، يرغبها

ملحق الفصل الخامس - رواية على بحر يافا


نهض من السرير الواسع .. الذي شهد قبل قليل حرباً عاطفية بينه وبين سيلين التي كانت تجلس في السرير تحت كومة الأغطية المبعثرة وعلى وجهها ابتسامة راضية مثل قطة انتهت لتوها من التهام قطعة لحم ،، مرر يده في شعره واتجه إلى الحمام ، ووقف طويلاً تحت الماء الساخن ... لا يعرف كيف ولماذا قفزت صورة يافا إلى مخيلته وهو يعانق سيلين ،، ولماذا وهو ينظر في عمق عيني سيلين أطل بشكل ما منهما بحرين أزرقين واسعين ،، ولماذا حين كان يدفن يده في شعرها صوّر له خياله شعراً بخصلات كستنائية ثائرة ،، لعن بصوتٍ مسموع ،، هو لا يحتاج لشئ يهدد هدوء باله ، ليس بحاجة لشروخٍ تضعف من الدرع الذي بناه حول نفسه ،، يافا مجرد طفلة ، وهي بمثابة أختٍ له ،، فلماذا بحق الله تقافزت بضئالة قامتها أمامه بينما كان يفرغ طاقاته في جسد سيلين! ولماذا حين كانت تهمس سيلين له أنها تعشقه انقبض قلبه وتخيل كيف ستكون هذه الكلمة إذ ما خرجت من شفتين بلون الكرز وبامتلاء حبات المشمش ؟ لا يجب أن يفكر فيها ،، لا يجب أن يجعلها تشغل تفكيره ، هي مجرد مرة واحدة التقاها ،، ولم يكن لقاءً دافئاً أو مرحباً ،، فشيء في قسمات وجهه الذي تخيلها ساخرة شحذت كل مشاعر الحنق لديها تجاهه ،، وهو قد شجعها عندما ضحك منها علانية على كرهه كما كرهها بالضبط !
ما إن انتهى من حمامه حتى هرب من بيته ومن سيلين بحجة أن لديه عمل،، وبينما كان يقود سيارته بأقصى سرعة رن هاتفه ،، خفف من سرعته قليلاً ونظر إلى الشاشة "أوه رائع" تمتم فقد كانت أمل تتصل ،، هذا ما كان يحتاج إليه بالضبط لينسى قصيرة القامة تلك ! عندما أجاب على والدتها عاجلته "أنت مدعو للعشاء اليوم حبيبي ولا مجال للرفض ،، أراكَ لاحقاً ، أحبك" وأنهت الاتصال ،، نظر إلى الهاتف الصامت للحظة ثم ضحك .. يا إلهي أمل تتصرف حقاً بتسلط .. حتى أنها لم تسمع رده ،، هذه المرأة هي الوحيدة التي لا يمكن أن يقول لها "لا" .. انقلبت ضحكته إلى ابتسامة حنان وهو يفكر في معاملة أمل له كابنها ،، ثم سرعان ما انقلبت الابتسامة إلى تجهم ،، دعوة على العشاء؟ هذا يعني أنه سيرى يافا .. تباً .. المشكلة التي تمشي على رجلين ،، باتت تمشي في دماغه أيضاً وعليه أن يوقف هذا الآن ...
فكرته في عدم التفكير بها تبخرت عندما كان يصعد درجات السلم في بيت والده وسمع صوتها الذي يشبه العسل المذاب بحلاوته وهي تقول " أحمد أهذا أنت؟ هل وصلتما أخيراً" أطل عليها من باب غرفتها المفتوح ، لم تكن تنظر إليه بل كانت تنظر في كتابها .. خفق قلبه بشكل أزعجه ،، كانت تبدو مثل طفلة صغيرة بملابسها الطفولية وتسريحة شعرها ،، وحمرة خديها المبهجة ، كانت طفلة لكنه ولسبب ما لم يستطع أن يفكر فيها كطفلة ، وليقطع السحر وضع إحدى ابتساماته الساخرة على وجهه وقال " آسف لتخييب ظنك ، إنه أنا" رفعت نظرها إليه ، والتقى بالبحرين في عينيها وشتم بداخله ،، لديها أجمل عيون رآها يوماً .. عصفت رياح التحدي ببحريها وقالت له " أحمد ليس هنا ولا ماما" أجابها بسخرية ، يخفي تأثره بجمال صوتها " سأنتظرهما .. أنا مدعو للعشاء . ألم تعلمي؟" نظرت إليه وعرف أنها لم تكن تعلم ،، وعلمها بالأمر لم يجعلها مسرورة أبداً .. همست له "لا" وتحرك وتر ما في قلبه ، لا يريدها أن تقول "لا" فهذه الـ "لا" تستفزه ، وهو يكاد ينقض عليها ليجعلها تنطق بـ "نعم" وعرف في أعماق نفسه على ماذا أراد هذه الـ "نعم" وكره نفسه وكرهها لأجل هذا لذا لجأ لسلاحه الوحيد في حضورها ، السخرية ، فقال لها " حسناً ينقصكِ رضاعة والقليل من البكاء حتى تكتمل صورة الطفولة" عرف أنه أثار غضبها فقفزت من سريرها يتطاير شعرها حولها ، حافية القدمين، قصيرة القائمة محمرة الوجنتين كأنها كانت تمشي تحت الشمس لساعات ، وقالت له بغيظ " اسمع يا هذا ، لا تسخر مني .. فأنا قادرة على رد الضربة، فإياك والعبث معي" صوتها كان جميلاً جداً لم يناسب حقاً خشونة كلماتها ووقفتها بكامل برائتها نفت عنها كل صورةٍ غاضبة لذا لم يستطع منع نفسه من إطلاق ضحكة عميقة وهو يعلق" وللقطة مخالب" بينما ردت عليه " واحذر لئلا أنشبها في عنقك" عندها نظر إليها محذراً ، محاولاً إبعاد نفسه عن دائرة الخطر التي ترسمها حوله دون أن تعلم ،، " يافا الصغيرة ، لن تجاريني أبداً ،، الملائكة لا تتفوق على الشياطين" ناداها بالصغيرة أولا وهو غير مقتنع تماماً بالكلمة ، فقد بدت رغم كل برائتها بكامل أنوثتها ثم وضع نفسه في صف الشياطين ووضعها في صف الملائكة حتى يثبت لنفسه قبل أن يثبت لها أنهما مختلفان جداً ،، كاختلاف الملاك والشيطان ،، لكنها لم تكن على دراية بما يدور في باله لذا فقد وقفت أمامه مثل قطة متحفزة وهي تقول " حسناً أنت مخطئ .. هناك طريقة جيدة " أمسكت قبضة الباب وهي تقول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم صفقت الباب بوجهه،، للحظة بدا مذهولاً من ردة فعلها لكنه ما لبث أن أرجع رأسه إلى الوراء وضحك بعمق ،، تلك الـ يافا .. كم هي مسلية حتى في غضبها ومن بين ضحكاته قال لها "انتصرتِ يا ملاك .. لكنها جولة واحدة" .. ثم ابتعد عن غرفتها ونزل إلى الأسفل ،، وعندها انتهت نوبة ضحكه وحل الانزعاج مكان المرح ، يافا خطر ، يافا خطر ،، خطر خطر خطر ،، ظل يردد لنفسه هذا الكلام كأنه بحاجة ليقنعها قبل أي أحد آخر أن يافا لا تفعل به شيئاً سوى إثارة كرهه وشحذ طاقات السخرية لديه !
حاول آدم أن يتجنب يافا طيلة فترة العشاء ولكنها عندما هربت من صحبته إلى الخارج لم يستطع منع عينيه من مراقبتها بفستانها الأصفر الموشى بزهور برتقالية ،، كأنها الربيع ،، بدت ربيعية جداً في هذا الجو القارص ،، وقد كرهها لهذا الدفئ المشع الذي يحوم حولها مثل الهالة ،،"لماذا يكرهها؟" سأل آدم نفسه هذا السؤال أكثر من مرة.. ولم يجد له جواباً ،، منذ اللحظة التي رفعت عيناها الزرقاوتين إليه وهو يكرهها ، وهي لم تتوانى في ردّ هذا الكره ،، يافا تشبه الكأس الذي يشف بكل محتوياته ، بإمكانه أن يقرأها وهي تجعل الأمر سهلاً جداً ، تقول كل ما تريده بلا تزييف ،، هذا أكثر ما يكرهه فيها ، أنها غير مزيفة ، فهي تبدو مثل الشمس التي تملأ أي مكان تتواجد فيه بالضياء والدفئ ، وقد كرهها لأنها دافئة إلى هذا الحد الملعون الذي يهدد أمن برودته ، وبالرغم من أن أشعتها لم تكن تطاله عمداً لأنها حاربته منذ أول دقيقة لكنه لم يستطع منع نفسه من الإحساس بالدفئ كلما جمعهما مكان واحد.. وعاد يسأل نفسه "لماذا أكرهها؟، لماذا لا أطيق الجلوس في مكان تتواجد فيه وأتلوى في مكاني طلباً للهرب منها وكأني أجلس على مقعد مُلأ بالدبابيس،، ما الذي فيها يشحذ هذا الكم الهائل من المشاعر العنيفة في داخلي " وبينما هو غارق في تحليل تصرفاته ومشاعره سمع صوت والده يطلب منه أن يذهب ليتفقدها ،، لم يعرف لماذا زادت خفقات قلبه وهو يتقدم نحوها حيث تجلس في الظلام وحيدة ، بدت آلهية أكثر منها بشرية تحت ضوء القمر ،، قصيرة القامة تلك ، تحرك كل شئ فيه ،، وتجعل الدماء تجري ساخنة في عروقه ،، لم يتوانى عن استفزازها حتى حصلت الكارثة تلك الليلة عندما أمسك بها بين يديه وارتفع صدرها وانخفض على صدره ،، شعر بشئ ما يجيش في داخله ، أحاسيس حلوة وعذبة ومُعذّبة تحوم في شرايينه ،، وجهها المضئ كان على بعد إنشات من وجهه ،، كاد أن يقبلها ، أن يوصهما بختم شفتيه ، لأن يمزق بشرتها الشفافة تحت أنياب رغبته ،، رغبته فيها أخافته ، فهذا الـ آدم شخص لا يعرف عنه شئ ،، هذا الـ آدم الذي لا يظهر إلا بحضور يافا ،، وكاد أن يستفيق شيطانه ، وهو يراها بثوب نومها الذي يحاكي لون عينيها ، وبشعرها المنثور حول وجهها ،، بعينيها اللتان تبرقان ، بأنفاسها السريعة ، بملمس بشرة يدها في قبضة يديه ،، أطلقها وهو يحارب تلك الرغبة العارمة في الانقضاض عليها وهو يقول بكل ما أوتي من هدوء " اهربي قبل أن يستفيق شيطاني" وكانت حكيمة حين هربت رغم أنه لاحقها بضحكته وصوته الساخر "جبانة" لكنه في داخله كان ممتناً لهروبها ، هل قرأت الخطر المحدق بها في عمق عينيه؟ هل شعرت بأنها كانت على قاب ثانيتين أو أدنى من أن تُنتهك ؟ وأن توصم بشرتها العذراء بشفتيه الخبيرة ؟ هل عرفت بغريزتها أي خطر كان يشكله على برائتها؟ ربما تكون عرفت وهذا سيساعدهما معاً ،، فطالما تجنبته طالما كان قادراً على السيطرة على نفسه أكثر !
لعن نفسه ، هرب إلى سريره ، بينما كانت صورة سيلين التي حدثها في وقت سابق متواعداً معها قد اختفت تماماً لتحل محلها صورة فتاة قصيرة القامة زرقاء العينين ،، تشتعل كالشمس كلما اقترب منها ،، شعر بحرارة تسري في جسده وعرف ، عرف لماذا يكره يافا .. إنه يكرهها لأنه يرغبها ،، يرغبها بشكل بائس وسخيف ، فهي صغيرة عليه وعلى مطالبه وعلى رغباته العنيفة ، لكن وليساعده الله ويساعدها قبله ، هو لا يستطيع أن لا يرغبها ،، وانتابه شعور أن هذه الرغبة ستودي به إلى الحجيم ...
وضع الوسادة فوق رأسه بطريقة عنيفة كأنه يحاول أن يبعد هذه الأفكار عن رأسه ، وأغمض عينيه محاولاً بجهد أن ينام ،، لكن النوم لم يشفق عليه إلا في ساعات الفجر الأولى .. ليغمض جفنيه وصورة يافا معلقة بذاكرته بينما آخر ما كان يفكر فيه كلمات قصيدة نزار قباني التي تقول:

عيناكِ .. كنهري أحزانِ
نهري موسيقى .. حملاني
لوراءِ .. وراءِ الأزمانِ
نهري موسيقى , قد ضاعا
سيدتي ... ثم أضاعاني
الدمعُ الأسود فوقهما
يتساقطٌ أنغامَ بيان ..
عيناكِ وتبغي وكحولي
والقدح العاشر أعماني
وأنا في المقعد .. محترق
نيراني تأكل نيراني
أأقول أحبكِ .. يا قمري
آه ... لو كان بإمكاني
فأنا لا أملك في الدنيا
إلاّ عينيكِ وأحزاني ...
سفني في المرفأ باكيةٌ
تتمزق فوق الخلجانِ
ومصيري الأصفر حطمني
حطم في صدري إيماني
هل أرحل عنكِ .. وقصتنا
أحلى من عودةِ نيسانِ
أحلى من زهرة غاردينيا
في عتمةِ شعرٍ إسباني
أأقول أحبكِ .. يا قمري
آه ... لو كان بإمكاني
فأنا إنسانٌ مفقودٌ
لا أعرف في الأرض مكاني
ضيعني دربي .... ضيعني
إسمي ... ضيعني عنواني
تاريخي ! مالي تاريخٌ
إني نسيانُ النسيانِ
إني مرساةٌ لا ترسو
جرحٌ بملامح إنسانِ
ماذا أعطيكِ ؟ أجيبيني
قلقي ؟ الحادي ؟ غثياني؟
ماذا أعطيكِ سوى قدرٍ
يرقص في كفّ الشيطانِ
أنا ألف أحبك فابتعدي
عني .. عن ناري ودخاني
فأنا لا أملك في الدنيا
إلا عينيكِ ... وأحزاني .

قراءة ممتعة..
يتبع...

على بحر يافا(مكتملة)Where stories live. Discover now