-6-

58 3 0
                                    





"الفصل السادس"

.
.

بعنوان : "احلام مظلمة و ماضي منسي"

.
.

بتلك الليلة الهادئة قد زراني حلم غريب, حلم كنتُ فيه لاأزال برعم طفلة على ما يبدوا, أجثم بيدي الصغيرة يد رجل يقف بالقرب مني
كانت ملامحه مبهمة و يعتليها الضباب السميك, لم تكن واضحة قط لآقدر على سرقة لمحة منه, بدا أنه قريب جداً  مني و يعرفني حق المعرفة
بات شدقه يقهقه بإستمتاع فيما يشير بأنامله ناحية تلك الحقول الواسعة و الجميلة من حولنا, حقول ريفية تجلى على أراضيها قصب السكر و القمح
لكن ما لبث أن تلاشت و إضمحلت تلك الضحكات و ماتت كأنها تمزقت بحد السكين ليحل مكانها الحزن و الهم تتضرجان بهما تقاطيعه الغير واضحة
حدثني ثغره بصوت أشبه للهمس الضعيف وهو يضغط على يدي الصغيرة بخفة
"سامحيني, سامحيني يا صغيرتي, أنا حكمت عليك بالموت حية, قبرت طفولتك,  إغفري لي هفوتي"
ما أن سمعت ذاك الأنين و الطلب للغفران حتى إختفى فجأة صوته و تلاشى كل شيء كان موجود
الحقول الذهبية, المكان!, بات الحلم أشبه بلوحة رسام فارغة من الألوان و الرسومات, جرداء كلياً
فتحتُ بصري بهدوء و نظرت للمشهد حولي, لقد كنتُ نائمة بإضطجاع على سريري الدافيء, آه مجرد أضغاث أحلام ربما
هل يخيل إلي أنها ومضات عن ذكرياتي المفقودة, هل هي أحجية ما ينبغي علي تجميع قطعها و ترتيبها كي أكمل الصورة المبهمة
إنتصبتُ واقفة أمدد جسدي بكسل شديد, بعدها توجهت للنافذة لآفتحها حيث إنساب نسيم الصباح العليل مع أشعة الشمس الدافئة تغازل وجنتاي
قمت بأخذ حمام سريع و إرتديت فستان بسيط ذو أكمام طويلة, لقد كان ذوق إليستر اللطيف بالنهاية و كم إفتقدت وجوده فلم ألمحه بالأرجاء مساء البارحة
لعله مشغول بعمل ما تم توكيله من قبل ديابلوا و الطبيب جونز, زفرت بعمق من هذه التوقعات التي باتت تحضر بمخيلتي
خرجت و هبطت السلالم للدور السفلي, وجدت القصر يقبع في هدوء مربك كما العادة, بحق الرب ألا يوجد حتى خدم بهذا المكان الشاسع
توجهت بدوري للصالة و أنا خائبة لعدم وجود أي شبح حتى, لكنني توقفت مجفلة حين لمحت الطبيب جونز و السيد ديابلوا يقطان في نوم عميق وسط الأريكة
وقعت قزحيتاي المضطربة نحو الأخير الذي يبدوا من تقطيبه لحاجبيه السميكين أنه منزعج و غير مرتاح في طريقة نومه, حيث داهمه النعاس وهو جالس بمكانه
كانت عنقه منحنية للجانب حيث أجزمت أنها ستخلع من موضعها الغير ثابت, هذا إذا لم يستيقظ بألم مبرح يصاحبه طوال اليوم
تبسمت بهدوء و دون أن أدرك ما أفعله, وجدت نفسي تقتاد لحيث ينام مقتربة منه, قمت بمد يدي لتعديل وضعية عنقه بقلب يكاد ينفجر من التوتر و الإرتباك
بخفة أمسكت رأسه و رفعته لأسند وسادة طرية و مريحة أسفلها, إنزحت سريعاً كمن صعقت بكهرباء حتى لا يشعر بوجودي
وقفت بأنفاس متوقدة أحاول ضبطها لآخرجها بهدوء سلس في محاولة دحض سماعهما لحالتي الغبية من عدم الإستقرار النفسي و أزعج راحتيهما
لم أشعر بذاتي و أنا أمرر بصري في تفاصيل وجه ديابلوا, أطلت التحديق و التأمل بتلك الندوب, إنتابني الضيق و الأسى لتخيل كيف حصل عليها
تبدو عميقة و مؤلمة فلا يعقل أي نفس دنيئة صوغت له ذاته إرتكاب مثل هذا الجرم برجل طيب مثله
أخرجني من التفكير و التحديق صوت الطبيب جونز المفاجئ و الذي قال دافعاً موجة شهيق مذعورة تفلت من ثغري
"أغرمتِ باللورد يا حسنائي؟"
إستدرت في مواجهته ثم قوست حاجباي في توجس مما قاله
أجبت بإستنكار
"عفواً!, ماذا تقصد بأغرمتِ؟, لايوجد ما يسمى بالغرام بين ليلة و ضحاها"
إعتدل في جلسته يجلي حنجرته ليسأل بمكر وهو يعيد تصفيف شعره المبعثر
"إذن هل لي بأن أعرف, لما الحسناء تتأمل وجه اللورد النائم؟"
إحتقن وجهي بحمرة الخجل من سؤاله المباغت و تلميحه الخبيث لآرد عليه بتلعثم أداري رعشة الإرتباك
"آه لقد كنتُ, آآممم أقصد أنا ..."
لم أدرك ماذا يجب علي القول, فإكتفيت بالصمت مكرهة, تبسم منتصراً لكونه قد تمكن من إحراجي ليردف بعد تنهيدة طويلة
"لابد أنكِ تتسائلين حول الندوب أليس كذلك"
أخفضت رأسي و أنا مقتضبة من مكر هذا الرجل, كان يفهم تصرفاتي مع ذلك يتعمد رمي الكلام جزافاً كي يربكني
أومأت بالموافقة دون أن أكلف نفسي عناء النبس, سمعته يقول بجدية
"دعيني أولاً أسألكِ, هل هو مخيف؟"
رفعت عيناي أتطلع إليه و أنا متعجبة مما صرح به, و لما يستفسر عن ذلك
أجبته بعد صمت قليل حيث تحدثت بصدق بينما حولت تأملي للفراغ
"لا يوجد بملامح وجهه ما يخيف, فـ أنا أراه رجل ذو رهبة و وقار, تلف حوله هالة من الرجولة و الشهامة المطلقة, و التي ربما باتت صفتني نادرتين بهذا الزمن الجنوني"
رأيت إبتسامته تتسع بشكل مريب و هذا جعلني أحرج بشدة بكونه قد ذهب بتفكيره اللعين لشيء خاطئ
قلت سريعاً أوضح مقصدي
"لا أقصد أمراً بهذا الكلام, أنت سألت عن رأيي و أنا أجبتك"
قهقه الطبيب بخفة ليقول بخبث
"لكنني سألت عما إذا كان وجهه مخيفاً أم لا, و ليس عنه شخصياً"
الأن أنا حقاً أكاد أفقد الوعي من شدة الإحراج الذي بات يلتهمني, أخفضت نظري أتحاشى التصادم بأعينه الماكرة
هذا الوغد الشرير أنه مراوغ بارع, رباه إنني في حالة حرج لن يحسدني عليها أي كائن بالوجود
سمعت ضحكاته الخفيضة و كم أغاظني تصرفه هذا, لكن فجأة تبدلت ملامحه من المرح و العبث للغموض و الهدوء
فتحدث فيما يعيد رأسه للوراء
"تلك الندوب ليست على وجهه فقط, بل جسده كله مثخن بها, إنها الدليل على ما عاناه و ما رآه في الماضي, و قبل أن يصبح على ماهو عليه الأن"
قطبت جبيني بإستغراب و سألت بفضول يغدق بهواجسي
"و كيف كان بالماضي و كيف أصبح!, أنا بالحقيقة لا أعرف أي شيء عنكم بعد"
حدق فيني مطولاً كأنه محتار من حيث هل عليه إخباري من عدمه, بالنهاية قال بعد تفكير
"من الأفضل أن تسمعي منه ذلك شخصياً, أما عن نفسي"
إبتسم بمودة مريبة مكملاً
"لا أمانع في إخباركِ حسنائي, لكنني أنصحك بعدم المعرفة, قد لا أكون بذاك الرجل المثالي"
كدتُ أعترض و أطلب منه بإصرار أن يخبرني حتى لو كانت أمور لن تروق لي, فأنا أحتاج بحق أن أفقه مع من أعيش تحت هذا السقف الكبير
لكن إستيقاظ ديابلوا المفاجئ حال دون ذلك, فلقد لُجمت كالعادة و إبتلعت الحروف طواعية
رأيته يضع يده على جوانب رأسه ليهزه بقوة كأنه يحاول طرد شيء ما من داخله عقله, زفر بحدة لينظر إلينا بهدوء
ما لبث أن حرك عضلة فمه ليتمتم
"صباح الخير"
لم يرد أي واحد منا, لا أنا و لا الطبيب جونز, بات ينقل قزحيتيه بيني و بين الطبيب المبتسم بشك و ريبة ليسأل بحذر
"هل من خطب؟, لما أنتما في حالة صمت, كأن على رأسيكما الطير"
حملقت ناحية الطبيب بخفة و الذي غمز لي بدوره مما دفعت بالحرارة لآن تستقر بخداي, كم هو حقير هذا الرجل لدرجة مقيته
قلتُ بصوت خفيض من قوة الخجل الذي تملك أوصالي
"صباح الخير سيد ديابلوا, لا بتاتاً لا يوجد خطب, عن إذنكما سوف أذهب للمطبخ"
خرجت مسرعة أرفع فستاني حتى لا أتعرقل بأهدابه و أسقط, حينها فعلاً سأقتل نفسي كي لا أكون بموقف أكثر إحراجاً
كان ديابلوا مشدوهاً حيث إلتفت لجونز يسأله بحدة
"هل فعلت شيء بالفتاة!, إعترف أيها الوغد"
رفع كتفيه بعد إهتمام وهو لازال يرسم تلك الإبتسامة العابثة, إلا أنه ما لبث أن قطب قائلاً
فيما يتطلع بوجه الأخر
"هل أفسد نومك الكابوس ذاته؟"
تنهد يدفع بأصابعه داخل شعيرات رأسه ليتمتم بهدوء شاحب
"و من غيره, سيد الزمان و المكان, هادم اللذات و الراحة, كل ليلة أحلم باللحظة التي مات فيها ديريك"
تآوه فجأة يقتطع حديثه واضعاً يده على عينه التي بدأت تحرقه, إنتفض جونز واقفاً من فوره حيث أحضر القطرة التي تخفف آلم عينه
جلس في مواجهته حينما لاحظ أن ملامح ديابلوا قد لانت و باتت أفضل
خاطبه بخفوت يراقب تعابير بدقة
"كيف أصبحت الأن؟, هذا ليس جيداً يا ديابلوا, آلم عينك في إزدياد إنها ترفضك, دعني أقتلعها لك"
زمجر الأخر بحزم كالرعد الهادر
"لا, لن يحدث ذلك مطلقاً, أنها ملكي الأن, نعم عين ديريك أصبحت جزء مني و لن أزيلها إلا على جثتي الهامدة, هل وعيت ذلك؟"
زفر بحدة من عناده ليعقب
"كم أنت أهوج عنيد, سوف ترهقني معك لآخر رمق"
تبسم ثغره بخفوت من تعليقه ليقول حيث إرتاح في جلسته و إسترخى
"ألا أستحق القليل من تعبك أيها العجوز"
ضحك بدوره ليرد ساخراً على كلامه
"لا أنت لا تستحق, لما تظنك تستحق الظفر به؟"
أعطاه نظرة حارقة مليئة بالخبث ليصرح
"ربما لآنني كدتُ أفقد نسلي بسبب فتاتك الجامحة ذات يوم, هل تذكر"
إستذكر جونز تلك الذكرى بمخيلته لينفجر ضاحكاً لدرجة تكومت الدموع بمقلتيه, ركله الأخر بإنزعاج وهو يصرخ فيه بتوبيخ
"كفاك ضحكاً أيها المعتوه, لقد كانت ذكرى مشؤومة"
حاول التوقف عن الضحك وهو يقول بحروف متقطعة
"رباه, تلك الحادثة التي بسببها لم أستطع الشرب لمدة أسبوع من الضحك"
ضاقت أعين ديابلوا بحنق ليكمل جونز حديثه بلئم
"هل تذكر كيف ركلتك بموقع رجولتك بينما ظنتك أنا, لقد كدت تموت من الألم و عيناك فاضت بالدموع لتنهار على الأرض, أقسم أنني حين لمحتُ ذلك كدتُ أنتشل قلبها تلك الساقطة, لو لم تمنعني لفعلتها رغم محبتي لها"
فرك جبينه بإقتضاب متمتماً بسخط
"بالطبع هي لم تكن تقصدني بتلك الركلة, لآنها كانت موجهة لك يا غبي, و لسوء حظي كنتُ أرتدي ذات الثياب وقتها مما جعلها تخلط الأمور, لقد شاهدت النجوم تتراقص و تومض وسط أبصاري الزائغة, بحق الله لما تركل رجل في منطقة حساسة وهي ترتدي كعباً, أنه مميت كما الجحيم, مجرمات النسوة بحق"
قهقه وهو يستمع لتذمره ليعلق براحة
"إذن من الجيد أنك تلقيت تلك الضربة نيابة عني"
أردف بخبث
"بالمناسبة, هل أنت واثق بعدم إنقطاع نسلك أيها اللورد, عندها لن تتقبلك أي فتاة زوجاً لها كما تعلم"
تجهم وجه ديابلوا من تلميحه ليرد عليه بنبرة خطيرة
"كلي ثقة بكوني رجلاً, لتذهب أنت لتتأكد من نفسك يا زير النساء"
إزدادت إبتسامة جونز المستفزة متطرقاً
"الرجل الحقيقي من يكون مع جميع النساء, بدون ترك أي أثر على هذا, تذكر ذلك"
هز رأسه بنفاذ صبر
"أنت فعلاً رجل حقير و لعوب"
إكتفى برسم إبتسامة على زاوية فمه ليكمل ديابلوا حديثه الحانق
"ليتك تجرب تلك الضربة و تشعر بما شعرت به, أقسم أنك حينها سوف تتوب عن النساء"
أجابه بمنتهى البرود
"و من قال بانني لم أجرب!, لقد حصلت معي بحيث يصعب علي إحصاء المرات"
حملق فيه بدهشة و عدم تصديق
"و لم تقم بالتوبة!, يا لك من رجل لا يكل و لا يمل"
حرك يده بالهواء عابثاً ليستطرد
"أنا جونز كيرمان, ما أضعه نصب عيني أظفر به, لا تنسى بأنني إكتشفت الكثير من النسوة يحاولن الإقتراب مني و منك بدافع القتل, لكن ينتهي بهن المطاف مقتولات دون أن يدركن بان جونز ذئب لا يعبث, مع ذلك إنني أستمتع"
تملقه قليلاً ثم هتف بنوع من الريبة
"لهذا أطلب منك التريث في سهراتك و فتياتك, أعداءنا لا حصر لهم بحكم كوننا مرتزقة, كما أن ..."
بتر حديثه إثر إستقامة جونز الذي رح, ب بحفاوة وهو يسير للباب لإستقبال أحد الفتيات السمراوات أمام ذهول ديابلوا
إعتصر قبضته وهو يخمد وتيرة غضبه, قام بالعد حتى العشرة كي لا يهب الأن لاكماً وجه جونز لكونه قد أعطى الفتاة عنوان قصره
بات جونز يرمي بكلماته المنمقة للفتاة التي أعربت عن إستحياء كاذب, جثم يدها وخرج بصحبتها بعدما ألقى نظرة على ديابلوا الذي ما لبث أن واتته الشكوك حياله
لم يزعج نفسه بالتفكير لآن الموضوع سيكشف على أي حال, لذلك إتجه للمطبخ كي يحضر كأس نظيفة
وقف مشدوهاً قرب عتبة الباب حين وقع بصره على كلارا التي تقف فوق الكرسي الخشبي برؤوس أصابع قدمها محاولة جلب علبة السكر من الرف العلوي
لاحظ أن الكرسي غير متزن و يهتز يمنة و يسرة, و قبل أن ينطق شدقه محذراً إياها, شاهد الكرسي ينقلب و تزلق ساقها هاوية على الأرض و قد جرت الرف لتتساقط العلب الزجاجية معها
تحطم الزجاج و تناثرت الشضايا بكل مكان بل إن الدقيق قد غطى أرضية المطبخ كأ سحابة ضباب عاتية.


روايـة "القلبُ الحديدي لمدينة الشيطان باركون" Where stories live. Discover now