-5-

72 2 0
                                    





"الفصــل الخامس"

.

.

بعنوان: " الطبيب المرتزقة جونز كيرمان"

.
.

مرت ساعات ثقيلة على ديابلوا الفاقد للوعي, إستفاق أخيراً بدوار جاثم على رأسه كأن زلزال عنيف ضرب دماغه
الرؤية لازالت تحفها الغشاوة و التضبضب, أغلق عينيه ثم فتحهما عدة مرات حتى إستقر نظره و بدأت الصورة تتضح أمامه
لمح وجوده في غرفة غريبة و شبه مظلمة تشبه المستودع, فكان جسده مقيد بالسلاسل وسط عمود منبعج بأحد زوايا الغرفة
ظل يحملق حوله بهدوء بعينه الواحدة و هو يسترجع بذاكرته حول ما حدث ثم سمع صوتاً يقول
"إذن إستيقظت أخيراً"
رفع نظره للشخص المتحدث حيث ما لبثت أن ضاقت بصيرته ما أن لمح الطبيب جونز يجلس على الكرسي بين أنامله يعبث ببالمسدس
كان جونز بدوره يحملق بمسدسه ثم بعدها رفع قزحيته بهدوء شديد لينظر لديابلوا
قال مضيفاً يفتح مشط المسدس و يغلقه بحركة سريعة و مرنة
"هل هدأت الأن أيها الشاب, لآن الكلام الذي سيدور بيننا يحتاج لكم هائل من الهدوء و التفاهم"
بقي الأخر يزدريه بنظرات قاسية ليجيب بهمس حانق
"تقول ذلك و قد أفقدتني الوعي بحقنتك تلك!, بل و أستيقظ لآجد نفسي مقيداً بالسلاسل, تطلب مني الهدوء؟, هل تهزأ بي بحق الجحيم أيها العجوز"
تنهد بعمق ثم إنتصب واقفاً عن كرسيه يتجه ناحيته, جعل وجهه مقابل وجه ديابلوا ليهتف بجدية حازمة
"صدقني لو أنني لم أكن هادئ فسوف تحدث الكوارث بيننا, و أيضاً توقف عن نعتي بالعجوز, بربك! هل أبدوا عجوز بنظرك, إنني لا أزال بريعان شبابي لكنكم تخطؤون الظن بي بسبب ذقني"
إبتسم الأخر ساخراً بدوره ليرد
"أولاً توقف أنت عن مناداتي بالشاب, أيها العجوز"
تلاحما بجبينهما كأنهما يتصارعان بشراسة كالثيران الهائجة, فتحدث جونز بغيظ
"آآمم و إذا لم أتوقف ماذا تراك فاعلاً هاه؟, هل أنت من الأساس قادر على فك وثاقك!, هيا أجب أيها الشاب الشيطاني"
حملق فيه ببرود و بلمح البصر سمع جونز صوت إحتكاك السلاسل ثم تلاها سقوطها ليتحرر منها
تمتم بقتامة
"هل تظن أن فك مثل هذا السلاسل يصعب علي!, إنها عبث أطفال"
تبسم جونز متمتماً بعبث
"هل كنت تحتاج لمن يتحداك  لتقوم بتحطيمها, آه الرحمة "
عاد للجلوس على الكرسي ثم أعقب بجدية يغرس يده بجيب سترته
"دعنا من كل هذا الهراء, أخبرني لما جئت خلف أثري, لا أظن شاب مثلك جاء ليطلب تشخيص من طبيب, و هذا هو الدليل"
أخرج من جيبه قطعة قماش تلف شيء ما و كانت مضرجة بالدم, رفع جونز ببصره لديابلوا الذي لم يحرك ساكناً
بل بقي يتأمل قطعة القماش الخاصة به بعمق مظبم و التي كان يحملها من الأساس بجيبه قبل أن يفقده الطبيب وعيه
قال الأخر وهو يبتسم بخفوت
"لابد أنك شعرت بفقدانها من جيبك, إذن ألن تخبرني بقصتها؟"
أغلق ديابلوا الهادئ جفنيه يسحب نفس عميق ثم ما لبث أن فتحهما ليقول لجونز
و قد إتخذ مكاناً على الكرسي المقابل
"لقد جئت إليك حتى تقوم بتركيب هذه لي, أنت الوحيد الذي يمكنني طلب عونه في ذلك يا جونز كيرمان"
همهم الطبيب بخفة ثم عدل جلسته ليقوم برفع قطعة القماش أمام وجه ديابلوا, و التي ما لبثت أن إنحلت عقدتها لتكشف عن عين حمراء كالدم
"سوف أفعل هذا و لكن ليس قبل أن تخبرني من أين أحضرتها, ليس و كأنه أمر عادي أيها الشاب"
لمح تجهم تقاطيع وجه ديابلوا و قد غلف الحزن و الآسى  ملامحه الرجولية ذو الندوب, فقال بلسان عاجز عن البوح فبات يخرج الحروف بصعوبة
"إنها لصديق لي, طلب مني أخذها بعد أن خسرت عيني اليمنى"
ضاقت أعين جونز
"و أين صديقك هذا؟"
رد متذكراً وجعه و فقدانه
"لقد مات"
توسعت قزحيتا الأخر بصدمة مما سمعه حيث أدرك الأن ماهية تعابير الحزن المرسومة عليه و على عينه الذابلة, أحس بنوع من الأسى على حاله
تمتم بهدوء
"يؤسفني مصابك حقاً, هذه هي الحياة حين تقرر إختبار صلابتك, أخبرني كيف حدث ذلك؟, إن لم يكن هناك أي نوع من التدخلات"
إستقام ديابلوا ثم سار بصمت حتى وقف أمام العمود الخشبي الذي كان مقيداً فيه, أسند ذراعه عليها ثم ما لبث أن تحدث بغيظ و كل الذكريات الموجعة تدفقت جمعاء لرأسه كالسيل المندفع
"كان ينقذني, مات بسببي, لم يكن عليه القدوم للبحث عني, صديقي بات شيئاً أخر, لقد أضحى فأر تجارب بيد زودياك الحثالة"
ولا كلمة نطق بها كانت مغزى أو مفهومة للطبيب جونز المنصت بعناية, بل باتت كل كلمة تضع ألف علامة إستفاهم بعقله
لكن سرعان ما أفصح ديابلوا عن القصة المروعة التي عاش حذافيرها قبل قدومه و إلتقائه به, و الاخر في حالة مد و جزر عاتية من الصدمات و الغير مسبوقة
عرف الأن أن الطبيعة البشرية قادرة على فعل كل أنواع الجرم, حتى لو قادتها لقتل أقرب الناس إليها
بعدما إنتهى من سرد القصة هتف بنبرة خفيضة
"هذا كل ما حصل, لا اعرف صدقاً لما أخبرتك, لكنك الوحيد من سألني عن هذا و ربما رغبتُ بالإفصاح عما يعتليني من شتات و هوان"
مسح جونز على شعره مصففاُ إياه للخلف متحدثاً بحسرة
"لا أزال بحالة إجفال مما وقع على أسماعي, لا أصدق أن هذا النوع من القذارة يعيش معنا بهذه الدنيا"
إلتفت إليه ثم سند ظهره على العمود حيث قمت و أظلمت عينه ليتمتم
"يوجد ما هو أسوأ لكننا نغفل عن هذا و نحاول أن نعطي الجميع فرصته, و أنا دفعت ثمنها غالياً بخسراني لصديقي, و وصول ذاتي للحضيض الكلي"
حملق بدوره بتلك الأعين الحمراء القابعة بقطعة القماش بين يده ليقول بآسى تشبع بها نبرته
"هذا سبب كونها باللون الأحمر, كم هذا فضيع"
هز الأخر رأسه بالموافقة ليستطرد وهو يساق قدمه إليه
"أجل, لهذا أريد منك أن تقوم بتركيبها لي, إنها نار ثأري التي لن تخبوا حتى أنتقم من زودياك و فولغين, لن يشفى غلي حتى أراهم جميعاً في الدرك الأسفل من الجحيم, نعم في قاع جهنم"
حدق جونز ليتنهد تنهيدة طويلة ثم قام بتغطية العين بالقماش ليعقب
"عليك بالتريث بذلك أيها الشيطاني, آآمم حسب ما أخبرتني به فإن زودياك هذا رجل ذو مكر و دهاء شديدين, يجب حساب كل ما تفعله بدقة متناهية و إلا لن تستفيد شيئاً, قلت بأنه يعتقدك ميتاً في الإنفجار!, أليس كذلك"
إعتصر قبضته متذكراً
"أجل هو يعتقد ذلك, ظن بأنني تحولت لآشلاء متطايرة, لكنني نجوت بإعجوبة بل معجزة بفضل ديريك"
نهض من مكانه و أقترب منه رابتاً على كتفه بمواساة
"لا يوجد ما يسمى بالصدفة, نجاتك قد خطه القدر من قبل الإله, كي نتقم من أولئك اللقطاء, و أنا بدوري سأساعدك"
ضاقت قزحيته فيه ليقطب حاجبيه متسائلاً
"تساعدني!, بحقك, كيف سأثق بك و أنا الذي تم طعنه غدراً من قبل صديقه المقرب"
تبسم جونز بثقة ليعلق
"أنا لستُ صديقك ذاك, ستثق بي حينما تشعر بأنك مستعد لذلك, لستُ مستعجلاً حول أي شيء"
صمت ديابلوا و لم يرد على ذلك, لآن الطبيب كان محقاً, لعل مرتزقة مثله, أشد إخلاصاُ من رفيق عرفه منذ زمن
أكمل جونز كلامه بجدية
"لنبدأ أولاً بتركيب عينك الجديدة حتى تزيل تلك الضمادة المهترئة, أنت ستحتاج لكلتا عينيك يا ديابلوا, عليك نسيان شخصيتك القديمة و لترمها خلف ظهرك فلقد ماتت في الإنفجار, إنسى الشرف و اللباقة و أمور الرجال المحترمين, سأجلك شيطان حقيقي كإسمك, سيهتز قلب كل من يمر ذكرك عليه"
سأله بإستغراب ما أن صرح بذلك
"لما تفعل كل هذا لي؟, و أنت لم تعرفي سوا منذ بضع ساعات"
أجاب الطبيب بمنتهى الغموض راسماً شبح إبتسامة على ثغره
"في الحقيقة أنت تذكرني برفيق قديم, لكما نفس الشخصية و ذات أسلوب الحديث, لكن تختلفان بنقطة أن صديقك ذاك كان متعقلاً و رزينا بينما كنتُ الطرف الذي تفلت أعصابه سريعاً, لعلي أفعل كل هذا بسبب ذلك"
أومأ ديابلوا متفهماً
" و أين صديقك الأن؟, تشوقت للإلتقاء به"
هز رأسه بآسى خافت متجهاً للخروج من الباب على مضض
"مع الأسف, لن يكتب لك الإلتقاء به, لآنه قد ترك هذه الدنيا مثل رفيقك"
تنهد الأخر بضيق يلاحظ عميق التشابه بينه و بين الطبيب جونز, لحق به يسير بهدوء شديد
فقال بهمس مسموع يحدثه
"أعتذر لقد ذكرتك بأمور لا ترغب بتذكر تفاصيلها"
ضحك جونز بمرح حيث إستطاع إخفاء و طمس لمحة الحزن التي لم يظهرها لديابلوا
فأجاب
"كم أنت مضحك أيها الشاب, لقد مرت سنوات على وفاته, إعتدت الأمر فلا تبالي"
تبسم ديابلوا بينه و بين نفسه, فأدرك غخفاء جونز لمشاعره, يفقه ذلك لآنه يفعل ذات الشيء
خرج كلاهما من المكان ثم توجها لمكان أخر يقبع بالمدينة المجاورة و هي باركون ذاتها, و بينما هما يسيران فوق الأحصنة كان الصمت مخيم على الجو بينهما
ديابلوا يفكر حول ما سيفعله في أيامه القادمة, بينما جونز كان يفكر أن حياته الوحيدة و المملة قد تبددت
و ها قد جاء ديابلوا إليه كأن القدر صاغه لطريقه متعمداً, أجل فهما يملكان نفس المصير, شخصان نبذهما العالم
أرادى بدأ حياة جديدة مختلفة كلياً عما كانت في الحياة السابقة المثيرة للشفقة
وصلا لوجهتهما ثم ترجلا حيث إقتاد جونز ديابلوا نحو منزله و بالأخص نحو الطابق الأرضي حيث تكمن عيادته السرية
وجد ديابلوا نفس يقبع وسط عيادة مذهلة قد إهتم الطبيب جونز بتفاصيلها الدقيقة, لم يتوانى جونز في جعل الأخر يستعد للعملية
التي ستحتاج لساعات طويلة حتى تظفر بنتائج مرضية للإثنين, جهز العدة و عقم الأدوات بإهتمام ثم شرع في تنفيذ عمليته
و ديابلوا يضطجع فوق سرير قابع بالمنتصف, تم تخديره و إستمرت العملية لبضع ساعات بحكم خبرة جونز الطويلة بهذا المجال
تم تركيبها بنجاح و ترك الأخر يرتاح حتى يتأكد أن كل شيء سيكون بخير, ساعات أخرى حتى إستفاق الشيطان ثم إستقام بهدوء
ليتقدم واقفاً أمام المرآة التي أحضرها جونز له, كان الأخر جالساً يراقبه بعمق فيما يرتشف من سيجارته راسماً إبتسامة صغيرة
وصل بدوره أمام وجهته حيث قام بمسح طبقة الضباب عن سطحها ليكشف عن وجهه بالضمادة, سرعان ما عمد على إزالتها ببطئ
مغمضاً جفنيه, و ما أن سقطت الضمادة فتحها بهدوء و روية و قلبه ينبض بمشاعر مريبة, بدأت تظهر شكلها رويداً رويدا
حتى أخيراً إرتسم وجهه كاملاً متجلياً على المرآة, تطلع لعينه!, أجل تلك العين الحمراء التي باتت تلمع كياقوته باهرة
تذكر كيف كانت في محجر صاحبها, شكله قبل أن يضمحل و يتلاشى في نار هوجاء,مالبث أن تغيرت تعابير ديابلوا للظلامية
فقام من فوره بتوجيه لكمة لسطحه المنعكس فتناثرت شضايا الزجاج و تبعثرت على الأرض, لمح تعدد شكله في كل قطعة من قطع الزجاج المتكسر
حينها و بتلك اللحظة قرر رمي كل شيء في طي النسيان, لم يعرف رالف الذي يعرفه الجميع, و الذي كان الدوق الأول و قائد جنود الإمبراطورية
بل بات الشيطان الذي سيظفر بإنتقامه من كل يد غدرت به و لفقت له تهمة الخيانة الكبرى, و أولهم عدوه اللدود زودياك.


روايـة "القلبُ الحديدي لمدينة الشيطان باركون" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن