الفصل 54

990 18 1
                                    

الحلقة 54 من الرواية------ انت لي----

ذات نهار... وفيما أنا حبيسة في غرفتي لا أفعل شيئا غير محاولة تذكر ملامح وجوه أحبابي البعيدين... ورسمها على الورق... أمي... أبي... دانة... ووليد... وليد قلبي الحبيب الغائب... طرق الباب...
"رغد هل أنت مستيقضة؟"
وكان صوت حسام. أجبته بنعم, فأخبرني بأن لديه ما يعطيني إياه...
طبعا كنا أنا وهو نتحاشى الجلوس أو التحدث معا قدر الإمكان... بعد الذي حصل...
أغلقت كراستي وقمت وارتديت حجابي وقتحت الباب فرأيته يحمل صندوقا ورقيا كبيرا وثقيلا على ما بدا...
سأل:
"أين أضعه؟؟"
قلت مستغربة:
"ما هذا؟"
فأجاب مستغربا:
"أليست أغراضك داخل الصندوق؟"
سألت متعجبة:
"أغراضي أنا؟"
فقال:
"بعث به ابن عمك..."
وتذكرت الحاسوب المحمول الذي وعد سامر بشرائه لي بعد نزع جبيرة يدي...
واستنتجت أن يكون هذا هو...
قال حسام:
"أين أضعه؟ فهو ثقيل ولن تستطيعي تحريكه".
قلت وأنا أشير إلى الطاولة الصغيرة عند الزواية:
"هناك من فضلك".
وسرت خلفه وأنا أقول:
"لا بد أنه الحاسوب المحمول..."
وضع حسام الصندوق على مكتبه وهو يسأل:
"حاسوب؟ عظيم!من أي شركة؟"
وأخذ يطالع جوانب الصندوق بحثا عن أي معلوملت ولم نجد شيئا قلت:
"افتح لنرى".
وبادر حسام بفتح الصندوق, ودهشنا حين وجدنا محتواه مجموعة من الكتب والمجلات الكراسية... وأدوات الرسم...!
استخرجت الكتب وإذا بها نسخا عن بعض كتبي الدراسية!!
أخذت أقلبها متعجبة وقلت:
"هذه... كتبي الدراسية!!"
وعدت أتأمل المجموعة وأستخرجها واحدا بعد الآخر... وأسترجع ذكريات الدراسة... وأنا أقول:
"أنا لم أطلب هذا من سامر! كيف عرف بأسمائها؟؟"
وسمعت حسام يجيب:
"وليد من بعث بها".
التفت إليه غير مستوعبة:
وليد!؟... وليد؟؟
اسم عادي.. أسمعه عشرات المرات في اليوم.. بيني وبين نفسي.. أو بين وجهي وصورته في المرآة... أو بين قلمي وكراستي ورسماتي... أو حتى من لسان أي شخص من حولي... وليد... هو الاسم الذي يلفظه قلبي مع كل نبضة ويزفره صدري مع كل نفس.. اسم معتادة حواسي على استقباله كل حين... لكن العجب كل العجب... أن يقشعر جسدي فجأة.. حالما لفظ هذه المرة..
فجأة... إذا بي أحس بطوفان هائل من الدماء يصعد إلى وجهي ويجتاح قسماته... ويوشك على تدمير ملامحه وطمس معالمه...
تقول وليد؟؟!! وليد؟؟؟
سألت... وأنا بين تصديق وتكذيب أذني... فهي لكثرة ما تاقت للسماع عنه أو منه, صارت تتوهمه صحوة أو غفوة:
"وليد!!"
حسام قال... وهو يتأمل التحولات التي طرأت على تعبيراتي:
"نعم.."
قلت متلعثمة... وأنا أشير إلى الصندوق:
"تــــ... تعني... أن... إن هذا من عند... وليد؟؟"
رد:
"أجل..."
وأعدت التحديق في محتويات الصندوق... واستخراجها وتلمسها... وكأنني أبحث عن بقايا بصمات وليد عليها...
آه يا وليد... تبعث إلي بكتبي الدراسية وأدوات رسمي... لا زلت تهتم بي... نعم أنت كذلك... أنت كذلك...
ولو لم يكن حسام إلى جانبي ساعتها لأكببت على الصندوق وما حوى مصافحة ومعانقة...
التفت إلى حسام وسألته:
"ولكن... كيف بعثها؟؟ بالبريد؟"
فنظر حسام إلي نظرة هادفة ثم قال:
"أحضرها بنفسه".
عفوا؟؟
ماذا تقول؟؟!
حملقت في حسام مطالبة بأن يعيد الجواب... فأنا اليوم صماء ولا أسمع...
"أحضرها... بماذا؟؟ بالــــــ... بالبريد؟؟"
ونظرت إليه منتظرة أن يقول نعم, لأنني لن أصدق غير ذلك, لكنه قال:
"بنفسه".
ملأت الدهشة عيني ورددت:
"بنفسه؟؟"
فأومأ نعم... فسألت بسرعة:
"ماذا تعني؟؟ وليد... وليد جاء... إلى هنا؟؟"
فأومأ بنعم... شهقت ورفعت يدي إلى صدري تلقائيا... ربما لأهدىء من الاضطراب المفاجىء الذي اعتراه...
"لكن... آه... كيف؟؟ وليد مسافر... إنه... إنه..."
فقال حسام:
"إنه من جلبها وقد استلمتها من يده مباشرة".
هتفت وأنا مذهولة:
"متى؟؟!!"
أجاب:
"الآن".
قلت وعيناي ينفتحان أوسعهما:
"الآن!!"
قال وهو يرى انفعالي:
"نعم. اتصل بوالدي قبل قليل وقال إنه سيمر لإيصال شيء لك".
انتفض جسمي.. وقلت مرتبكة:
"هل.. تعني.. أنه.. كان هنا؟؟ كان هنا؟؟"
حسام نظر إلي نظرة حادة ثم أجاب:
"تركته واقفا مع أبي في الفناء.. وأتيت أسلمك الصندوق".
ارتج دماغي إثر ذلك.. ترنحت في وقفتي كما لو كنت أقف على كرة متدحرجة...
وليد هنا؟؟ هنا؟؟
حسام رأى التعبيرات القوية على وجهي.. ورآني وأنا أندفع فجأة مهرولة نحو الباب... وأسير بسرعة... بسرعة... بكل ما أوتيت على ضعفي من قوة... بسرعة... قبل أن يرحل وليد...
سمعت حسام يلحق بي ويناديني.. لكنني تجاهلته وسرت عرجاء واطئة على رجلي المصابة ورافعة ثقلها مرة... ومستندة إلى عكازي مرة أخرى.. متجاهلة الألم الذي اشتعل في رجلي كصعقة الكهرباء... فقط لأدرك وليد قبل أن يرحل...
وأخيرا وصلت إلى الباب الرئيسي للمنزل.. وما إن فتحته حتى رأيت عمي أبا حسام مقبلا نحوه...
قلت بلهفة:
"أين وليد؟؟"
استدار للوراء ينظر إلى من كان يقف بجواره قبل قليل... نظرت إلى بوابة السور الخارجي فرأيت وليد يفتح البوابة الخارجية على وشك الخروج...
هتفت بأعلى صوتي:
"وليد..."
خشيت أن يكون صوتي قد خرج هزيلا بالكاد لامس الهواء قرب فمي.. لكنه وصل إليه.. رأيته يتوقف ويستدير...
خرجت عبر الباب وهبطت العتبات بسرعة متجاهلة ألم رجلي... وهرولت وأنا أعرج حافية.. أدوس على الرمل والحصى... وبقايا أوراق وأغصان الأشجار العالقة في الممر... قاطعة المسافة الطويلة بين البوابتين... حتى صرت قريبة منه... للحد الذي... لو تخطيته... لانصهرت من وهج حرارته...
كان الوقت ظهرا.. والشمس حارة.. وقوية السطوع.. تعشي العين عن الرؤية.. وحاربتها حتى أرسل نظراتي إلى وليد...
نعم... إنه وليد... بدمه وجسمه... بطوله وعرضه... بكيانه وهيئته... والهالة من اللهب الأحمر المتوهج... التي تحيط به...
كان يضع نظارة شمسية تخفي عن شوقي أي نظرة انتظرت أن أصافحها في عينيه.. بعد فراق طويل قاس...
وكان شعره طويلا بعض الشيء ومبعثر... لاعبه النسيم الصيفي الحار لحظة هبوبه...
وليد بقي واقفا في مكانه.. لم يتحرك.. ولم يظهر أي حركة تشير إلى أنه يكترث لظهوري...
وقفت أسترد أنفاسي التي نهبت مذ علمت بوجوده.. وأحاول خرق نظارت السوداء ورؤية ما تخفيه عدستاها خلفهما...
لم أر شيئا..
اقتربت منه أكثر.. صرت أمامه.. تفصلني عنه بضعة أمتار...
وقفت صامتة لا أعرف ماذا أقول.. من أين أبدأ وأين أنتهي؟؟دعوني... فقط أتأمل وليد... وأملأ قلبي من الإحساس الجميل الذي ينتابني بقربه...
ماذا حل به؟ لماذا لا أستطيع التحدث؟؟ هيا يا لساني انطلق.. أما اكتفيت حرمانا؟؟ أرجوك... قل شيئا...!
"وليد.."
نطقت باسمه وعيناي توشكان على التهامه.. وأذناي على أهبة الاستعداد لخطف أي كلمة تصدر من لسانه قبل مغادرة فمه...
"وليد... أأأ.. لم أعلم أنك هنا".
لم يرد..
قلت:
"كنت.. أعتقد أنك... مسافر".
لم يرد..
قلت:
"متى عدت؟"
أجاب أخيرا:
"قبل أيام".
قبل أيام؟؟ أنت هنا منذ أيام... وأنا لا أعرف؟؟
قلت:
"لم...يخبرني سامر عن عودتك...!!"
ثم أضفت:
"حمد لله على سلامتك".
رد مقتضبا:
"سلمك الله".
انتظرت منه أن يخبرني عن أي مبرر لعدم إحاطتي علما بعودته... أو بمجيئه إلى منزل خالتي الآن... ولما لم أر منه المبادرة لشيء سألت:
"و... كيف هي أحوالك؟"
فنطق مجيبا ببرود:
"بخير".
ولم يسألني عن حالي أنا...
سمعت صوت باب المنزل فالتفت إليه ورأيت حسام وأباه يقفان هناك... يراقبانني عن بعد..
وعندما عدت بنظري إلى وليد رأيته وقد مد يده إلى قبضة البوابة يوشك على فتحها.
قلت:
"هل أنت مستعجل؟ هل ستذهب الآن؟؟"
قال:
"مررت لجلب الكتب قبل سفري".
توقف قلبي عن النبض وانحشرت أنفاسي في صدري...
قلت مذهولة:
"ستسافر؟؟"
قال:
"نعم".
قلت:
"متى؟"
أجاب:
"غدا".
صعقني الخبر... ستسافر يا وليد؟؟ هكذا.. دون أي اعتبار لي؟؟ دون أن تخبرني لا عن حضورك ولا عن سفرك.. دون أن تفكر بالمرور علي ولو لإلقاء تحية عابرة؟؟
نفضت يدي من الرمال التي علقت بهما, ثم مددتها إلى السور المحيط بالأشجار والمجاور لي واستندت عليه محاولة الوقوف لكن قواي المنهارة بسبب وليد لم تسعفني..
اقترب وليد مني أكثر.. ورأيته ينحني ويمد يد العون لي..
نظرت إليه بتدقيق.. لم تمكنني النظارة من رؤيتة ما كنت أبحث عنه...
مددت إليه يدي اليمنى... والتي كانت مجبرة فيما مضى... وطليقة الآن...
وأحسست به يتردد قبل أن يقرب يده يريد الأمساك بها ليساعدني على النهوض.. غير أنني تجاوزت يده ومددت يدي أكثر نحو وجهه.. وانتزعت نظارته...
الآن.. يمكنني أن أسبح في بحر عينيه.. الآن.. أستطيع أن أغوص في أعماقه وأبحث عن نبضاته.. عن الحنان الذي يغلفني به.. عن الرعاية التي يحيطني بها.. عن العطف الذي يغمرني به..
لكن.. للذهول.. لم أقرأ شيئا من هذا في عينيه..
كانتا باردتين برود الرياح المثلجة في القطب الجنوبي.. جامدتين جمود الجبال الجليدية... خاليتين من أي دفء.. أي شوق.. أي اهتمام.. وأي معنى..
ارتجف فكي الأسفل من برودة وليد... التي أوشكت أن تصير صيف ذلك النهار شتاء قاسيا... اهتز قلبي... وارتعدت يدي فأوقعت النظارة أرضا..
كان حسام قد وصل يتبعه أبوه.. يسألاني إن كنت بخير..
وليد سحب يده التي كانت ممدودة إلي.. ومدها إلى النظارة يريد التقاطها...
فحركت يدي وأمسكت بيده أريد أن أشعر بأي ذرة دافئة فيه..
وليد أراد أن يسحب يده فأحسست به يستل خنجرا كان قد طعنه في صدري..
لم أقو على ذلك.. فاضت الدموع في عيني وهتفت وأنا أجذب يده وأنهض معتمدة عليها وأقول منهارة أمامه:
"لا تفعل هذا بي يا وليد... أنا لا أتحمل.."
وزفرت زفرات باكية بألم وأنا متشبثة بذراعه وهو واقف كشجرة جامدة... لم يحرك ساكنا...
سلطت النظر على عينيه... والآن.. أرى فيهما الكثير.. الكثير..
إنهما عينا وليد قلبي اللتان ما فتئتا تحيطاني بالرعاية منذ طفولتي...
ورأيت الحمرة تعلوه وزخات من العرق تسيل على صدغيه.. أهذا بسبب الشمس الحارقة؟؟ أم بسبب النار المضرمة في صدري أنا..؟؟
قلت وأنا متعلقة بذراعه:
"خذني معك..."
علت الدهشة وجه وليد فقلت:
"أريد العودة معك.. إلى بيتنا".
وليد نظر إلي من خلفي ثم عاد إلي وأراد تخليص ذراعه من يدي..
فما كان مني إلا أن شددت الضغط عليها أكثر وقلت:
"خذني معك أرجوك".
وليد قال:
"إلى أين؟"
قلت مندفعة:
"لا يهم. سأذهب معك إلى أي مكان".
وليد أزاح يدي عن ذراعه.. ورأيت عينيه تلقيان نظرة عليها وشعرت بيده تشد بلطف عليها... ثم تركها ورجع خطوة للوراء.. وقال:
"يجب أن أذهب الآن.. زوجتي تنتظرني".
واستدار موليا ظهره إلي وببساطة اختفى عن ناظري.. مثل السراب...
زوجتي تنتظرني... زوجتي تنتظرني... زوجتي تنتظرني...
لفت الجملة برأسي حتى أصبت بالدوار وترنحت وجثوت فجأة على الأرض...
رأيت حسام يظهر أمامي منجنيا على الأرض وهو يقول:
"هل أنت بخير؟؟"
أغمضت عيني فأنا لم أقو على تحمل سطوع الشمس المعشية... وحالما فتحتهما لم أجد غير حسام قريبا مني...
بحثت يمنة ويسرة...
هل كنت أحلم؟؟
هل كان وليد هنا؟؟
لا لم يكن..
كان وهما.. خيالا.. تهيؤا رسمه قلبي الشغوف به وعيني الملتهفة للقائه..
نظرت إلى البوابة... إلى الحيز الذي توهمت أن وليد كان يشغله قبل قليل... تمنيت لو أن طيفه بقي عالقا هناك... أردت أن أنهض وأعانق جزيئات الهواء التي لامست جسده... لكنني عجزت عن الانهيار بجذعي على السرور...
سمعت صوت حسام يناديني... وأحسست بيديه تمسكان بي... نظرت إليه فإذا بي أراه يحملق بي وعطف... ويقول:
"لا بأس عليك... هلمي بنا إلى الداخل".
وساعدني على النهوض... وفيما أنا أنهض لمحت نظارة شمسية سوداء ملقاة على الأرض بالقرب مني...
التفت إلى حسام وسألت بضياع:
"هل كان وليد هنا؟؟"
ولم يقل حسام شيئا... فانحنيت والتقطت النظارة وتأملتها وهتفت:
"لقد كان وليد هنا... لقد تركني ورحل... رحل مع الشقراء... لماذا فعل هذا بي؟؟ لماذا تركني؟؟"
حسام جذب النظارة من يدي وألقى بها على العشب وقال:
"تخلصي من هذا يا رغد... إنه لا يستحق".
أطلقت صيحة من أعماق قلبي وهتفت:
"كلا... كلا... وليد لن يرحل بدوني... لن يرحل بدوني... لن يرحل بدوني..."

أنتِ لي لمنى المرشودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن