ما اقترفته يداي

By nahla1986

7.5K 313 93

"كانت أناملها المتراقصة بين ندف الثلج العاصفة بفوضوية أول ما رآه منها في عتمة الليل الأدهم..انسابت مقلتاه... More

"ما اقترفته يداي" القسم الثاني والأخير
ما اقترفته يداي...وللحكاية بقيّة

"ما اقترفته يداي" القسم الأول

2.5K 105 36
By nahla1986




لعلّ أوّل ما اختلج داخل قلب الإنسان منذ بدء الخليقة هو ذلك الشعور المبهم الذي اعترى آدم عندما لمح بجانبه تلك الأنثى التي بابتسامة منها حطمّت الأسوار المنيعة التي قد نصبتها الوحدة حول قلبه البارد فكانت له الحياة وتوأم الروح التي قبع بانتظارها طويلا دون أن يدري..بيد أنّه سرعان ما فقدها وفقد معها جنّته وسعادته وبات يجوب الأرض بحثا عنها إلى أن عثر عليها ومذ ذاك الحين بدأت رحلتهما معا حيث التوبة والأمل...إلّا أنّ ذلك الشعور الأوّل الذي أدفأ قلب آدم وسيطر عليه منذ اللحظة الأولى التي تلاقت عيناه بابتسامة حوّاءه الساحرة لم يعد يتيما، بل بدأ بمزاحمته شعور آخر مختلف تماما يكاد أن يساويه قوّة ويوازيه زخما..كان قاسيا..مؤلما..كوى قلب آدم وجلد روحه بسياط من جحيم ليقينه من جريمته النكراء التي اقترفها بيديه فحرم بها نفسه ومن يحب طعم الجنّة....نعم لقد كان مذنبا حتى لو شاطرته حواء الذنب نفسه..فوقعت روحه صريعة تتلّظى بين نارين..الحب والذنب..في أحدهما خلاصه..وفي الأخرى لعنته الأبدية..

عصفت في الجو بضع نسمات صقيعية محملّة بوعود صارمة بشتاء قاس فتسربّت من بين أنسجة معطفها الصوفي الثقيل وصولا إلى قميصها القطني الأسود الخفيف لتتلاشى بين عظامها التي تراقصت في جوفها في اعتراض صامت على الهجوم المباغت فانكمشت على نفسها في وضعية دفاعية علّها تنجح في لملمة ما يوفره معطفها المتواضع من دفء زهيد.. كانت تهرول على عجل بين شوارع وأرصفة المدينة المزدحمة بأنفاس متقطعة لا تتناسب مع رشاقة حركاتها التي بدت لكلّ من رآها تعود لفتاة غلبت قوانين الجاذبية ولم تعد بحاجة لكي تطأ قدماها الأرض..وصلت أخيرا إلى المكان المنشود فدفعت الباب بيدها بلامبلاة واندفعت داخل المبنى الصغير وهمّت بخلع معطفها بسرعة وهي تلقي بتحية مرحة خاطفة للفتاة الجالسة خلف منصة الإستقبال :"صباح الخير يا لارا..كيف حالك؟" أجابتها الفتاة بابتسامة لطيفة :"صباح النور يا ريان..إنّ الجميع ينتظرك في الصف، كدت أتصّل بك فلقد تأخرت على غير عادتك..هل كل شيء على ما يرام؟؟" منحتها ريان ابتسامة شابها حزن لا يتناسب مع طبيعتها المشرقة وتمتمت بخفوت :"لا تقلقي فكل شيء على ما يرام..لقد هرب مني الزمن لدقائق..أراك لاحقا!" واختفت من أمام الفتاة لتدلف إلى الغرفة المجاورة حيث ينتظرها يوم طويل..

أخذت ورقة شجر قرمزية بالدوران حول نفسها وهي تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال تحت رحمة الريح التي كانت تزداد ضراوة وبرودة مع اقتراب حلول المساء إلى أن ساقها القدر لتستقر على سطح نافذة ضخمة باتت الحد الفاصل بينها وبين ذلك الرجل الكائن خلفها والذي كان أشبه بتمثال وهو يراقب رحلتها المضنية بعينيه المظلمتين كبئرين عميقين لا قرار لهما..تناهى إلى مسامعه بضع نقرات خفيفة على الباب فأجاب بإقتضاب من دون أن يحيد بناظريه عن المشهد في الخارج :"ادخل" فتح الباب ليظهر من وراءه رجل ثلاثيني متوسط القامة ذو وجه بشوش وعينين بنيتين لامعتين مازحتين وهو يقول بمرح :"ها أنت هنا وأنا الذي كنت أبحث عنك في كلّ مكان يا صاحبي!!" ردّ عليه سائلا بهدوء :" إن كنت تبحث عنّي بحق أليست غرفة مكتبي المكان الأنسب لتبدأ به بحثك؟؟" أطرق أيهم برأسه جانبا وهو يتخلل شعره الكثيف بين أصابعه مجيبا بإحراج :"حسنا لن أدعي البراءة وعدم الفهم، أنا أعلم بأنّك هنا لكنّي لم أشأ أن أقتحم عليك خلوتك..أمّا الآن فقد حان الوقت لكي تأتي معي لتغير هذا الجو الكئيب الذي سجنت نفسك به..لا تناقشني يا ميران هيّا تعال معي!!" التفت ميران نحوه صديقه وألقى عليه نظرة سريعة خاوية قبل أن يتخذ مقعده خلف طاولته ويجيب بنبرة حازمة :"لن أذهب إلى أيّ مكان..عليّ الانتهاء من بعض الأعمال العالقة..اذهب أنت ولا تشغل نفسك بي!!" هزّ أيهم رأسه وزفر بتعب وهو يقول بعناد :"كلانا يعلم تماما بأنّه ليس لديك شيئا لتنهيه يا ميران لكنّك تبحث عن عذر لكي تبقى وحدك بصحبة أفكارك المجنونة التي هي في الأصل السبب الرئيسي في حالك هذه!!" رفع رأسه بحدة وحدجه بنظرة نارية قد تخيف من لا يعرفه لكنّها لا تعني شيئا لصديقه الذي يعرف تماما ما يخفيه خلف تلك القسوة الظاهرة فاقترب من مكتبه وضرب قبضته على الطاولة قائلا بجدية :"كفّ عن هذه التمثيلية السخيفة وقل لي ما الأمر؟؟ من الجلي بأنّك لست بخير أبدا!!" حدّق به ميران بعينين حمراوين محتقنتين للحظات حتّى همس أخيرا بكلمات مخنوقة :"لقد وصلتها أوراق الطلاق اليوم صباحا" خيّم الصمت في أرجاء المكان لوهلة قبل أن يقطعه زفير أيهم المتوتر وهو يعلقّ بإستنكار خافت :"كيف فعلتها يا ميران؟؟ هل جننت؟؟!" هبّ من مقعده موجّها إصبعا مرتجفة صوبه هاتفا بحرقة :"إيّاك وإضافة كلمة أخرى يا أيهم وإلّا لن أكون مسؤلا عمّا يحصل لك!!" بادله أيهم بنظرات حانقة وأجاب غير مبال بتهديداته :"وهل يهمّك كثيرا ما سأقول؟؟ لقد فعلت ما فعلته بالرغم من تحذيراتي العديدة لك بأن لا تقدم على أغبى خطوة في حياتك!! ما الذي أصابك لتتخلّى عن من تعشق بكلّ جوارحك بسبب أوهامك المخبولة؟!! هل يتوجب علي أن أذكرك بها يا ميران؟؟" لم يكد ينتهي من سؤاله المجازي حتّى شعر بأنفاسه وهي تحشر في حلقه بعنف عندما انقضّ عليه يعتصر ياقة قميصه بقبضتيه المتحجرتين وينفث أنفاسه الملتهبة في وجهه هامسا بصوت أجش جريح :"قد حذرتك من الكلام في الموضوع، ألا تفهم!!!" إلّا أنّه لم يستسلم وهو يردّ عليه بأنفاس متقطعة لاهثة :"إنّها ريان يا صديقي..إنّك ستتخلّى عن ريان!!" توسّعت حدقتاه حتّى أسدلتا ستار العتمة على مرجي عينيه الخضراوين وبدأت أصابعه بالإرتخاء عن فريستهما شيئا فشيئا إلى أن رمش بأهدابه في محاولة يائسة لكبح جماح مشاعره المضطربة الثائرة متمتما بضعف :"عليك اللعنة..عليك اللعنة!!"

انسابت نغمات المقطوعة العذبة بنعومة لتتغلغل في أعماقها وبعثت في جوفها دفئا خاصا رسم ابتسامة رقيقة على ثغرها على الرغم من الألم الذي لم يبارح روحها منذ وقت طويل..أسبلت جفنيها لوهلة وأخذت نفسا عميقا قبل أن تعاود فتحهما مجددا وتجول بنظرها نحو الفتيات اللواتي اصطفين أمامها بانتظام في وقفة استعدادية مألوفة فقالت بلطف :"استرخين يا فتيات فنحن لسنا في صف عسكري..وهذا المكان ليس عبارة عن ثكنة..هذا أوّل شيء أريد منكن أن تتعلموه قبل أن نبدأ بأيّة تدريبات" تبادلت الفتيات النظرات الحائرة بين بعضهن فبدأت بالتجول بينهن وهي تردف قائلة :"جميعنا يعلم بأنّ الباليه يعتمد بشكل كبير على انتظام الحركات واتبّاع النظام خلال الرقصات بشكل كبير..فهو في النهاية أكثر أنواع الرقص قوّة ويتطلب تركيزا وجهدا كبيرين..قد نبدو في الخارج كالفراشات الهشّة الرقيقة التي قد تتحوّل إلى فتات بعصرة صغيرة..إلّا أنّنا نملك قوّة لن يتسنى له رؤيتها سوى من ينظر إلينا بإمعان وصدق فنحن نخطّ الجمال بدءا من هامات رؤوسنا إلى أطراف أصابع أقدامنا..لكن إن أردنا النجاح بذلك فعلا فلا معنى لإتقاننا هذا إن لم نبدأ من النقطة الأكثر أهميّة داخل كلّ واحدة منّا..هنا" وأراحت كفّها على صدرها ومنحتهن ابتسامة عذبة مضيفة :"إن لم ينبع إحساسكن بما تفعلون من قلوبكن فسيفقد معناه وسحره..لذا أريد من كلّ واحدة فيكن أن تفكرّ مليّا في السبب الذي جعلها تكابد التعب والألم واليأس لكي تصل إلى ماهي عليه اليوم وأعدكن بأنكن ستتخلصن من كلّ هذا التوتر عندما تعثرن على الإجابة" تنحنحت إحدى الفتيات في وقفتها فالتفتت إليها ريان وسألتها بفضول :"هل لديك أيّ استفسار أو سؤال يا جنى؟" تلكأت الفتاة قليلا قبل أن تجيب بتردد :"لا نملك سوى شهر واحد لإنهاء التدريبات على عرض بحيرة البجع على منصة أهم المسارح في البلاد يا ريان..هل تعتقدين بأنّه وقت كاف لكي نتحمل مسؤولية عرض بهذه الضخامة؟؟" سرعان ما تدخلت الفتاة إلى جانبها قائلة بارتباك :" أنت لديك خبرة وتجربة كبيرة في عالم العروض في المسارح الضخمة، لماذا لن تؤدي معنا وتقومي بقيادتنا في العرض يا ريان !!" لكزتها رفيقتها التي كانت بجانبها بمرفقها فتأوّهت الفتاة عاليا باعتراض..تجاهلت ريان المشهد أمامها وأجابتها باقتضاب :" لقد اعتزلت الرقص يا ميس، أنا هنا لأقوم بتدريبكن فحسب!!" ثمّ التفتت نحو جنى وأجابتها بجديّة :"لن أجيبك على سؤالك هذا لأنّ الإجابة تكمن في العمل لا الكلام..جلّ ما أستطيع قوله بأنّ الوقت أكثر من كاف لتتحدين فيه أهم فرق الباليه في العالم أجمع..يلزمكن فقط بعضا من الثقة والكثير من الإيمان!!" اتجّهت نحو المسجّل الصوتي لتضبط المعزوفة وقوّة الصوت وفردت ذراعيها على امتدادهما هاتفة بتحفيز :"والآن..افردوا أجنحتكن يا فتيات!!" بدأت الفتيات بتنفيذ تعليماتها من دون أن تلاحظ أيّا منهن غلالة الدمع الحارق التي أغرقت مقلتيها اللامعتين.

"إنّي حقّا لا أفهمك يا ريان!! لديك في مساء اليوم عرض ضخم وها أنت ذا تتسكعين مع هاتفك وسمّاعاتك وكوب الشوكولا الساخنة الذي لا يفارقك هذه الأيّام" دارت ريان بعينيها وهي تستمع لصديقة طفولتها بصبر نافذ وأجابتها بنزق مازح :"أتعلمين يا هادية؟؟ أحيانا أتساءل من هو المسؤول الحقيقي عن العروض والأداء، هل هو زوجك العزيز أم أنت..ويتراءى لى في كثير من الأوقات بأنّ القائد الفعلي هو أنت!!" عقدت هادية حاجبيها وزفرت هاتفة بعصبية :" اسخري أنت..أساسا هذا كلّ ما تبرعين فيه!!" عضّت ريان على شفتها لتكتم ضحكتها وهي تسألها بعتب مزيف :"سامحك الله..وأنا التي كنت أظنّ نفسي أنفع لأشياء أخرى على الأقل!!" حدجتها بنظرة ساخطة قبل أن تعترف مرغمة :"لا تدعي التواضع أيتّها الشقيّة فأنت تعلمين بأنّك أفضل راقصة باليه في البلاد..هيّا افرحي لقد اعترفت لك بشيء آخر تبرعين فيه!!" أطلقت ريان ضحكة رقيقة وأحاطت كتفي صديقتها بذراعها هامسة بجذل :"لا يهمّني هذا الإعتراف مقدار ذرّة..أريد منك اعترافا أكثر أهميّة..والآن!!" أفلتت من هادية ضحكة صغيرة وهي تدفعها عنها قائلة :"وأفضل صديقة عرفتها البشرية!! ها هل ارتحت الآن أيتّها الماكرة؟؟" أومأت برأسها برضا وهي ترتشف كوبها بتلذذ قبل أن تسأل بفضول :"بالمناسبة..لمَ تتسكعين معي؟؟ ألن تتجهزي للعرض؟؟ أعلم بأنّك في العادة تقضين وقتا طويلا في تحضير نفسك لليلة مهمّة كهذه!!" ضربت هادية باطن كفّها على جبينها وحدّقت بها هاتفة بعدم تصديق :"وهل أنا التي عليها التواجد على المنصة بعد ما يقارب الخمس ساعات!! ليس من الغريب أن يأتيني طارق بعد يوم عمل طويل متعكرّ المزاج..عليّ أن أشكر ربي بأنّه لا يزال في صوابه!!" شخصت بها ريان بصدمة ومالبثت أن أخرجت هاتفها لتتفقد الساعة فوجدتها تقارب الثالثة عصرا، خرجت منها شهقة صغيرة وهتفت بدهشة :"يا إلهي لقد سرقني الوقت فعلا!! عليّ الذهاب يا هادية أراك بعد العرض!!" كانت قد بدأت بالإبتعاد فعلا عندما سألتها هادية هاتفة بدورها :"أستذهبين إلى المسرح الآن؟؟" استدارت ريان ومنحتها ابتسامة شقيّة وهي ترفع كتفيها وأجابتها غامزة بعبث :"إنّ كنت تعرفيني عن ظهر قلب كما أظن فستجيبين عن السؤال بنفسك!!" وأخذت تهرول لتختفي عن أنظار هادية التي هزّت رأسها مبتسمة وهي تتمتم لنفسها :"مجنونة!!"

أخذ ينفث أنفاسه الملتهبة بسخط للتتشكّل حوله كغمامة ضبابية آنية وسط النسيم الصقيعي تظهر وتختفي بتواتر سريع يوافق صعود وهبوط صدره الثائر..كان ينهب الأرض بخطواته العريضة بلا إدراك إلى أين تأخده قدماه..كان غاضبا..لا ليس الغضب بالكلمة المناسبة لوصف حاله العاصفة تلك..إنّه لا يذكر حتّى كيف غادر قاعة الإجتماعات في الوقت المناسب قبل أن يرتكب جريمة بذلك الوضيع الذي كان من الجرأة لكي يلقي بأكاذيبه أمامه بكلّ صفاقة ومن دون أن يرفّ له جفن، بيد أنّه ضبط نفسه في اللحظة الأخيرة كي لا ينفجر في وجهه ويكشف خيانته لأسرار الشركة قبل أن يحصل على الأدلة الكافية التي ستضمن له التعويض عمّا خسر بسببه..أخذ نفسا عميقا ليهدأ به نفسه ونظر إلى مدخل الحديقة الذي وجده قبالته صدفة فعقد حاجبيه وجال بعينيه في الشارع الذي بدأ بالإزدحام تدريجيا كما هي الحال في آخر يوم عمل في الأسبوع..هزّ رأسه ومسح على شعره بعصبية وهو يؤنب ذاته على فقده السيطرة مجددا لدرجة تمكّن فيها الزمان والمكان من سرقته من دون أن يدري..عاد ليناظر مدخل الحديقة الواسع وكاد أن يغادر عائدا أدراجه إلّا أنّ إحساسا غريبا بدأ بالتسربل ببطء لذيذ من أعماق جوفه لتتشربه كلّ خليّة في جسده فتستوفز وتمنعه من الإبتعاد..جمد مكانه للحظات وأسبل جفنيه بإستسلام ثمّ استدار يرمق باب الحديقة الحديدي للمرّة الثانية لبرهة وأطلق تنهيدة عميقة قبل أن أن يذعن أخيرا ويدلف إلى الداخل...

وقفت تتأمّل باحتها السرية المستديرة بنشوة تائه عثر على وطنه الآمن بعد رحلة بحث مضنية..ثمّ سحبت نفسا عميقا لتملأ صدرها بعبق أشجار البتولا الشاهقة المحيطة بباحة مملكتها الخاصة من كلّ حدّ وصوب، وفجأة أخذت تقاسيم وجهها البريء بالإشراق شيئا فشيئا عندما شعرت بندف الثلج الباردة تدغدغ بشرة وجهها المتوردة لتنصهر بعذوبة هناك فأطلقت ضحكة خافتة تخللتها بحّة خفيفة ورفعت يدها تحرر بأناملها خصلات شعرها الدعجاء الجعداء من أسرها القرمزي الحريري لينسدل بتمرد حتّى أسفل ظهرها..رمت بمنديل شعرها بلامبالاة أرضا وأتبعته بمعطفها الرمادي قبل أن تضع سماعاتها وتسبل جفنيها حالما بدأت تلك الألحان الحالمة طريقها المتعرج بين تلافيف أذنيها إلى أن وصلت إلى مكانها المنشود حيث ترقد أعمق نقطة في روحها..فرفعت ذراعيها ببطء تدريجي تزامن مع تخليّ باطن قدميها عن موقعهما الثابت الموازي للأرض الإسفلتية لترتكز بشكلّ كلّي على أطراف أصابعها في حركة بدت مستحيلة لغالب الناس بيد أنّها كانت من البديهيات لجسد فتاة يملك من القوّة والخبرة منذ الصغر ما يجعله قادرا على الإيتاء بما هو أكثر صعوبة منها..بدأت تثب بخطوات صغيرة تارة وواسعة تارة أخرى متمايلة برقة في جميع الإتجاهات تماشيا مع كلّ نغمة تتسلل بإنسابية وتتحكم بكلّ تفصيلة فيها..ذراعاها..ساقيها..أناملها..قدميها..حتّى حاجباها اللذان انعقدا بتركيز دقيق إلى أن رست النغمات على أعتاب ميناء النهاية لتتلاشى مع دورانها الأخير وتشابكت ساقاها في تحيّة لجمهورها اللامرئي ففتحت عيناها اللوزيتين اللتان كانتا لاتزالان تحت تأثير تلك التعويذة الساحرة لتتسعا معا في صدمة ترافقت مع إصدارها شهقة حادة حالما ارتطمت مقلتاها البنيتين اللامعتين بأخرى تنافس في خضرتيهما القاتمتين تلك الخضرة التي اكتست بها أشجار البتولا المحيطة بها متحدية مزاج الطبيعة الصقيعي الذي ترجمته بندف من الثلج العاصف المتهادي بصمت على جسديهما الساكنين..

لم يكن يدري ماهية القوّة التي دفعته ليتوّغل داخل الحديقة الموحشة الساكنة أكثر فأكثر، لكنّه استمّر بالتوجّه قدما إلى اللامكان الذي كان يقصده..لم يذكر في حياته بأنّه قد زار مكانا كهذا بملء إرادته لكنّ هاهو ذا يسير داخله كالهائم على وجهه بحثا عن شيء يجهل كنهه..توقّف بغتة وزفر بعصبية متمتما بخفوت ساخط :"ما الذي أفعله هنا؟؟ أيّ نوع من الجنون قد استحكم بعقلي لأتجول في مكان لا عمل لي فيه كهذا؟!!" وهمّ بالإلتفات ليعود أدراجه عندما لمح بطرف عينه مدخلا صغيرا يكاد أن يخفى عن المرء من كثافة الأغصان المتشابكة حوله وكأنّ الطبيعة قد قصدت أن تخفيه عن الأعين خشية أن تكشف سرّا من أسرارها..دبّ في جوفه فضول غريب وتوجّه نحوه بأعصاب مشدودة إلى أن وصل إلى بقعة مختلفة تماما عن ما كان في الخارج..فهنا بدا كلّ شيء مخالفا لطبيعة الشتاء الجرداء الكئيبة، فقد وجد أشجار السرو والبتولا بأطوالها وأحجامها المتنوعة تصطف بتناسق مدهش على طرفيه من دون أيّة فسحة واحدة فارغة..تابع طريقه ممعنا النظر في كلّ ما حوله إلى أن استوقفت عيناه خيال أنثوي راقص يتحرّك برشاقة مذهلة غير آبه لنفحات النسيم الثلجية التي كانت تتلاعب بجسدها ابتدءا من شعرها السندسي الأجعد الطويل وانتهاء بتنورتها السوداء القصيرة التي اعتلت ساقين ممشوقتين مكتسيتين كليّا بجوربين بيضاوين مشدودين عليهما بإحكام..انسابت خضراواه لترافق حركاتها الأسرة بإنبهار لم يختبره من قبل حتّى بات مسلوب الإرادة تماما وغير قادر على انتزاع نفسه من تلك القوّة التي سمرّته في مكانه وهو يراقب بإفتتان هذا الملاك الراقص الذي ظهر له من العدم..وفجأة فتحت الملاك عينيها وأجهزت عليه بلوزتيها البنيتين اللتين أخذتا بالتحديق به بصدمة غزال شارد التقى بصياده على حين غرّة..فأخذت قدماه بالتراجع إلى الخلف من دون أن يحيد بنظراته عنها إلى أن ازدرد لعابه وشحذ كلّ ما لديه من طاقة ليكسر ذلك الرابط ويستدير مبتعدا بخطوات واسعة ثقيلة غافلا عن تلك العينين اللتان لاحقته بذهول إلى أن تلاشى عن ناظريها..

ما الذي كان يفعله هناك في تلك الساعة؟؟ ومن يكون ذلك الرجل الذي ناظرها بعنفوان ليث ضال بعينيه اللتين ضاهتا خضرة أشجار جنتها الصغيرة؟؟ أمسى هذان السؤالان جلّ ما كان يحتلّ أفكارها بينما جلست بسكون في انتظار خبيرة المكياج حتّى تنتهي من تطبيق اللمسات الأخيرة على مساحيق وجهها المسرحية فلم تشعر إلّا بصوت هادية المرتفع وهي تخاطبها بتوتر واضح :"ريان!! ريان!!! ألا تسمعين ما أقول؟؟ أين أنت يا فتاة؟!" رمشت ريان بعينيها نافضة عنها صورة الغريب بعناء أدهشها والتفتت نحو صديقتها تسألها بشرود :"أجل أنا معك يا هادية..أين عساي أن أكون؟! ما الأمر؟؟" عقدت هادية حاجبيها بشك قبل أن تتغاضى عن التعليق وتقول بجدية :" ستفتح الستارة بعد عشر دقائق..هل أنت جاهزة؟؟" أومأت ريان برأسها بهدوء ونهضت لتعدّل خصل شعر هادية الشقراء المرتاحة بتماوج على كتفيها ثمّ أجابتها مازحة :"أمتأكدة بأنّك لست من يتوجب عليها الصعود إلى المسرح وإبراز أفضل أداء لديها على الإطلاق في هذه الليلة الحاسمة يا عزيزتي؟؟ لأنّي لا أملك ذرّة من توترك هذا وأشعر بأنّي أعاني من خطب ما!!" زفرت هادية بعصبية وهي تزيح أصابع ريان عنها مجيبة بنزق :"اسخري أنت كما تشائين..لكنّك محقّة فعلا فلم أرى في حياتي إنسانا مستقبله برمته على المحك ويتصرّف ببرودك ولامبالاتك هذه!!" أطلقت ريان ضحكة مرحة وجذبت صديقتها إليها لتهمس في أذنها بعبث :"سأتذكر كلامك هذا عندما يقوم روثبارت بخطفي ورمي لعنته علي فإنّي أحتاج إلى إلهام كلماتك المرعبة لترتسم آثارها على وجهي وأبدو مقنعة على المسرح" منحتها هادية ابتسامة بالرغم عنها وهزّت رأسها قائلة باستسلام :"آه منك يا ريان لن تتغيّري مهما حصل، والمصيبة الأكبر بأنّي لا أستطيع الغضب منك لوقت طويل!!" غمزت لها ريان بمكر واستدارت متوجهة إلى الكواليس لتتجهز قبل صعودها إلى خشبة المسرح فاستوقفتها هادية قائلة بحماس :"سنحتفل معا بعد انتهاء العرض فحضري نفسك ولا تتذرعي بالتعب أو ما شابه فأنا أعرفك جيدا!!" رفعت ريان يدها تلوّح لها من دون أن تلتفت لها وأجابتها بعدم اهتمام :"أجل أجل كما تريدين" تنهدت هادية بعمق وتمتمت بدفء :"بالتوفيق يا عزيزتي"

كان يضغط بأصابعه على مقود السيارة بعنف أظهر ابضياض مفاصلها فجاءه صوت أيهم وهو يقول بنبرة استفزازية مدروسة :"شكرا لك على قبولك دعوتي لك بحضور العرض يا ميران، حتّى أنّك لم تكتفي بذلك بل أصررت بأن تصطحبني بسيارتك!! يا لك من صديق وفي!!" صرّ ميران على أسنانه وأجابّه بكلمات ناضلت لكي تفكّ أسرها من سجنها العاجي المنيع :"و هل تركت لي خيارا لكي أرفض أيّها المتحذلق!! لقد تذرّعت بساعدك المكسور حتّى أرافقك إلى مكان حاولت جرّي إليه عددا لا يحصى من المرّات..كم مرّة عليّ أن أعلمك بعدم اهتمامي بالعروض المسرحية سواءا كانت راقصة أم تمثيلية!! أنا إنسان عملي لا يملك أدنى حسّ بالفن بجميع أنواعه!!" رفع أيهم حاجبيه وردّ عليه بمكر :"أعلم ذلك ولهذا السبب تحديدا اضطررت إلى استخدام فرصتي الوحيدة واستغليت ضعفي المؤقت لألعب بنذالة على وتر عاطفتك وشفقتك التي تدعي عدم امتلاكك لها..هيّا يا ميران كفّ عن التذمر، أعدك بأنّك ستحظى بوقت فريد من نوعه..ثمّ أنت مطالب بإظهار بعض الدعم لأخي الذي تكنّ له مودة أكثر منّي حتى فهذا العرض هو أهم عرض قدّمته فرقته المسرحية للباليه على الإطلاق وإن حصل ونال على إعجاب النقاد فسيحصل على قبول بتقديم عروض دورية في أهم دور العرض في العالم!!" شرد ميران بأفكاره بعيدا عن ثرثرة صديقه عند ذكر نوع العرض الذي كان بصدد حضوره مكرها..الباليه...ألم يكن نوع الرقص ذاته التي كانت تلك الفتاة الغامضة تؤديه أمامه منذ سويعات قليلة؟؟ ثبّت عيناه على الطريق في محاولة يائسة لتشتيت ذهنه عن شعرها الذي بعثره النسيم بجنون فوضوي في كل مكان.. عن أناملها الراقصة بنعومة وكأنّها تعبث بأوتار قيثارة مخفيّة عن عيون الجميع ما عداها..شدّد من قبضته على عجلة القيادة ونفض عنه أفكاره المجنونة بحسم ليتسلل إلى مسامعه صوت صديقه مجددا وهو يقول بمهادنة :"وكما جرت العادة فسنخرج سويّة احتفالا بالعرض..لا أقبل منك الرفض يا ميران، ثمّ إنّك في حاجة ماسة كي تغيّر مزاجك المتعكر بعد ما حصل اليوم مع ذلك الوغد!!" رمقه ميران بنظرة سريعة وعاد ليركزّ في الطريق أمامه مجيبا بنبرة قاطعة :"احتفال ماذا يا أيهم؟؟ لست في صدد مسايرتك في هذه أيضا!! لعلمك لقد فعلتها مرّة ولن أعيد الكرّة فلا تحاول عبثا واحتفظ بجهودك لشخص آخر!!" مطّ أيهم شفتيه بملل وعلّق بإستسلام :"ولست بدوري بصدد أن أصرّ عليك فسيط عنادك قد وصل لآخر أصقاع الأرض وأنا إنسان يريد أن يحتفظ بقواه العقلية قبل أن يتزوّج" اتسعت عينا ميران بطريقة درامية وانفلتت من حنجرته ضحكة عالية وصادقة لم يحظى بها منذ وقت طويل في الوقت الذي كان فيه أيهم يراقبه بتسلية فتنّهد قائلا بخفوت :"وأخيرا نجحت في انتزاع ضحكة منك يا صديقي!"

عمّ سكون مهيب القاعة العريقة الفخمة وبدأت الأضواء بالإنطفاء تدريجيا حتّى سبح كلّ من فيها بعتمة حالكة خالصة فبات ضربا من الإستحالة أن يلمح امرؤ شيئا بعيدا كان أم قريبا عن مرمى نظره فالتفت ميران إلى جانبه الأيمن حيث كان يقبع صديقه وهمس بحدّة :"أمن الضروري أن يغرقونا بالظلام بهذه الطريقة المزعجة؟!!إنّي لا أستطيع أن أرى حتّى إصبعي يا رجل!!" اقترب أيهم برأسه نحوه وأجابه ساخرا :"لا تؤاخذني يا ميران فأنت تعلم بأنّه لو كان الأمر بيدي لأنرت القاعة كلّها من أجلك ، من دون تباطؤ..تبّا!! كيف لي أن أركزّ في العرض الآن وأنا أفكر في حال إصبعك المسكين!!" لفحت وجنته أنفاس ميران الثائرة و كان على وشك الرد عليه لولا انفتاح الستار المفاجئ الذي أجبره على التراجع، فاعتدل في جلسته قليلا في اللحظة التي سلّطت فيها بقعة ضوء ضخمة على جسد أنثى بدا وكأنّه نحت ببراعة لا مثيل لها من رخام ناصع البياض..كلّ ما فيها كان متوهجا بنور إيثيري ساطع..ساقاها..ذراعاها..وجهها المستكين بنعومة..كلّ شيء..ماعدا شيء يتيم واحد...شعرها..ذلك الأدهم الأجعد الذي تكوّم على قبّة رأسها بأناقة مدروسة ليجعلها تبدو كأميرة هاربة من إحدى الروايات الفيكتورية الحالمة..فغر فاه مصدوما عندما دبّت الروح في ثنايا ذلك التمثال وشرع الجسد الأنثوي بالتحرك بانسيابية مذهلة فوق خشبة المسرح الواسع بخفّة فريدة حتّى كاد يقسم حينها أنّ قدميها الصغيرتين لم تمسّا الأرض أبدا..كانت بقعة الضوء تجاهد لتلاحق تنقلاتها السريعة من زواية إلى أخرى بأمانة إلى أن توّقفت الفتاة فجأة وأشرقت ملامحها بابتسامة بريئة أظهرت بريق لوزتيها وعندها فقط تلاشى كلّ شيء من حوله..الموسيقى..الحضور..المكان..الزمان..ولم يتبقى إلّا هو..وهي..نعم كانت هي نفسها..الملاك الراقص بين أحضان أشجار البتولا..ولوهلة شعر بمقلتيها تحدّقان بمقلتيه المضطربتين قبل أن يظهر من خلفها بغتة وحشا أسودا مرعبا وانقضّ على خصرها وجذبها نحوه بعنف مترافقا بألحان مشؤومة مجنونة ليلوي جسدها الرقيق كما يشاء في كلّ الإتجاهات كعروس الماريونيت..انتفض جسد ميران بقوّة وبدأت أنفاسه بالتسارع وهو يقبض بأصابعه على ساعد مقعده الخشبي مراقبا تقاسيم وجهها التي سيطر عليها الخوف والجزع، لكن سرعان ما اختفت عن ناظريه كليّا حالما فرد الوحش ذراعيه المحملتين برداء أخضر مقتيت وأخفاها عن أعين الجميع وتباطأت الألحان في تمهيد لحدث رهيب لتعلو مجددا بصخب مع تحريره للملاك الراقص الذي أخذت بالدوران مبتعدة عنه محاطة بريش عاجي اكتساه جسدها المرتجف معلنا عن بدء لعنة البجعة الأبدية..

أسدل الستار المخملي القرمزي معلنا عن انتهاء العرض الأسطوري وسط عاصف من التصفيق والهتافات الحارة التي بدت لأذان كلّ من كان خلف الكواليس تكاد تضاهي سميفونية "بحيرة البجع" جمالا وتأثيرا..اندفعت هادية لتقفز بين أحضان زوجها وتنثر قبلات صغيرة على وجهه هاتفة بتأثر :"مبارك علينا النجاح يا حبيبي!! أنصت جيدا إلى ذلك التصفيق الصاخب!! أترى كم كان توترنا بلا داع؟!!" أطلق طارق ضحكة عالية وأجابها وهو يشدد من احتضانه لجسدها الضئيل :"تتكلمين وكأنّني أنا من كان متوترا يا عزيزتي..هل نسيت نفسك والليال القلقة التي حرمت نفسك وحرمتني من النوم بسبب خوفك من الفشل؟!!" جففت دموع سعادتها وابتعدت عنه قليلا معلقة بلامبالاة :"أنا راضية عن خسارة نومي الغالي إن كانت هذه ضريبة النجاح" قرص طارق وجنتها بتحبب ضرّج وجنتها بحمرة الخجل ليقطع عليهما تلك اللحظة صوت أيهم وهو يتنحنح قائلا بشقاوة :"عذرا لمقاطعتكما يا مهجتي قلبي العاشقان لكنّي أردت أنا وصديقي المتجهم هذا بتهنأتكما على نجاح العرض الساحق!!" التفت كلّ من هادية وطارق نحو أيهم الذي كان يبتسم بمكر وميران الذي بدا عليه عدم الراحة من تواجده في المكان إلّا أنّه قال بإحترام :"تهاني على نجاح العرض يا طارق..لقد كان جميلا ويستحق كلّ التقدير" ابتسم طارق ببشاشة وهمّ يصافح ميران مربتا على كتفه بحركة أخوية مجيبا :"في الواقع أنا من يريد أن يشكرك على حضورك العرض يا ميران، أقدّر دعمك كثيرا وأنا أعلم بعدم اهتمامك في العادة إلّا بما يخصّ العمل أو الرياضة بشكل عام" حدج ميران صديقه بحنق مكبوت فرفع أيهم يديه مدافعا وقال :"والله لم أقل له شيئا!! لقد استنتج بنفسه!!" قهقه طارق بمرح وكاد أن يعلّق لولا هتاف هادية الجذل :"ها هي ذي نجمة الليلة قد قررت أخيرا الإنضمام إلينا !!" التفت ميران بحدّة لترتطم عيناه بجمالها النقي الخالي من التكلّف والزيف..كانت ترتدي بنطالا من الجينز الأزرق تحت كنزة صوفية حمراء نبيذية التصقت بحنايا جسدها الأنثوي الناعم..تأملّ برضا داخلي شعرها الذي تركته على سجيته بعد تحريره من أسره فانسدل بتماوج أخّاذ أطاح بتركيزه وثباته للحظات إنتشله منها أيهم هامسا بخبث :"لم يبق أحد من المتواجدين والعابرين لم يلحظ شلل عقلك وجسدك يا صديقي، وضميري لا يحتمل تركك تبدو كالأبله بعد تعبك على سمعتك لسنين طويلة..هيّا قل شيئا وإلّا ستخسر ما بقي لك من كرامة!!"رمش بعينيه وحدّق بعينيها التي زادت ابتسامتها العذبة بانسياب مغزليهما وعندها تدخلت هادية مشيرة إلى ميران وقالت بدهاء :"كنّا في انتظارك يا عزيزتي!! أراد ميران ،وهو بالمناسبة صديق أيهم، أن يهنئنا بنجاح العرض وأعتقد بأنّه سيسر بالتعرف على سبب هذا النجاح الباهر..ميران أعرفك على ريان أفضل راقصة باليه قد تراها في حياتك..ريان أعرفك على ميران من أنجح رجال الأعمال وأكثرهم حنكة" عقد ميران حاجبيه وعلّق بإستنكار :"ليس إلى هذا الحد يا هادية!!" ردّت عليه ريان بمرح :"المبالغة هو اسم هادية الأوسط!!" ثمّ مدّت يدها مضيفة بخفوت خجول :"تشرّفت بمعرفتك يا سيد ميران" منحها ابتسامة أضفت دفئا خاصّا على ملامح وجهه الصارمة وبسط ذراعه محتويا بكفّه يدها الناعمة ليضغط عليها بلطف مجيباً بصوت أجش :" الشرف لي يا..ريان"

سرت قشعريرة بين خلايا جسدها انتفضت على إثرها منتشلة وعيها من غياهب ذكريات الماضي فمسحت على وجهها التي ترك الإرهاق أثرا واضحا على تقاسيمه ثمّ سحبت نفسا عميقا ورفعت كوب القهوة الفاترة إلى شفتيها لتأخذ رشفة صغيرة تسببت لذاعة طعمها بإنكماش خفيف سيطر على هيكلها الضئيل وأجبرها على دفع الكوب جانبا بإشمئزاز..التقطت هاتفها لتتحقق من الوقت بشيء من العصبية ثمّ زفرت هامسة بتعب :"أين أنت يا هادية؟؟" ليأتيها الرد المازح من خلفها بصوت المعنية بالسؤال :"ما الأمر يا ريان؟؟ لم أعتاد قلّة الصبر منك أنت بالذات!!" واتخذّت الكرسي الذي أمامها لترتاح عليه لاهثة وهي تردف بأسف :"اعذريني يا عزيزتي فقد كان لدي موعد عند الطبيبة وتأخرّت عندها على غير العادة..لو كنت معي لرأيت كمّ النساء الحوامل في العيادة!! أكاد أجزم بأنّه لم يبقى امرأة متزوجة لم تحمل بعد!!" صمتت فجأة وحدّقت بها بعينيها المرتاعتين بأسى قبل أن تردد بحرقة:" ريان..حبيبتي..أنا لم أقصد..يا إلهي يالغبائي!! اسمعي أنا.." أوقفت ريان سيل كلماتها المتلعثمة بيدها ومنحتها ابتسامة خاوية قائلة بتفهم :" اهدئي يا هادية..هل ستعتذرين في كلّ مرّة تذكرين فيها الزواج والأطفال أمامي؟؟ هيّا قولي لي كيف حال الصغير المتعب؟؟هل كلّ شيء على مايرام؟؟" تلاشت معالم التوتر من على وجه هادية كما هي الحال في كلّ مرّة يذكر فيها جنينها وغامت عيناها بعاطفة أمومية وهي تمسح على بطنها المنتفخ بلطف مجيبة بحنان :"كلّ شيء على ما يرام حمدا لله..لقد أخبرتني الطبيبة بأنّه لم يبقى لهذا المشاكس سوى شهر واحد قبل أن يقلب حياتنا رأسا على عقب..وأنا البلهاء لا أطيق صبرا على أن أحمله بين يدي مع العلم بأنّي سأتحسر لاحقا على القليل من الهدوء والكثير من النوم" ابتسمت ريان بدفء ومدّت يدها لتغطي يد هادية المرتاحة على بطنها قائلة برفق :"سأنتظر اللحظة التي أراك فيها تحضنين طفلك وكلاكما بكامل الصحة والعافية بفارغ الصبر يا عزيزتي..أمّا إلى ذلك الحين فأريد منك أن تستغلي عزوبيتك من الأمومة وأن تقومي بفعل كلّ ما تشتهيه نفسك، ولا أظنّ بأنّ طارق سيرفض لك طلبا فمن المتوقع بأنّه سيخطف لقب أفضل أب للعام بعد أن فعلها وكان أفضل زوج أيضا!!" أومأت هادية برأسها موافقة وكادت أن تعلّق على الموضوع إلّا أنّ عيناها التقطتا كوب القهوة الممتلئ والمنسي على الطاولة فعقدت حاجبيها بحيرة وهي تسأل :"ما هذا يا ريان؟؟منذ متى وأنت تحتسين القهوة؟؟ ما الذي جرى لكوب الشوكولا الساخنة المفضل؟؟"ارتفعت شفتا ريان بسخرية وأجابتها بلامبالاة :" لا تقلقي فلم أحتسيها..لقد اعتقدت بأنّه بإمكاني احتمال مرارة القهوة، لكن من الواضح مازلت لا أحتملها..غريب أليس كذلك؟؟"اعتدلت هادية في جلستها وانقلبت ملامحها إلى الجدية المطلقة فسألتها بتوجس :"ما الذي حدث يا ريان؟؟ هناك خطب ما!!" ازدردت ريان لعابها في محاولة فاشلة للتخلص من تلك الغصّة المؤلمة التي انحشرت في حلقها منذ أن تلّقت صدمتها على هيئة مغلّف ورقي قانوني ثمّ أجابتها بتماسك :"لقد وصلتني أوراق معاملة الطلاق صباح اليوم" اتسعّت عينا هادية مصعوقة وهتفت بإستنكار :"ما هذا الذي تقولينه يا ريان؟؟ كيف انتهى بكما المطاف إلى هذه المرحلة؟!! هل فقد ميران عقله؟؟" ابتسمت ريان بمرارة ورفعت عيناها الغارقتين بدموع أبت أن تنسكب على وجنتيها الحارقتين لتجيب بصوت مخنوق :"لا يا هادية..ميران لم يفقد عقله..بل فقد إيمانه بنفسه..وبنا"

أسند ظهره إلى الجدار خلفه وأخذ يراقب بضجر الحضور وهم يتبادلون الضحكات تارة وجمل الإطراء والغزل السطحية تارة أخرى بينما تباهت النسوة بأثوابهن الفخمة والباهظة الأثمان وتباهى الرجال بظرافتهم ولباقتهم في التعامل معهن وسط أجواء تخللها صخب الأغاني الهزجة الراقصة بشتّى أنواعها..رفع كأس العصير إلى شفتيه إلّا أنّ صوتا أنثويا مبحوحا بإغراء قطع عليه خلوته الإرادية بقول صاحبته :"ما هذا التجهم الذي أراه على محياك يا سيد..؟" توقفت عن سؤالها مانحة إياه الفرصة بحركة مبتذلة قديمة كي يعرّف عن نفسه فتجاهل محاولتها التي زادت من ضجره وألقى عليها نظرة جانبية لامبالية ليرى شابة تبدو في منتصف العشرينات..جميلة إن كان يستهويه هذا النوع من الجمال الكلاسيكي الذي تؤمن من تملكه بإنتصارها في لفت نظر أيّ رجل إن رغبت بذلك..كانت شقراء بشكل يبهر البصر ،بعينين زرقاوين وشفاه قرمزية ممتلئة..لم يطل النظر وابتعد بعينيه ليعود لمهمته في مراقبة المشهد أمامه مجيبا بعدم اهتمام :"هذا هو شكلي عندما أكون في تجمعات كهذه" عبست الشابة بكبرياء مشروخ لعدم اهتمام هذا المتعجرف بها وهي التي اختارت من بين كثيرين إلّا أنّها عادت وسألته بفضول مفتعل :"إذا كنت لا تستمتع بحفلات كهذه فما الذي أتى بك إلى هنا وفي مناسبة كهذه؟؟" بدأ صبره بالنفاذ فاستدار ليضع حدّا لحشريتها المزعجة لولا تدخل صوت ناعم هاتف بمرح :"ها أنت هنا يا عزيزي وأنا التي كنت أبحث عنك في كلّ مكان!!" التفت بحدّة صوب مصدره فانفرجت أساريره عندما رآها تقف أمامه بثوبها الليلكي الهفهاف الذي كان يصرخ بساطة وأنوثة وأجابها مجاريا سير المشهد الذي خلقته قائلا :"وقفت لأنتظرك هنا يا..عزيزتي..فلم أشأ الإختلاط بأحد قبل انضمامك لي" اقتربت منه ريان ورفرفت بأهدابها في وجهه بإغراء فاشل وهي تقول بعذوبة مزيفة :" سامحني على تأخري عنك يا حبيبي، فلو كان الأمر بيدي لطرت إليك بلا تردد" نقّلت الشابة بنظرها بينهما ثمّ نفثت نفسا حادّا بسخط وغادرت مبتعدة بخطوات سريعة..هزّ رأسه بإستخفاف وأدار وجهه ليرى ريان وهي تنظر إليه بعبث طفلة مشاغبة، فارتفع طرفا شفتيه دلالة على صراعه ليلجم نفسه عن الضحك إلّا أنّه سرعان ما خسر المعركة وانفجر ضاحكا فشاركته ريان وهي تحاول كتم صوت ضحكتها المرتفع بوضع كفّها على شفتيها..وبعد انتهائهما من نوبتهما التي لفتت النظر إليهما من بعض الحاضرين علّقت ريان بقولها :"إنّك تدين لي بواحدة يا ميران..فقد خلّصتك من موقف سخيف كان سيكلّفك كثيرا إن لم تعرف كيف تتعامل معه بحكمة!!" نظر إليها ميران بإستهجان مجيبا :"سيكلّفني كثيرا؟؟ لما ذلك؟؟ هل تكون تلك المزعجة ابنه رئيس البلاد وأنا لاأعلم؟؟" هزّت ريّان رأسها بتسلية وأجابته :"لو كانت ابنة الرئيس لكان أفضل فعلى الأقل ليس بينكما منافسة، أمّا هذه الفتاة فتكون ابنة صاحب أهم مجموعة شركات هنا..من المؤكد أنّك تعرفه فهو السيد أمين الجابري" رفع ميران حاجبيه بإندهاش وقال بإزدراء :"هذه؟؟ ولكنّي أعرف والدها جيدا فقد تقابلنا في مناسبات مختلفة ودعيني أخبرك بأنّها لا تمتّ لوالدها بصلة من ناحية الشكل..فالرجل أقل ما يقال عنه أنّه دميم" شخصت به بعينيها الجاحظتين من فظاظة قوله لكنّها قهقهت بارتباك وهي تجول بناظرها حولهما خشية أن يكونا على مرمى من سمع أحدهم وهمسّت بإستنكار :"يا إلهي كيف تقول شيئا بهذا السوء يا ميران؟!! عليك أن تخجل من نفسك..يا للمسكين!!" صمتت قليلا ثمّ لمعت عيناها بإدراك مفاجئ وأضافت بمكر:"ثمّ ألم تصدّ الفتاة معربا عن عدم اهتمامك الواضح بها؟؟ وها أنت ذا تعترف بطريقة غير مباشرة بأنّها جميلة عكس والدها الدميم..ما هذا التناقض؟؟ أم أنّك كنت معجبا بها فعلا ولكنّك لا تعرف كيف تتعامل مع النساء؟؟" فغر فاه بذهول من تحليلاتها واستنتاجاتها الغريبة بيد أنّ نظرة واحدة إلى عينيها جعلته يحرّك سبابته في وجهها محذرا بغضب لم يتعدّى الكلمات قائلا :"اسحبي كلامك هذا وإلّا ستندمين يا ريان!!" عضّت على شفتها وقد بدا عليها التفكير العميق لتجيب أخيرا :"لن أتراجع عن كلامي لأنّي مقتنعة بصحته حتّى تثبت لي العكس..أمّا بالنسبة لتهديدك" اقتربت منه لتردف بشقاوة :"فينتابني فضول كبير عن الطريقة التي ستجعلني أندم بها على كلامي" أخذ يتأمّل وجهها المنعش البريء بخضراويه الداكنتين بعاطفة غامضة أضرمت نارا مستعرة بين خلايا بشرة وجنتيها الحريرية فأشاحت بعينيها بعيدا عن سهام نظراته فالتقط ذقنها بإصبعيه مديرا إيّاها نحوه مجددا فحدّقت في وجهه المنحوت بدقّة وكأنّه ينتمي إلى إحدى تحف مايكل انجلو الخالدة بوجنتيه المرتفعتين بحدّة..جانبا فكّه المنسابان بإستقامة على كلا الجهتين ليستدّقا معا عند ذقنه الملتحية و بشعره الذي استعار عتمته من سماء ليلة محاقية القمر.. فرددت بهمسة وجلة :"علينا..علينا الإنضمام إليهم..فهادية ستغضب إن لم..نشاركهم احتفال السنة الجديدة" رفع عينيه ملقيا بنظرة سريعة على الجمع المنتشر في كل مكان في الصالة الكبيرة ثمّ أطبق بيده حول يدها وسحبها نحوه هامسا بحزم :"تعالي معي"

تسلل كلاهما من الباب الخلفي لحديقة منزل مضيفيهما الغافلين وشرعا يهرولان معا في شوارع المدينة المضيئة بزينة الميلاد المبهجة في كلّ مكان..الأشجار في الحدائق والأرصفة..أبواب المحلّات التجارية..شرفات البيوت والشقق بجميع فئاتها..الباهظة..المعتدلة والمتواضعة..حتّى أعمدة النور قد وجدت لها حصّة من الفرحة فزيّنت بأكاليل خضراء صغيرة على طول الطريق..توقفّا أخيرا ليلتقطا أنفاسهما المتقطعة بنهم إلى أن اتسّقت نبضات قلبيهما الهائجة نتيجة مزيج من إثارة الركض والهروب والتفتا ينظران إلى بعضيهما بصمت مريح قطعته ريان سائلة بهدوء :"لمَ هربنا يا ميران؟؟" تمعّن بها قليلا قبل أن يجيب بصدق :"لأنّي لا أرغب بأن أكون هناك..في الواقع هذه المرّة الأولى التي أحضر فيها حفلة لرأس السنة..لطالما بغضت هذا النوع من التجمعات الكاذبة والمتكلفة حيث يدّعي الجميع بأنّهم في منتهى السعادة والغبطة لرؤية بعضهم!!" عقدت حاجبيها وسألته مجددا بحيرة :"ما الذي كنت تفعله هناك إذا؟؟ لمَ جئت؟؟" أشاح بعينيه للحظة ثمّ عاد لينظر إليها مجيبا بإحباط ساخط :"لقد جئت من أجلك!! جئت لكي أراك أنت يا ريان..أليس ذلك واضحا؟!!" واستدار يتخلل شعره بأصابعه بتوتر ظاهر فحدّق في ظهره بذهول وبللت شفتيها بإرتباك ثمّ اقتربت منه بخطوات صغيرة ورفعت نفسها على رؤوس أصابعها لتنقر بأناملها على كتفه المتشنج بلطف وتسأله مداعبة :"وهل رغبتك برؤيتي يستدعي منك هذا الغضب يا ميران؟؟" استدار لينظر إليها بسخط صامت فمنحته ابتسامة خجولة وأضافت بعذوبة :"حسنا ليس هناك من داع لهذا الحنق..لست وحدك..أنا أيضا لم أعتد الظهور في مناسبات هادية التي لا تنتهي" شخص بها كالمعتوه وردد سائلا بشك :"ما معنى هذا؟؟" رفعت عيناها إلى السماء للحظة في يأس ما لبث أن تحوّل إلى صدمة حالما وجدت نفسها أسيرة ذراعيه القويتين اللتين طوقتا خصرها النحيل بشدّة انتزعت منها أنفاسها بغتة فهمست باضطراب :"ميران.." فأشرق مرج عينيه الداكن وأجاب هامسا برقة :"هل تدركين كم تبدين جميلة وأنت تنظرين إلي بعينيك المغزليتين هاتين ببراءة لم أؤمن بوجودها من قبل!!" حدّقت بتقاسيم وجهه الوسيم الحادة كالمسحورة فرفع يده ليلاحق بأطراف أنامله انحناءات وجنتها الوردية التي كانت لاتزال تحمل انتفاخا طفوليا أخاذا زاد من براءتها وأنوثتها في مزيج متفرد أثار حيرته وجنونه..تنهدّ بعمق وأضاف بصوت أجش :"منذ المرّة الأولى التي وقعت فيها عيناي عليك استحوذت على كلّ ذرّة في كياني..كم مرّ على لقاءنا في ذلك اليوم؟؟ما يقارب شهرا من الزمان؟؟ لكنّه يبدو لي دهرا بحاله...عندما رأيتك وأنت ترقصين بكلّ جوارحك..ما زلت لا أملك القدرة على وصف ما شعرت به في تلك اللحظة!!" فرد أنامله ليحضن كفّه الدافئ جانب وجهها بأكمله وأردف قائلا بابتسامة خفيفة :"قد اقترحت منذ قليل بأنّي لا أجيد التعامل مع النساء" اتسعت عيناها وهي تهمّ بالإعتراض إلّا أنّه سرعان ما وضع إصبعه على شفتيها مكملا بهدوء :"وأنت محقّة تماما..فأنا إنسان لم تكن العلاقات والسعي نحو الإرتباط من أولوياته..لا أعرف ما الذي تحبّه النساء في الرجل..ولم يهمني قط أن أعرف..عملي هو كلّ حياتي لأنّه الشيء الأوحد الذي كافحته لتحقيقه بنفسي من دون أن يكون لأحد اليد الفضلى علي" أنزل يده وابتعد عنها قليلا ليأخذ نفسا عميقا ثمّ رفع رأسه متأملا السماء الرمادية الساكنة وتابع بنبرة خاوية :" أنا لا أنتمي لكل من كان في داخل ذلك الحفل بأيّ شكل من الأشكال يا ريان..قد أكون قد بنيت لنفسي مكانا مهمّا بين رجال الأعمال في البلد الشيء الذي وضعني بشكل تلقائي في مكانة اجتماعية مرموقة في المجتمع كما يسميها الجميع..إلّا أنّي في الحقيقة إنسان بلا جذور أو انتماء" التفت لينظر في عينيها بثبات قائلا :"أنا مجرد لقيط يا ريان..لا أعرف من هي أمي ومن هو أبي..وعيت على هذه الدنيا وأنا داخل ميتم لمن هم مثلي..بلا هويّة وعار على المجتمع الذي حرص على إخفاءه كالخطيئة داخل مكان بال وحقير، إلى أن بدأت بالإنتقال من بيت رعاية إلى آخر تعلمّت أثناءها بالإعتماد على نفسي تدريجيا من خلال عملي في شتّى المجالات..فتارة كنت أقوم بغسل السيارات..وتارة أخرى قمت ببيع السجائر في الطرقات..عملت في النجارة والحدادة..وكلّ ما قد تتخيلينه..أو لا تتخيلنيه" لم تحد مقلتاه عن مقلتيها قيد أنملة وهو ينطق بكلّ كلمة عن ماضيه الأليم.. وبدورها بادلته بنظرات ثابته متشربة كلّ حرف خرج من بين شفتيه، أمّا قلبها المرهف الفتي فكان حكاية أخرى..كان يعتصر ألما لم تسمح بأن يصل لعينيها..ألما على الطفل الذي لازال يتخبط بأغلال الماضي في جوف رجل يأبى عنفوانه بأن يعترف بوجوده بيد أنّه كان يصرخ بثورة معلنا عن نفسه في كلّ كلمة ينطق بها..عاد ليقترب منها ببطء وهمس بعاطفة ملجومة :"أنا رجل ملطخ بماض مرير يا ريان" منحته ابتسامة عذبة وهي تريح كفّها الصغير على وجنته المخشوشنة بفعل لحيته الحالكة الكثيفة قائلة بحزم :"ذلك الماضي هو ما رسم حاضرك..هو من جعلك أنت..بمرارته..بقسوته..لكنّه بات جزءا منك..جزءا من الرجل الذي أراه أمامي..جزءا من الروح التي أشعر بها من نظراتك هذه..هل يهمّ حقا من كان والدك ووالدتك؟؟ أجل قد ترافقك لوعة عدم معرفتك لهما طيلة حياتك..لكن هل تستحق أن تنعت نفسك باللقيط وتوصم نفسك بماض لا ذنب لك فيه؟!!" أنزلت يدها عن وجنته لتريحها فوق قلبه الخافق تحت كفّها بعنف وهمست بحرارة :"أنت هو حاضرك..وأيّ إنسان ستختار أن تكون في مستقبلك يا ميران!!" ارتعش جفناه وطفق يحدّق بلوزتيها الدافئتين كأسير أبصر الخلاص بعد دهر من القهر والعذاب تزامنا مع تصاعد أصوات جموع الناس المكتومة والمنتشرة خلف الأبواب الموصدة في عد عكسي لوداع عام مضى بحلاوته وبمره..بخيره و بشرّه إلى أن دقّت ساعة الصفر وتعالت الهتافات الهزجة مع انطلاق الألعاب النارية لتضيء سماء المدينة بأشكالها المتنوعة احتفالا بالعام الجديد..غير أنّ كلا النقيضين كانا غافلين تماما عن كلّ شيء ماعداها..وعداه..وجودها..ووجوده..إلى أن افترّت عن ثغر ذلك الشريد ابتسامة صغيرة وهمس بشغف :"عام سعيد أيّها الملاك الراقص" وانحنى ينهل من شهد شفتيها لتسبل جفنيها وتذوب بين ذراعيه حالها كحال ندف الثلج الأولى تلك التي بدأت تتهاوى بصمت فوق جسدين هذين العاشقين..

اخترق صوت انزلاق قفل الباب وهو يستدير في سجنه المعدني سكون المنزل الخاوي قبل أن يعلن أزيزه دخول صاحبه الواجم..توقف قليلا عند المدخل يتأملّ المكان المظلم بجمد ثمّ دفع بالباب مغلقا إيّاه خلفه بلامبلاة..دلف إلى غرفة الجلوس بخطى بطيئة ورمى جسده المنهك فوق أقرب أريكة صادفها وضغط زر تشغيل المصباح بجانبه لينساب إلى جانبه ضوء ذهبي خافت ملقيا بظلله على إطار صورة فوتوغرافية خشبي بسيط لا يتناسب مع فخامة الأثاث من حوله..حدّق به لثوان قبل أن يمدّ يده ويحمله بين يديه متأملا بعينيه الموهونتين وجهها الضاحك بسعادة مضت...أخذ يلاحق بأطراف أنامله المرتجفة خطوط تقاسميها الرقيقة فغامت نظراته الشجنة بذكرى بدت قريبة بقدر يقينه من قدرته على استحضار تفاصيلها الغالية تلك بدقة تامّة... لكن بذات القدر.. بعيدة..بعيدة جدا..ليهمس أخيرا بلوعة عاشق يستنجد بإسم حبيبته وهو يكابد سكرات موته :"آه يا ريان... ماذا أفعل يا حبيبتي؟؟ ماذا أفعل؟؟"

"يحيرني مقدار حبّك الغريب للثلج والبرد يا ريان!! ألا تبردين؟؟ ها نحن ذا في منتصف المدينة المدفونة حرفيا تحت الثلج بدرجات حرارة تتخطّى العاشرة مئوية تحت الصفر..وسط شوارع مهجورة...وطرق ومحلات تجارية مغلقة..ولا حركة في المكان عدا الجرافات التي ستسأم وتستسلم قريبا وتترك مهمة إزالة الثلوج للناس!!" هتف ميران بإستنكار وهو ينظر بعدم تصديق إلى ريان التي كانت تسير جانبه برشاقة محيرة رغم الثلوج المكومة في كل مكان تطأه قدماها المتواريتين داخل جزمة رمادية تخطّت ركبتيها بقليل..التفتت صوبه لتمنحه واحدة من ابتسامتها الفريدة التي تجمع ما بين البراءة والشقاوة في خليط سيذهب بصوابه يوما ما ثمّ أجابته بتشدق :"ما هذا يا ميران؟؟ هل تخشى أن تتبلل أو أن تصيبك نزلة برد أو ما شابه؟؟ لا أخفيك القول لقد بدأت صورة الرجل الصنديد الذي لا يخشى شيئا تهتز في عيني!!" ضاقت عيناه بشك وسألها بحنق حاول إخفاءه بحنكة متمرس في المناورات الكلامية :"أتحاولين استفزازي يا ريان؟؟ لأنّه يتوجب عليّ أن أحذرك بأنّي إنسان قد علمّته الحياة التحكم بإنفعالاته جيّدا!!" ناظرته بمغزليها بتحدي وعلّقت تجاريه بعدم اكتراث ظاهر :"أهنئك إذا على رباطة جأشك وثباتك يا عزيزي..إنّه لفعلا من النادر وجود رجل أعمال بهذه المواصفات..أليس كذلك؟؟" حدجها بنظرة جليدية تكاد تنافس النسمات الصقيعية العابثة بخصلات شعره المتسللة من تحت قبعته الصوفية البنية..عضّت على شفتها السفلى في حركة حفظها عن ظهر قلب وعشقها منذ أن لقطتها عيناه أوّل مرّة..فارتفع طرف شفته بتسلية من كشفه لما يجول في خاطرها دائما من حركاتها التي قد تبدو للجميع غير مرئية أو مهمّة بيد أنّها بالنسبة له فهي بمثابة البوابة التي يستطيع من خلالها أن يغوص أكثر داخل رأسها الجميل هذا..فاقترب منها ليدس إصبعا تحت ذقتها الدقيق ويرفع وجهها المتورد بفعل صفعات الهواء الباردة وسأل مستجوبا إيّاها بمكر :"اعترفي أيتّها البجعة المتمردة، ما الذي تنوين عليه؟؟" اتسعت عيناها وأطلقت ضحكة عالية زادت من انسياب مغزلي لوزيتيها اللامعتين وأجابته بدهشة مرحة :"البجعة المتمردة!! من أين أتيت بهذا التشبيه يا ميران؟!!" تجوّلت خضراواه متنقلة ما بين خصلات شعرها الدهماء المتماوجة و أهداب عينيها المعقوفة بخيلاء فوق جفنيها إلى بشرتها الحليبية المتوهجة قبل أن يهمس بإفتتان :"عندما رأيتك وأنت تطوفين فوق خشبة المسرح الواسع بخفّة وجمال وثقة لم تشهدهم عيناي من قبل لم أكن أرى أمامي تلك البجعة المستكينة لقدرها المشؤوم..بل كنت تتألقين أمامي كبجعة قويّة متمردة ليست بحاجة الأمير سيغفريد حتى ينقذها ويكسر لعنتها الأبدية" تلألأت عيناها بدموع أغرقت مقلتيها بسخاء وهمست بذهول :"ميران..." التقط بإصبعه دمعة كانت على وشك الوقوع من هاوية جفنها وأخذ ينظر إليها مليا مضيفا بجدية :"دموع المتمردة غالية ولا تقدر بثمن يا ريان..مهما حصل لا أريدك أن تفرطي بها..اتفقنا؟؟" فرّت من صدرها ضحكة لاهثة مثقلة بعاطفة عجز عقلها عن حل طلاسمها ورمشت تتخلصّ من الغشاوة التي حجبت عنها رؤية وجهه الوسيم بوضوح قبل أن تقترح بإندفاع وهي تدسّ بيدها داخل جيب معطفها لتخرج هاتفها المحمول قائلة :" دعنا نوثق هذه اللحظة!!" نظر إليها شزرا وهمّ ليعترض بيد أنّها أسكتته قائلة بنبرة لا جدال فيها :" هيّا يا ميران ابتسم وكفّ عن العبوس!!" وبدأت بالتقاط صور متتابعة سريعة إلى أن زفرت هاتفة بإستياء :" ما هذا يا ميران؟؟ ألا تعرف كيف تبتسم للكاميرا؟؟" هزّ رأسه مجيبا بتذمر :" أنا أكره زيف الصور يا ريان ولا أستطيع إختلاق تعبير لا أشعر به!! أنت تملكين وجها فوتوجينيكيا مميزا بحق ولا تحتاجين لبائس نكد مثلي ليشاركك اللقطة" سندت طرفي خصرها بقبضتيها ووقفت تزاوره بسخط ، فانتزع منها الهاتف بسرعة والتقط صورتها على نحو مباغت لتهتف متفاجئة :" ماذا تفعل يا ميران؟!" ابتسم مداعبا وأجابها :" أريد صورة لك لنفسي..بدهشتك الطفولية هذه التي تزين وجهك..بلا زيف لأضعها بجانبي" تورّدت وجنتاها بحمرة الخجل وأومأت برأسها موافقة إلّا أنّها استوقفته قالتة بصرامة :" لكن عليك أن تقطع لي وعدا بأن لا تضعها داخل إطار مزركشا باهظ الثمن..أريدك أن تضعها داخل إطار بسيط ومتواضع وهذا شرطي!!" مال برأسه جانبا وكأنّه يحاول استيعاب ما قالت وسألها مستهجنا :"ما هذا الطلب الغريب يا ريان!! لمَ تريدين ذلك؟؟" دنت منه لتنظر في عينيه مجيبة بلا مواربة :" جمال الإطار وبذخه قد يقلل ويبخس من قيمة الجمال الذي تحتجزه الصور بصعوبة بين زواياها..هل تعدني يا ميران؟؟" أبعد بحنو خصلة أبنوسية أفلتت بشجاعة من براثن أغلالها الصوفية وهمس كالمسحور :" أعدك " زفرت بإستسلام مازح وقالت بدلال :"أنا أسحب كلامي رسميا بخصوص ما قلته لك سابقا، فقد أثبت خطأي بشكل قاطع لا شكّ فيه!!" عقد حاجبيه بإستغراب وسألها بحيرة حقيقية :"أيّ كلام تقصدين؟؟" استدارت مبتعدة بخطوات صغيرة وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة خبيثة وأجابت بعتب مازح :"سامحك الله يا ميران..كيف تنسى ماقلته لك؟؟ بعد كلّ هذا الغزل والكلام الذي أرداني بكماء وأنا التي لطالما كنّيت بالثرثارة و يغيب عن بالك ما نعتك به؟؟" أطرق برأسه مستحضرا كلّ حديث تبادلاه سويّة للحظات لكنّه مالبث أن زفر باسطا ذراعيه هاتفا :"لقد عجزت عن التذكر..هيّا أجيبي ما هو الشيء الذي قلته لي وتودين سحبه الآن؟ وإلى أين أنت ذاهبة بحق الله؟!! هيّا لا تجبريني على اللحاق بك..توقفي يا ريان!!" بدأت خطواتها بالتسارع عندما شعرت به يهرول وراءها متعثرا بكوم الثلوج الموزعة على طول الطريق وأجابته هاتفة بحماس :"عليك اللحاق بي لأجيبك يا ميران وإلّا لن تحظى بكلمة واحدة منّي!!" نفث أنفاسه اللاهثة بحدّة ورفع عينيه بإستنجاد صامت للسماء وبدأ يطاردها بعزيمة مفترس غايته الوحيدة الإنقضاض على فريسته الطموحة بالهروب منه بسهولة مستهينة بقدراته الإستثنائية إلى أن باتت أنفاسها الثائرة تطرب أذنيه كأجراس النصر الصاخبة فمدّ ذراعه وخطف خصرها بحركة مباغتة لتصدر عنها صرخة فزعة ويهويا معا بقوّة على الأرض المكسوّة بفراش ثلجي وثير..غاص جسدها الضئيل تحت وطأة ثقل جسده الجاثم فوقها بحزم..اتسعت عيناها بصدمة سرعان ما تحوّلت إلى ضحكات جذلة ارتفعت عاليا فقاطعها بنبرة تهديدية :"والآن أيتها الشقيّة هيّا قولي لي وإلّا.." حدّقت بخضراويه الحادتين وهمست بعناد عابث :"لقد تأخرّت..لن أفعلها" أطبقت يداه فوق يديها لتبتلعهما بالكامل ثمّ سحب ذراعيها مثبتّا إيّاهما فوق رأسها شالّا حركتها ومقاومتها بشكل كلّي ومال برأسه نحوها هامسا فوق شفتيها بمجون خطر :" أتتحدينني يا ريان؟؟" أسبلت جفنيها وبدأت ترسم حاجبه الكث الحاد بإصبعها بنعومة وسألته بعذوبة :"وماذا إن كنت أفعل؟؟" تأملّها بهيام مجيبا بصوته المخملي :"عندها وجب عليّ عقابك أيتها الحسناء"

وقفت ساكنة تحرّك بشرود رتيب قدر حساء الخضار الفولاذي غافلة عن الأبخرة المتكاثفة المعلنة عن غليانها إلى أن لسعت حرارتها بشرة يدها فألقت بالملعقة جانبا وسكبت بعضا من الحساء داخل زبدية خزفية وحملته معها إلى غرفة معيشتها المتواضعة الصغيرة ، جالت بعينيها في أنحاء الغرفة ثمّ تنهدّت بعمق واختارت جلوس القرفصاء على الأرض الخشبية مسندة ظهرها إلى الأريكة القشدية اللون خلفها وأخذت تتأمّل بأسى براعم أزهار الكرز الوردية الفاهية المتناثرة بفوضوية إيثيرية على إمتداد الجدار أمامها لتهمس بحرقة :"لماذا فعلتها يا ميران..لماذا فعلتها يا حبيبي؟!!"

تهاوت بضع بتلات وردية لتتخذّ من شعرها المنفرد حول رأسها على الأرض العشبية ملاذا جديدا بعد ما أطاحت بها نسمات الربيع العابثة..أسبلت جفنيها بإستمتاع مطلق قبل أن تنفرج شفتاها بابتسامة كسولة حالما شعرت به يلقي بظلّه عليها حاجبا عنها أشعة الشمس المتسربلة من بين أغصان شجرة الكرز الضخمة فسألته بتراخ :"ألم تقل لي بأنّ لديك التزامات عديدة في الشركة اليوم ولن يتسنّى لك الوقت كي تراني؟؟" مضت بضع ثوان عمّ فيها صمت مطبق قبل أن تتلّمس أنفاسه الدافئة وجهها بلطف ويتناهى صوته الرخيم إلى مسامعها مجيبا بهدوء :"أو تحسبيني أفوّت على نفسي مشهدا كهذا من أجل لقاء بعض الرجال الذين أرغب في أن لكمهم واحدا تلو الآخر؟؟" فتحت عيناها على اتساعهما لتصطدم بقرب وجهه منها وهو يتأملّها بعينيه الماكرتين بتسلية فعقدت حاجبيها وسألته بشكّ :"هل تحاول إثارة حفيظتي عن قصد يا ميران؟؟" أطلق ضحكة عالية وقرص أنفها مازحا ثمّ لثم جبينها برقة قبل أن يسحب ذراعها ويساعدها لتنهض مجيبا بصراحة :"لم أكذب عندما قلت لك بأنّي أرغب في لكمهم..إلّا أنّي لن أفعلها بالطبع" دفعت كتفه بحنق فالتفت أنامله حول يدها ورفعها ليقبلها برفق وسألها بجديّة :"ما الذي أغضبك؟؟" نظرت إليه بقلق مجيبة بخفوت :"لا أحبّ حتّى التلميح المازح بإستخدامك العنف يا ميران..إنّه يوترني!!" أومأ برأسه وضمّها إليه مجيبا بتفهم :"أعلم ذلك..لكنّ العنف هو ماض قد اندثر وولّى بالنسبة لي منذ زمن بعيد يا ريان وليس هناك من سبب لتقلقي من أجله!!"حدّقت بعينيه للحظات ثمّ رفعت يدها لتمسح بطرف إصبعها على أثر لندبة بيضاء وهي تقول بحزن :"كم أتمنّى بأن يكون بمقدوري أن أمحي من ذاكرتك كلّ أثر للآلام التي واجهتها في الماضي يا ميران!!" غطّى بكفّه يدها التي حضنت وجنته ومنحها ابتسامة حانية قائلا :"ألست أنت من قال لي بأنّ ماضي هو جزء منّي وهو المسؤول عن ما أنا اليوم؟؟ والملاكمة كانت ولاتزال جزءا منّي يا ريان بيد أنّها لم تعد لكسب المال..إنّها مجرد رياضة أهواها وأؤكد لك بأنّي لن أقوم بتطبيقها على أرض الواقع" ضمّت شفتيها ممعنة النظر فيه قليلا وهزّت رأسها بمجاراة قائلة :"حسنا وماذا عن ما حدث مؤخرا حين طبّقت رياضتك المفضّلة على موظفك السابق عندما حطّمت وجهه بقبضتك الحديدية هذه؟!!" زفر بعصبية ونهض وهو يتخلل شعره بين أصابعه واعترض بسخط :"لقد نال ذلك السافل ما استحقّه!! في الواقع كان يستحق أن أجهز عليه بيدي العاريتين هاتين..لقد كان محظوظا!!" عقدت ريان ساعديها وحدجته بنظرة مستاءة فبادلها بأخرى ثائرة لثوان إلى أن استسلم أخيرا وسألها بإستنكار :"لم تنظرين إلي هكذا يا ريان؟؟ لقد قام ذلك النذل بخيانتي..هل تظنين أنّه من العدل أن أتنازل عن حقّي وأتركه بلا عقاب؟؟" لانت عيناها بعض الشيء واقتربت لتريح يدها على صدره مجيبة بلطف :"يمكنك معاقبته بالقانون..أنا لا أتكلّم من خوفي على سلامة إنسان آخر فحسب، أنا أخاف وأقلق عليك أنت يا ميران..قد يكون قد تأذّى جسديا من جراء هجومك عليه..بيد أنّه سيتعافى من تلك الكدمات بسرعة..لكن ماذا عنك؟؟ ألا تفكر بالأثر الذي سيتركه غضبك وعنفك هذا في نفسك؟؟ ألا تفكرّ بالوقت الذي ستستغرقه روحك لتخطي ما حدث؟؟" سحب نفسا عميقا ورفع كلتا يديه ليحضن وجهها الناعم البريء هامسا بثبات :"لقد تركت ذلك الماضي خلفي منذ سنوات طويلة يا ريان..لا تقلقي!!" منحته ابتسامة مترددة مومئة برأسها بإذعان، فمسح بإبهاميه على وجنتيها ببرقّة و هو يجول بعينيه على البتلات الصغيرة المنتاثرة على طول شعرها الأبنوسي فابتسم معلّقا :"الحديقة بأكملها أمامك بطولها وعرضها وها أنت تختارين المكان الأكثر فوضوية فيها!!" رفعت حاجبيها بإستغراب فسارع يلتقط بتلة حاولت أن تختبئ بدلال بين خصلاتها الكثيفة ورفعها بأنامله أمام عينيها ليريها إيّاها هازّا رأسه بتساؤل فتوردت وجنتاها بخجل وهمّت تنفض شعرها إلّا أنّه أوقفها بقوله :"لا تفعلي يا ريان" التفتت نحوه بدهشة فأردف بشرود حالم وكأنّه يحدّث نفسه قائلا :"عندما رأيتك أوّل مرّة تتمايلين كالنسيم تحت ندف الثلج قلت لنفسي بأنّي لم أرى أجمل من فتاة الشتاء هذه في حياتي..لكنّي كنت مخطئا..فها هي فتاة الربيع أمامي تنافسها،إن لم تكن تضاهيها، جمالا!!" ازداد تورد وجهها قتامة وسألته هامسة بحياء أنثى قد أرضى حبيبها غرورها لتوّه :"من أين تأتي بهذا الكلام كلّه يا ميران؟؟ تجعلني دائما أقف عاجزة اللسان عن الرد على غزلك هذا!!" لمعت عيناه بإنتصار وأجابها بخبث :"و هو المطلوب !!"

صدح رنين جرس الباب في أرجاء المنزل الواسع لينتشل قاطنه من سباته المضطرب، فباعد جفنيه ببطء واستدار مستلقيا على ظهره يتأمّل بعينين لا تبصران السقف الرمادي الباهت الممتد قبالته..عاد الرنين المزعج يطرق أبواب وعيه بإصرار فشرع بعرك عينيه بباطن كفيه بشدّة ثمّ أزاح اللحاف عن جسده بعنف واتجّه صوب الباب مترنحا بعض الشيء إلى أن وصل إلى غايته وفتح الباب قبل أن يتسنى لطارقه الفرصة لرن الجرس مرّة أخرى وزجره هاتفا بغضب :"ما الذي تريده؟؟!!" وقف أيهم يحدق بهيئته المزرية بتعابير جامدة على غير عادته وأجابه متجاوزا إيّاه ليدلف إلى الداخل قائلا :"جئت لأذكرك بحفل العشاء الذي دعينا إليه الليلة..وخير ما فعلت ،فمن الجلي أنّك لا تذكر شيئا عن الموضوع وها أنت ذا لاتزال بمنامتك وبلحيتك التي طالت بشكل مبالغ فيه وبشعرك المبعثر في كلّ جهة !!" دفع ميران الباب لإغلاقه وتوجّه نحو المطبخ متجاهلا صديقه الذي لم تحد عيناه عنه لحظة..عمّ عليهما صمت ثقيل قبل أن يقطعه أيهم بقوله :"إلى متى يا ميران؟؟ إنّك على هذه الحال منذ أن أرسلت لها أوراق الطلاق..حسنا كنت في حال سيئة قبل ذلك أيضا لكنّ وضعك الآن لا يسكت عنه أبدا!! هل عليّ أن أذكرك بأنّك أنت من فعلت هذا بنفسك؟؟ وبها؟؟"ضجّ المنزل بصخب مجفل عندما رمى ميران بكوب قهوته على الحائط ليتفتت إلى شظايا صغيرة حادة انتشرت في كلّ مكان..إلّا أنّ الجلبة المفاجأة لم تتسبب بأيّة ردّة فعل من صديقه الذي اكتفى بالتمعن في وجهه المخضب بحمرة غضب عارم وعلّق ببرود :"هل ارتحت؟؟" نفث ميران بأنفاسه الملتهبة دفعة واحدة وأجابه بغل خافت :"اغرب عن وجهي ولا تجبرني على الإقدام على فعل سأندم عليه!!" دسّ أيهم بيديه داخل جيبي بنطاله قائلا بتحدي :"ماذا ستفعل هه؟؟ هل ستبرحني ضربا؟؟ هل ستفرغ قهرك وسوداويتك بي؟؟ إن كان ذلك سيريحك ويضع بعض المنطق والحكمة في عقلك فهيّا لا تؤجل.ها أنا ذا أمامك وأمنحك بركاتي لتعاملني ككيس رملي!!" حدّق به ميران بقهر لوهلة ثمّ مالبث أن مضى مغادرا المطبخ بسرعة وهو يتمتم بتعب :"أريد أن أبقى وحدي" تنهّد أيهم بيأس ولحق به إلى غرفة النوم..وقف عند الباب يتأمّل الغرفة العتمة الكئيبة قليلا وسأله بإستغراب :"أليست هذه الغرفة التي قضيت فيها عدّة ليال قبل أن أنتقل إلى شقّتي الجديدة؟؟" لم يلقى جوابا من ذلك الجالس بلا حراك على طرف السرير، فعاد ليسأله بفضول :"لمَ لا تبات في غرفتك يا ميران؟؟هل.." لم يكمل سؤاله عندما استوعب السبب أخيرا فهزّ رأسه واقترب ليجلس بجانب صديقه وقال بهدوء :"إن كنت تحسب بأنّي لا أفهمك يا ميران، فأنت مخطئ جدا..أنا أفهمك جيدا يا صديقي..فما حدث معكما ليس بالشيء السهل ليتخطاه أيّ زوجين..أعرف بأنّك تحمّل نفسك سبب ما حصل..لكنّك لا تعاقب نفسك فحسب، بل أنت تعاقب ريان معك أيضا!!" هبّ ميران من مكانه ليدور في الغرفة بيأس ليث أسير و التفت نحوه هاتفا بحرقة :"أنا لا أعاقبها..أنا أحررها!! لقد نكثت بعهدي لريان وهزمت أمام غضبي وحطّمت ثقتها وإيمانها بي!!" ثمّ انهار جسده على الأرض الباردة هامسا بإنكسار :"لقد حطمتها يا أيهم..حطّمت ملاكي"

وقف يتأمّل بوجوم سماء الصيف الحانقة التي اتخذت القرار الحاسم بحشد جيوشها الرمادية في نيّة واضحة بأن تصبّ وابلها علّه يخمد لهيب الطبيعة الحارق.. وفجأة سرت داخله قشعريرة مألوفة فالتفت ورآها تناظره بلوزتيها بحزن قد أقسم أن لا يقربها مهما كلّفه الثمن، فأغمض عينيه وأطلق تنهيدة عميقة قبل أن يفتحهما مجددا ويقترب متلمسا حرير وجنتيها بأنامله هامسا بواقعية :"كان من المتوقع حدوث ذلك يا ريان..هل كنت تتوقعين بأن يرحب والديك بي بصدر رحب؟؟" رمشت بعينيها في محاولة فاشلة للتحكم بمصير دموعها التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الإنهمار على طول وجنتيها وأجابت بحرقة :"ولم لا يا ميران؟؟ ما الذي فعلته لهم كي يرفضوك بهذه الطريقة !!" ارتفع طرف شفتيه بابتسامة ساخرة مجيبا بمرار :"هل نسيت يا ريان بأنّي ابن ملجأ؟؟ مجرد لقيط لن تستطيع أموال الدنيا بأن تشتري له عائلة ونسب يعتز به أمام المجتمع!!" شخصت به بذهول مرتاع وهي تهمس بصدمة :"أهكذا ترى نفسك يا ميران؟؟ كيف تسوّل لك نفسك أن تنطق بتلك الكلمات؟؟" بلل شفتيه بطرف لسانه وابتعد عنها ليحكم لجام غضبه مجيبا بثورة مكبوتة :"أليست الحقيقة؟؟ بإمكاننا أن ننكرها ونكذبها إلى ما شاء الله لكن في نهاية المطاف ليس بإمكاننا تغييرها..دعينا نتكلم بصراحة يا ريان..لن يقبل والداك بي كزوج لإبنتهما الوحيدة!! كان علينا أن نفتح عيونا جيدا على هذه الحقيقة الواضحة كالشمس!!" رمقته مصعوقة من كم ازدراء النفس الذي يقطر من كلماته وردّت هاتفة بصوت متحشرج :"إن كنت تحمل هذا الكم من المرار و استصغار الذات، فما الذي تفعله معي؟؟ ولماذا ذهبت لتتعرف على والدي؟؟ ولماذا همست لأذني بكلمات الحب والشغف في كلّ مرّة تلقاني بها؟؟ ولماذا تركتني لأقع في حبّك ؟؟ ألكي تحطم قلبي بيديك هاتين!!" انفجر يصرخ بها بغضب هادر :"أو تسألين؟؟ ألم تشهدي الطريقة التي صرفني بها والدك من منزلكم وكأنّي مجرد حشرة دعسها بقدمه وعاد ليرميها خارج مسكنه النظيف؟!! وماذا عن قلبي أنا هه؟؟ ماذا عنه؟؟ ألا تدركين ما الذي يحصل داخلي؟؟!!!" حدّقت بصمت في عينيه العاصفتين ووجهه الذي انتفخت أوداجه في مزيج من الغضب والقهر واليأس ثمّ أجابته بحرارة :"لا يهمّني كيف ينظر لك أبي وأمي..لا يهمنّي من أين جئت أو من كيف تربيت، لأنّك في نظري لا تزال ذلك الشريد الذي كان ينظر إلي كما لم ينظر إلي أحد من قبل..فعشقته كما لم أعشق أحدا من قبل!!" بدأت قطرات المطر الثقيلة بالإنهمار بتسارع متصاعد ضاربة كلّ ما تصل إليه بقسوة علّها تنجح في إطفاء لهيب الأرض الخانق..تجمدّت مقلتاه بحثا عن ذاته في عينيها التي لمح بهما النار لأوّل مرّة منذ أن عرفهما..كيف لفتاة الثلج أن تحمل كلّ هذا الشرار؟؟ تسارعت أنفاسها وهي تناظره بجزع من خلف سيل المطر الذي لا يرحم..فدنا منها ببطء كالمسلوب وهمس بصوت أجش :"هل أقسمت بأن تجعليني أهيم بك أكثر بجميع فصولك يا ريان؟!!" افترت عن ثغرها ابتسامة دامعة وأجابته بعتب عذب :"ليس كلّ الفصول..لا أريد أن أعيش لوعة الخريف معك يا ميران!!" اختطف جسدها الغارق بإكسير السماء ليحملها بين ذراعيه فاحتضنت وجهه بحنان مسندة بجبينها على جبينه إلى أن شعرت بأنفاسه المتهدجة وهو يهمس لها بشغف :"تزوجيني يا ريان"

يتبع..

Continue Reading

You'll Also Like

914K 33.4K 39
فتيـات جميلات وليالــي حمـراء وموسيقـى صاخبة يتبعهـا آثار في الجسـد والـروح واجسـاد متهالكـة في النهـار! عـن رجـال تركوا خلفهم مبادئهم وكراماتهم وأنس...
449K 37.2K 15
في عالمٍ يملأهُ الزيف غيمةً صحراويةً حُبلى تلدُ رويدًا رويدًا و على قلقٍ تحتَ قمرٍ دمويْ ، ذئبا بشريًا ضخم قيلَ أنهُ سَيُحيى ملعونًا يفترسُ كلُ منْ ح...
5.7M 165K 108
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣