حبائل الحب

By mahmoud-s-zedan

147 13 9

رومانسي More

البنت الغبية هي اللي توافق على الزواج قبل ما ترتب حياتها لمرحلة ما بعد الطلاق!

147 13 9
By mahmoud-s-zedan

سبع ليالٍ كاملة لم ينقطع خلالها صوت الطبل والمزمار عن دوار العمدة لحظة واحدة، وأُقيمت فيها الولائم صباحًا ومساءً، ووزعت النقود والهدايا  على أهل البلدة دون استثناء- الفقراء منهم واﻷغنياء.

وما بين حين وآخر كانت الست بهيرة- زوجة العمدة مهران- تنثر حفنات الملح بكلتا يديها على رؤوس الحاضرين كي لا يحسد أحدهم ابنها الوحيد، غير عابئة بنداءات الناس الذين يخبرونها بتساقط ذرات الملح في أعينهم.

ولكن سُرعان ماكانت تهدأ صيحاتهم عقب قيامها بنثر الحلوى مرة أخرى على رؤوسهم، ثم تتبعها بإلقاء النقود يمنةً ويُسرى فيتهافت الناس على التقاطها وسط دعوات متكررة للابن العائد من سفره البعيد منذ أيام قلائل.

اﻷستاذ خالد- أو خلودي كما اعتادت أن تناديه والدته من أصل سكندري دون اكتراث لعادات أهل الصعيد المتوارثة جيلا بعد جيل بعدم تدليل الابن بهذه الطريقة الفجة.. إلا أنها جاءت من أقصى شمال البلاد إلى أقصى جنوبها منذ ما يقرب من ربع قرن متلفحة بعاداتها وتقاليدها الخاصة، ولم يجرؤ زوجها العمدة يوما وهو بكامل هيبته وكبريائه على مغاضبتها أو إجبارها على فعل شيء لا تطيقه، فقد جمعتهما قصة حب عنيفة منذ الشباب كانت حديث أهل القرية هنا وحديثهم هنالك في عروس البحر المتوسط.

عاد خلودي أخيرا من رحلة طويلة إلى فرنسا، حصل خلالها على درجة الماجستير في القانون من جامعة السوربون العريقة، ليحقق بذلك جزءً من حلم والدته التي طالما تمنت أن يصبح ولدها الوحيد محاميا ذو شأن عظيم.

أما عن حلم والده القديم في أن يتزوج خالد من ابنة عمه لم يُكتب له أن يتحقق، فقد ورث الفتى المدلل عن أمه أكثر مما أخذ عن والده.

حتى هيئته ومظهره كان ﻷمه النصيب اﻷكبر في تحديد ملامحه، شعره اﻷصفر، عيناه الخضراوين، فضلا عن بشرته البيضاء دونا عن أهل القرية جميعا.

- هي فين رجاء بنت عمي ياحاج؟ من أول ما رجعت من السفر ما شوفتهاش ولا حد حكالي عنها حاجة.

تساءل الفتى متعجبا وهو يلتهم قطعة دجاج ناولتها إياه الوالدة خلال مأدبة العشاء التي جمعت ثلاثتهم فأجاب الوالد غاضبا: لساك فاكر تسأل على بت عمك! وكمان ليك عين تجيب سيرتها على لسانك بعد اللي قولته عليها.

- أنا ما قولتش حاجة يا والدي، رجاء بنت عمي أه لكن مش مناسبة لمستوايا الثقافي والتعليمي، يرضيك أعيش مع وحدة مش فاهماني ولا أنا كمان فاهمها.

- لا ما يرضينيش ياخالد بيه، لكن انت خابر مليح لو رجاء سافرت بره واتعلمت هتبقى زيك وأشطر منك كمان.

- أنا اسف يا والدي مضطر أقولهالك للمرة المليون، الجواز مش بالعافية ومش معنى إن رجاء قريبتي يبقى لازم أتجوزها عشان أرضي حضرتك.

- وإيه تاني كمان قول كل اللي في نفسك؟! هي الغربة علمتك طولة اللسان يا ولد مهران.

- ابني معاه حق يا مهران، رجاء جميلة وأخلاقها عالية، لكن زي ما بيقولوا في الصعيد دماغها مقفلة، ومش هي دي البنت اللي تقدر تسعد ابني.

- بكفاياكي يابهيرة طلعي البت من نافوخك عاد، أهي سافرت لعمتها وسابتلكم البلد باللي فيها

- في دي معاك حق يا مهران، دي ماصدقت تسيب البلد، خمس سنين ولا حد يعرف عنها حاجة.

- الحمد لله ارتاحت من لسانك اللي كيف المبرد.
قالها مهران ثم مد يده ليلتقط ثمرة تفاح من أمامه قبل أن يلتفت إلى ابنه ويقول: هتبدأ الشغل ميته ياحضرة المحامي.

أجاب خالد وهو يتناول رشفةَ ماءٍ من كأس الكريستال المرصع بحبات الفضة: المفروض إني هتدرب لمدة سنتين في مكتب اﻷستاذ عبد الوارث بالقاهرة.. ثم لمعت عيناه فجأة وأضاف: أنا اتفاجأت بإن سمعته وصلت لحد فرنسا وعرفت إن معظم المحاميين هناك على اتصال دائم بمكتبه في القاهرة للاستفادة من خبرته وأسلوبه البارع في التعامل مع القضايا المهمة في مصر وخارج مصر.

- جميل.. وبالمرة تتابع معاه ملف اﻷرض القبلية والبحرية وقضية السبع عمارات اللي في اسكندرية.. قالها العمدة ثم أضاف وهو يهم بالانصراف إلى غرفته: قوم انت نام دلوك ومن بكره الفجرية العربية والسواق هيكونوا رهن إشارتك منين ماتروح.

- حاضر ياحاج، تحت أمرك.. ثم همس في أذن والدته وقال: فين العروسة اللي قولتيلي عليها ياست ماما؟

حانت من اﻷم ابتسامة خاطفة ثم استدارت نحوه وقالت: كلها شهرين ونكونوا في اسكندرية مع طلعة الصيف، وبنات خالاتك هناك أقل وحدة تقول للقمر قوم وأنا أقعد مكانك، ولا البت شروق بنت خالك دي كمان.. لو نزلت في البحر المالح أيووووه يبقى عسل مصفي.

- ليه كده يا ست ماما.. لسه هستنى شهرين كمان؟

- ما تتصربعش ياواد واتقل لحد ما ارستأ أموري، بنات اسكندرية ما يحبوش الواد الخفيف أوي كده.

- أمرك ياست الكل.. لقد أمرنا نحن الموقعون أدناه بتأجيل الموضوع لحد المصيف.

- طيب ياأستاذ.. بطل لماضة وقوم نام شوية عشان السواق هيكون هنا من الفجرية.

- حاضر ماما.. لما نشوف آخرتها إيه معاكي أنتي وقرايبك؟
------
--
في مدينة اﻷلف مئذنة التي لا يهدأ ضجيجها صباحًا ومساءًا وبالقرب من ميدان التحرير أعرق ميادين القاهرة كان هناك اجتماع مغلق بين القادم من جنوب الصعيد وصديق العائلة- اﻷستاذ عبد الوارث ذو المكانة المرموقة.

ظل كلاهما يتبادلان اﻷضحوكات واﻷحجيات اﻷسطورية في لقاء حميمي لم يقطعه سوى رنين هاتف اﻷخير يخبر عن اتصال هاتفي من العمدة مهران.

- كيفك ياعبد الوارث بيه، إن شاء الله تكون بخير.

- نحمدوه على كل حال ياحضرة العمدة.

- ولدي خالد وصل حداكم ولا لسه؟

- لساه واصل من شوية، ما شاء الله ابنك ما يتخيرش عنك يامهران، ذوق ونباهة وطموح عالي بيفكرني بيك في أيام شبابك زمان.

- البركة فيك ياسي عبد الوارث، احنا عايزين اسمه يسمّع في بلاد بره زيك كده تمام.

- عينيا يا عمدة، خالد زي ابني وأكتر كمان.

- ده العشم برضك، منتظرين تشريفك لينا في أقرب وقت إن شاء الله.

- إن شاء الله.. في أمان الله ياعمدة.

بمجرد إن وضع المحامي هاتفه على الطاولة التفت إلى خالد وقال: هو احنا كنا بنتكلم فيه إيه ياسي خالد؟

عدل خالد من رابطة العنق الصفراء التي تزيد كثيرا من بهاء بدلته ذات اللون اﻷبيض، ثم أشار إلى كومة من الملفات التي كانت أمامه وقال: حضرتك قولتلي إني من النهاردة هتابع الملفات الخاصة بأملاك والدي مع المحامي المسئول.

تنحنح اﻷستاذ عبد الوارث، ثم تبسم بخبث وقال: أولا هي محامية مش محامي، ثانيا أنا بعتمد عليها في أهم القضايا اللي عندي، ثالثا وده اﻷهم إن دي فترة مؤقتة لحد ما تقدر تعتمد على نفسك.

ثم ضغط المحامي ذر الاستدعاء رغبة في طلبها وأضاف ملتفتا إلى خالد: حاول تتعامل معاها بهدوء ﻷنها ذكية جدا وعصبية ومغرورة حبتين.

- أنا هشتغل معاها ولا هتجوزها؟
أجاب خالد ثم أضاف: الغربة علمتنا الصبر وطولة البال يا أستاذي.

تمتم المحامي قائلا: فكرتني بأيام الغربة يابني، ده اليوم اللي بيضيع مننا بعيد عن حبايبنا وأهالينا ما يتحسبش من العمر، ما بالك من أعز سنين راحت مننا.

لم يكد المحامي ينهي جملته حتى فُتِح الباب شيئا فشيئا وأشرقت شمس الدجى حتى ملأ النور أرجاء المكان.

فتاة ممشوقة القوام فاقت محاسنها كل عبارات البيان، يتهادى شعرها على كتفيها في انسيابية كما يتهادى الحرير على أجساد النساء.. تلمع عيناها كأنهما لؤلؤتان يقبعان في قاع المحيط يبصرهما العابرون ليلا أو في وضح النهار.. أما شفتاها فكأنهما دفتي بحر يتوه فيهما أمهر البَحَّارَة والصيادين.. وإذا ما دققت النظر في وجنتاها تراهما قوسان يحرسان وجهًا كالقمر في ليل التمام.

جاءت وفاء تتبختر في مشيتها مثل أميرة في بلاط السلطان، ترتدي زي الميني جيب ورغم ذلك لا تربكها النظرات المتعلقة بها كتعلق اﻷطفال بالطائرات المارة في جو السماء.. ولا يشغل بالها همسات أولئك المتعجبون من حسنها وروعتها.

جلست قبالة زميلها خالد واضعة قدما على اﻷخرى غير مبالية بملامسة حذاءها ذو الرقبة الطويلة لركبة الوافد الجديد.

- اسمي وفاء عزيز، ماجستير في القانون وبحضر للدكتوراة.. قالتها المحامية المفوهة ثم أضافت: تشرفت بيك يا أستاذ خالد.. عبد الوارث بيه حكالي عنك كل حاجة بالتفصيل.

- وياترى أستاذنا الكبير قالك إيه عني يا آنسة دعاء؟

- آسفة يا أستاذ خالد، مهنة المحاماة علمتني إن كل كلمة ليها تمن، والوقت اللي نقضيه في حوارات غير مفيدة ممكن نستغله في إثبات براءة متهم وإنقاذه من حبل الإعدام.

تنحنح اﻷستاذ عبد الوارث بصوت مرتفع في محاولة منه لتدارك اﻷمر ثم قال: ما تزعلش ياخالد يابني هي دعاء كده مش بتضيع لحظة في أي كلام غير الشغل، وده اللي عاجبني فيها.

ابتسم خالد محاولا التظاهر بالثقة ثم قال: بالعكس، أنا ما صدقت لقيت حد مننا بيقدس قيمة الوقت زي اﻷجانب، ثم استدار إلى زميلته وقال: امتى نقدر نبدأ العمل يا أستاذة دعاء.

- من دلوقتي لو حبيت.. قالتها دعاء ثم أضافت: لو عندك استعداد للعمل من دلوقتي ممكن تشرفني في المكتب.

تنحنح أستاذهما مرة أخرى ثم قال: خالد لسه جاي من سفر بعيد.. ابدأوا العمل من بكره إن شاء الله.

- وهو كذلك..
قالها كلاهما بصوت واحد، ثم تبادلا نظرات الدهشة بضع لحظات إلى أن غادرا المكتب دون أن ينطق أي منهما بكلمة واحدة.

مع دقات الثامنة صباحا كان المكتب أشبه بخلية نحل.. كلٌ يقوم بدوره في نشاط تام، أحدهم يسأل وآخر يجيب وثالث يقفز فرحا بعثوره على دليل براءة موكله.. أما عنهما فقد كان الزميلان- خالد ودعاء- في مكتب اﻷخيرة يراجعان الملفات الخاصة بوالد بالعمدة مهران.

- أستاذة دعاء..
ممكن اعرف ليه ما كسبناش قضية السبع عمارات لحد دلوقتي؟
تساءل خالد بغيظ شديد ثم توقف عن تقليب اﻷوراق ليتابع قائلا: القضية ليها سبع سنين في المحاكم وأظن لو محامي ذكي كان قدر يكسبها بسهولة.

سادت حالة من الصمت بضع لحظات ظل فيها خالد متحيرا في شأن هذه الفتاة التي أثارت غضبه من أول لقاء جمع بينهما، بينما أخذت دعاء تنفخ حينا وتقطب جبينها حينا آخر ثم حدقت في وجه خالد وقالت: انت جيت أمتى من فرنسا؟

أجاب خالد على الفور: من أسبوع تقريبا.

- قعدت مع والدك كام مرة؟

- مرتين أو تلاتة.

- اتكلمتوا كام مرة عن القضية في المرتين أو التلاتة دول.

- ماجاتش فرصة مناسبة يحكيلي عنها.

- قعدت كام سنة في فرنسا؟

- ست سنين وتلات شهور

- كام مرة فكرت تسأل عن أحداث القضية.

- بالي كان مشغول جدا بالدراسة، وما كنتش بهتم بأي حاجة تانية غيرها.

سادت حالة من الصمت مرة أخرى في المكان ولكن لفترة أقل هذه المرة، ثم قالت دعاء بصوت مرتفع: عيبك يا أستاذ إنك جاي تهتم في الوقت الغلط، وما تعرفش إن المحامي اللي كان مسئول عن الملفات باعنا وكان هيضيع حق والدك، لولا إن اﻷستاذ عبد الوارث انتبه في الوقت المناسب وسلمني ملف القضية.. وبطريقتي الخاصة قدرت أجمع كل الخيوط وأعيد ترتيبها من جديد ده بعد مشوار طويل من الطعن والاستشكال والاستئناف والنقض.

أومأ خالد برأسه عدة مرات وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة تنبئ عن ندمه الشديد لما قاله، ثم لم يلبث أن قال معتذرا: آسف يا آنسة دعاء ما كنتش...

قاطعته اﻷخيرة قائلة بغضب شديد: من فضلك اسمي اﻷستاذة دعاء، كلمة آنسة دي تقولهالي في الشارع في النادي لو عايز تستأذن مني في حاجة، إنما احنا هنا في الشغل وحفظ اﻷلقاب مطلوب يا أستاذ خالد.

لوى خالد شفتيه ثم حاول تدارك اﻷمر قائلا: بحكم إننا زملاء في الشغل من حقي اعرف شوية معلومات عنك.

- زي إيه.. قالتها دعاء وهي ترفع حاجبا وتخفض آخر، ثم أضافت: ما عنديش مانع أجاوب على أسئلتك إذا كانت في نطاق الشغل.

ارتسمت على وجه خالد ابتسامة الفرح، وتسارعت دقات قلبه ﻷول مرة منذ لقائهما ثم قال متلهفا: انتي بتشتغلي هنا من أمتى؟

لملمت دعاء بعض الملفات المتناثرة من حولها، ثم التقطت خرقة قماش متهالكة من حقيبتها وأخذت تمسح موضع فناجين القهوة فوق الطاولة، اﻷمر الذي أثار استغراب خالد، ثم توقفت أخيرا وقالت: شوفتني دلوقتي بعمل إيه؟

- أيوة شوفتك.. لكن مش فاهم أنتي عملتي كده ليه؟

تنهيدة طويلة خرجت من أعماق الفتاة التي طالما كانت تتظاهر بالقوة، ثم اغرورقت عيناها بالدموع فجأة وقالت: أنا كنت بشتغل خدامة في المكان ده عشان أصرف على أهلي وأكمل تعليمي، افرش السجاد وانضف المكتب وارتب الملفات، وكنت بعمل الشاي والقهوة للأساتذة لحد ما بقيت وحدة منهم، وأهم وحدة فيهم كمان.

مصمص خالد شفتيه ثم فرك ذقنه وقال: وإيه اللي يخلي وحدة بالجمال ده كله تشتغل خدامة، كان ممكن تتجوزي حد من ألف واحد يتمناكي وتبقي أميرة في بيتك.

أطلقت دعاء سيلا من الضحكات الساخرة ثم صاحت بتهكم: مين كان يتمنى يتجوز وحدة جربانة بتصرف على أبوها العجوز وأمها اللي عندها القلب، ثم أشارت إلى خالد بإصبعها وقالت: انت نفسك لو شوفتني زمان بفستاني المهلهل وشعري المنكوش كنت تخاف تبص ناحيتي، لكن دلوقتي لما لبست واتزوقت كل الناس بقت طمعانة فيا.

أطرق خالد بذهنه قليلا ثم قال: لكن دلوقتي وحسب اللي أنا شايفه قدامي كل الناس بتتمناكي.

عادت الابتسامة الساخرة تكسو وجه دعاء ثم مالت بذقنها على يديها المتشابكتين وقالت: زمان وأنا فقيرة كنت زي اللي واقع في بير مستني أي حد يمدله إيده.. ما كانش مهم عندي هو مين- شاب، عجوز، أرمل، مطلق- أو حتى هو يبقى إيه؟ غني، فقير، شحات- المهم حد يمسك إيدي وينتشلني من الضياع اللي أنا كنت فيه، لكن دلوقتي أنا بقيت واقفة على أرض صلبة وقدرت أوفر لنفسي حرية الاختيار، كل الناس بتمدلي إيدها وأنا اللي أقرر أمد إيدي لمين.. عرفت إيه فايدة الشغل للبنت اللي شبهي يا أستاذ خالد؟

أجاب خالد دون تردد: عرفت.. ثم أضاف: وأمتى ييجي الوقت اللي تقرري فيه تمدي إيدك يا أستاذة دعاء؟

- لما اعرف مصيري هيكون إيه بعد الطلاق..
قالتها دعاء ثم تابعت حديثها دون اكتراث لقهقهات خالد: الزواج بالنسبالي عامل زي نسر في عز قوته بيصطاد عصفورة مكسورة الجناح، لكن من شدة غباءها مبسوطة إنها طايرة في السما وياه، وناسية إنه ممكن يسيبها في أي وقت وساعتها مش هتلاقي عش يأويها ولا هيكون عندها فرصة تتعلم الطيران.

عقد خالد حاجبيه متعجبا ثم قال: مش بحب كلام اﻷلغاز!

أزاحت دعاء بعض خصلات الشعر التي التصقت بخديها كأنها تشفق عليهما من الدمع الذي أسرع من جريانه ثم قالت: البنت الغبية هي اللي توافق على الزواج قبل ما ترتب حياتها لمرحلة ما بعد الطلاق، هتعيش مع مين وتشتغل إيه، وازاي توفر لنفسها حياة كريمة بدون ذل وإهانة واحتياج للناس!

- وليه نقدر البلا قبل وقوعه؟!

- ﻷن في نوع من الرجال لما يلاقي الست اللي معاه قليلة الحيلة ومالهاش ضهر تتسند عليه يتفنن في تعذيبها، ويستلذ بممارسة أبشع وسائل الاستعباد معاها لحد ما يقضي على إنسانيتها أو يسيبها تموت مقهورة وده أسوأ أنواع القتل البطيئ.. لكن لما يكون عارف إنها ست قوية وممكن توقف لوحدها في وش الإعصار هيفكر مليون مرة قبل ما يتخلى عنها أو يحاول يجرح كرامتها.

- انتي ليه شايفة الحياة كلها أسود في أسود، حتى هدومك لونها أسود عكس البنات اللي دايما بتحب اﻷلوان الزاهية والفساتين الملونة.

- ﻷن كل البنات أغبيا عايشين الحياة كلها لعب وحب وألوان ولما يشوفوا اﻷسود يتفاجئوا بيه، لكن أنا قررت أحب اﻷسود وأعيشه واتعود عليه عشان لو جالي ما اتفاجأش!

- معنى كده إنك عارفة كويس لو سبتي المكتب ده النهاردة هتروحي فين بكره.

- برافو بدأت تفهمني صح.

- وقلبك فين من حساباتك؟

- كل مرحلة في حياتنا ليها حسابات خاصة، مرة القلب هو اللي يتحكم في تفكيرنا ومرة العقل هو اللي يكون ليه سلطة اتخاذ القرار.. وأنا قدرت أساعد عقلي لحد ماقلبي أعلن هزيمته.

- القلب عمره ما يعلن هزيمته، هو أكيد في هدنة لحد ما يجمع جيوشه، أو يمكن يكون مستني حد يساعده عشان يرجع يتحكم في حياتك من جديد.

- اللي يوقف مع قلبي ضدي ممكن يخسرني.

- واللي يفوز بقلبك سهل جدا يفوز بعقلك يا آنسة دعاء.

- انتفضت دعاء من مكانها فجأة كمن لدغه عقرب ثم حدقت في وجه خالد وصاحت بنبرة غاضبة: من فضلك اسمي الأستاذة دعاء، ثم استطردت قائلة: أنا ما اتعبتش واتعلمت وأخدت أعلى الشهادات عشان تيجي حضرتك وبكل بجاحة تقولي يا آنسة، آنسة دي تقولها للبنت اللي حاطة إيديها على خدها ومستنية العريس عندكم في الصعيد.

تمتم خالد مُحدثًا نفسه: هي البنت دي مجنونة ولا إيه! ثم تساءل مستنكرًا: وإيه اللي مش عاجبك في الصعيد يا أستاذة؟ احنا هنبدأ الغلط من أولها.

أعادت دعاء فتح الملفات مرة أخرى استعدادًا لمواصلة العمل من جديد ثم قالت: أظن السؤال ده مالوش علاقة بشغلنا، اتفضل ياخالد بيه نراجع "الصفحة التانية" من ملف قضية السبع عمارات.

على مدار شهرين متتاليين كان الزميلان يتابعان دراسة ملف القضية بهمة ونشاط، لاسيما أن الحكم النهائي سوف يصدر بعد ساعات من الآن، ورغم تأكيدات أستاذهما أن اﻷمر شبه محسوم لصالحهما إلا أن خالد ودعاء اتفقا على ألا يدعا هنالك فرصة للمفاجآت.. فقد باتت القضية شبه مصيرية لكل منهما، فأَن تربح دعاء معركة كبرى كهذه لهو أمر كفيل بأن يجعل اسمها بارزًا بين جموع المحامين، أما عنه فكان خالد يرغب في الفوز بمعركة أخرى ليست أقل منها أهمية.. تلك المعركة التي قرر أن يخوضها غمارها بكامل أسلحته أملا في الانتصار لقلب هذه الفتاة التي أثارت جنونه منذ قدومه إلى مدينة اﻷلف مئذنة.

وجدتها..... أخيرًا وجدتها.....!!!
صاحت بها دعاء وهي تتقافز يمينا ويسارا في مكتبها وقد كاد شعرها أن يلامس سقف الحجرة ثم توقفت أمام خالد وأخذت تلوح في وجهه ببضعة أوراق وقالت: أخيرا لقيت الدليل القاطع على أحقية والدك في أرض السبع عمارات، والمفاجأة كمان هناخد تعويض من الحكومة على اﻷضرار المادية والمعنوية اللي حصلتكم بسبب قرار الإزالة، ومش بعيد كمان نطلب اعتذار رسمي من وزير الإسكان في البرلمان.

لم يكترث خالد لما قالته دعاء رغم أهميته، ما جعلها تهتف قائلة: أخيرا هترتاح مني ومن عصبيتي يا أستاذ خالد.

التفت خالد نحوها دون أن يجيب بكلمة واحدة، ثم عاد يقلب بصره في سقف الحجرة كأنه يفتش عن شيء ما، وما بين حين وآخر يطلق تنهيدة طويلة كمن جثم على صدره جبل ثقيل لا يستطيع إزاحته ولا يقوى على تحمله.

جذبت دعاء كرسيا آخر لتجلس قبالته ثم قالت: أنت سمعتني كنت بقول إيه يا أستاذ خالد؟

أجاب خالد في لامبالاة: سمعت!

صاحت دعاء بتعجب شديد: مش دي كانت أهم قضية بالنسبالك من أول جلسة لينا هنا؟!

رد خالد باقتضاب: كانت..!!

أخذت دعاء تضرب أخماسا في أسداس عما أصاب زميلها فقالت: ودلوقتي إيه اللي اتغير؟

التفت خالد نحوها وقال: في قضية تانية أهم منها.

ظلت دعاء تفكر لبعض الوقت في شأن تلك القضية الجديدة التي شغلت بال خالد، ثم ارتسمت ملامح الدهشة على وجهها وقالت: ممكن أشوف ملف القضية.

أجاب خالد: ما لهاش ملف.

تناولت دعاء ورقة بيضاء ثم التقطت واحدا من اﻷقلام المتناثرة على طاولة المكتب وقالت: احكيلي نبذة عنها.

رد خالد: مستحيل أقدر اختصرها.

مطت دعاء شفتيها باستغراب قم قالت: طب إيه نوع القضية.. سرقة، قتل، اعتداء، تعذيب، اختلاس، اختطاف، ..

أجاب خالد: كلهم وأكتر كمان.

صاحت دعاء بفضول شديد: مين المجرم اللي قدر يعمل ده كله في وقت واحد.

أطبق خالد فمه هذه المرة ولم يُحِر جوابا، فأعادت دعاء سؤالها مرة أخرى وسط إلحاح شديد بمعرفة الجاني فصاح خالد بأعلى صوته: انتي.. أيوة انتي يا دعاء، أنا عايز اعترفلك بحبي من فترة لكن......

قاطعته دعاء بقولها: لكن.... لازم تاخد رأي بابا وماما اﻷول قبل ما تفكر تقولهالي.

- دي حياتي وأنا حر فيها.. قالها خالد ثم أضاف: الشرع والقانون بيدوني الحق إني اختار الإنسانة اللي تكمل معايا مشوار حياتي.

ابتسمت دعاء بسخرية ثم صاحت مستنكرة: أنت نسيت قولتلي إيه عن بنت عمك اللي باباك كان عايز يجوزهالك، ولا نسيت كلام مامتك عن بنات اسكندرية اللي بيخلوا البحر المالح طعمه حلو.

صاح خالد بأعلى صوته دون اكتراث لزملائه المارين جيئة وذهابا في ردهات المكتب: أنا حبيتك واختارتك أنتي، بنت عمي ما اعرفهاش عشان أحبها، والبحر المالح لو بقى أحلى من العسل مش عايزه أنا بين إيديا اللي أحلى منه.

** ليس هناك أحد يكره الحب، وليست هناك أذُن لا تُطربها سماع كلمات العشق والغزل، أما عندما يتعلق اﻷمر بالزواج فهنا تكمن المشكلة!!

التقطت دعاء حقيبتها ثم دست فيها بعض اﻷوراق قائلة: لازم أمشي عشان ألحق المحكمة بكرة، ثم هرولت خارج المكتب وهي تردد: للأسف جيت متأخر يا أستاذ خالد.

بينما تلقى اﻷخير اتصالا هاتفيا من والدته تخبره بأن اﻷمور قد باتت مهيأة لسفره، فما كان منه إلا أن صرخ فيها قائلا: أنا مش مسافر يا أمي، أرجوكي أنتي ووالدي سيبوني أقرر مصيري واختار شريكة حياتي بنفسي.. ثم أغلق الهاتف وهرع إلى الخارج محاولا اللحاق بحبيبته، إلا أنها تلاشت تماما كقطرة ندى ما إن لامستها أشعة الشمس حتى اختفت.

صباح اليوم التالي وفي قاعة المحكمة راح اﻷستاذ عبد الوارث يصول ويجول في ساحة القضاء كما يدور اﻷسد حول فريسته، يحمل في يده اليمنى نفس اﻷوراق التي كانت دعاء تلوح بها في وجه خالد منذ ساعات، اﻷمر الذي أثار تعجبه، ولكن ما زاد تعجبه أكثر أنها لم تحضر الجلسة حتى الآن.

صاح القاضي بأعلى صوته: الحكم بعد المداولة.. ثم راح يميل عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى، وعاد يهتف قائلا: حكمت المحكمة حضوريا بتسليم اﻷرض المتنازع عليها إلى المدعو/ مهران السيد مهران، وإلزام الحكومة بالمصروفات وأتعاب المحاماة.. ثم عقب قائلا: رُفِعت الجلسة.

بمجرد انتهاء القاضي من إعلان الحكم النهائي هرع تلاميذ المحامي المخضرم بالالتفاف حوله لتبادل العناق وتقديم التهاني والتبريكات عقب فوزه بالقضية.

بينما كان أسرعهم حضورا إليه خالد، والذي بدت على وجهه علامات الحزن الشديد، فرغم أن هذه الجلسة حملت إعلان النصر لوالده إلا أنها شهدت مطلع الهزائم لابنه، وما كان غياب محبوبته دون علمه إلا إحدى مؤشرات هذه الهزيمة القاسية.

- دعاء غابت ليه عن الجلسة يا أستاذ عبد الوارث؟
تساءل عادل دون أن يخفي حزنه الشديد لغيابها، فأجاب المحامي بحماس كبير: سيب دعاء في حالها دلوقتي، أنت مش فرحان إننا كسبنا القضية!

عقد خالد حاجبيه ثم صاح متأففا: مش مهم القضية يا أستاذ عبد الوارث، المهم إني اعرف دعاء فين دلوقتي.

- طيب ياسيدي، تعالى نروح المكتب ونكمل كلامنا هناك.. قالها المحامي ثم شرع في الخروج من قاعة المحكمة يتبعه ثلاثون من تلامذته.

في الحجرة التي شهدت لقاءاتهما على مدار شهرين كاملين، وتفجرت فيها ينابيع الحنين فخلقت جوا ملائما لأن تنبت زهرة الحب في قلب كُلًا من الزميلين.. جلس اﻷستاذ عبد الوارث متوسدًا كرسي المكتب الخاص بتلميذته دعاء، ثم أخرج من جيبه سلسلة من المفاتيح تتدلى من إحدى حلقاتها قطعة من المعدن ترمز إلى شكل الفراشة السوداء..

ظل خالد يراقب اﻷمر في حيرة ممزوجة بالدهشة الكبيرة، فلطالما عشق هذه الفراشة التي اعتادت أن تداعبها محبوبته أثناء تناولها للقهوة، بل وكلما بهت لونها أعادت صبغها من جديد.. فأن تتخلى صاحبتها عنها بهذه السهولة لهو أمر لا يحمل أية بشرى سارة.

نجح المحامي أخيرا في فتح الدرج اﻷخير من المكتب، ثم جذب ملفا ذو لون أسود وقال: امبارح بالليل دعاء جاتلي البيت مع والدتها، كان واضح من شكلها ولبسها إنها مريضة جدا، وبعد ما طلبت مني أجازة لمدة أسبوع أصرت إنها تسلمني مفتاح المكتب وقالت: شرطي الوحيد إنك تفتح الدرج في حضور خالد بعد الحكم في القضية.

سُرعان ما وثب خالد بجوار أستاذه عبد الوارث، ثم راح كلاهما يتفحصان الملف اﻷسود بفضول شديد فإذ فيه ورقة واحدة تحمل عنوان "رسالة إلى خالد"، جاء فيها:

مبروك ياخالد.. كسبت الرهان وقدرت تفوز بقلبي، أنا حاولت كتير إني أبعد عنك عشان أحافظ على حياتي لكن فشلت، أيوة كان لازم أكرهك عشان أفضل عايشة على وش الدنيا وأكون جمب ماما وبابا لكن ما قدرتش.. ما تستغربش يا خالد أصل احنا عيلة كئيبة لما بنحب بجد ونفرح أوي بنموت، ماما جالها القلب يوم ما فرحت بولادتي، وأنا جالي القلب في اليوم اللي تخرجت فيه من الجامعة، ومن ساعتها الدكتور حذرني إني أفرح، ﻷن الفرحة الحقيقية فيها موتي.. أنا عارفة إنك زعلان مني لما كنت بعاملك بعصبية شديدة لكن التصرفات دي كلها عشان أحمي نفسي من حبي ليك.. لكن أخيرا استسلمت وقلبي حَبك غصب عني.. وبقيت في النهاية زي الفراشة كنت متأكدة إن نار الحب هتحرقني لكن غمضت عيني وفتحتها فجأة لقيت نفسي جواها.

فاكر يا خالد لما قولتلك اللي يوقف مع قلبي ضدي ممكن يخسرني.. كان قصدي أقولك إني لو حبيت وفرحت بجد هموت.. لكن غصب عنك مافهمتش قصدي ساعتها.. أنت مالكش ذنب ياحبيبي.

استاذ عبد الوارث.. شكرا ليك إنك ساعدتني لحد ما تخرجت من الجامعة واتعينت في مكتبك.. كان نفسي أكمل معاك وأكون محامية ليها اسم كبير وأقول لكل الناس إني تلميذتك، لكن الظاهر مفيش نصيب.

في الوقت اللي أنت بتقرأ فيه رسالتي أنا هكون داخل غرفة العمليات بعالج قلبي من آثار حب خالد.. الوداع يا أعز الناس لقلبي.

لم يكد المحامي ينتهي من قراءة الرسالة حتى أصيب خالد بحالة من الهياج وأخذ يصرخ بهيستريا قائلا: أنا السبب في كل اللي جرالها، أنا اللي قتلتها بحبي ليها.. أنا اللي كان لازم أفهم إنها لو حَبت هتموت.. ثم راح يضرب برأسه فوق الطاولة وهو يردد: أنا غبي.. أنا غبي.. أنا... لم يستطع أن يكملها هذه المرة ودخل في نوبة طويلة من البكاء.

فما كان من أستاذه إلا أن جذبه ناحيته ليحتضنه بحزن قائلا: لسة في أمل يا خالد.. يلا بينا حالا على المستشفى.
--------
----
عاد صوت الزغاريد يعلو مرة أخرى في دوار العمدة مهران وأُطلقت اﻷعيرة النارية ابتهاجا بالنصر العظيم، وما هي إلا دقائق معدودة ويصل خالد إلى بيته.. هذا الفارس البارع الذي كان له الفضل اﻷول في تحقيق النصر.. هكذا اعتبره والداه الذان يترقبان وصوله بشوق كبير.

خالد بيه وصل.. خالد بيه وصل!!
صاح بها حارس القصر وهو يهرول إلى مجلس العمدة مهران كي يزف البشرى إليه أملا في المزيد من الهدايا واﻷعطيات.. فما لبث أن دُقَت الطبول وارتفع صوت المزمار في استقبال حافل كاستقبال الجندي العائد منتصرا من ساحة المعركة.. إلا أن خالد بدا غير مبالٍ لكل ما يحدث من حوله.. ثم صافح والديه ببرود واتجه مسرعا إلى غرفته.

- هو ماله ابني يامهران؟!!
قالتها بهيرة بصوت مبحوح، فأجاب زوجها على الفور: يمكن تعبان شوية من السفر يابهيرة.

هزت بهيرة رأسها بالنفي ثم هتفت مستنكرة: ابني وأنا عارفاه يامهران أكيد في حاجة مزعلاه.. ثم أضافت وهي تهم بالتوجه إلى غرفته: أنا هطلع أشوف إيه اللي جراله.

جذبها مهران من ذراعها وقال: استني انتي يابهيرة، أنا عارف علاج ولدي كويس.. ثم جمع عباءته قبل أن يصعد أول درجات السلم وتابع قائلا: قولي للخدامين يجهزولنا الغدا.

مصمصت بهيرة شفتيها ثم ولت ظهرها وهي تتمتم قائلة: ياترى مخبيلنا إيه في جعبتك يا حاوي؟!

- للدرجادي حبيتها يا خالد يابني، في شهرين اتنين البت المصراوية قدرت تقلب كيانك بالشكل ده كله؟!!
صاح بها العمدة بمجرد أن تجاوز باب الغرفة، فاستدار خالد سريعا إلى مصدر الصوت متعجبا لحديث الوالد عن فتاته المفقودة.. ثم تابع العمدة حديثه قائلا: ما تستغربش عبد الوارث بيه قالي كل حاجة، لكن ما قالش تفرق إيه دعاء عن بت عمك، ولا إيه اللي شوفته في بنات بحري وما لقيتهوش في بنات الصعيد؟

زمان ياولدي من ييجي خمسين سنة، أبويا العمدة كان متجوز اتنين، وحدة قريبة والتانية من بلاد بعيدة.. وفي يوم كل وحدة منيهم ناولتني تفاحة، أمي القريبة ومرات أبويا الغريبة.. أبويا شاورلي وقال: كُل التفاحة القريبة ياولدي، أمك عارفة اللي أنت بتحبه وعارفة اللي بتكرهه.. إنما الغريبة ما تعرفش عنك غير اسمك و....

قاطعه خالد مشيرا إلى صورة والديه المعلقة فوق الجدار قائلا: لكن حضرتك اتجوزت البعيدة، يعني أكلت التفاحة الغريبة.

- عشان حبيت شكلها ياولدي.. ما صدقتش مدرس العلوم لما كان بيقول في المدرسة: أسماك البحر المالح لا تتأقلم في الماء العذب والعكس صحيح.

- يعني إيه؟!!!

- يعني الشجرة اللي اتزرعت في بلاد بعيدة عمرها ما تطرح في اﻷرض القريبة.

- وإيه اللي خلاك تستحمل السنين دي كلها وما حاولتش تصلح غلطتك!

- عشان حبيت ياولدي.. والحب لما يتشعلق في رقابنا بيبقى زي الحبل ياخدنا مطرح ما يريد.

- لكن الشجرة طرحت وأنا قدامك أهو.

- طرح ماسخ مالوش طعم، لا تعرفه حلو ولا مر!

- قصدك إيه ياحاج.. إيه اللي مش عاجبك فيا!

- شايفك مقسوم نصين ياولد مهران، عقلك في حتة وقلبك في حتة تانية.

- وأنا ذنبي إيه في غلطة غلطتها أنت زمان؟

- الذنب ذنبي ياولدي، عشان كده مش عايز ولدك يعاتبك زي أنت ما بتعاتبني دلوقتي.

- لكن أنا حبيت دعاء، ومستحيل أنساها لآخر يوم في عمري.

- جاوبني ياخالد.. ليه حبيت دعاء بالذات؟

- عشان لقيت فيها حاجات كتير مستحيل ألاقيها في أي وحدة غيرها.

- لو حبيتها عشان ذكية وشاطرة في ملايين أشطر منها.. ولو حبيت شكلها ولبسها الجميل في كتير أجمل منها.

أطرق خالد برأسه إلى اﻷرض ثم تمتم بصوت مسموع: الحب مالوش أسباب يا والدي، مفيش حد بيحب ويقدر يقول هو ليه بيحب إنسان دونا عن غيره، الحب يا حاج ما يقدرش يفسره غير القلب.. اسأله هو لو تقدر تسمعه!!

- سألته.. وسمعت رده كمان.. حالا هطلبلك الدكتور!

- مفيش طب ولا دوا هينفع معايا ياوالدي، أنا مش عايز غير دعاء.

التقط الوالد من جانبه الهاتف النقال، ثم شرع في الاتصال بحارس القصر قائلا: هات الدكتور وتعالى فورا يا حسان.

جلس الابن على سريره متحيرا، وقد وضع يده على خده ترقبا لمجيئ الطيب ومن ثم الخلود إلى النوم حالما يمضي إلى حال سبيله.

فما هي إلا لحظات وفُتِح الباب شيئا فشيئا ثم أشرقت شمس الدجى حتى ملأ النور أرجاء المكان.

رفع خالد عينيه إلى الوافد في لا مبالاة ثم صرخ فجأة بأعلى صوته وقال....... دعاء.......... ثم أراد القفز نحوها إلا أن قدماه تعثرت من هول الصدمة حتى سقط أرضا فاقدا للوعي، ثم نقل على الفور إلى المشفى، ليتوقف صوت الطبل والمزمار ويحل محله الترقب والسكون التام.

في غرفة العناية المركزة بالمشفى القريب هرع فريق الطوارئ لإنقاذ العاشق الجريح بمجرد قدومه، حيث قام أحدهم بإجراء عملية التنفس الصناعي، وسارع آخر بتوصيل جهاز ضخ الدماء في القلب، بينما قام ثالث بسحب عينات الدم لتحليلها على وجه السرعة.

أما عن أبواه فقد كانا يتبادلان النظرات الصامتة خارج الغرفة، كلٌ منهما ينسب للآخر خطيئته الشنيعة في إلحاق اﻷذى بولده.

وعلى مقربة منهما كانت تقف دعاء في ثوبها الجديد، وما بين حين وآخر تهطل دمعة حارة على وجنتيها كأنها سوط يضرب خديها عقابا عما أجرمته في حق الفتى المسكين، إلا أنه لم يكن بمقدورها التملص من المشاركة في هذه الخدعة لاسيما أنها تعشقه بجنون منذ نعومة أظفارها!

مضت ثلاث ساعات كأنها الدهر، كانت فيها أبصار الحاضرون معلقة نحو الباب ترقبا لورود أية أنباء عاجلة.

الحمد لله المريض فاق ويقدر يتكلم... قالها الطبيب وقد علت وجهه ابتسامة الفرح ثم أضاف: لكن ممنوع حد يشوفه دلوقتي.

اقترب مهران نحو الطبيب طالبا منه الإذن بالدخول قائلا: لو سمحت يادكتور، أنا لازم أدخل أشوفه.

- اسف ياحاج ممنوع.

- أوعدك يابني هخرج فورا، واللي بعمله ده لصالح أبني.

أومأ الطبيب برأسه بالموافقة ثم مضى يحدث نفسه قائلا: أمتى الواحد يبطل يستسلم لاستعطاف الناس؟!

بمجرد أن تجاوز ثلاثتهم الباب انهمر الدمع من عيني اﻷم كالسيل الجارف فور رؤيتها لوليدها، أما عن الوالد فقد اقترب منه شيئا فشيئا قابضا بيده على معصم الفتاة من خلفه ثم أوقفها إزاءه وقال: دي دعاء بنت عمك لكن في شكلها الصعيدي.. أنا علمتها وشغلتها في مكتب عبد الوارث لحد ما بقت محامية زيك واشطر كمان.. سامحني يابني أنا غلطت في حقك لكن كان لازم تتعلم الدرس.

أومأ خالد برأسه في إشارة بالموافقة.. ثم ارتسمت على وجه الوالد ابتسامة عريضة وقال: ياترى عايزها في شكلها القديم ولا الجديد.

أجاب خالد بوجه باسم وحروف متقطعة: أنا حبيتها في كل أشكالها وكل أساميها.

التفت مهران نحو زوجته وقال: سمعينا زغرودة ياولية.

ﻷول مرة منذ زواجهما استجابت بهيرة للأمر دون جدل أو نقاش، وارتفع صوتها بالزغاريد.. حتى جاء على إثرها الطبيب مسرعا وأمر بخروجهم جميعا إلى حين تماثل المريض للشفاء.

تمت....

Continue Reading

You'll Also Like

3M 64.4K 64
تعالت همسات الجميع من حولها منهم المشفق منهم الشامت بينما هي تجلس مكانها جاحظة العينين غير مصدقة انه فعل بها هذا لقد غادر بوسط الزفاف تاركاََ اياها ت...
1.5M 66.4K 55
قُلوبهم على جرف الهاوية، مَعقودة خيوطها بين النُور والظَلام، مُتشابكة أرواحهم بشباكٍ قوية؛ ليقعوا جميعًا نحو الهلاك المُغلف بحبٍ. بينهما حرب لن تنتهي...
5.5M 215K 51
قد يؤخر الله الجميل لجعله أجمل بنت يتيمه الأم من هيه طفله تعيش معا مرت ابوهه وتنحرم من كلشي وذوق العذاب بس القدر يلعب لعبته ويجي منقذه يتبع..
1M 30.7K 64
النساء لا مكان لهُنَّ في حياته، عالمه ينصب على أبناء شقيقه وتوسيع تجارته في أنحاء البلاد. هو "عزيز الزهار" الرَجُل الذي أوشك على إتمام عامه الأربعين...