الآن،فقط أجيبك؟[الجزء الخامس...

By EmanOmarWrites

75.6K 1.2K 213

"اجمعهم... تعرف الجواب!" هنالك أسئلة عبثية، بلا إجابات! وإجابات مغلفة بأسئلة أخرى، إجابات تتدثر بـ إيماءة خفي... More

الملخص وشجرة العائلة
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر والأخير
الخاتمة

الفصل السابع

6.7K 97 14
By EmanOmarWrites


هرولت الخادمة تطبع على ظاهر يدها قبلة اشتياق ثم هتفت :" تذكريني يا سيدتي أنا أنوار ابنة خادمتك زبيدة ".
سحبت وضاء كفها وعانقت الشابة عناق حار :" نعم بالتأكيد .. سلمي لي على والدتك ".
امتعض وجه الفتاة :" يا سيدتي ..أمي توفاها الله منذ سنتين .. ظلت تدعو لك لآخر لحظة ".
ثم دفعت يدها داخل طيات ملابسها تخرج سلسال بسيط فيه اسم الجلالة .. ابتسمت لها وضاء متذكرة :" كانت هديتي لها عندما أنجبتك ".
وقبل أن تضيف المرأة شيئاً كانت رحيل قد وصلت لذروة غضبها بعد تبدد حالة الصدمة من خلاياها لتعود بزئير الغرور .. ظلت تنتفض داخليا .. الحقد يستنزف روحها البغيضة .. لتهتف أخيراً :" هل سنظل ننصت للمسامرات الفارغة؟!! .. هيا اختفي من أمامي ".
بلحظة خوف خرجت العاملة من المكان وهي تدرك قيمة وضاء فهي دائما كبيرة بأخلاقها .. هتفت رحيل بروح حاقدة :" أراك قد خلعت الأسود يا حرم المرحوم ".
ابتسمت وضاء باعتداد :". ولما لا أبدله وأرتدي أفخر الملابس ..والمرحوم عاد .. يكفيني عودة باسم ابن الغالي دحية لأرتدي البياض .. لكني سأتركه ليوم زفاف وحيد ".
تناقض غريب بينهما .. بين الأسود والأبيض بكل ما فيهما من مشاعر مكتنزة ..جعل رحيل تهتف بغضب :" هيا إذاً أذهبي إليهم .. لا تعودي هنا فهنا بيتي أنا .. وأنا لا أعترف بك أخت .. بل لم أردك أبداً ".
اتسعت ابتسامة وضاء أكثر وأكثر واستمرت في التقدم أكثر بلا مبالاة :" نعم لديك كل الحق .. فلم نكن أخوة ذات يوم .. جدي هو الوحيد الذي كان يعلم حقيقتك .. وربما قاسم أيضاً .. ".
هتفت رحيل بغباء أكثر لتواري صدمتها فلم تكن تدرك أنها تعرف عنها شيئاً :" يا حقيرة أخرجي من منزلي ".
صدح صوت وضاء ببرود :" أخرج من أحد منازلنا .. أنا وضاء دحية ولست لقيطة مثلك .. نعم .. كنت تلك الفتاة التي وجدها أبي على قارعة الطريق وكأن هناك كلب ينبش في جسدك .. أنظري لكتفك ما زالت هناك قطعة تنقصه .. جاء بك للمنزل .. عارض جدي وكلما كبرتِ كرهتينا أكثر وأكثر .. أليس هذا السبب الذي جعلك تطاردين رجال العائلة .. كنت تريدين عقد زواج .. كلهم حتى لا تخرجي من الدوار .. لا تخرجي للعراء .. للعار .. يال حقدك ".
هتاف رحيل كان أشد لتواري كسرتها :" كاذبة .. كل هذا لأنك حاقدة علي .. زوجك المصون طلقك ورمى بك لأنه لم يعد يريدك .. ".
انتفضت عينا وضاء خلف ناظرتها الطبية الشيء الوحيد الذي أعلمها أن الماضي لا يعود هو عمرها وتغيرات الزمن :" أنت حقاً كما كان جدي يقول .. لا تنصتين ولا تفهمين .. مجدي لم يطلقني .. مجدي أضعتموه .. منذ شاهدك أنت وزاهر هناك في الحظيرة الخلفية في الدوار .. ما السر الكبير الذي تخفيانه .. ما سرك مع زاهر غير هذا السر الذي كنت تتمنين محوه من وجه الأرض ".
صوت الهزيمة تجلى في صوت عنادها الهازئ :" أنت تهزين كعادتك .. ربما الوحدة في بيت الطين قد أثرت عليكِ.. مسكينة ".
ثم تحركت للأمام تحمل بيدها جانب عبائتها المنزلية الموشاة بالخيوط الذهبية فبدت فخمة .. ثم هتفت بها باستعلاء:" دعيني أمر خادمة تجلب لك طبق من طعامنا الفاخر بدل الخبز العفن الذي لم تكوني تتناولين غيره في مقبرتك ".
أمسكت وضاء مرفقها بقبضة حديدة .. توقفها بوجع ثم تهمس بتهديد مبين :" لو تفهمين لقمة مع من تحبين هي كل شيء .. هل تغيرتي مع أكلك من مال سنمار الكثير .. ها أنت مازلتِ تنكرين الحياة ".
ثم هتفت بحدة جعلت رحيل تجفل لأول مرة بحياتها :" وقتها كان مجدي قادم لرؤية راشد وجدك بالحظيرة أنت وزاهر كان معكما آخرون لم يعرفهم .. ما السبب الذي جعل زوجي يتم التضحية به .. ما السر غير أنك لقيطة .. ابنة سفاح .. ما السر ".
وضعت كفيها على آذنيها تريدها أن تصمت .. تتمنى لها الخرس ..:" أخرسي يا كاذبة .. زوجك أيضاً كاذب .. أنا رحيل دحية وسأظل هكذا .. مهما كذبت أنت وزوجك ".
لكن الصمت قد مر وقته وحان وقت الصراخ بكل شيء :" لم نكن نعلم شيئاً عن هذا لا أنا ولا راشد .. وذات يوم أعلمني جدي لماذا تكرهينني بكل البغض .. تكرهينني لأن هذا حقي .. حقي الذي حرمت منه بعد موت أبي .. كنت تتمنين أن نموت كلنا معه .. خاصة عندما اعترض جدي على زواجك من صفوان .. ثم بعد فترة ولا أعرف كيف صار قاسم يدافع عنك وكأنكما تفكران سوياً.."
حركت رأسها تأمرها بالمغيب عن دنياها :" أخرجي وضاء قبل ان أقتلك ".
قهقهت وضاء باستخفاف :" ألم تكتفي من الدماء رحيل ..".
ارتجفت شفتا رحيل وتوقف عقلها عن الدبيب .. كل ما يهمها ان تصمت وضاء ولا تتحدث .. اقتربت لتضع أصابعها على فم وضاء التي صرخت فيها وصفعتها على وجهها لتجد رحيل نفسها في الماضي عندما صفعها صفوان الجد بيد شبيهة كهذه عندما حاولت مد يدها على وضاء بالضرب .. ثم سحبها للخارج هاتفاً فيها محذراً :" إياك ومد يدك النجسة على ملكة دحية "..
هتفت به :" لماذا تكرهني جدي وتحبها فقط .. ألست أختها ".
أجابها وهو يدفعها للجدار خلفها :" لا .. لست أختها .. لا تطولينها قامة .. أنت فقط لا تصلحين أن تكوني خادمتها ".
ثم صرخ فيها :" لقيطة جلبك منذر لتكوني بيننا ".
أخرجتها الكلمة من ماضيها الأسود :" لقيطة ".
هتفت بها وضاء بآخر شيء تريده :" سرك لن يظل سراً لمدة طويلة .. سوف أبلغ راشد .. وهو سيمزق قلبك بيده .. لأني في شك أن أبي مات في هذا الحادث ليس مصادفة .. لو أتضح أنك تعلمين أنها جريمة ولم يكن قضاء وقدراً .. لن ينقذ أحد من يدي .. سأقتلع لك عينيك هاتين ولسانك الخرس يكون به أولى ".
عادت تخطو من حيث أتت .. نظرت رحيل للمكان في رجفة وجدته خالياً .. عقلها يريد منها محو هذه اللحظات ..
عادت تنادي الخادمة :" أنوار .. أنوار ".
حضرت الخادمة وما زال السلسال يتهادى فوق صدرها بفخر .. امتعضت ملامح رحيل ثم هتفت :" أريد هاتفك ".
مدته به الخادمة .. بينما رحيل تطوح لها أصابعها باستهانة المتجبرين .. لتخرج المرأة حيث مكانها الطبيعي ..
ظلت تعيد وتكرر الرقم ولكنه لا يجيب .. تهتف في حرقة :" رد يا حقير .. لن تنجو مني .. نحن نغرق ".
نعم هذا ما يجب عليها ان تفعله .. كتبت له رسالة نصية على هاتفه .. بهذه العبارة من كلمتين .. نحن نغرق ..
لأول مرة تتمنى أن لا تكون استعلت على باسم.. استكبرت أن تذهب لمنزل زوجته التي رفضت نعمة وجودها في القصر الكبير هذا .. بعد ان كان منزل طيني من غرفة واحدة وقاعة متوسطة .. كان قد رماها فيه الغالي ودفعها داخله يومها :" ستظلين هنا وحدك .. وهناك قصر الماء لعائلة الغالي الحقيقية ".
صدح صوتها بفيصل الكلام :" أنا حامل يا غالي ".
صدمة كبيرة احتلت عيناه ولكن القلب كان يحمل الغضب أكبر :" ستظلين هنا حتى تلدي .. وبعدها سوف أخذه منك .. أنت لا تصلحين أن تكوني أم لأحد .. يجب أن أبعده عنك .. انتهازية ولا يهمك أحد سوى نفسك ".
جلست فوق الكنبة الفاخرة التي تعشقها .. تمسدها بأصابعها وتهمس .. كنت أشعر أنك حي غالي .. كنت أعرف أنك لم تمت .. كرهت ابن بطني بسببك .. هو أكثر شبهاً بك .. لم يأخذ مني لمحة واحدة .. باسم ابن أبيك .. كرهتني وكرهت ملامحك وطريقة ضحكك .. لكنك لابد لك أن تحميني منهم جميعاً..

******************

بنفس الوقت **
لم تجد السيارة مكانها .. صرخت بالهواء بعربية صريحة :" أنت غبية نادين .. غبية .. لماذا صرفته ".
وجدت جوارها رجل يبدو مخيفاً في هذا الشعر الأسود والشارب العريض الذي يبدو مصبوغاً وكأن تحته رجل ذو بشرة ليست له .. مع هذه المنابت البنية اللون .. يتحدث بعربية سليمة :" نعم يا آنسة .. ما بك؟!!".
دفعته للخلف بعيداً عنها ..يبدو كرجال العصابات .. خائفة منه وهي في مكان غريب .. قبل أن تبتعد كان يمسك بيدها يمنعها الفرار :" من أنت ؟!!.. وماذا تفعلين هنا ؟!!".
همست فيه بتوسل :" رجاء أتركني .. حضرت بسيارة أجرة .. لأني كنت مدعوة للغداء .. لكن حدثت أمور تجعلني لابد لي من المغادرة فووراً ".
لا تعرف لماذا تشعر بأن الدموع تريد مغادرة مقلتيها بالفعل .. بريق عينيها جعله يدرك أنها خائفة .. ترك يدها ليقول :" تريدين المغادرة لأين ؟!!".
أجابته ببطء تنفس :" أريد الوصول لأول محطة للقطار ..".
مد لها يده بسلام تقديمي لشخصيته :" عمرو نوار علوان ".
صعدت معه حتى تغادر هذا المكان بكل ما فيه من وقاحة .. تستجمع كرامتها التي أريقت على أبواب هذه السيدة الغيور ..
لا تعلم لماذا عليها الدفاع عن نفسها أمامه .. غمغمت وهي تفرك كفيها ببعضهما :" لا تظن أني من هواة الصعود مع أي شخص !!".
ابتسم لدرجة جعلت أسنانه تشع بياضاً .. ثم تحدث :" هل صدر عني ما أخبرك أني قد أعتقد هذا ؟!!".
حاولت المكوث براحة ثم أعلنت له بعد فشلها :" لا .. لم تفعل .. أعتذر منك .. لم أقصد هذا .. لكن عندما وجدتك تتحدثين بالعربية علمت أنك في مأزق ".
لم يقص عليها أنه ظنها أحدى العميلات اللواتي من الممكن جعلهن يتفقدن آل دحية بالمراقبة ..
سألته بطريقة مباشرة :" ما عملك ؟!!.. أقصد ماذا تفعل هنا ؟!!".
أجابها بغمغمة من لا يكترث بالإجابة :" أنا هنا مع عائلتي في إجازة ".
لاذت بالصمت المطبق فكل ما فيه من غموض يدعوها للصمت ..
بعد نصف ساعة كاملة **
:" لا أصدق .. أني لم أجد تذكرة للعودة قبل الغد .. كيف هذا ؟!!".
عقد ذراعيه فوق صدره .. مهيأ لها الطريق للقبول الحتمي بعرضه الذي لم يعرضه بعد عليها :" موسم الصيف على وشك النهاية بدخول الخريف والصقيع .. لذا الجميع يغادر .. هل لي أن أقدم لك عرضاً .. تستطيعين البقاء معي في منزلي حتى الغد ".
قبل أن تنطلق شفاهها بما بدأ يظهر له في عينيها من غضب واشمئزاز .. رفع كفه لأعلى محدداً بجدية :" لست وحدي هنا .. نحن عائلة كبيرة ".
سألته لتعلم ما تريد .. وهو وجود نساء :" هل زوجتك معك ؟!!".
أجابها بحركة رفض من رأسه :" لا .. لست متزوجاً .. لكن بنات عمي متواجدات ".
تمتنع بضم يدايها لصدرها وكانها تحتمي بهما :" لا أظن أنه صواب العودة .. لدى أناس لا أعرفهم .. شكراً لك.. أفضل أن أظل هنا حتى أجد تذكرة .. ربما يعيد أحدهما تذكرته فأنالها ".
فك يديه وجلس على المقعد الخشبي الذي كانا يستندان عليه .. مما جعلها تهتف فيه :" لماذا تجلس ؟!!.. هيا غادر .. أذهب لعائلتك .. وبنات عمك .. هيا ".
لم يتحرك من مكانه فهتفت به :" لماذا لا تتحرك ؟!!.. لا .. أريدك .. يكفيني جنون اليوم .. امرأة غيور .. وبنات خال لا أعرف ما هن حقاً وهل هن أقرباء أم لا يوجد أحد بالمرة ".
مسد عضلتي فخذيه براحتيه وكأنه يمسح عنهما التعرق الغاضب .. كان الغضب ينطلق شزراً من عينيه .. ثم هتف بصوته الصادح :" عندما سمعتك علمت أنك عربية .. أثق في كل بنات بلادي أنهن شريفات .. لم أكن لأتركك بالطريق الخالي هكذا .. يخرج لك أحد الشباب السكارى وينهشك وأنت ما كنت ستستطيعين شيئاً .. لكن أنا مخطئ .. ظلي هنا في مكانك وحدك .. سأذهب أنا لبنات عمي الخياليات .. وأنت تشبثِ بمكانك وأدعي الله ان لا يخرج عليك لص يطعن قلبك من أجل أن ينال حليك هذه أو هاتفك حتى ".
بدأت خطواته تبتعد .. نظرت حولها المكان خالي خلو الصحراء من الأنفس ..شاهدت مشرد عجوز يتكوم على أحد الأرصفة حاملاً حقيبة سوداء قذرة الشكل .. تخيلت ذاك الرجل سينقض عليها خاصة عندما ابتسم لها .. فوقفت وهي تنادي بلهفة مستغيث :" سيد عمرو .. سيد عمرو ".
تدور حول نفسها فلم تجد له أثر لم تجد أمامها غير الخروج من المحطة للخارج قاصدة سيارته بالمرآب حيث تركوها ..
هرولت أقدامها تبحث عنه وتلحق به .. وجدته كانت السيارة في المنحنى يهم بالمغادرة فعلاً .. هرولت أكثر تشير بيديها بينما حقيبتها تهتز فوق ظهرها .. فلم يسمعها .. ظلت تنادي : سيد عمرو .. سيد عمرو ".
لكنه لا يسمعها .. هتفت بحدة باسمه بلا ألقاب :" عمرووووووو".
أوقف السيارة مكانها ونظر حيث كانت تقترب بهرولة شديدة تجاهه..
اقتربت لاهثة بالفعل .. انحنت أمامه تسند كفيها على ركبتيها لتنظم أنفاسها .. حتى تمالكت نفسها رفعت عينيها تجاهه لتجده ينظر لها من فوق نظارته الشمسية وكأنه ما زال ينتظر كلمتها .. هتفت بصوت متفطع :" يبدو عرضك أفضل حل".
عقد حاجبيه بشكل من يفكر بلا تذكر لكلام سابق .. ليس من عادته ولكن هناك شيء يجذبه تجاهها .. هتفت به وكأنها تدرك ما ينوي قوله :" رجاء .. لن تتركني هنا وحدي ".
أخرج رأسه وأعلى جذعه من النافذة .. يجيبها :" ظننتك لا تريدين هذا الحل ".

أغمضت عيناها على إرهاق المجادلة .. تنتظر كلمة منه .. فيشير إليها لتدور حول السيارة .. فتفعل بلا أي مجادلة .. يمد لها ورقة ما ان صعدت السيارة .. تنظر إليها لتجدها تذكرة القطار حتى لندن .. سددت له نظرتها وكأنها تريد سبه .. فتجد ضحكته الهاشة ثم هتف بخبث :" كنت أعلم .. لذا ابتعت لك واحدة للغد ".
اندفعت هاتفة :" تبدو تجيد التلاعب ".
علق بجدية :" بل أجيد التوقع .. حياتي لم تكن سهلة لذا التوقع لعبة أجيدها ".
ثم هتف :" ما اسمك لنكمل التعارف .. وما قصة المرأة الغيور التي تحدثتِ عنها منذ قليل ".
عقدت ذراعيها أمام صدرها بغضب مكتوم :" لو كنت قد سمعتني بالفعل أتحدث بالعربية ستعرف اسمي .. والمرأة لن أقص عليك ..لا علاقة لك بحياتي لست صديقي .. فأنا لا أثق بالغرباء لهذه الدرجة ".
غمغم لها بطريقة حاسمة وهو يعتمد غلق جميع الأبواب والبدأ في الحركة .. :" اسمعيني نادين جيداً. لا أؤمن أن هناك صداقة بين أي رجل وأي امرأة .. يمكن ان يكون هناك عاطفة .. أي عاطفة ومشاعر .. عداوة .. بغض .. محبة .. أو عشق .. أي مشاعر إلا الصداقة ".
كل ما يقوله يجعلها تخشاه بعد صوت إغلاق الأبواب الذي لم تغفله مما جعلها تهديه رأيها الغاضب:" حسناً أنا أيضاً لا أحبذ الصداقة مع شخص مثلك ".
نظرإليها مستنفر الإعصاب :" ماذا بي ؟!!.. بل ماذا فعلت لك حتى تخرجين هذا الرأي ؟!".
أجابته بتحد سافر :" كل ما فيك مخادع .. شعرك ومنابته البنية وكذلك شاربك العريض وشعراته التي بدأ الصباغ يذهب عنه وعن شعرك . أليس هذا خداع كما أعتقد أن ذوقك غريب لتختار هذا اللون الكئيب المخيف كبديل للونك الطبيعي ".
هتف بها خافتاً :"بداية ذوقي يهمني وحدي .. رغم أنه بسيط جداً .. فأنا اختار الأفضل دائماً .. يبدو أن خبرتك بالحياة بسيطة .. لا تدركين أن معظم الناس هم في الحقيقة أناس آخرون .. وأرائهم قد تكون أراء شخص آخر .. حياتهم تقليد وحتى عشقهم هو اقتباس من غيرهم ".
اكتفت بالتحديق فيه وكأنها تدرك ان هذا الرجل قد يبدل الحياة من حولها لكنها عنيدة لابد لها أن تهديه شيء يغيظه حتى لو كان غير ما تشعر به :" الخبرة هي الاسم الذي يصنف كل به كل شخص أخطائه .. لكن كن على ثقة أنه لو اخترت أعدائي على غير طبيعة الأشياء .. كنت سأختار عداوتك ".
لا يعرف لماذا تعجبه المشاكسة معها فضج بإطلاق قهقهة عالية .. عاد يفكر بأنه شخص ميت على شفا الخروج من القبر فصمت فجأة كما ضج بالضحك فجأة ..نظرت له بضيق من هذا الذي يجعل دمها يغلي في عروقها ...

*****************

تعلق بعض الملابس داخل الواجهة الزجاجية الملحقة بالمعرض كدأبها كل يوم في تبديل المعروضات حتى تجذب النساء في شارعها .. لم تكن بعيدة عن الناس في الشارع لتشاهد هذا الشاب السمج سُنقر .. لا تعلم ما جاء به هذه اللحظة .. بدأت تستعد للخروج من الواجهة الزجاجية .. لتجد منه تصرف لم تتوقعة .. عندما تجرأ عليها بطريقة لم تتخيلها عندما مست راحته فقرات ظهرها .. انتفضت وعادت مرة أخرى تعدل عن الهبوط على المقعد الخشبي المتاخم للواجهة المرتفعة .. ثم صاح صوتها :" ما بك سُنقر .. منذ متى تحضر للمعرض ؟!!".
يسند ظهره على الناحية الأخرى من الواجهة يضع سيجارته العريضة في فمه يمج منها شهيقاً قويا ثم ينفثه بالهواء ناحيتها بسماجة .. لم تتخليها ليجيبها وسط نظراتها الضائقة بوجوده :" هل هو حرام يا مريم .. أهو حلال لخالد وأنا محرم علي؟!!".
صدح صوتها من حيث مكانها المرتفع :"وما الذي حرمته عليك ومنحته لخالد .. يا عديم الرجولة .. هربت وقت الاعتداء في ضياعك والآن تأتي تتحدث .. عن خالد الأنظف منك ".
قررت النزول من مكانها حيث هو فقط لتلقنه درساً حتى لا يكررها بإدمانه وحقارته .. لا تراه أصلاً فما الذي جلبه عليها اليوم ..
هبطت وهي تنظر للأمام حتى لا يكررها فيمس جسدها لو منحته فرصة الاستدارة .. تهتف باعتراض :" أذهب سُنقر وأجمع نفسك قبل أن أجعل حذائي الأطهر من أهلك يهبط عليك .. وأبعثر كرامتك لو كان متبقي لك منها نصيب ".
لم تردعه بوقفتها هذه .. بل زادته تفرساً بها وكأنه يهددها بأنها ستكون له .. دفعته للخارج وتوغلت داخل المعرض تتمسك بعصا كان أبيها يحتفظ بها دائمً ليعلق بها مظلة المعرض .. أمسكتها وهو ينظر إليها محدقاً وعلى شفتيه ابتسامة سخيفة تمتلئ بالسخرية ثم عقب :" لا .. لا .. أكاد أموت رعباً .. هل تظنين هكذا بعيد عن يدي .. أنا فقط أعلمك من الآن .. قبل أن تسقطي .. خالد .. لا ؟؟ ".
أمسك بالسيجارة الغليظة التي كانت قد شارفت على النهاية فرمى بها عند قدميها بتهديد شديد .. غادرها وداخله تهديد وصل لها بطريقة مرعبة .. ظلت تنتفض لبضع دقائق .. مالت للأمام تستند على العصا بيدها .. مرت دقيقة وهي على حالها .. لا تعرف ما القادم ..
لكنه غادر ليحتك كتفه بخالد الذي كان يتحرك مقترباً من المعرض .. مما جعل خالد يدفعه بيده بعيداً عنه .. مستمراً في طريقه إليها.. وما أن وصل إليه وجدها في شحوب شديد ..
اقترب يسألها بقلق مهتم :" ماذا كان يفعل هذا المدمن هنا ؟!!.. هل أذاك ؟!!".
استقامت وبيدها العصا ثم بدأت تقص عليه ما حدث وكلأنه مرفأ أمانها :" لا أعرف خالد .. فجأة هكذا وجدته أمامي يدخن قذوراته ويحاول أن يمسني .. لكني أردعته .. ثم جلس يتحدث بكلام غريب ".
هتف بها خالد :" ماذا قال وأنا أجعله يسف تراب الشارع ؟!!".قاطعاً آخر مسافة قابضاً على مرفقها فيشعر ببرودة جسدها من هذا القميص قصير الأكمام .. لكنها حركت ذراعها لتتخلص من أصابعه مع تأثيره القوي عليها .. ثم غمعمت :" لا .. ليس هناك من داع .. لقد طردته وهذا يكفي ".
كانا متقاربين ووضعهما للرآي حميمياً .. مما جعلها تتحرك للخلف تستند على عصاها ..
دلف أبيها وجهه يقطر سواداً .. سألها :" ماذا تريد خالد ؟!!.. ألم تكن قد غادرت للوحدة !!".
أجابه خالد وهو يشتاط غضباً من طريقة الرجل معه التي اختلفت ، ولكنه أحكم قيده حول نفسه ليخرج صوته مذنباً وخجلاً :" كنت أطمئن عليكما عمي .. نعم حضرت من الطريق لقد طلب مني أنأوصل شيئاً لأحد القادة في راحته ".
حرك كفه تجاهه مشيحاً له بأمر مباشر :" هيا خالد أذهب لطريقك ودعنا .. نحن بخير ".
لم يجد غير الحركة بعد هذه الطريقة الطاردة له من مكانه سوى التنفيذ .. لوح للرجل ثم غادره .. نظر تجاهها بعد خطوات ليجدها على مكانتها تسدد النظر إليه .. وكأنها تودعه ..
استمعت لصوت أبيها يستفسر بجدية :"ماذا كان يفعل سُنقر هنا ؟!!.. ".
حاولت أن تهدئ نفسها ووقفت باستقامة صلبة.. اغتصبت ابتسامة شاحبة :" كان يرمي بلائه علينا أبي .. لكني منحته ما يليق به ".
هتف بها بحدة غير منتظرة :" خالد لا مريم .. لا ".سدد لها نظرته يريد الوصول لروحها ..
عقدت حاجبيها بحدة ووضعت العصا من يدها تسندها على أقرب جدار .. ثم عادت تستفسر :" لست أفهم ما تقصد أبي .. خالد .. ما به خالد .. ألم ينقذك أبي .. لقد وصاه بيشوي علينا ".
حك جبينه ونفض جلبابه الواسع وهو يجلس حيث مكانه أمام المعرض :" نعم وصاه بيشوي علينا .. يا ابنة المقدس ناجي .. لم يوصينا أن نحبه لدرجة الزواج مثلاً".
امتقع وجهها في شحوب .. فصارت ترتجف مكانها تقبض على سلسلة من خيط أسود سميك تحمل صورة العذراء تتدلى فوق صدرها .. ثم تهتف في أبيها :" أي زواج يا أبي .. هل طلب منك خالد هذا؟!!".
أجابها رامياً لها نظرة جانبية ليقول مقاطعاً :" لا .. ولن يفعلها .. ولن أوافق .. خالد ليس لك مريم ".
تمسد صورة العذراء مريم بأناملها هاتفة ببرود استحكم مفرداتها وكأنها تعاند مصيرها :" وهل هذا حرام والدي ".
سدد لها نظرة قاتلة .. ثم غمغم :" لا مريم .. لن أكررها .. لا تجعليني أعود لبلدتنا ".
تحركت تكمل عمها قائلة لوالدها وكأنها تمحو أي أثر سيئ :" نعود لأين يا عم ناجي .. أنا ولدت هنا .. وهنا عملنا .. دع عنك هذه الوساوس .. لا خالد تقدم ولا سيتقدم .. يبدو أنه الولد سُنقر هو ما جعلك تظن به سوءاً ".
ضرب أبيها على فخذيه :" خالد لا .. لن أبدل كلماتي ".
ثم انتفض واقفاً :" سوف أذهب لعمك زين العابدين .. له يوم لم يظهر بالشارع ".
تحرك لوجهته .. يفكر فيما سمعه من هذا الرجل الضائع في إدمانه عندما رمى عليه كلماته :" زوجني مريم يا مقدس ناجي .. قبل ان تسير على حل شعرها ".
كاد يطرحه أرضا بدفعه له داخل صدره .. لكنه توازن في ترنحه الناتج عن ما يشربه :"هو هناك معها .. لا تغضب علي .. أفرغ غضبك وأرنا رجولتك عندما تكسر له ساقه ليمتنع عن القدوم إليها ".
تم اختزال كل شيء في إليها وكأنه صار هواء.. نعم يدرك حقيقة مشاعر طفلته .. كان سيحادثها .. خجلها .. توردها .. كل شيء فيها يعلن أن هناك مشاعر ..

********

بعد ساعة **
" هل هو حرام يا ناجي ؟!!".

كان هذا السؤال الذي يخشاه .. عندما سألته له منذ قليل ..ليواري عينيه عن صديقه الذي مر بأشياء جعلته يفطن لحقائق الدنيا ..
فيتحدث زين العابدين بما يحمله :" لو حرمه الله من فوق سماوات عرشه .. لا نستطيع الجدال فيه أو المراجعة .. لكن لو نحن من حرمناه فهذا شيء آخر يا ناجي ".
غمغم ناجي بموارة لجرح قلبه المؤلم :" كيف ؟!!.. هو مسلم ".
سحب زين العابدين إحدى ساقيه المدلاه لأسفل .. يضع قدمه فوق الكنبة التي يجلس عليها .. ثم نظر حوله يجيب صديقه بإشارة من كفه التي كانت تطوف سابحة حوله :" هذا المكان لم يكن هكذا ".
نظر حوله ناجي ولم يفهم ليهتف :" ما به المكان يا زين .. أنه نظيف كالفل الأبيض ".
حرك صديقه رأسه بأسى :" نعم .. نظيف .. ضربتها ونظفته .. قهرتها وهي التي صارت تأتي كل يوم تحضر لي الحمام بل أحياناً تفرك جسدي بنفسها .. حتى الكنبة هذه كانت كلها علب وقاذورات .. كنت حيوان في مكان خرب .. لتسامحني وتحسن إلي بل تنظفني أيضاً ".
حرك ناجي رأسه بعدم فهم مستفسراً :" تقصد شروق .. ما علاقة هذا بهذا زين العابدين ".
علق الرجل وهو يأخذ مسبحة كانت على المنضدة الجانبية يرفعها بين أصبعيه ويمرر حباتها بالدعاء :" من كان يصدق أني سأصلي ذات يوم .. من كان يتخيل مجرد خيال أني سأسبح لله .. كلما تذكرتها .. هي من جلبت لي هذه وأمرتني أن أسبح كلما تذكرتها .. كنت أعتذر لها فطلبت مني الدعاء لها خلف كل تسبيحة .. هذا هو الفرق ناجي ".
تنهد ناجي ببطء بينما يرسل زين أنفاسه بعمق يدفن معها أحزانه مستطرداً :" نحن نقتل أولادنا ونعلن أن هذا لصالحهم .. نحن فقط من نعرف مصلحتهم ".
أسند رأسه للخلف ثم استمر :" لو كان خالد من يسعد مريم .. زوجها له .. فأنت راحل عنها وتحتاج لأحد تستند إليه .. ربما يكون هو الأفضل .. فالقلوب لها مالك واحد هو الله في عليائه .. لا نتحكم نحن فيها .. الزواج ليس رجل وامرأة بلا مشاعر .. الزواج هو أسمى علاقة للحب وأنظفها .. أنت خائف على نفسك من الكنيسة أيضاً .. دائماً هناك متشددين بأي دين أليس كذلك ؟!!".
مد ناجي أصابع يديه مرتين متتاليتين ثم ضغطهما مع بعضهما معترفاً :" نعم يا زين العابدين .. هناك دائماً من يعتبر نفسه وصياً .. هؤلاء قد يقتلونها ".
" وأنت ماذا ستفعل ؟!!".
سؤال حلق في سقف الغرفة ثم حط على عقله كحجر سميك .. ظل صامتاً فترة تخيلها دهراً وهي دقائق معدودة في عمر الزمن .. ثم نطق :" أخوها عندما يعود قد يؤذيها .. وسنجد عشرات الرجال من ملتنا يتقدمون لها .. سوف نواجه حرباً ضروساً ".
هتف صديقه بإجابة من يتحسر على ماضيه :" صدقني الحرب الخارجية أقل من حربك مع نفسك .. ستظل طوال أيامك تفكر لماذا فعلت هذا وحسرت ابنتي في قلبها .. حارب مع ابنتك أفضل حتى لا تحارب ضدها .. نحن نرهق أولادنا بحجة المصلحة ونحن في الحقيقة لا يهمنا سوى أنفسنا ".
شرود .. جمود حط على قلب ناجي .. صغيرته التي كان دائماً يتمنى رؤيتها في ثوب زفافها الأبيض في أكليلها تتزوج من شخص يغاير ديانتها .. صعب ولو وافق بسبب قلبه اللين .. لن يوافق أحد من عائلته .. أعمامها وأخوالها سيظهرون الآن ..
ليجد صوت صديقه يهديه :" لا تخشى .. خالد لن يتقدم فأمه قاسية هي الأخرى من فعلت بابنة أختها ما فعلت .. لن تترك ابنها بيد امرأة على غير ديانتها ..
هتف ناجي بجدية :" تعتقدوننا كفرة يا زين العابدين !!".
ليجيبه صديقه بنفس الإجابة :" وأنتم كذلك تعتبروننا كفرة ولا تصدقون بأن محمد خاتم النبيين .. ونحن نعترف بعيسى عليه السلام وأمه العذراء نبياً ورسولاً وكلمة الله لمريم الطاهرة ".
طوح كفه بمسبحته وهو يقول :" لم أسألك عن خصائص دينك ولم أجادلك وأنا أصلاً آخر من يفعل هذا .. لست داعية ولا أعرف هذا .. لكن الذي أعرفه أن كلا منا سيقف أمام الله يحاسبه على كل شيء .. وهو الوحيد الذي يحاسبنا ولا أحد آخر .. دعنا من نقطة الدين هذه .. لست أفضل من يتحدث فيها .. أنا أتحدث عن الأولاد .. لا تظلم مريم كما ظلمت شروق .".
مد ناجي يده يمسد يد صديقه ويأخذه بين راحته كسلام معقباً :" عهد الله بيننا يا زين العابدين .. لم أحب أكثر منك أنت والحاج ناصف والأستاذ سليم .. كل أصحابي وصحبتي أنتم .. وعندما توجعت من خوفي على طفلتي حضرت إليك .. فقد كنت أقربهم لنفسي من زمن .. أنت وأبو أسما تغمد روحه مع القديسين ".
شدد زين العابدين على يد صديقه مجيباً :" أتعلم يا ناجي .. عندما طعنتني شروق .. كانت خائفة مني .. وقتها علمت أني قتلت ما بيننا من صلة رحم .. عندما اتهموني بأني من ضمن التشكيل العصابي بتجارة الأعضاء .. قلت الله ظلمني كما ظلمتها .. لكن الله لا يظلم .. هو رزقني بهذا الاتهام حتى أشفى من القذارة التي كنت فيها .. نحن فقط الظالمون .. نظلم أنفسنا ونظلم معنا أولادنا .. ربك رب قلوب يا ناجي .. لقد جعلني الحاج ناصف أتوب لله وأعود فأصلي وشروق أحضرت لي جهاز به القرآن استمع له وابكي .. كنت ظالم وهي لم تتركني .. ظلمتها وجلبت عليها كل المشاكل حتى هاتفي عندما سرق كان بحيلة مدبرة من بنت سليم .. شيطانة من ظهر ملاك كيف هذا .. لا أعلم ".
انتقل ناجي لجوار صديقه على ذات الكنبة النظيفة :" الله يمتحننا يا زين العابدين .. كلنا خطايا".
عاد زين العابدين يسند رأسه للجدار خلفه ويترك لعينيه العنان فتهبط دموع حارة على وجنتيه جعلت صديقه ينظر إليه فزعاً :" أتبكي زين ؟!!.. لماذا؟!!".
لم يحرك ساكناً ليمنع دموعه .. ثم تحدث بهمس قانط :" أتظن الله سيجعلني من يسكنون أي زاوية في الجنة حتى لو نمت على أرض أي بستان بها ؟!!.. هل سأطأ أرضها بقدمي ؟!!.. أم سأظل في نار جهنم وقتاً طويلاً ؟!!".
ربت على ركبته المنتصبة تحت مرفقه لذي ينتهي بالسبحة تشهد بتسبيحه ثم هتف به :" تسأل آخر شخص قد يجيبك يا صديقي .. حضرت إليك يا رجل تعينني لأجدك على هذه الحال .. من منا بلا خطيئة يا زين العابدين .. السماء رحبة العطايا والرب سيمنحنا العفو لو التجأنا إليه .. وأنت صرت رجل جيد .. لا تترك الصلاة .. ثم قلبك نفسه تبدل .. عدت مثلما كنت بالماضي قبل زوجتك .. ".
ليهتف زين العابدين :" هي أكبر ذنوبي يا أخي .. أكبرهم .. لو أستطيع إعادة الزمن للخلف .. لا كنت تعاطيت شيئاً .. لكن ..".
ربتة صديقه على ركبته كانت هي الفيصل ليصمت .. فلا أحد يملك القدرة على محو أخطائه ولا هناك وسيلة لإعادة الزمن للخلف .. لكن هناك التوبة والباب مفتوح لمن يملك نفس لوامة .. ترفض استمرار الأخطاء .. همس ناجي :" لا بكاء على اللبن المسكوب .. المهم ما أنت عليه عوضها يا زين العابدين ".
أطرق برأسه صامتاً .. يتنهد يزفرة حارقة .. وكأنه اكتفى ..
طرقات على الباب تلاها فتح الباب بمفتاحه .. ليهتف زين العابدين .. معلناً لصديقه :" شروق وحفيدي .. مهذبة دائماً ..تطرق الباب ثم تفتح ".
دلف مازن يقفز قبل أمه :" جدي زين .. لقد جاء معنا جدي ناصف ".
دلف الرجل الكبير بوقاره تحت مساعدة من زوجة ابنه التي تسند مرفقه .. هاتفاً :" لمتى ستظلون تعاملوني كأني عجوز أوشك عل الفناء ".
هدهدته بصوتها:" أبعد الله الشر عنك يا أبي .. أنت ما زلت ترى بإزدواجية .. تستوجب البقاء في الفراش .. لكنك عنيد ".
ثم ابتسمت للرجلين الذين أنهيا استقبال الصغير ": السلام عليكم .. أبي وعمي ناجي .. منذ شاهدك مازن تغادر المعرض وقال عمي ناجي ذهب في اتجاه منزل جدي زين .. ".
ليجيبها الرجل :" مازن هذا قطعة من الحلويات ".
سحب ناصف مرفقه ليسلم على الرجبين .. ثم يتحدث بجدية :" هيا دعينا ولا تعودي لتأخذيني .. سأعود مع ناجي أنا ومازن .. أذهبي لزوجك في المعرض ".
علقت بلهفة معترضة :" سأضع فقط براد الشاي وعمي ناجي يعده لكم .. وأنا سأغادر حاضر ".
جلبت صينية بها عدة الشاي كاملة من المطبخ .. أشعلت الموقد الصغير تحت البراد المملوء بالماء .. تركتهم وهي تطلق السلام ..
ليرد عليها الجميع فيقفز مازن خلفها لتقبله ثم تغلق الباب .. تحدو حذوها لتلحق بقرة عينيها مع ابتسامة راضية تتحلى بها.

*****
بعد نصف ساعة كاملة **
كان كل منهم علم ما بقلب صديقه .. ليجيب ناجي عن شكوى ناصف : لم يقصدوا تقييدك ناصف ..أنه الحب والخوف عليك ".
ليكمل زين العابدين :" أنت تستحق العناية بك يا رجل .. زوجتك وأولادك حتى ابنتيك اللاتين تعشقان ابوتك .. كل هذه نعم أنت أهل لها .. منحت بأعطاك الله .. ثم يا رجل .. هل ستأخذ زمنك وزمن غيرك .. نحن عجائز يا ناصف .. نحن ورابعنا سليم المختفي من يومها ".
سدد ناصف لناجي نظرة معاتبة :" هل كنت تبخل علي لو خطبت لمريم لأحد من أولادي ناجي ؟!!".
أجابه ناجي بابتسامة ضيقة وقبل أن ينطق بشيء استطرد ناصف :" لم نشعر مع بعضنا أن هناك اختلاف.. ربما الحياة والسياسة هي مافرقت أولادنا لكن بالنهاية عادوا .. رسولنا الكريم وأشرف المرسلين محمد .. كان يعتمد الزواج ليقوي الأواصر بين الجميع .. فكان من بينهم رابط مصاهرة هم بمثابة الأهل .. أن إحدى زوجاته وأم ابنه ابراهيم هي السيدة مارية .. الوضع الحالي ليس هو الشرع ولا القربي .. فما كان محرم بالماضي يبقى محرم .. اليوم نحن من وضعنا هذه الحدود .. أن كنت تخشى الازدراء والعزلة من أهلك .. فأعتقد أنك في عزلة منهم .. وأن كان هناك انتقام أو شيء .. سنعقد لها العقد في القسم حتى نضمن الحماية لو حدث وتقدم لها خالد الذي صار بطل منطقتنا .. هو وتيمور .. والله لو كان لدي ابنة ما كنت اخترت لها أفضل من أيهما .. وخذ في بالك لو .. فكل هذا الكلام هو مخاوف نفس يا ناجي "
ضج زين العابدين بالضحك :" كنت أقول له نفس الكلام .. فأم خالد ومكي ومشاكلهما .. لن تجعل لهذا الشاب حياة مستقلة ".
تحرك ناجي عندما قفز مازن يهتف :" فار .. فار ".
بينما ضج زين العابدين عندما وجد ناصف ينتفض مكانه صائحاً :" أين مازن ؟!!..أين؟!!".
حضره صوت ناجي وهو يصب الماء لعمل أكوب الشاي :" يقصد الماء داخل البراد ناصف .. ليس بفأر حقيقي ".
اقترب الصغير من جده ليوضح له مقصده :" الماء تساقط على الشعلة فأطفأها جدي ".
أطبق الرجل عليه بيديه يحتضنه بقوة :" تعال يا حبيب جدك .. احتضنني بيديك هاتين ".
ففعل .. بينما صوته يصلهما :" هذا الطفل .. نعمة من نعم الرحمن علينا .. ظل جالس جواري حتى أفقت ".
ابتسم زين العابدين وهو يؤكد :" هو حفيدك يا ناصف .. شروق تحبك أكثر مني .. أشعر أنها تعاملني مرضاة لله وليس عن حب ".
عقد ناجي حاجبيه بينهما .. وهو يقدم أكواب الشاي :" أظنها أن هواجس شيطانية في قلبك زين.. شروق لا تفعل شيء مثل هذا هي طيبة ومهذبة ".
وجد صوت زين العابدين يحلل :" ليتها تركتني .. لكنها تجاهد من أجلي .. وأنا لا أستحق ".
غمغم ناصف :" عندما تجد هذا الهاجس توضأ ثم صلي لله نافلة .. فهذا ندمك يا صديقي .. وليس فعل شروق التي حتى لو كان من أجل مرضاة الله لا يعيبها .. بل سيثيبها الله عليه ".
هتف ناجي بهم :" هيا اشربوا الشاي لنذهب لسليم حتى يخرج لنا .. كفاه اختفاء من الدنيا ".
كم من أمنيات عاشوها معاً.. فصارت ذكريات والذكريات تثير الشجون .. للقلب بالصداقة الحقة خفقات وفي الصدر زفرات تفهم وقلق ..

**********

تصعد على الدرج تكاد تنحني وتنكفئ على وجهها تهمس مرهقة :" لم أكن أعلم أن المنزل كبير هكذا .. كنا أخذنا معنا نساء أكثر .. الحق يقال أم أسعد اجتهدت معنا .. شفا الله لها ابنها ".

تسند أمها من الخلف هاتفة :" هيا نبراس لقد تعبت وبطريقتك هذه سنصعد في ساعات .. ولا تقلقي بالاً .. غداً آخر يوم في الترتيب .. فغرفة النوم الجديدة ستصل غداً ".
لتجيبها أمها بعتاب :" لم أكن موافقة على تبديل غرفة النوم .. طالما ليست هي غرفته مع ميادة هذه .. الوقت ضيق يا كوثر ".
ربتت على ظهر أمها .. وحاولت الخطو بجوارها حتى تتجاوزها بالحقائب البلاستيكية التي تحملها .. لتغلق الموضوع نهائياً :" لا تقلقي أمي لم نتخلص منها نهائياً .. فقط نقلها وسيم لغرفة أخرى .. كان بها غرفة الطعام التي نقلناها للبهو .. لتكون غرفتك يا جميلة .. هل ظننتِ أني قادرة على الحياة بعيدة عنك ".
هتفت فيها أمها بجدية مطلقة :"لن أعيش خارج منزل عاصم .. سواء هنا أو هناك بالبلدة .. يكفيني أن أطمئن عليكما أنت وجواد ".
صوت إجلاء حنجرة رجولية .. جعل كوثر تنظر لأسفل الدرج بالطابق السفلي لتجد الرجال .. هتفت بحميمية :" مساء الخير أعمامي .. أرجو المعذرة اليوم أمي أجهدت نفسها في العمل بشقتي أنا ووسيم ".
لم تمنح نبراس أحد الفرصة ليسأل بل راحت تعلمهم داعية :" زفاف كوثر ووسيم في نهاية الأسبوع وكلكم مدعون أنتم أعمامها ".
لتسمعا التهاني والتبريكات من الرجال فيسأل مازن بلهفة أطفال :" هل سأحضر جدتي نبراس ".
نظرت له كوثر بحنين عميق من تهرول خلف أمل غريب .. فقيد .. بحنان أم :" طبعاً ستحضر .. أنت وأمك والأستاذ فهمي أيضاً ".
ثم أتبعتها بكلمات بسيطة :" ما رأيك مازن .. نحن شباب نصعد نحن بدلاً من سد الدرج هكذا .. عندي قالب كيك كبير .. نأكله حتى يصعد أجدادك لهم ".
نظر الصغير لجده ناصف الذي دفعة دفعة خفيفة .. فتحرك معها صاعداً .. بدأت السيدة نبراس الحركة مضطرة لتجعل الدرج خالياً من أجل الرجال .. ودار حوار عن سليم .. أخبرتهم :" إنه يغلق بابه على نفسه حتى عمله لا يذهب إليه .."
حادثها ناصف بمقتضى عهد الصداقة :" إنها الإجازة الصيفية وهو لا يأخذ جدول كامل من زمن .. أنه معلم ذو قدرات خاصة .. لا يمكن ان يستغنوا عنه أبداً .. سيفيق لنفسه حاجة نبراس ".
كانوا قد وصلوا لشقتها بينما هتف ناجي :" هل من أخبار عن السيدة فرسان وأبيها السيد راشد .. منذ أذاعت القنوات أخباره وانقطعت الأخبار بالجديد ".


كان قد لاح في عيني ناصف عدم المعرفة .. لكنه صمت ليعرف ما غمض عنه .. فكانت إجابتها :" فرسان الحمد لله بخير .. لم يستطيع جواد العودة بها سريعاً حتى لا يضر ضغط الطيران بالجنين ..ووالدها بخير حال .. أزمة قلبية ومرت على خير الحمد لله .. هو بفرنسا من أجل الجراحة ".
راحة اكتنفتها أن توصل الأخبار بهذه الطريقة المبررة حتى تمنع أي لسان أن يلوك سمعة كنتها .. تحمد الرجال لهم بالسلامة .. سألها ناجي وهو يعلم ما بنفس تلك المرأة :" وزوجة جواد حامل بأي شهر ".
ابتسمت له شاكرة ثم علقت بإرتياح :" بالشهر السادس .. أظنها بأوله .. ستحضر لتلد هنا بيننا ".
كانت تقف في مدخل شقتها ثم حاولت معهم أن يتفضلوا بالدخول .. لكن الجميع أعتذر منها .. صعدوا لأعلى .. دلفت شقتها مع حرصها على تترك باب الشقة مشرعاً .. كما اعتادت ..
استدارت للخلف لتجد ابنتها تضم الصغير لصدرها .. وتضج بالضحك .. وكأنها تلك الصورة التي تنقصها .. صورة تكاد تكون مستحيلة في هذا العمر .. فقد شارفت على سن اليأس ..أنى لها في طفل بهذا العمر ..
هتفت كوثر:" ياه يا أمي الأطفال نعمة حقيقية .. مازن أزال عني عناء اليوم .. ظريف جداً.. مهذب .. خفيف الدم ".
لتجد منه كلمات جعلتها تدرك أنه يفهم ما يحيط به :" شكراً لك خالة .. أنت طيبة .. والكعك من يديك لذيذ جداً .. سوف أطلب من أمي أن تعرف الطريقة من سيادتك لتصنعه لي ولبابا فهمي ".
مالت عليه كوثر تحتضنه بقوة .. ثم هتفت بتمنياتها الوحيدة في هذه الدنيا :" هل تظنين يا أمي قد يحدث وأنجب ؟!!.. كم أتمنى هذا جداً ".
رنا لها صوت الشجون في كلمات أمها :" الله قادر يا ابنتي على كل شيء .. ".
ثم أرادت الفرار من هذا المكان حتى لا تقول لها ما يربك حياتها .. خائفة أن يفرغ الأجل ويموت السر معها .. حتى هذا السر لابد له أن يعلن .. حفظاً لحق جواد في أمه .. وحقها فيه .. والعمر لم يعد الباقي منه مثل الماضي .. هتفت :" أريد الصعود لسليم أدعوه على زفافك فهو خالك وأحق الناس بالحضور .. وأفضل الآن لا أريد التحدث معه وحدنا .. لن أستطيع مواساته في المصاب الذي حاق به ".

سألتها كوثر :" هل هناك شيء جديد ؟!!.. لا أعرفه ".
مالت برأسها للأسفل تتدلى يأساً بانكسار :" نعم هناك شيء كنت أواريه عنك .. اليوم صباحاً جاء خطاب من المنطقة التعليمية .. انت تعلمين الجميع يطرقون بابنا .. فتحت لأحد أحدهم يسأل على خالك .. كان معه استدعاء ليمثل للجنة التحقيقات في المنطقة التعليمية لسؤاله عن حقيقة انتماءه الديني .. هذا ما علمته من الرجل .. أرسلته لأعلى .. وأغلقت الباب ".
حدقت كوثر بقوة في عينا أمها التي فرت من النظرة المتهمة ثم هتفت :" ماذا كنت سأفعل له ولهناء.. موقعه حساس هو مربي ويربي نشأ حتى لو مدرس رياضيات .. لكنه يتعرض لشباب في المدرسة .. لابد لهم من معرفة ما قد يبثه في عقول الفتيات ".
أنزلت كوثر مازن من أمامها على المقعد وجعلته يجلس على مقعد منفرد .. منحته طبقه الذي كانت تطعمه منه بحنان أمومي .. ثم هتفت لأمها :" العائلة وجدت لهذا .. الهروب لن يفيدنا .. ولن يساعده .. سوف أصعد لخالي عندي له عدة كلمات يجب عليه أن يسمعها ويجب علي أن أقولها له ".
لم توقفها أمها فلابد لأحد أن يجذبه مما هو مقبل عليه .. أن كانت ابنته خذلته هذا ليس معناه أن يتوقف عن الحياة ..

************

صعدت للطابق الخامس الذي لها فترة لم تصعد إليه ولم تطرق بابه منذ هذا اليوم المقيت الذي وقفت تهددها بما لديها من معلومات .. وما زالت تضيق أنفاسها كلما صعدت هنا .. كلما تذكرت انكسارها أمام نظرة جواد الكارهة لها .. أخيها الصغير الذي ربته بين يديها منذ كان رضيعاً .. حتى بالتعليم كانت معه .. وعندما انتقلت للعمل بالعاصمة جلبته معها في أول فرصة تعليمية .. وقتها نظرته أبلغتها العداوة ويده صفعتها .. منحته المبرر لتصرفه .. فهي تستحقه ولكنها تضيق للآن مع الذكري ..

أخيراً امتصت تلك الدمعة التي تريد الفرار .. فمنعتها

الهبوط .. طرقت الباب فتحرك تحت أصابعها .. مدت رأسها تطل للداخل .. وجدت خالها يقف بترحاب منقوص البهجة .. ليس كونه لا يحب لها الخير ولكن لظروفه الخاصة :" مبارك كوثر .. لتوه عمك ناصف يبارك لي .. مبارك أخيراً كوثر ".
اقتربت للداخل لترمي نفسها في أحضانه بوجه متورد هاتفة بنبرة خجولة :" أخيراً خالي.. عندما حضر النصيب خالي ".

أجابها وهو يشدد عليها ذراعيه :" كل شيء قسمة ونصيب كوثر .. تفضلي بالجلوس ابنتي ".
لأول مرة يقول لها ابنتي هذه .. نظرت إليه متفرسة بشدة في قسماته لتجد الشيب ملأ شعره أضعاف وظهره انحنى فظهره سقط بين كتفيه التي صارت نحيلاتان بقسوة .. جلس يضغط على ركبتيه براحتيه ليتوازن وكأن ساقيه ما عادت تحملانه .. هتف بجدية من يريد شيئاً :" خالي ".
نظر إليها بحدة وكأنه يعلم ما تريد قوله .. ولكنها ستقوله مهما كان الثمن :" هل تريد أن ننفرد أم أتحدث هنا أمام أهلنا ؟!!".
هتف بعد إطلاق تنهيدة حارة تحمل من زفرات اليأس الكثير والكثير :" لم يعد هناك فارق .. لقد فضحتنا وانتهى الأمر ".
جلست كوثر تنظر للرجال حولها ثم بدأت تعلن لهم جميعاً:" خالي وصله اليوم خطاب من مديرية التعليم أعتقد أنه تخيير بين البقاء على قوة الوزارة لكن بمهنة لا تتصل بالتعامل مع الطلبة .. وهذا أظنه بسبب وشايات .. هناك من يريد أخذ مكانك بالمدرسة ".
أجابها بهدوء تمكن منه :" لقد اتصلت بمدير المدرسة أطلب منه تقديم طلب باسمي للمعاش المبكر .. انتهيت من هذا وأنا في منزلي .. لم يحاول الرجل أن يثنيني عن الرحيل ".
هتف العم ناجي :" اثنان يرتاحان عدما تخرج من المكان .. المدير المقصر وزوجة الأب ".
ضج الرجال من التشبية الذي قاله صديقهم .. بينما ضحكت معهم كوثر لتقول لهم :" هناك شيء أريد عرضه عليكم .. مشروع سيقام في قطعة الأرض القديمة التي أصبحت مكب للنفايات وموقف للسيارات .. تلك التي قريبة من المنطقة .. شيء سيجلب الخير لنا جميعاً .. أريد من الجميع أن يشارك به لأنه مشروعهم ..
قصت عن المشروع وكيف سيكون مربح للجميع .. جالب الخير .. بدأت بخالها :" أريدك معي يا خالي مديراً للمجمع التعليمي كله نهاراً .. ومدير لفصول محو الأمية عصراً ".
ليتحدث إليها ناصف بجدية :" المشروع مهم جداً وسيفيد الجميع .. لكن ماذا نفعل نحن فيه .. خالك مدرس وهذه وظيفته .. لكن نحن ".
قاطعته قائلة :" بدونكم لن أستطيع النجاح .. نريد عمال .. نريد كل المهن فيما بعض .. عروض لك المشروعات .. نريد أشخاص نثق فيهم .. حتى لا يتم التلاعب بنا .. وأنتم من ستوصلونا لهؤلاء ".
أجابها ناجي دليل على فهمه :" نعم فهمت .. عن جانبي سيكون كل ما تريدين من ملابس دراسية وكذلك أي شيء من ستائر ومفارش لقاعة الأفراح .. أعرف كل أصحاب المصانع .. سيكون لديك كل ما تريدين بالوقت المحدد ".
انتهت من الحوار العملي وقبل أن تترك خالها قالت له :" لم تجبني خالي .. لذا سأترك لك الفرصة لتفكر .. لكن أعرفها مني لم تكن أب سيئ .. بل أب سيئ الحظ .. يسر كانت عاقة وأنا سهلت لها جزء من هذا العقوق .. أدعو ا لها أن تسلم نفسها قبل أن تتورط أكثر .. هي جامحة تهرول خلف الشيطان بنفاثة ".
بدأ الرجال يتحدثون معه في نفس الاتجاة :" ربما لو تبدلت حالك تعود إليك تطلب السند والعون ".
كانت كلمات ناصف الذى أبدى لصديقه مساندة قوية .. وقفت تاركة إياهم خلفها .. أصدقاء حقيقيون يضيفون شيئاً مميزاً بكل تفاصيله لحياته .. فالصداقة ملح الحياة .. لا طعن للحياة بدونهم ..
لا يستطيع اللسان أحيانا التعبير عن كل مافي النفس إلا إليهم فقط .. هم حديث الروح ..
هتف زين العابدين :" لسنا من هؤلاء الذين يجلسون في المنازل .. هيا يا سليم نهبط ونجلس على القهوة كما الماضي ".
أطاع سليم الطلب ودلف للداخل يبدل ملابسه ليجد هناك تقضم شفتيها بغيظ :" الآن صارت سيدة أعمال .. أليست هذه من ورطت طفلتنا معها ومع خططها ".
نظر لزوجته يبعدها عن طريقه ليبدل ملابسه ويرتدي جلباباً مكويا يصلح للشارع .. لكنها عادت تجذب ذراعه هاتفة :" الكل سيعيش وابنتي من ستسقط وحدها ".
نفض كفيه في بعضهما :" انسي يسر .. انتهت .. بعد الدم لم يعد هنا من حل .. حتى لو سلمت نفسها لن يتركونها .. من عاونتهم لن يتركوها تفلت لترشد عنهم .. الشيخ تيمور قيد التحقيق .. للشبهة أيضاً .. لن يتركوه سيحاولون قتله قبل ان يرشد عنهم ".
عقدت حاجبيها بقوة لكنه هتف فيها :" ما زلت أشعر أنك تعرفين عنها شيئاً .. أنت هادئة جداً .. ستظلين تحمينها حتى تقتل أناس أكثر .. ضاعت فلا تجعليها تضيع بشر أكثر يا هناء ".
مد يده لطرف جلبابه جذبه ثم ارتدى الأخرى .. بينما هي تصب جام غضبها عليه :" نسيت ابنتك يا سليم ".
أجابها بضيق :" بل هي من نسيتنا .. لم تعمل أي حساب لنا .. لقد رأتني أسقط أرضاً ولم تقف لي .. شاهدتني وتركتني .. ليت هذا عن عقيدة كنت أرتحت .. لكن عن غرور وانتقام هذا ما يعذبني لأنها لن تترك انتقامها الفارغ .. ابنتك حتى انتقمت من شروق .. كانت تريد حرمانها من ابنها بأن يأخذه أهل أبيه .. لماذا تفعل هذا ؟!!.. هي الخاطئة .. خانت زوجها ".
فركت هناء كفيها ثم قالت :" شروق خانتها .. سلبتها زوجها ..".
ضج الرجل بضحكة خشنة :" هل تصدقين نفسك يا هناء ؟!!.. ابنتك لم تحب أحد وتريد ان تنتقم لكل من يقع تحت تأثيرها .. لكن الذكي فقط من يجعل الناس يتأثرون به .. بروحه فقط .. وليس بحقده وغروره ".
تركها وغادر بعد أن وضع قدميه في الخف الجلدي الأنيق ليغادر هذا الجب الذي دفن فيه روحه طويلاً من أجل طفلة

لم تنظر إليه .. ولن تفعل ..

******************

" أمي مريم فقط هي من تصلح زوجة لي ".

لم يدرك أن ما ستفعله هو التصرف الذي تملكه أمه .. صفعة قاسية على وجهه .. كانت هي ردها الوحيد .. نظر إليها وبعينيه انتفاضة صعبة المراس .. ويده ارتفعت لتمس خده ..
بينما هي وقفت في جمود ترتجف وكأنه سيمد يده عليها .. لم يجد شيء يفعله سوى جمع ملابسه جميعها في حقيبته الظهرية التي كان قد حضر بها .. ليعلن لها :" يبدو أنك الوحيدة التي تظن أني لم أصبح رجلاً.. سأظل هناك بالكتيبة حتى أنهي فترة تجنيدي .. لن أعود حتى تعلمي أني رجل ولم أعد هذا الصبي الغر الذي تسيره أمه كما تريد .. كفاك ظلماً يا أمي ".
عقدة حلت بلسانها فلم تجبه .. أو حتى تتمسك به .. ثم انهارت بمجرد سماعها صوت باب شقة أختها يغلق بطريقة وحشية رجت المكان كله .. دلفت له أم أسما تهرول وجدتها تجلس أرضاً باتنهيار كامل .. تضرب على صدرها براحتها وتضع راحتها الأخرى على رأسها .. هاتفة بما يشبه الولولة :" ألحقيني أختي .. يريد الزواج من مريم .. لم يجد غير مريم ".
صدمة طفيفة حلت بأختها ولكنها سرعان ما تجاوزت هذه الصدمة لتعقب :" ما بها مريم .. ابنة الشارع وهي في أدب وأخلاق .. لا يستطيع أحد أن يقول أنها ذات سيرة سيئة .. الفتاة نظيفة .. ستتجاوزين هذا يا حبيبتي .. ستدركين أنها الوحيدة التي ستسعده طالما تعلق بها قلبه ".
هتفت من مكانها بحدة :" أحفادي سيكونون أقباط".
أجابتها أختها بجدية :" لا الأولاد يكونوا تابعين لدين الأب .. لكن حتى في هذا هناك أقوال .. كانت صغيرتي ياسمين تقرأ لي عن الألحاد الذي تفشي بين الشباب منذ بداية الثورة ..وأعوذ بالله منه .. هل أحد يضمن غده .. ابنك سيعلمهم ما يتعلمه من الحياة ولا تخافي خالد تغير وصار لا يترك فرض الله يكون أولاده مثله .. منذ جرب الموت تغير .. وهو صادفه مرتين في مسافة قليلة .. فكري حتى لا تفقدي ابنك هذه المرة ".
تركتها خلفها جالسة مكانها على الأرض .. كلمات أختها ضربت عقلها بحدة ... لكنه داخلها شيء ستحاول فيه حتى تبعدها عن ابنها .. لا تعرف أن مريم ذاتها لا تعرف عن هذا الحديث شيئاً.. هو الذي فهم من لمز سٌنقر وكلمات ناجي الكثير .. علم أنه صار مكشوف للجميع .. مشاعر بلا غطاء يواريها .. فأن كان هناك معركة لابد له من معركته .. معركة المحبة معركة تليق بمريم .. يجب ان يكون فارسها ..

************************

عادت بقدمي يملأهما الطين وهناك بقايا رغيف خبز في يدها التهمته التهاماً .. حتى لا ترفضها العين المتلصصة عليها .. منذ وضعت قدمها في الشارع التجاري .. تتحرك وتسير تدور من شارع لآخر حتى تعود وتدلف للمرآب القريب من ذات النقطة التي كانت تجلس بها منذ قليل .. تراقب المكان كله لتدلف خلسة لسيارة المراقبة الكائنة في المرآب القريب من موقع العملية .. نزعت شعرها المستعار بسواده وتهتف في زملائها :" هل تم تسجيل كل شيء بوضوح ؟!! ". مكملة بحيوية مختنقة :" إياكم وكلمة لا .. لن أجلس هذه الجلسة يوماً أخراً".
أجابها زميلها بابتسامة منتصرة :" نعم كله وهناك الآن أحد العناصر يراقب هذه السيدة التي جلستِ جوارها .. لكن كيف تناولتِ من طعامها جسور ؟!!".
أجابته بجدية :" ماذا كنت سأفعل ؟!!.. لو رفضت كنت عرضت العملية للكشف .. هؤلاء طرقهم هي التقرب والأسئلة .. لقد أعتصرتني بأسئلتها حتى أطمأنت لي .. فلي عدة ساعات أجلس مكاني وأمد يدي .. أتعلمون ماذا قالت لي ؟!!".
أجابها زميلها بابتسامة :" نعم .. تريدك أن تؤجري طفل وتحملينه حتى يشفق عليك الناس فيمنحوكِ صدقة أكثر كما يحدث معها ".
علقت لهما :" هل هناك من سيوصلني للمكتب ؟!!.. أجابها أحدهم نعم .. قفي هناك خلف الستائر وبدلي ملابسك وسوف أخذك بالسيارة للمكتب ".
تحركت لمؤخرة السيارة وجذبت الستائر الداخلية وجدت ملابسها كاملة .. عمدت على تنظيف قدميها ووجهها بالمناديل المبللة حتى تزيل هذه الأوساخ جميعها .. تشعر بأن هناك أطنان منها عليها .. ليت هناك وقت لديها كانت ذهبت للمنزل لتستحم ..
أخيراً خرجت من مكانها ليلاحظ الثلاثة زملاء أن قدمها ما زال به بعض البقاع الطينية .. ضج أحدهما بقهقة :" أتمنى رؤية وجه سيادة الرائد وهو يراك بهذه الأقدام.. أظن أنها أول مرة تمس قدميك الطين."
جلست مكانها تكظم غيظها حتى في عملها سيظل اسمه ينطق أمامها .. أخرجت من حقيبتها المناديل المببلة مرة أخرى وعالجت الموقف لتزيل ما بقى من بقع حتى تذهب المكتب فتغسل أقدامها ..وسط ثورة غضبها .. ثم أخرجت العطر الغالي لتنثر على أقدامها بعض الزخات حتى تثير ضيقه فقط .. وقفت مكانها هاتفة :" أظن ملاحظتك عن الرائد هادر غير مجدية .. نحن في عمل وهو سيسعد مع باقي القادة عندما نرسل إليهم ما حدث .. المهم أننا بالتنكر الواقعي اقتربنا خطوة من الحقيقة ".
خرجت من السيارة الفان الكبيرة لتهبط أرض المرآب فيتحرك زميلها خلفها يقود سيارة عادية المظهر زرقاء اللون زجاجها داكن لا يكشف ما بداخلها بسهولة ..
في ذات الوقت**
كان مروان يشاهد تفريغ الأشرطة .. بينما مؤمن يهاتفه فيرفع الهاتف الخاص به :" مرحباً مؤمن ".
ليجده لا يقبل المزاح هاتفاً :" هناك تسجيل استخرجته اليوم من الحاسوب من كاميرا المراقبة التي وضعها هادر خلسة يجب عليك رؤيته بنفسك .. ولا تجعل هادر يشاهده ".
عقد حاجبيه بضيق فرغم الأيام القليلة التي بدأ فيها التعاون بينهما إلا أن نظرة مؤمن يخيفه في الأمور :" هل به شيء مؤمن ؟!!".
علق بصمته ثم أمر لطيف :" شاهده مروان .. شاهده وحلل كل ما يحدث ".
فتح هذا المقطع الصوتي المرئي الذي وصله عبر بريد إلكتروني خاص بينهما .. وجد هادر يدخل على هشام الجالس مكانه بكل هيمنة على الموقف يندفع تجاهه يقبض على قبة قميصه وسترته .. يخطفه من أرضه ويرمي به على أحد المقاعد :" سوف أقتلك بيدي هشام علوان .. ماذا تريد منها؟!! .. سوف أقتلك بيدي ".
لم تتخلى عينا هشام عن النظرة الاستفزازية الساخرة .. ظل لحظات يضبط من وضع ملابسه كان هادر ينتفض فيها .. ثم يصرخ فيه مرة أخرى :" لماذا لا تتركها .. لقد تركتها لأني أعلم أنك تريدني أنا .. أنا فقط من تريدني .. أجدك ترسل لي تسجيل بأزمتها الصحية وكيف ساندها رجالك هذه المرة .. لقد فهمت رسالتك .. جسور خارج حياتي ..أنت وزاهر طوال عمركما تخططا لهذا وقد كان ".
وضع هشام ساق على ساق بكل غرور ثم أشار للمقعد جانبه يتحدث بهدوء :" أجلس لأعلمك ماذا أريد بالضبط منك ؟!!".
كانت أصابعه تتحرك في قبضات تريد الافلات لعنقه .. يفكر في مظهرها وهي تتحدث معه ان الأزمة قد حدثت فأجاد التمثيل عليها .. منع نفسه من الاقتراب منها وضمها .. ليحضر هنا ربما يصل لحل ينقذها من براثن هذا الذئب اللئيم ..
جلس في مواجهة حقيقية .. منصتاً يريد منه أن يتحدث ربما يدينه ما يقوله :" هل تظن أنك كنت مقنعاً عندما حضرت المرة الماضية .. لم تقنعني هادر .. لم تسقط قدمي في مصيدتك .. أنا فقط من أجدت الصيد .. الآن بينك وبين غزالتك بحار من الشك .. ستكون نهايتك بيدها هي لا غيرها .. ستقتلك بيدها عندما أريد أنا ".
وقف هادر يتحرك وكأنه يقيس الغرفة ذهاباً وإياباً .. ليهتف به هشام :" لنكون ببداية جديدة .. سأدعك بنفسك تنزع ما وضعته في مكتبي .. المرة السابقة .. ولا تقول لم يحدث ".
تحرك هادر بلا كلمة .. لم يتبق أن ينبث شيئاً .. جذب الجهاز الصغير الذي علقه بأطراف اللوحة الجدارية .. ثم وضعه تحت حذائه السميك وهشمه تهشيما .. انقطع التواصل للحظات قليلة .. ثم عاد البث بطريقة لم يتخيلها مروان .. بعد التشويش والموجة الأولى .. غالباً هو هادر انتقل من جهاز آخر على ذات الموجة وصار يبث لهما ما يتخيل هشام أنه أفسده .. تحرك هادر أخيراً لتميل صورة هشام مع كل حركة .. ليتيقن مروان أن الجهاز في ملابس هادر .. ذكائه الحاد أعجب مروان ونال التصرف استحسانه ..وموافقته ..
همس هشام بصوت من طبقة عميقة في حنجرته ونبرة الانتصار زادته عمقاً وهو يخرج من جيبه سبحة صغيرة تتموج بين عيني غريمه :" هكذا سنبدأ بعد أن تغلق هاتفك أيضاً ".
كاد مروان يضرب جبينه .. في انتظار انقطاع الإرسال .. لكن هذا لم يحدث حتى عندما أخرج هادر هاتفيه وقام بإغلاقهما ووضعهما أمام هشام على المنضدة الصغيرة بينهما .. وظل إرسال التسجيل ممتد يحمل الساعة والتاريخ .. منذ الأمس مساء .. لابد له أن يعرف ما حدث مع جسور بالضبط ..
عاد ينتبه لما يقدم أمامه بصوت هشام التي كان يفتح مغلف سيجار كوبي بأداة خصيصاً لهذا الغرض .. استعراض ليس له من داع ِ.. سوى أنها أهتز وفي أيامه القليلة ..ثم مج منه نفس واحد طويل أخرج بعدها زفرة محملة بالسحب الشهباء تتصاعد في الأعلى كأحلام وؤدت لعشرات الشباب بسبب سلسلة الفساد التي لا تريد ان تنتهي .. اقترب وجهه من الشاشة مما جعل مروان يخشى أن يتعرف على الجهاز الجديد في ملابس هادر الذي يبدو انه لم يهتز بالمرة .. هتف هشام بجدية وعمق صوت :" تريد معرفة ما أريد منك هادر .. أريدك كما كنت بالسابق .. أريدك ابني الذي عاهدني على الأبوة .. أريدك سندي ووريثي الوحيد ".
لا يصدق مروان ما يقال .. هتف بحدة :" هذا الرجل مجنون غير طبيعي ".
ثم عاد يتأكد من شيء هذه آخر لعبة لديه بالتأكيد الدفع بأحلام هادر لعنان السماء وهو يكمل :" بعدما ننتصر أعدك بكلمتي ستكون جسور لك بموافقتها ورضاها .. ستكون أنت انتقلت لمنطقة أخرى من السلطة ".
أسند هادر ظهره للخلف بثقة باردة .. وكأنه لم يعد يملك هذا الأمل ولا يريده حتى :" دعك من قصة ابني هذه .. صارت قصة ابن أخيك في بعض الأوساط .. تبقى فقط تسريبها للإعلام فتكون أنت تحت طائلة القانون .. أما جسور فعنادها سيجعلها تبتعد عني لمجر لحظة غموض مني وقد فعلتها .. أظنك على علم بكل شيء .. حياتي صارت مكشوفة جميعها .. لا أستبعد منك ومن زاهر شيئاً .. .. ما طلباتك مقابل حياة جسور فأنت تعلم أنها نقطة ضعفي الوحيدة ؟!!".
جمود نظراته جعله يتحدث بفتور بالغ يحرك بين أصبعيه سبحة كهرمانية اللون موشاة ببقع أبنوسية .. يتلهى بها وكأن حياة الشابة لا تعني له شيئاً:" أن كنت تريد اللعب على نقاط الضعف فليكن .. نعم أنا أرسلت لها رجالي بعدما أوصلتها لحال من التوتر الشديد .. مع علمي بكل طرقها بالحياة .. عنيدة لا تتناول علاجها بانتظام مع طعام الطيور الذي تتناوله .. مع منحها الدليل على خيانتك .. كل هذا كان سيجعل الأزمة تحدث لها .. ومعها رجالي يحمونها ولكنهم أغبياء كما تعرف فقد يقتلونها لو منحوها علاج خاطئ كأنسولين مثلاً".
كان هدفه الأساسي جعل هادر يخرج عن طور الهدوء الذي اتخذه .. بينما مروان يقبض على أصابعه ويهتف مستنفراً :" الحقير .. يستحق ألف طعنة على هذا ".
أجابه هادر بجمود ثلجي :" وقتها كنت سأقتلك .. لا تخش غير الذي فقد الأمل .. للآن .. سوف أبحث عن نقاط ضعفك .. حتى لو أجبرت على ما تريده .. سوف أعمل على سحقك .. فلا تضرني لتقديم إستقالتي مثلاً .. فأفقد الميزة التي تريد الحصول عليها ، وهي عين لك بالداخل مع مجموعة معارف وصلات قوية .. بعدما فقدت كل شيء .. أنت الآن ككلب أجرب لن يريد أحد ربط اسمه بك .. خاصة بعد القبض على فريد الدهان .. الذي لن يصمت طويلاً .. كلها أيام ويعترف منهاراً وبعده سيد المليجي تليهما ميادة جبر .. لن يصمتوا طويلاً ".
هتف هشام بما يريده بشكل ضمنياً :" هذا بالفعل ما سيحدث .. لكن لو مات فريد لن يتحدث سيد ولا ميادة .. ".
ضج هادر بالضحكات المغيظة :" عملاً بمبدأ أربط المربوط يخشاك الحر .. كلهم مقيدين .. فما رأيك .. في ترتيب قتلهم جميعهم ".
قبل ان يتحدث هشام كان يقف هادر مكانه.. ثم أهداه الحل الذي يملكه :" لك عندي طريق آخر .. أعاونك على الخروج من الوطن وأنت بالخارج ستجد من أعوانك أمثال مايين ممن يساعدوك حتماً وخاصة قدمت لهم خدمات كثيرة ".
هتف به هشام :" أريد معرفة ابنتي .. جسور هي الوحيدة التي تعلم مكانها ".
مال عليه هادر ليظهر وجه هشام ممتقعاً لمروان الذي ابتسم .. لعلمه أنه هاجس لديها فلا احد يعلم حقاً .. فيسمع لصوت هادر البارد بما يناقض ما بداخله :" لماذا تريدها الآن ؟!!.. بعد ان هددت بقتلها .. ما الضرورة الملحة .. ".
ثم أشار بسبابته هاتفاً:" لا تتحدث دعني أحرز .. تريد اسم تهرب أموالك عن طريقه .. وتحول جميع الرصدة لتكون له .. هل هددك أصدقائك بأنهم سيستولون على أرصدتك لأنها عمولات منهم وفي بنوكهم .. تمتع بالخيانة حتى إخر قطرة ".
هتف به :" ألا تخشى على جسور".
تغضن صوت هادر :" لا أخشى إلا على جسور .. من أجلها أخون وطني ووظيفتي بعرضي لك .. سوف أعمل على إخراجك خارج البلاد .. لكن لا تطمع في أكثر من ذلك .. أظنني قدمت لك برهان حسن النية من قبلي بتحطيمي جهاز زرعته في مكتبك وأنت لم تكتشفه .. كل هذا لغو كامل منك ولكني أهديتك الهدوء والصدق .. لو مسست جسور بضرر ستكون أنت التالي بعدها بساعة لأضعك داخل قبرك .. أيها الأب الحنون ".
تحرك ليخرج من مكانه ولكن هشام صدح صوته :" انتظر هادر .. متى تستطيع تدبير هذا ؟!!".
لم يستدير إليه وضع أصابعه بغتة على تمثال نحاسي بدا كمنحوتة أغريقية من التراث القديم لم يستغرق لحظة وهو يحركه من مكانه وكأنه يديره .. ثم وقف مسنداً ظهره على المكتب ماداً ساقيه للأمام ثم عقد ذراعيه أمام صدره .. صوته قصة من التلاعب :" أتفق مع مايين الأب أو الابن لأي مكان سيجعلونك .. فأنا حدودى إخراجك أما حمايتك فهذه قصة أخرى ".
كان يتقصد أن يدور بالغرفة فيمس بيديه كل اللوحات ليعلن له :" ويجب عليك بالبداية معرفة كيف التصرف في هذه الأصول الثابتة .. فأنت تملك ثروة حقيقة داخل هذه الجدران ".
في هذه اللحظة دلف هادر بعدما طرق الباب .. أطل برأسه قائلاً :" متفرغ قليلاً".
كانت أصابع مروان تنتقل بلحظة لتدير تسجيل آخر بصوت طفيف .. جعل هادر يقفز للداخل ويدور حول المكتب ليقف جوار مروان .. ثم ضرب على المكتب براحته :" ألم أطلب منك مروان أن تبعدها عن هنا !!".
بهدوء شديد علق مروان :" هنا آمن جسور .. هي كل الوقت معنا ومع فريق من أفضل ضباط المراقبة .. لا تخش شيئاً .. تعال لتعلم الخطوات التي قمنا بها اليوم ".
مال هادر على الجهاز يشاهدها تجلس في جلباب أسود يشبه نساء بلدتهم الفقيرات .. تجلس على الرصيف صامتة .. تقترب منها امرأة أمطرتها أسئلة عن مكانها .. ولما هي هنا وغيرها .. بكت جسور مطولاً وأهدتها قصة ملفقة عن فقر مدقع لم يعد لديها ما تبيعه إلا نفسها وهي تفضل الموت على هذا .. فتجد شفقة من السيدة الغريبة .. تعلمها التصرف .. وتطالبها باستئجار طفل صغير وهو من يفتح لها باب الشفقة من أوسع الأبواب .. فهي بشكلها النظيف .. اندهش هل هكذا هي نظيفة .. إتقان جسور للهجة تميل للهجة بلدتهم أدهشته جداً ..
نالت شفقة السيدة لدرجة منحتها طعاماً تناولته جسور كاملاً .. حتى وهي تغادر المكان ..
هتف بحدة مغتاظاً :" ما هذا لقد أكلت من طعامها .. أليس كذلك ؟!!".
نظر له مروان باستخفاف حانق :" أكلت نعم هل كان من المفترض أن ترفض وتقول لها ... أعتذر طعامك ملوث ".
حرك هادر أصابعه بالرفض :" لا ليس هذا .. لكنها كانت تأكل رنجة وقدمت لجسور شطيرة منها .. الغبية لديها حساسية من هذا الطعام .. ستراها الآن كيف ستكون .. وكيف ستزعجنا ليلاً ".
ابتسم مروان مقيما الوضع :" كم تعشقها يا رجل .. تعرف تفاصيلها ربما أكثر منها ذاتها ".
ابتسم هادر بطريقة مرتاحة ربما لأنه عقد صفقة عمره .. هذا كان ترجيح مروان .. ليجد صوت هادر يعقب :" حياتي هذه القصيرة .. سكنتني منذ كنت طفلاً وهي عنيدة منذ رأيتها ".
تذكر كيف كانت تتعلق بالغزال الخشبي تكاد تسقط ولكنها مصرة على البقاء على ظهره بدون أيدي تتمسك بها ..
أخرجه مروان من شروده على العمل فمروان ذاته لا يحتاج أن يسأله شيئاً .. عشقها يكبله .. وربما يأخذه لطريق الخيانة .. لن يغامر مروان بالوطن فهو أهم عليه الانتظار .. رغم تحرقه ليعرف نهاية المقابلة بين هادر وهشام إلا أنه سينتظر مغادرته .. ساقط بين الشك والجزم أن هادر لا يخون :" آخر التحريات ".
مد له ملف ليأخذه بين أصابعه ويعود جالساً أمام المكتب .. يقرأ ثم يستنكر بصوت مسموع :" دار الرعاية التي تتولاها نادرة هي من تستأجر منها هذه المرأة الأطفال .. كيف هذا وليس بها أطفال دون سن الثانية عشر ؟!!.. أتعني عصابة خطف الأطفال من ترتيبهم هم ؟!!.. لماذا؟!!".
أجاب مروان :" أعتقد أن بعض المشرفين عندما فقدوا مصادر رزقهم صاروا يفعلون هذا .. أنهم يستخدمون المبنى الملاصق للدار كبوابة للتبادل .. هناك علاقة بين بواب العقـار المجاور وبينهم .. يجب علينا مراقبة أكبر لن نسمح لهم بالفرار ".
أشار هادر لصورة توضح مبنى ثالث مواجهة للدار :" علينا وضع كاميرا هناك وقتها ستتحكم في الموضوع .. فهنا في هذه الزاوية يتم كشف المبنيين معاً .. خاصة مدخل هذا العقـار حيث غرفة الحارس ".
لم ينتظر أن يعاود صديقه الاستواء جالساً إلا ومنحه هاتفه معلناً هذا التردد الجديد الذي حولت عليه المجس الجديد.. وتأكد منه هل هناك تسجيل آخر وصل على التردد القديم أم لا .. أرجو أن يعمل فلم أتمكن من الذهاب للمقر عند مؤمن اليوم .. اتصل به وأجعله يجري تجربة صوتية ومرئية .. لم يعد هناك وقت لذلك الوغد .. لن نتركه يعبث بأقدارنا ..
سأله مروان :" لكنك تركته مسبقاً هادر ".
انتكست ملامحه بعار وأسود جبينه ثم أجاب ؟:" كنت لا أزال أحمل له حنيناً .. أتعرف أحببته باختياري وولائي كان له عكس زاهر .. لم أحبه وكنت أتمنى الخلاص من استغلاله .. لكن كل شيء انتهى عندما ..".
هتف فيه مروان :" عندما هدد غزالتك الصغيرة التي كانت أكثر من واضحة أنها لا تختار الخيانة .. التقاعس خيانة يا هادر .. ربما لا يصنف كخيانة عظمى ولكنه يوصل لها .. حمداً لله أنك تخلصت من آخر ما يربطك بهذا الرجل ".
ثم فتح التسجيل ليجعله ينساب أمام عينيه :" لقد وصل .. خشيت عليك بالفعل يا صديقي هذا الرجل يجيد وضع شباكه حول رسغ وأقدام من حوله ".
نظر هادر للتسجيل الذي بدأ يستكمل من حيث توقف .. ليجد صوت هشام يخفت بتمثيل يجيده .. فصوته مؤثر لدرجة شديد :" قد اخترتك أنت ابن لي هادر .. أنت وحدك ولولا ابنة صفوان كنت ستكون يدي اليمنى واليسري أيضاً ".
هدر هادر في التسجيل بصوت أحادي النبرة :" كنا في الماضي نثق ببعض ..أما الآن فقدنا تلك الميزة .. أعلمني عندما تتفق مع أصدقاءك على أي بلد سيستطيعون وضعك .. ولا تنس تمشيط المكان بعد خروجي فقد زرعت لك عشرات الأجهزة .. وبالمناسبة لقد أزالوا عنك الحصيرة الوقائية .. جعلوك صيداً سهلاً".
انتفضت عينا هشام .. بعد ان كان في اطمئنان .. ضرب الذعر عيناه :" انتفض مكانه :" كيف عرفت هادر ؟!!".
مد يده نحو هاتفه المغلق فأعاد له العمل وجلب أحد البرامج فتحها أمام عينيه :" هذا ما أعلمني وإلا ما حضرت لك بعرض جديد ..ولا تخش شيئاً لم أزرع لك مجس تصنت .. صرت لا تستحق العناء وأي جهاز هو تحصيل حاصل من الخسارة ضياعه على شخص في مثل حقارتك.. فالكل سيتحدث لينقذ رقبته من الموت .. التفاوضات في كل مكان ".
هتف به :" لا تكذب هادر .. لقد حطمت جهاز في هذه اللحظة من أجل إثبات ولاءك ".
مد هادر يده داخل جيبه ليخرج جهاز التصنت بين أصبعيه .. فصار هشام يبادل النظرات بين ما هو كائن بين اصبعيه وما هو مهشم في الأرض وشظاياه تهتف بالفشل .. بينما صوت هادر ينساب مؤنباً :" هل تعتقد أني قد أهدر عليك أجهزة أنت تعرف كم تكلفنا .. لم تعد تستحق .. عندما يتم القبض عليك .. ستجد عشرات الشهود .. كهذا البلاغ مثلاً وقد تكفلت بالعمل على تعطيله حتى تهرب ".
مد يده داخل جيبه كساحر يخرج بأدوات سحرية .. ثم وضع الورقة المطوية بين يديه مهدداً ناصحاً :" إياك وتمزيقها فهي أصل ".
مدها هشام بعد الإطلاع عليها تجاه هادر متجاوزا حد الغضب :" البيلي الحقير يبلغ عني أنا بعد كل شيء فعلته من أجله ".
هتف هادر مغتصباً إبتسامة واحدة :" هو الحقير لانه يريد التطهر وأنت ماذا أنت ؟!!.. لن أحلل شخصيتك الآن .. لو أردت البقاء فسوف أتركك للجميع فريسة سهلة.. أما لو أردت الحل الذي أعرضه ستعرف أين تجدني ".
لملم هواتفه مدعياً عدم الاهتمام بكتلة انهزام لم يكن يتخيل أن يكون فيها هشام . . تركه الجميع .. لكنه هنا ولابد له من التصرف .. هتف في هادر قبل أن يغادر حدود الغرفة .. بل صار يهرول خلفه :" سأغادر .. وستساعدني حتى أخرج ".
هتف هادر به قبل مغادرته :" صدقني لقد مزقت قلبي .. نظف الغرفة مما زرعته فيها .. قلت لك فقط حتى تعرف أني بقدر كلمتي معك ".
لم ينتظردهشته أو بحثه ثم لوح له هادر وغادر فلم يرى مروان بالنهاية سوى علامات انهزام تمطت على ملامح هشام .. سأل مروان هادر :" هل أنت واثق أن أصدقاءه سيساعدونه ".
ابتسم هادر براحة بعد أن كانت أعصابه على المحك الفترة السابقة :" مؤكد سيفعلون .. ليس لكونهم يرويدونه .. لقد صار ورقة لعب محروقة بينهم .. لكن مثله لابد له بأن يحتفظ بأسماء الشبكة كاملة ومؤكد هناك أدلة يحملها كذلك معه تدينهم ".
وجد سؤال ظن أنه لن يخرج من مروان :" هل تظنه صدقك بالفعل ".
أشار باصبعه بالرفض الكلي :" مؤكد لا .. هذا الرجل لو لم يكن هو الصياد فلا يمكن ان يكون فريسة سهلة ".
طوح مروان كفيه بإعلان مستسلم :" هذا الرجل سيجد ما وضعته بالمكان ".
هتف هادر بخبث متوسل :" ما نسبة أن تجد كل الأشياء لو زرعت العديد منها .. ".
أجاب مروان :" عندما أجد واحد أو اثنان سأظنني قد وصلت ".
علق هادر :" هذا هو .. أنا أتمنى هذا الواحد يكن مخفي .. لقد تعمدت لمس كل التحف واللوحات حتى يبحث في الجميع .. وزرعت له أربعة هي ما كنت أحملها .. بأصغر نوع قد نحصل عليه .. وأنا أعلم انه سيجد منها ولقد نبهته إليها .. حتى لو وجد يكون هناك نقطة ننطلق منها .. هذا لو غفل عن واحد فقط .. زرعته في ذراع المقعد الذي كنت أجلس عليه..".
رفع مروان له رأسه :" ضبطت البث على هذا التردد .. هل فعلاً أصدقائه أزالوا الحماية ".
تحدث هادر بيقين :" لا .. لم يفعلوا .. لكني استخدمت برنامج بث من أقرب قمر صناعي يخترق هذا التردد .. فيحرق الحماية وقتياً .. ولكن الأهم انهم خففوها .. أظن أن هشام بالفعل في مرحلة تفاوض الآن.. الأعلى منه يريدون التأكد أنهم لن يسقطوا خلفه .. وقتها سيسلمونه .. هو في النزع الأخير ".
خرج صوت مروان حاسماً :" كل هذا من أجل جسور ؟!!".
إجابة هادر لاحت داخل أقنية عينيه وعلى ملامحه العميقة بالتوق حتى لطيفها :" لو كنت تعشق مثلما فعلت كنت ضحيت من أجلها بأي شيء حتى بعمرك ".
دلفت في هذه اللحظة أطلت برأسها بعد طرقة .. ثم أدارت وجهها بسرة .. لتظل بالخارج تهتف خلف الباب وكأنها ندمت على الدخول :" هل من الممكن أن أغادر اليوم سيد مروان ".
هتف مروان محبطاً فرارها :" تفضلي جسور .. أريد منك أن ترى هذا الخيط الجديد ".
تمنت في هذه اللحظة ان تملك طرحة كانت وارت عيها المتورمة .. لم تجد غير شعرها اسدلته جيداً ثم مشطته بأصابعها ليواري عطب عينها .. أما شفتيها فلن يلاحظ أحد انتفاخها .. لأنها مكتنزة الشفاة من الأصل ويظنها هادر بسبب حمرة الشفاة ..
دلفت بثقة وقفت جوار مكتب السيد مروان متعمدة عدم النظر تجاه غريمها الحبيب .. بينما هو يتفرس بخلايا بشرتها .. وتخرج عيناه على شعرها الذي كان يبرق ويهتز كأجراس معلقة في لي نحاسي محمر ..
انتفض عندما لاحظ شيئاً عندما مالت لتنظر للتقرير المكتوب والصورالجديدة .. وقبل أن تنطق كان صوت هادر :" انتظري ".
كلمته جعلتها تنظر إليه بغتة فيتأكد مما هي فيه .. وقبل ان يتحرك أو يتفوه بكلمة .. كانت تعود للنظر للورق فوق المكتب :" مرحى سيد مروان هذا شيء رائع .. سنتوصل لمن يفعل هذا .. ما زلت مصرة أن نادرة لا تفعل هذا .. سنرى ".
وقف يقول كلمته :" سنرى .. بالفعل سنرى ".
اقترب منها ومد يده يقبض على عنقها .. تحدق به بعين مغلقة تماما .. وفم مكتنز مفتوح كسمكة تفتقد الماء .. ضج بالضحك بشكل هستيري .. ثم بدأ يلوم مروان وكأنه مسئول عنها :" ألم أقل لك ؟!!".
اندفعت للخلف هاتفة به تدفعه بيدها في جانبه بوحشية من نسيت جراحه القديمة .. ليتحرك خطوة :" ما هذا هادر .. نحن هنا بعمل .. ليس السيد مروان وصياً علي ولا انت مسئول عني ".
حدق بها مروان ليكتشف ما هي فيه .. ابتسم ثم كتم ابتسامته بأصابعه :"ما بك جسور .. ما حدث ؟!!".
نظرت لهادر بلوم شديد .. ثم هتفت :" تحسست من الرنجة المدخنة .. أنا تقريباً عندي حساسية أزلية من نصف الأغذية ".
ثم أتبعتها بعنادها الطبيعي :" لم يعد هناك داع لمغادرتي .. يبدو أن مظهري كفزاعة لا يضايق أحد .. أنا مستعدة لتقديم تقريري الجديد .. هل من الممكن الانفراد بك سيد مروان ".
لم ينتظر مروان فهو الآخر يريد جسور بشدة .. أشار لهادر الذي تحرك للخارج مباشرة .. يتوعدها لن يتركها اليوم ..

***************

جلست تمنحه التقرير :" نعيمة فتح الله ..هي المرأة التي كانت مع بدرية المورد وقت إجهاضها المزعوم .. لقد بحثت خلف هذ السيدة .. ماتت من سنوات طويلة وكان معها طفلة صغيرة في الرابعة من عمرها .. هناك من أكد أنها ابنتها وهناك من قال نعيمة طلقها زوجها لأنها لم تنجب .. هذه الطفلة .. هي ابنة هشام .. لأن المشفى التي خرجت التقرير الأولى الذي بناء عليه يتم إدراج الطفل في مصلحة الأحوال المدنية من منطقة راقية تبعد كل البعد عن مسكن هذه المنيرة .. ذهبت للمشفى بالفعل .. لكن لا أحد أستطاع إفادتي عن الطبيبة .. الكل يظنها ماتت من أعوام .. لقد اختفت فجأة .. أظنها مثل الطبيبة حنان التي حاولت الحمل ولم تستطيع ربما كان سبب تجاهلها الأمر بالنسبة لإجهاض بدرية هو شعورها بالذنب .. سوف أظل خلفها ".

سألها بجدية مهتم:" هل علمت اسم الطفلة المفروض حالياً هي شابة .. ربما تم استخراج هوية شخصية لها ".
أجابته وهي تضغط على عينها المغلق بأطراف أصابعها :" الكل يؤكد كانت تدعوها شوشو .. أعتقد أنه ليس اسمها الحقيقي .. هذه البنت هامة جداً لنا ".
كان ينظر إليها لتباغته بسؤال :" هل عيني مثل المعجون .. فأنا لا أرى بها نهائياً ".
أجابها وهو يهز رأسه :" أفتحي عينك لأراها من الداخل ".
فعلت بجذب الجفنين متباعدين ليجد مقلتها وكأنها سقطت في تعرجات زلالية ..شيء لم يراه من قبل .. أمرها محدداً :" هيا أذهبي وتناولي علاجك لو كنت تتعاطين واحداً .. وغداً تستطيعين البقاء في المنزل لو كنت ما زالتِ على وضعك ".
هتفت بجدية :" كنت تريديني في موضوع .. كما قلت للرائد ".
طوح كفه للخلف :" غداً .. ليس الآن .. أذهبي أنت ".
بعد دقائق قضتها في جمع حقيبتها تشعر بانهزام داخلي .. لولا هذا التورم كانت ستكون بوضع أفضل نفسياً .. كانت تقطر غضباً .. كيف يسخر منها ويلومها كطفلة صغيرة .. خرجت للمرآب لتجد سيارة تحصر سيارتها وتقف أمامها .. هتفت بغضب :" تباً .. من هذا الغبي .. من يصف السيارة هكذا لا يفهم ".
قبل ان تنفعل أكثر وتتحرك لتنادي أحد المسئولين عن المرآب .. كانت سيارته السوداء تقترب .. فضيقت عينها المفتوحة وعقدت ذراعيها أمام صدرها .. ثم همت به تركل مقدمة سيارته التي توقفت أمامها مباشرة :" ما تفعله عمل مراهقين أيها الرائد .. هيا أذهب لن أصعد معك ".
يسدد لها نظراته الجامدة .. يمنع نفسه عن اظهار أي مشاعر حتى ينتهي من الوضع المقيت الذي هو فيه .. مال يفتح لها الباب .. ولكنها لم تتحرك .. نظرات مسددة من كليهما وكأنها صراع إرادات .. حقيقة الوضع كلاهما تعب من الصراخ ..
وضعت ظهرها على السيارة التي تغلق الطريق أمام الحمراء الصغيرة الخاصة بها ..
هتف بها بعدما أطل برأسه لخارج النافذة :" هيا جسور .. لن نظل اليوم بطوله ".
أشارت لسيارته بطريقة مشمئزة :" أنا أصعد لهذ السوداء القاسية .. سوف انتظر وأقد سيارتي الحمراء الجميلة هناك ".
هبط من مكانه واتجه للخلف .. فتح حقيبة سيارته الخلفية مخرجاً قيد إطارات للسيارات تستخدمه شرطة المرور .. مال على السيارة التي تستند إليها وقيد الإطار الأمامي .. وقف برشاقة :" هذه السيارة لن تتحرك اليوم .. كان يضع المفتاح في جيب سترته .. وعقد ذراعيه مثلها بالضبط .. معه تشعر بالضآلة .. هي لا تكاد تصل لارتفاع السيارة بينما هو تشعر أنه يحتاج لسيارة إضافية..
تحركت لتخرج من المكان هاتفة وهي تريد منه شيء واحد أن تفقده عقله بالفعل :" سوف استخدم سيارة أجرة ".
لم يعد هناك جدال معه .. بلمحة كان يميل فيحملها بين يديه .. يدفعها لداخل صدره .. وهي عاقدة ذراعيها فوق صدرها وحقائبها تتدلى من كتفيها تضيف لوزنها وزناً إضافياً .. لن تمانعه .. فبعينها هذه لن تستطيع القيادة ..
دفعها داخل السيارة وتحرك كفهد بري ليتمكن من القيادة قائلاً :" لن أتعارك معك على إهمالك في صحتك .. كم مرة سأقول لك .. أسماك مملحة لا .. ألبان لا .. توت لا .. موز لا ".
صدح صوتها بضيق :" لا تدعي الاهتمام كأم رحيمة .. فأمي ماتت ولم أعرف الطاعة لها .. لذا لا تجهد نفسك معي ".
تنظر إليه تريد القول :" أحتاجك .. وأحتاج اهتمامك ".
ينظر لها ويريد حملها وقول كلمة واحدة :" أحبك ".
نظرات غريبة بينهما .. جعلتها تضع رأسها للخلف وتميل بوجهها تنظر إليه .. قاد لخارج وعند أول صيدلية توقف وخرج من السيارة ثم عاد وخلفه أحد الأطباء وفتح له باب السيارة جهتها فأجفلت منه وصدح صوتها مستفسرة :" ما هذا هادر ؟!!".
تحدث الطبيب معها وكأنه يحادث طفلة مشاغبة :" لا تخافي .. لن تشعرين بوخزة الأبرة .. هيا يا صغيرة ".
نظرت لهادر الذي كان بجوارها في مكانه الطبيعي خلف عجلة القيادة ولكن جسده يكاد يهتز من الضحكة المكتومة .. هتف الطبيب :" هذه الحقنة أفضل علاج للحساسية .. ستنامين وتفيقين بلا أي أثر ".
عادت تنظر لهادر تيق عينها السليمة فيقول لها :" نسيت اسم حقنك القديمة لذا استعنت بالطبيب .. كانت يد الطبيب بالفعل نالت من ذراعها يخنقه بشريط مطاطي ليظهر الوريد .. بعد لحظة لم تتعد الثانية كان المصل يدخل لجسدها معه دفء شديد وخدر لذيذ يسري في جسدها كله .. أدركت لما أحضر الطبيب هنا .. فالحقن القديمة .. كانت تأخذها وتسقط نائمة فكان يحملها للمنزل .. لكن أي منزل ..
**************************

"سنمار ستظل غبياً .. لن تتغير ".

لا تصدق أنها قد سقطت هكذا في بحره مرة أخرى بسهولة ويسر .. أفاقت وداخلها يقين أنها منفردة بالغرفة .. بالفعل .. كانت هكذا .. ضائعة في فراشها وحدها .. أي رجل هذا الذي يتركها ويغادر وكأنها كم مهمل لا يريد النظر إليه .. أخذ منها ما يريده ثم عادر .. تباً.لك سنمار .. لن ترى طعم الراحة معي ..
نفضت الفراش ثم عادت تهبط به .. لن ترفعه بعيداً .. كان عابثاً معها بما لم تتخيله .. عادت تختنق ضيقاً .. هرولت للحمام حتى تزيل أي أثر له ..
بعد وقت قصير كانت ترتدي ملابسها كاملة وتخرج خارج إطار هذا السجن الحميمي الذي تبدل اليوم .. يجب عليها الانتقال من هنا .. لا فليغادر هو .. لن تترك غرفتها ..
خرجت تخطو فوق حذاء رياضي .. تتهادى في بلوزة قطنية جيدة التصميم فوق بنطال جينز باهت وتطوح على رأسها طرحة لائمتها ..
هبطت فلم تجد أحد بالقرب منها .. أين ذهب الغالي وفرسان .. بل أين ذهب هو .. قررت التحرك حتى منزل عمها ..
بعد وقت ليس بسيط لكنه مر سريعاً بسبب تفكيرها فيما حدث بينهما .. ما يحنقها استسلامها السريع وعدم وجوده ..
دلفت المنزل على مشهد لم تصدق أنها ستراه .. صلاة جماعة .. وقف جواد كإمام .. خلفه رشاد وعمها وفي المؤخرة كان أبيها جالس فما زالت ساقه لا تستجيب بسهولة لأي حركة .. وتجاور مقعده فرسان ترتدي اسدال تتذكره جيداً فهي من ابتاعته لها في أحد المرات .. نظرت لها جاكي بانبهار ثم تحركت للباب تهتف :" ما أجمل شكل صلاتكم ".
سحبتها للخارج بابتسامة تهمس لا :" لا تهتفي فينشغل بك المصلون ".
ثم حضنت كفيها :" لم أصدق ان رشاد ابن عمي مسلم أصلاً .. ظننته على ديانة العمة كلاوديا ".
فرحتها مست وتر لدى جيوكندا فسألتها :" أي الديانة أفضل ".
همست أسوار بإرتياح وانفتاح :" الأفضلية بعد الدراسة .. وكل إنسان دائماً يدافع عن دينه وعقيدته .. سوف أجلب لك كتباً لتعلمي الدين الصحيح .. لكن اعلمي أن الله رب قلوب .. كلما أصبح قلبك عامر بالخير هذا بر .. ".
خرجت فرسان تحادثها :" طالما تحدثت في الدين فأسوار أكثر واحدة قد تنفعك في هذا ".
هتفت أسوار :" أين الغالي .. و ..".
صمتت برهة لتنال تنفسها ثم تستمر :" أبيه ".
أشارت لها فرسان :" الغالي نائم على الكنبة بالداخل .. وسنمار ذهب مع نادين لعمل ما ".
سمعت صوت عمها يناديها .. فتحركت للداخل غاضبة حانقة .. خجولة مما قد يظنه عمها بها ..
تحضر داخل عقلها عدة تبريرات كحجة للغياب .. لتجد أبيها يرفع لها رأسه وكأنه يعينها :"أخيراً استيقظتِ ".
فعاجلها عندما شاهد هذه الدهشة في عينيها :" سنمار قال أنك تناولتَ مسكناً لها تأثير منوم قليلاً لذا تركك وظل معنا هنا ".
مالت على رأس أبيها تقبله ثم فعلت هذا مع عمها الذي ابتدرها بابتسامة متلاعبة ثم علق :" نادين ..أعادها عمرو وعلمنا ما حدث عندما قصت علينا ما حدث وطبعاً ".
علقت فرسان من الخلف :" الفتاة فوجئت أن العائلة التي تعرفت عليها صباحاً وعاملتها ابنتهم بطريقة غير لائقة .. هي نفسها عائلة الرجل الذي أنقذها ".
غمغمت بضيق :" لقد ظننتها إحدى العاملات التي طلبتهن .. ثم علمت فذهبنا نبحث عنها حتى أعتذر منها .. لكننا لم نجدها ".
ربت راشد على المقعد المجاور له فجلست حيث أشار .. بدأ يحدثها :" سوف تمكث معنا الفتاة للغد ستبيت معنا هنا أنا وأبيك ستشارك جاكي في غرفتها .. الفتاة طيبة وهي قريبة من باسم لا تخشين شيئاً ".
وقفت وهي تهمهم :" نعم عمي .. ليس هناك من داع لكل هذا .. أنا فقط ظننتها شخص آخر .. سوف أخذ الغالي وأذهب حتى يعودوا وعندها سأتحدث مع نادين وأعتذر منها ".
أجابها أبيها :" لا شيء ستوجب الاعتذار فسنمار قام بالتوضيح وجنبك هذا الموقف .. البنت غادرت معه راضية ضاحكة ".
توتر شديد ضرب أوصالها فحملت طفلها النائم لتغادر .. بينما فرسان تهتف فيها :" تعالي أسوار تناولي طعام الغداء ".
لكنها لوحت بابتسامة مغتصبة .. رافضة :" لا فما زلت لا أشعر بالجوع ".
تريد الفرار من المكان كله .. وقد فعلت عندما خرجت بسرعة وسط دهشة الجميع من تصرفها .. فهذه ليست بأسوار وكأنها أخرى ..


*********************

في منزلها سمعت صوت سيارة قريبة .. فلم تتحرك لاستقبالها .. سيكون هو ولا تريد ان تظهر بمظهر المنتظر ..
دلف يحمل حقائب كثيرة وخلفه الفتاة التي تسببت في احراجها اليوم .. صوته يرحب بها :" تفضلي نادين .. تعرفي على أسوار بعد إزالة سوء الفهم ".
لا تصدق أسوار البرود الذي تلبثها وهي تقبل الفتاة وتدعوها للجلوس وقبل الشروع في إفهامها ما حدث .. كان هو قد صعد للطابق العلوي ومعه الحقائب ..
ضيق يموج داخلها .. لمجرد أنه أهملها في لحظة دخوله فلم ينظر لها بنظرة واحدة وكأن ما كان معها منذ ساعات شخص آخر .. اختناق شديد ألم بحلقها ومجرى تنفسها .. لا يمكن أن تقبل بهذا ..
رسمت ابتسامة شديدة الجاذبية لم تصل لعينيها بأي درجة وبدأت تشير للفتاة لتجلس .. عليها معرفة أين اصطحبها هذا المراهق الشره .. ربما تكون قد فكت عقدة حياته ويبدأ هو في التجوال بين النساء بفخره بنفسه ..
لا تصدق اتجاه تفكيرها ولكن عقلها يؤيده بشكل أو بآخر وإلا ما كانت فكرت بهذا ..
جلست تشعر بالحرج وكذلك نادين لا تعرف لماذا لا تشعر بارتياح رغم أن الجميع ذكر عن لطف أسوار حتى من قبل لقائها كانت فدوى تعلق على رقيها وتدين سنمار بسبب ما علمته من سمر ..
أخيراً تحركت شفتا أسوار المطبقة :" كنت أظنك شخصاً آخر .. فهل لك أن تعذريني ".
شيء في طريقتها جعل نادين تنتفض :" أرى أنه من الصعب جداً عليك قول آسفة .. لا أعرف لماذا ؟!!.. لكن بالنهاية لقد عدت اضطررت للعودة فهناك عمل لم ينتهي ".
أي عمل هذا الذي لم ينتهي بينهما .. اغتصبت أسوار ابتسامة كرد بسيط على ما قيل لها وكأنها تعلم .. لن تقبل بالتهميش مرة أخرى ..
هبط من أعلى وبنفس الطريقة .. لا يوجه لها نظرة وكأنه يبتعد عنها .. ما هذه الغرابة التي تحدث معهما ..في الماضي عندما أخذها عنوة كان يحدق فيها بكره والآن لا يعيرها نظرة .. خطواته الواثقة اقتربت من وجودهما ثم هتف موجهاً كلامه لنادين :" أظنك قد علمت أن أسوار لم تتقصد الإهانة .. فقط سوء فهم".
ابتسمت نادين وهي تقف وكأنها تعلن لها انتهاء اللقاء .. لم تنتظر لحظة غادرت وهو يوجهها للخارج وغادر معها ..
عيناها تحترقان من الدموع الحارقة التي كادت تزين جفنيها .. صعدت لأعلى بأقصى ما تمنحها ركبتها التي بدأت طريقها للشفاء ..
دلفت للغرفة لتجد ثوباً موضوعاً فوق الفراش بطريقة معروضة وفوق علبة من المخمل الأسود فتحتها لتجدها طاقم كامل ذو قطع مميزة من الحلي .. حبات الماس بها على شكل معينات زرقاء صغيرة تبرق بقوس قزح كلما تحركت في يدها .. لا تعرف لماذا تكالب عليها الضيق أكثر وفرض على عقلها غمامة من ضيق وغضب .. يظنها رخيصة .. لو كان أحضر لها هذه الأشياء بعد أن أخذها داخل أحضانه عندما تيقظت .. كانت ستصل للسماء بدون جناحين .. لكن الآن .. ليست رخيصة لا تحتاج لهذا الثوب الذي يبدو وكأنه صنع خصيصاً لها ولا تريد هذا الطاقم الماسي .. طوحت العلبة المخملية المفتوحة بعيداً عنها لتسقط أرضاً متناثرة كل قطعة بعيدة عن الأخرى .. وسماعها لصوت صغير كنثرات الزجاج أعلمها أن كل أمواله لا تهمها .. متى يفهم .. ثم أمسكت الثوب الذي يحاكي ممثلات السينما لكن باحتشام لا تصدق أن الشيفون المطرز من الممكن أن يكون بهذا الجمال لونه الرمادي الباهت بدرجة تعشقها وهذه الطرحة من نفس اللون والقماش شيء محال إيجاده هنا في هذا البلد الأوروبي .. تجولت وتعرف هذا ..
لكنها مختنقة منه .. وصل إليها ليحطم قلبها بقسوته التي بدت أكثر قسوة من الماضي .. أصبعها تطبق على القماش وأظافرها تخترق الشيفون الحساس .. نظرت ما فعلته أصابعها .. ثم بدأت تشق له الثوب الذي اختارته لها امرأة أخرى .. صرخت بصوت ذبيح لا يتناسب مع ما شعر به من سعادة ..
خطواته بأول الدرج فكيف بها تصرخ هكذا .. قلق استوى داخل عرش قلبه فقفز صاعداً الدرجات لأعلى .. لا يهمه إلا هي فقط .. هل ندمت بعد ساعتهما معاً .. وصل للغرفة صارخاً :" ما بك أسوار ؟!!.. لماذا؟!!"...
ماتت الأسئلة عندما شاهد الفوضي بين يديها وداخل وجهها .. كل ما فيها يشي للتعاسة .. مال يلملم الفستان أو أشلاءه .. ونظر للعلبة المخملية وما حوته من شيء خاص بها .. لم يهتم .. قبض على الفستان الحريري ثم تركه .. متحركاً تجاهها .. لكنها منعته عندما انكمشت على نفسها هاتفة :" ابتعد عني ".
سألها بتردد أصبح كتلة داخل قلبه :" هل ندمتِ ؟!!".
ضيق في عينيها جعل دموعها تنحدر أكثر لتصرخ فيه :" قاسي القلب .. نلت ما تريد وتتهمني بما أنت فيه ".
همسته المجحفة داخل نفسه أخرجت كلمات تشرح ما بداخله :" ربما لم أترك لنا فرصة الفرار .. لكن ندم معك .. لا .. هذا آخر ما أشعر به ".
تجمدت عيناها وفتح عقلها باباً جديداً .. ليجد صوتها يخرج بحشرجة درامية لم يكن يتوقعها منها :" لست سهلة ولا رخيصة .. حتى تمنحني ثمن يومي .. لست كذلك !!".
رفع كفيه يضرب جانبي رأسه بما يشبه لطمات تمنحه التيقظ .. ثم بدأ من حيث انتهيا .. ليفهم ما حدث بينهما وكيف تقام الجدران بلحظات هكذا .. هتف بطريقة مباشرة :" من ساعات قليلة تركتك هنا .. داخل هذا الفراش .. عارية من كل شيء .. لا ملابس .. لا حواجز .. ماذا حدث ؟!!.. لتقيمي جدران لا أفهمها ".
انتفض قلبها من التعرية الروحية التي تشعر بها .. حاولت الخروج .. لكنه منعها عندما قبض على خصرها النحيل وجذبها داخل جانبه الصلب فكان جسدها يئن وينبض قلبها بقسوة وصلت لأضلاعه .. ثم همس بغمغمات متوسلة :" أعلميني وعلميني .. ربما مهما حاولت سأكون جلفاً .. ولكن هذا أنا صياد علمه البحر الصبر .. أعلميني حتى لو كسرتيني وقلت لي أكرهك .. كما قلت لك أي مشاعر منك أفضل من الركود ".
عيناها تطفر فقط بالدمع .. هل كانت تملك غيره وحتى الموسيقى التي كانت تلملم أشلائها لم تعد تعرف العودة لطريقها ..
أخذ رأسها يجذبها داخل صدره وفوق قلبه الذي ينبض بعنف هتف :" لو كان باسم هنا كنت جعلته يسمعك صوت قلبي بسماعته الطبية أو يحسب لك عدد دقاته .. فقط أكاد أموت لأنك كنت لي .. أموت من السعادة ".
غمغم صوتها بضيق :" سعيد لدرجة لم تمكنك من المكوث جواري .. استيقظت على وحدة قاتلة ".
لم ترفع عيناها لترى ابتسامة الطفل عندما ينال غفران أمه .. هذه الابتسامة التي شعت داخل عينيه .. ليستكمل الطريق بابتسامة ضاحكة :" كنت أريد .. لم أكن أريد سوى هذا .. أنت وكفى ".
رفعت عيناها المشوشة تتلكأ على ملامحه .. ذقنه الخشنة وأنفه المدببة وعيناه المسبلتان الأهداب تجاهها تتقافز داخلهما سعادة ساخرة .. انتفضت بعيداً عنه وحاولت الابتعاد فمنعها بيديه فضج صوتها خائباً :" كنت أعلم .. أنت تسخر مني ".
حرك رأسه نافياً :" لا .. لم أفعل .. أنا سعيد بك .. أنا سعيد لأنك كنت تريديني كما أريدك .. نعم سعيد .. كنت أريد ايقاظك ولكني خفت عليك من نفسي .. من كل شيء يجذبني فيك .. عيناك كانت بالماضي ترقص بالعذاب والآن لا أريد بها غير رقصة السعادة .. لا أريد الدموع التي تبلل قلبي وتفتته .. أردتك مرات .. أنا رجل طبيعي بسببك .. لم أفكر كثيراً في الحقيقة .. لأنه عمي اتصل علي .. فاضطررت للمغادرة إليه .. تركتك وأسرعت ربما أعود قبل أن تفيقي .. لكن الحقيقة .. كان من أجل نادين .. احتجت إليها في عمل ملح .. كان لابد لي من الحصول على موعد من شركة الشحن هنا لملاقاتهم .. وجدتها فرصة سانحة لأختار لك ما يليق بك .. لكنك مرقت وكسرت كل شيء .. عامة كل شيء فداك حبيبتي ".
هتفت بدهشة مستنكرة عبارته الأخيرة :" أنها ثروات كبيرة ".
هدهدها بصوته :" صنع المال ليكون في خدمتنا ولسنا في خدمته .. كل المال تحت قدميك أسوار .. أريد معرفة ما أغضبك حقاً".
لم تكن أسوار من النوع الثرثار فإذا بها تتحول للنقيض بلحظات :" ظننت أني كنت سهلة لك .. شعرت بغضب وحزن عندما لم أجدك .. كان لابد لك من التواجد .. تأخذني في أحضانك تربت على كتفي وقلبي .. حتى لا نكون مثل الماضي .. ليلة زفاف بدأت بمطاردة وانتهت لانتهاك وملاءة بها دمائي .. كنت أموت بالماضي .. خفت أن أموت الآن من لا مبالاتك .. لا أريد أن أكون أي شيء في حياتك .. أريد أن أكون كل شيء .. لا أهتم بالأثواب ولا الجواهر .. أريد حضن يدفئ قلبي .. لا أريد أن أعشق قبور مرة أخرى .. أريد الحياة .. الحياة .. كلمة لم أكن أعرفها .".
تتحدث بلا توقف وهذا لم يغضبه أبداً فهو يريد معرفة ما تعانيه حتى يستطيع الحياة معها .. لن يتجرع فقدها مرة أخرى ..
هتف بها وهو يقبل رأسها :" صدقيني أريد ان أكون رجلاً مهذباً يناسبك .. لم أقصد أن أجرحك اليوم .. خفت من أن يحرجك أحد عندما يعلم أنك وأنا .. لم أرد وضعك في قرار نهائي .. ربما تندمين على هذا .. فأختنق كمداً".
كانت أناملها تمحو تلك الدمعات التي تفر من عينيها تهتف باختناق منبعه الفرح اللذيذ .. تكشف عما بروحها :" هل يخنقك أن تعرف أني ظننت نفسي مريضة بهوس جنسي كل هذا لأني فقط عشقتك وعشقت قسوتك معي .. كنت خائفة من نفسي أن أكره لينك وحنانك .. ولكن تركك لي هذا اليوم .. شعرت أني لا أستحق الحياة السوية ".
لم يجد غير الربت على ظهرها وهو يكفلها برعايته :" كان هذا تحليل باسم عندما قلت أمامه هذه العبارة المقيتة .. علق وقتها .. أن أسوار في ارتباك شديد .. عاملها كما يجب أن تكون له أهل .. أنت زوجتي التي أحيتني .. أنت من دون العالمين من منحتني فملايين الجنيهات فداك .. لأنك تستحقين هذا .. سأجعلك ملكة على قلبي وهذه مكانتك .. ".
دمعات خلفها دمعات لدرجة جلبت البلولة لصدر جلبابه .. علق بابتسامة :" لم نكن بمفردنا أسوار .. كان عمرو معنا .. أنا أجهل اللغة فاحتجت لنادين للترجمة وكذلك لعمرو للقيادة في هذه الأرض الغريبة .. ولا تنسي هو الوحيد مع رشاد الذي يملك إجازة قيادة دولية .. أردت مفاجأتك حبيبتي .".
أخرجها من بين ذراعيه ينظر إليها هامساً :" كان هناك مقولة يكررها أبي دائماً .. كل ما يتمناه المرء يحققه ولكن بعد فوات الأوان .. لم أكن أريد الندم على شيء .. وحسنا فعلت بما سأريه لك .. أغمضي عيناك أسوار ".
تحرك بالغرفة يلتقط الثوب المشقوق عمن على الأرض ويضعه على ظهر مقعد جانبي .. نظر لها ليرى أنها تحدق به فاعترض :" أغلقي عيناك يا نصابة ".
ففعلت ووضعت أصابعها على عينيها .. تغشاها سعادة تتصور معها أنها ستسبح في الفضاء وتذوب في الهواء .. ربما ستموت وأراد الله أن يمنحها قبس من سعادة .. نفضت عقلها من هذا الخاطر الكئيب .. تنفض شعرها معه .. ببربرية ناعمة .. جعلته يندهش لحظة ..
تحرك من أمام اللوحة الربانية لفتح خزينتها محدثاً جلبة أكياس .. مما جعلها تفتح عينها .. شهقة محمومة خرجت من قلب يتمنى أن يكون ما يحدث حقيقة .. تحرك وهو يرفع أصابعه بكيس كبير بريق أقمشته يخطف الأبصار بلون القهوة بالحليب .. فاتحة اللون .. شيء خيالي وغيره وغيره .. ليهديها حقيبة بها علبة أخرى فتحتها لتجد طاقم آخر بلون العيق الأحمر .. هتفت :" لي أنا ؟!!".
ابتسم وهو يضع الثوب أمامه هامساً :" لا أظنه يصلح لي فأثوابي رغم اتساعها لكنها بشكل آخر ".
ضجت بالضحك حتى كادت تسقط للخلف .. بينما هو يكمل طريقه في ردم الثغور بينهما :" لأنك غالية اشتريت لك كل هذا .. لأني أريد تعويضك عن كل لحظة وجع .. كنت جاهل وما زلت .. لكنك تستحقين المحاولة أسوار ".
لا تصدق .. ما تراه .. بريق عينيه كان كاف لتصدقه .. أصابعها على فمها والأخرى مشغولة بهديته المخملية التي وضعتها على الفراش .. فتقترب منه هامسة :" لقد أحببتك منذ رأيتك .. حتى مع خوفي منك ومن انتقامك .. شيء جذبني إليك ِ سنمار ".
أمسك بيديها بين يديه يرفعها لشفتيه السخية يطبع عليهما قبلات غير منتهية .. فتسحبها لتلف عنقه براحتيها تأخذه بين أحضانها فيصدر آهة شيدة الوطء .. كمن كان يتعذب ووجد راحته .. يهمس لها :" كل الماضي بكل ما فيه قد ذهب .. من علمتني الغفران لا استطيع القسوة عليها ..".
عاد يؤكد لها :" كان بدون قصد.. ماذا تفعلين مع جلف مثلي .. تخيلتك تريدين هذا أسواري ".
همهمت بين كتفيه :" أنت رجل مهذب سنمار .. فالمهذب فقط هو من يجرح بلا قصد .. وأيضاً أنت الرجل الوحيد الذي أردت .. فأعذرني ما زلت أتعافى من كآبتي ".
يقبل وجنتيها باعتذار صامت ..هاتفاً بشجون :" أول مرة رأيتك في المقابر .. عادت لي رجولتي في أحلامي وكلما كنت أتخيلك أو أذكرك .. كنت أتوهم ملذاتي .. كنت شيء خرفياً لي ".
ابتسمت له بحياء جعل التورد هو عنوان بشرتها :" كان هناك إغراء أن أكون لك .. فلم أجد الخوف مجدياً .. قررت ان الطريقة المثلى للتعامل مع الإغراء أن أستسلم له .. ففعلت ".
بلمحة كان يسحب ما فوق الفراش ويجذبها بيد من حرير هاتفاً :" صدقتي في قصة الإغراء هذه .. تعالي لتعلميني كيف تستسلمين له ".
سألته وهي تسقط على الفراش بظهرها :" لمن ؟!!".
أجابها وهو يطبق على شفتيها بحنان الرغبة وقسوتها بنفس الوقت :" الإغراء والرغبة حبيبتي الأسيرة ".
ربما ما هتف به هو الصحيح .. فهي أسيرة القمر منذ شاهدها .. جذبها الصياد لعالم جديد من الحياة الحقة ..


بعد قليل**
انتفض على صوت الغالي الذي لم يكن قد فكر في وجوده .. مما جعلها تقفز خارج الفراش المتعضن :" تباً لقد وضعته بالغرفة الأخرى .. كنت أنوي طردكما معاً هناك ".
فضج بالضحك وهو يضجع للخلف :" ابنك أنت حرة فيه .. لن أكون معه بدونك .. لأنه بدونك لا يساوي ".
سحبت جلبابه الملقي على الأرض وسارعت بارتداءه ليضحك أكثر بشكل مغيظاً لها :" اليوم كنت في المعارض .. كل النساء كانت تتفحص ملابسي .. وستجدين صورتي معهن تتصدر عالم النت .. كل منهن كانت تقول كلمة أعلمتني إياها نادين .. "مذهل ". كان صوته يوردها بإنجليزية صحيحة ..
هتفت عند باب الغرفة :" نعم ..الآن فهمت هذه الكلمة ..أليست نفسها ما قالتها لك جليسة الغالي وقد أعلمتك ما هي وقتها ".
لتصدر له كلمتها الأخيرة :" لا مترجم لك من الآن سواي سيد سنمار.. أعرف ثلاث لغات كاملة بإجادة متقنة .. هل ستحتاج أكثر من هذا ".
لم تراه وهو يفغر فاهه.. ويتلاعب بحاجبيه .. عادت بالغالي بين يديها دامع العين .. بينما أبوه يقفز على الفراش بجسده .. مما جعلها تسقط في حائط الذهول .. فتناديه :" سنمار هل جننت ؟!!".
نظر إليها وهو يفتح يديه لها ولكنزهما بين يديها :" نعم .. لأن مثلك زينة الدنيا كلها تغار علي".
كانت تمرر كفها فوق بشرته تهمس بدلال لم تكن تظن أنها قادرة عليه :" نعم .. حبيبي ذو تاريخ حافل .. لن أجعله يبرر لنفسه أي خيانة وتذكر ما زال الشرط بيننا ".
قبل راحتها التي تجمدت على وجنته :" ياه يا أسوار ما تحكينه عن أناس آخرين .. كنت أعيش نكرة بين الرجال .. أواري عاري بالزواج وكنت أشترط على كل امرأة أن فتحت فمها سوف أجعلها تغيب في السجون بموجب الشيكات بدون رصيد التي كنت أصر أن توقعها قبل الطلاق .. تخرج معها أموال تكفيها وأنا أواجه الكون بلا هزائم ".
غمغمت :" لو لم أحبك ما كنت صدقتك أبداً ".
ابتسامة ملا الكون شعت داخل عينيه وهو يقول لها بينما هي ترضع صغيرها ليكمل نومه :" لقد نام اليوم جيداً .. هل سيظل هكذا ليلاً .. أم سنتناوب على حمله ".
ابتسمت مجيبة :" ستحمله عزيزي .. اليوم سوف أذهب لعائلتي .. لم أجلس معهم سنمار .. هل كتب علي الهرولة هكذا ؟!!".
علق بود من يخاف على شقه :" سوف أتكفل به .. من الغد سيكون لديك خادمة وجليسة للغالي .. لأن في الغد سنكون في عشاء عمل .. سوف أذهب مع مترجمتي ".
حدقت فيه تنتظر التوضيح فأجابها بلهفة :" وزوجتي الغالية التي هي مترجمتي الوحيدة .. نادين ستغادر غداً صباحاً .. ونحن سنبدأ شهر عسل .. من الغد ما رأيك ".
مالت تقبل وجنته كرد كاف له .. ثم همست :"أعتذر عن الفوضي بالثوب والمجوهرات ".
ليجبها بهدوء :" كلها محض أشياء .. قابلة للإصلاح .. أنما قلبك لو حدث به شرج سيقتلني هذا .. أريدك دائماً سعيدة .. ألقي كآبتك على ظهري .. ولا تحزني يوماً"..
ما زال خائف من مجرد جملة لم تنتبه إليها من طبيبها النفسي .. هذه الحالة عرضة للرجوع .. يجب عليكم الحفاظ على سلامتها النفسية .. خرج من الفراش في سرواله الداخلي القصير .. يلملم جميع ما خربته أيديهم .. ويجمع الفصوص الزرقاء التي تناثرت ليجعل المعرض يعيد إصلاحها مرة أخرى ..
حريص كل الحرص على مشاركتها أدق تفاصيل حياته .. فهو لم يقصد جرح مشاعرها اليوم ولكنه فعل .. سيكون عليه ان يبرهن لها العمر كله أنها أغلى الناس على قلبه ..
******************

مروان في مكتبه يصدر أوامره :" أريد معرفة من خلف الحملة الجديدة ضد تيمور .. فعالم النت والسوشيال ميديا كله يريد أن نصل به لحبل المشنقة بلا محاكمة ".
هتف أحد الضباط :" معنى هذا أنهم يعلمون أن حالته الصحية صارت أفضل ".
أجزم مروان :" هذا أكيد وإلا سيكونون في لعب .. لابد لهم من التخلص منه ..وهذه فرصة لنا يجب أن نقبض على عدة عناصر فكل عنصر له أهميته مهما قل حجمه .. راقبوه جيداً ".
خرج الضابط ومعه أوامر التكليف الجديدة وداخله شك أن هذه الحملة قد تكون مدفوعة .. هذه صار أشياء دخيلة لكنها مؤثرة ..
كان مروان يصدر تعليمات لمجموعة أخرى :" أريد الوصول لزاهر دحية .. لا تعلموا هادر مكانه.. أو حتى أوامري هذه .. فالأب له سلطة أيضاً .. وكذلك هشام علوان لا تغفلون عن مراقبة قصره المنيف ".
الفترة حاسمة ويجب عليهم الربح في هذه المعركة ..

********************
الملف صار ندفاً من أوراق حتى يحصل على بغيته .. قطعة معدنية صغيرة في يده .. بين أصابعه فلاشة صغيرة يريد معرفة ماذا تحوي من أسرار .. لكنها مغلقة بكلمة مرور .. أراد تجربة أرقام 360 أحوال .. ففتحت معها .. أبرز ما كان فيها تصوير صغير لهاتف يتم وضعه بخلفية الدرج الذي فتحه اليوم بالمفتاح .. وقف مكانه.. يتذكر جيداً كل التفاصيل .. وجيه .. هل أغلقت هذا الدرج مرة أخرى أم تركته هكذا مفتوح للعيان ؟!!.. ليته يتذكر .. وليت الفضول الذي داخله يهدأ قليلاً .. لن يتمكن من الذهاب هذه الساعة وإلا سيثير الريبة في نفوس العاملين يجب عليه الانتظار حتى المساء .. ففي موعد النيابة المسائية سيجلب الهاتف الذي تم إخفائه بشكل لا يمكن أن يصدقه أحد ويا ترى ماذا يحوي ؟!.. وماذا تحوي هذه الذاكرة الصغيرة ؟!

**************
"جهاد معي نسخة من ملف شفاء أرسلته لك عبر البريد الإلكتروني الخاص بك".
خوف شديد قلم أظافر الشجاعة داخل روحها الباسلة جعلها تسأل بجدية :" ماذا هناك مها ؟!!.. تحدثي ".
يأتيها صوت صديقتها عبر الجهة الأخرى من الهاتف :" لقد طلبوا التقرير الخاص بشفاء ومعه الملف .. جميع الأوراق التي كانت بحوزتي .. أتدركين معنى هذا!!".

حركت رأسها بنهي كامل .. ناظرة لتلك الصغيرة التي تجلس هناك أمام الشاشة تشاهد إحدى قنوات الرسوم المتحركة .. وتضحك من قلبها .. كم بدت لها صغيرة جداً في هذه اللحظة .. صورتها الغريبة ببطنها البارز .. أم تحتاج لأم .. أجابت :" ما معنى هذا يا مها ؟!!".
لتصب في آذنها الإجابة التي كانت تخشاها .. لكنها خرجت مخترقة قلبها بعد أن أحرقت أعصاب آذنها :" معانه أن شفاء لم تعد لها صلة بالدار .. كل هذا ليبعدوا عنها أي تصرف حيالها .. حتى لو ماتت .. أتفهمين جهاد ".
قبضت جهاد على قمة قميصها المنزلي .. تحدق أكثر في الصغيرة التي ابتسمت لها وعادت تجذب طرف ملابسها بخجل وكأنها تتلقي لوم من عين جهاد .. لكنها ابتسمت لها لتكون على سجيتها ففعلت .. مالت للأمام لتأخذ طبق المقرمشات وتضعه فوق حجرها وتبدأ في التنعم بأول فترة مريحة لها في حياتها رغم كل وجعها .. لكنها هنا تعامل كإنسانة ..
أخيراً قررت جهاد وحسمت أمرها :"على جثتي مها .. لن ينالوها إلا على جثتي ".
وأغلقت وعمدت على اتصال بالشخص الوحيد الذي يمنحها الثقة كاملة في هذا الجزء الفاسد من الكون .. وجيه محمود الوكيل .. عله يهديها ويجعل هذا الهاجس المخيف يخبو قليلاً.. ففعل وطلب منها إرسال هذا الملف ليضمه لما يجمعه من معلومات ..

***********************

مساءاً
" انتظر هنا رشاد ".
صوتها الحزين خرج بعمق جارحاً كنصل مسنن يدمي وريده .. لا يستطيع سوى الامتثال لإرادتها .. لكنه تحدث مجبراً كنتيجة طبيعية لحالتها وحالته :" هكذا ستسيرين طريقاً طويلاً .. من هنا عند منزل أسوار حتى كوخك .. دعينا ندخل بالسيارة للداخل ".
لم تنصت لصوته وكأنه لا يتحدث .. خرج خلفها بسرعة :" فرسان انتظري ".
خمدت الحياة في قلبها هامسة له :" ليتني انتظرت أشياء كثيرة أهمها اللهاث خلفك .. وخلف الحقيقة ".
تجمدت كفاه على ظهرها ورأسه نام على كتفها .. يهمس :" مليون آسف .. لن تمحي ذنبي تجاهك .. ليتني مت قبل أن أسمع ما قاله الطبيب اليوم .. ليتني مت قبلها ".
همست وهي تبعد يده عن كتفها :" لما تلوم نفسك .. الروماتويد وراثي .. أورثتني إياه أمي .. لم يكن منك ".
تحرك للأمام يقبض على كتفيها من جديد وكأنهما الثبات الذي يريده :" لو سجني لك في السجن العفن برطوبته ما كان ظهر هذا المرض الآن .. أنا السبب ..أنه أنا ".
وضعت أصابعها تكتم شفتيه :" لا تتفوه بشيء .. لا أريد لأحد أن يعرف .. أبونا سيموت لو عرف بما لدي .. وأخوتنا صغار سيضيعون .. وجواد سيتمسك بي أكثر .. وابني ..ابني ".
دمعة فارة من جفنيها .. تنظر لكفيها التي لن تتمكن مع الوقت لتحمله .. هتف بخشونة رجل :" لو كان صغيراً كنت وافقت على إجهاضه .. لكنه خطر عليك الآن .. فقد كبر .. ابتدئي في العلاج فرسان .. من الآن رجاء "
دفعته بقسوة في صدره فارتد للخلف هاتفة بغضب :" من أنت لتقرر عني .. حتى لو كان صغيراً .. كنت لن أضحي به حتى أبدأ العلاج بالكورتيزون .. أتريدني ان أبدأ الآن فأشوه ابني .. أساعد على خلق شخص معاق .. لا .. لن يكون .. أنا أم تريد رؤية طفلها .. ربما يحرم من حضني .. لكنه سيكون بخير .. سليم معافي .. حتى لو سحب كل الكالسيوم من عظامي ليتكون .. لن أفعلها .. يا لك من قاس ".
متمسك بها تاركاً دمعاته تغرق وجهه :" لا .. أريدك أنت على الحياة .. ليست فرسان من تفقد صلابة وليونة عظامها .. شعلة النشاط .. لم أرى طفلك حتى اختار ولكني رأيتك ".
غمغم صوتها بجدية واهنة :" رأيته بقلبي رشاد قبل أن يوجد .. أنا أم واخترت طفلي .. لم يعد هناك مجال للكلام .. ألم تختارك كلاوديا .. اختارت حياتك لأنها أم ".
حجر سميك جثم على عظامه يفتتها .. خرجت أسوار من خلف شجرة تتمتم وهي تحمل طفلها الغالي تلفه بوشاح أبيه السميك الذي نام بالفعل .. بينما هي انتظرت عودة فرسان فهي الوحيدة التي تعلم أن الموعد مع الطبيب .. هتفت بحرقة وكأنها تتأكد مما سمعته :" هل ما سمعته صحيح ؟!".
لم تتحمل فرسان النظرة فلم تجعل عيناها تحاور نظرة أختها التي اقتربت لتضع صغيرها بين يدي رشاد .. لو يكن منه سوى أخذه وهي تقترب من فرسان تأخذها بحنان بين يديها فتجهش الأخرى بدمع فياض :" ابني يا أسوار مهدد .. أما أنا أو هو .. أنا أو هو ".
هتف رشاد بحدة :" أنت فرسان .. اليوم معك سيفرق في الكثير .. لن ننتظر أربعة أشهر كاملة حتى تلدين ثم نبدأ في العلاج .. سيكون وقتها عظامك مثل الزجاج .. الطبيب أكد ".
هتفت من بين أسنانها :" اللعنة عليه .. وعليك .. وعلى كل من يأمرني بقتل ابني ".
ثم أجهشت مرة أخرى ببكاء الثخين من جروح لم تغلق :" الله يعاقبني أسوار .. يعاقبني لأني ذات يوم ابتعت لك أقراص حتى لا تحملين .. يعاقبني .. أما أنا أو ابني ".
ربتت أسوار عليها أكثر وصارت تشدد عليها :" لا فرسان .. كنت وقتها تتصرفين بشكل صحيح .. أنا نفسي في أزمتي كنت أتمنى أن سمعت كلامك .. اختاري طفلك فرسان كما قررتِ .. لأنك قوية لن تتركينه أعرف .. ستتعالجين بعد ولادته وتحمينه بنفسك .. ستحممينه وترضعينه وتحضنيه .. لن تتركيه فرسان أعرف .. كلنا نعرفك ".
همست وهي ترفع رأسها لأعلى بشموخ الفارسات .. تمحي دمعاتها القاهرة من عينيها .. ترسم ابتسامة جذابة تشد بها شفتيها .. تهتف :" هل أنا هكذا بخير ؟!!".
ربتت أسوار على وجهها ومسدت شعرها :" نعم .. رائعة .. فقط تغسلين وجهك وستكونين آية من الجمال ".
تحركت فرسان تأخذ الغالي مستجيرة به :" سآخذه لينام معي أسوار ".
ربتت أسوار على ظهرها قائلة باستجابة :" نعم خذيه ينام في دفئك .. لكن دعي رشاد يحمله عنك .. الطريق طويل عليك ".
تحرك به رشاد للخلف للسيارة .. فلم تجد غير العودة .. ليس من المهم ان تثبت لنفسها أنها سليمة .. لابد لها من عدم إرهاق نفسها لتثبت أنها جيدة أمام جواد .. جواد وفارس ..

*************************

مساءاً**

ساعات وعيناها متعلقة على الساعة الجدارية في بهو منزل الشاعر حيث مقرها العائلي الآن .. آمال الشاعر .. كادت تضج بالضحك عندما قبل حماها فرقها بعد ظهور عائلة لها .. بلين أب حقيقي قائلاً بوهج فخور :" مبارك ما جاءك آمال الشاعر ".
وكأن الأبوة والحنان كان يحتاجن للقب عائلي .. هي ذاتها آمال العلايلي أو وجنة دحية .. عادت تركز على دحية .. نعم اسم له فخامته رغم غرابته .. بصوت حاني رافضة عطية ومنحة حماها الذي طردها لأنها فقيرة بما يتنافى مع كل الكتب السماوية .. كانت تتخيله مختلفاً .. تخيلته شخص قلبه القرآن فيسع الكون جميعه .. لكن القرآن هو قمة الرسالات الإنسانية .. لن يخدشه تصرف أي شخص مهما كان فكلها فروق فردية .. همست بصوتها :" سنذهب بعد عودة أخي الكبير سنمار دحية لنبدل اسمي لوجنة الغالي دحية ".
ثم نظرت لأدم الذي ابتسم لها مشجعاً هاتفاً :" لقد سبق وقلت لك .. أنا أحبك أنت كما أنت .. لن يهمني اسمك ولا لقبك زوجتي الحبيبة ".
تركت مكانها المجاور لأبيه وهرعت تحتمي تحت جناح زوجها ..
للمرة الأخيرة عادت تنظر للساعة . ثم صدح صوتها لأدم تسأله :" كم الساعة .. ألم يقل لك سيصل عصراً".
هتف زوجها بحب .. يقدر ما هي فيه :" للمرة المائة قلت لك الطريق فيه وقفات احتجاجية .. الميادين مشتعلة ".
اختار جرس الباب الطرق الآن .. في لحظة عصيبة لم تعرف ماذا تفعل ؟!!.. ولا كيف ستتصرف جميع الجمل الترحيبية ضاعت هذه اللحظة من عقلها ..
اقتربت الخادمة من الباب لتفتح لولا أمرها : لا .. سأفتح أنا .. شكراً لك ".
لم تجد الخادمة غير التراجع للداخل كما كانت ؟.. تحركت لتفتح الباب .. مع كل خطوة ينتفض قلبها نفضة متوترة تكاد توقفه عن العمل ..
فتحت باب منزلها لتصطدم عيناها به .. شاب في مقتبل عمره زوج لزوجة سمعت عن حبهما الحكايات .. ابتسامته تتألق تحت نظارته الطبية .. غمغمت بصوت كسيح متكسر العظام :" باسم .. أخي ".
دلف وهو الآخر لا يعرف ماذا سيفعل ليجد نفسه يحدق بها ردح من الزمن .. ترك لهما أدم المساحة ليرحب بزوجة باسم ويجلسها :" تفضلي هنا حتى ينتهيا .. فآمال تعشق الدراما ".
لتهتف به وهي تبتسم لأخيها :" أسمعك أدم .. ثم قلت لك وجنة .. وجنة الغالي ".
ابتسامة مشعة من أخيها الذي مال وهو يفرد جناحيه لها .. تقطع الخطوة وتلتحم بأحضانه .. تهتف :" كنت سأموت لو لم تكن حياً .. كنت سأخسرك قبل معرفتك ..أخي الصغير ".

*******************

تركت أخاها على باب كوخها الصغير ودلفت تحمل الغالي وحدها تجتاز طريقاً نفسياً عنيفاً بين قرارين كلاهما أصعب من الآخر.. لتتذكر هيئة الطبيب الجامدة والذي ألقى قنابل في وجهها بدون مراعاة لحالتها .. تباً له .. لقد جعل الدنيا أضيق من ثقب الإبرة داخل عينيها ..أما أنت وأما ابنك .. لن تتراجع عن قرارها .. ربما كما قال لها بالفعل هي مريضة منذ صغرها ولكنها لم تشعر أو كانت تتحامل على نفسها .. كم كانت تمرض وتتوجع وهي صغيرة فكان الجميع يقول لها مرحلة النمو ..والبرد الذي يفتت عظامها لدرجة كانت تشعر أن دفقات الرياح كضربات هاون .. إذا بدأت العلاج تشوه فارس وإذا انتظرت حتى الولادة قد يكون فات الأوان وتدخل في شريحة مرضية أصعب .. حتى مع محاولة تعويض الكالسيوم بقدر لا يضر الجنين سيكون قد مر عدة أشهر لا ضمان بعدها للنتيجة المرجوة ..أفاق الغالي وهي بطريقها للطابق العلوي حيث غرفتها .. تحمل بيدها زجاجة حليبه التي أوشكت على النفاذ فما بها يعد قليل .. يحرك كفيه نحوها بابتسامة .. بينما دمعاتها تهبط في صمت مقيد بالضعف .. لم تشعر بالضعف كما هي الآن ..

وضعت الغالي على الفراش مستلقية جواره .. مدت أطرافها داخل الفراش الناعم تحميها من التجمد .. أمسكت بكف الغالي فيقبض على اصبعها يريد الوصول به إلى فمه ليسكن الجوع الكائن في بطنه قبل أن يطلق أعاصير غضبه بصوته الباكي.. سحبته من وشاحه بإرهاق معنوي .. مستنزفة كلياً .. منحته زجاجته ظل يمتص منها بشفتيه الحمراوين .. ينهمك كلياً في زجاجته ..

عيناها تتجاوزه لتنظر للمرآة الطويلة المركونة بالزاوية لكنها تكشف الفراش .. تنظر للغالي ولنفسها .. وهناك غصة تحكمت في أنفاسها.. برودة أطرافها تزداد.. تشعر بالقشعريرة تهبط على كل جسدها بوابل من زخام بارد .. انهى الغالي زجاجته غمغمت بحسرة للغالي وكأنه يفهمها :" يبدو أنه كان قرار خاطئ إحضارك معي يا غالي .. أتصدقني لو قلت لك ..أني فقدت القدرة على الوقوف كي أعد زجاجة الحليب لك ".
ترى حالتها المستقبلية من هذه اللحظة الحادة في حياتها .. عندما تكون أماً ماذا ستفعل لو جاع طفلها ليلاً كالآن .. سترضعه فقط أم ماذا تفعل .. ماذا لو تيبست عظامها وهي تحمله .. هل ستتركه يسقط .. تدفعها أفكارها أكثر لتحكرها في زاوية ضيقة بعيدة عن الأمل بآلاف الأميال ..

بينما الغالي كأنه كان يفهم بدأت شفتاه تلتوي ببدايات بكاء .. مدت ذراعها تجاهه وأخذته بين أحضانها .. هامسة بما يشبه البكاء :" لا تبك .. فدموعي ستهبط .. لا يا غالي ".

وقفت متحاملة على نفسها التعسة ببؤس دفين .. تحمله فلم تكن قد استعدت لحفل مسائية مع بكاءه .. وقفت تهزه وتربت عليه واعدة إياه بوجبة دسمة :" حاضر .. سوف أجلب لك زجاجة حليب كاملة .. لا تبك إذاً أرجوك ".

كأنه ينتظر وعدها هدأت ثورته قبل أن تبدأ .. كل ما فكرت فيه أنها ستنام محتضنة إياه .. لكنه جائع بالفعل .. قبل أن تتحرك

لتعود هابطة الدرج قاصدة المطبخ ومعها زجاجة الحليب .. تشكر قدرها أنه ما زالت هناك عبوة الحليب منذ كان معها نهاراً .. وإلا كانت ستضطر لقطع الطريق عائدة ..

كانت صفارة جواد الناعمة تسبق خطواته .. كان يبدو متعجلاً من قفزاته المقتربة .. سعيد بشدة كونه سينفرد بأميرته يبثها عشقه الدائم .. دلف لغرفته يعلق بأصبعه سترته التي خلعها على الدرج .. ليجد الغالي بين يديها على وشك البكاء بينما هي تبدو قد بكت بالفعل .. أنزل السترة بإحباط شامل ولم يجد غير أن طوح سترته للمقعد المجاور .. مد أصابعه ليمحو القطرة المعلقة بين أهدابها هذه التي تذبح وريده .. ثم مد يديه يحمل الغالي .. معقباً بصوت لائم :" متى عاد هذا الضيف الثقيل ؟!!.. ألم نكن منحناه لأمه ".

ثم أستطرد يلوم الغالي بعتاب :" ماذا فعلت بأميرتي يا خميرة العكننة .. لما أبكيتها ".

لم يكد ينهي عبارته حتى تيقن الغالي أن طعامه لن يحضر .. وكأنه فهم من نبرة جواد الضيق .. فبدأ صوته ينشج بغناء ما قبل البكاء فيعلو أكثر ببكاء حار.. حاولت فرسان أن تأخذه منه .. لكنه رفض هاتفاً :" أنت أعدي له الحليب .. فأنا لا أعرف هذه الأشياء الدقيقة وأنا سوف أعمل على إسكاته ". بدأ يهزه بين يديه ويربت على ظهره ويتحدث معه وكأنه سيفهم :" ماذا تريد يا ابني .. حليب أم

قصة ".

شعور قاهر بخزي شديد قيد قلبها على طفلها من الآن .. فكلها مراحل يمر بها أي طفل .. كيف بها أن تجابه هذه المراحل الصعبة ..

حاولت الحركة لتهبط لولا صوت جواد الذي لاحظ العناء

الذي هي فيه .. وقنوط ملامحها :" خذي فرسان الغالي .. أشرحي لي كيف أصنع الحليب له .. حتى ننتهي من وصلة البكاء هذه ".

أشارت للزجاجة الخالية مكملة شرحاً :" خذها أغسلها بالماء الساخن جيداً .. ثم ضع ماء فاتر .. ضعه على ظاهر يدك لو لم تشعر بحرارته يكون هكذا مناسباً "... أكملت له معيار الحليب البودرة .. خرج بسرعة قافزاً نفس الدرجات التي كان قد صعدها بسعادة وكأنه في مهمة شديدة الأهمية ليسرع لوضع الغالي في نومة كبيرة ..

*****************

بعد نصف ساعة **
تتحرك بالغرفة مكتفية بالضوء الجانبي الشاحب الذي دوماً تضيئه للغالي .. بعد أن خلعت ملابسها وارتدت منامة حريرية ناعمة.. صدرها أمتلأ فجأة بالحليب وبدأ يقطر خارج جسدها مبللاً ملابسها .. نظرت للخطين المحددين بدكنة البلل تحت صدرها .. لا تصدق وضعها المزري .. كيف وافقت بسهولة هكذا .. تمنح طفلها لأحد آخر .. كان يجب عليها الرفض كلياً لأسباب عدة أهمها لم يفارقها ليلاً منذ حضر على وجه الدنيا .. أنفاسه التي تمد أصبعها كل ساعة زمنية أسفل أنفه الصغيرة لتراقب انتظام تنفسه .. ثم تنام قريرة العين .. حتى لو كانت فرسان تعاني ما كان يجب هذا فسوف يرهقها الغالي الذي نام أغلب اليوم وسيكون على استعداد للسهر وكأنه ببداية يوم جديد .. فهو مهيأ لتغيير موعد نومه ..

تتحرك وكأنها تقيس الغرفة إياباً وذهاباً.. نظرت لسنمار تحسده على غفوته .. فوجدته متيقظ يحدق فيها .. اندهشت لعيناه المفتوحة .. يديه معقودة خلف رأسه .. سألها بجدية قلقة :" ما يجعلك تذرعين الغرفة هكذا بقلق ؟!! .. ثم أين الغالي ؟!!".

غمغمت بضيق مضطرة لإظهار عكسه :" لقد أخذته فرسان لينام عندها .. لكني .. لكنه ..".

هب من مكانه جالساً .. مقطب الجبين .. لم يكن ينتظر منها مثل هذه الاستقلالية فلم تنل موافقته على خطوة مثل

هذه .. لكنه حاول تهدئة نفسه .. بإلهائها بالحديث هتف

مستفسراً :" هل تخشين عليه من فرسان ؟!!.. لا أظن ".

هتفت بضيق نفض قيوده عن تماسكها بالرضى :" لا أخشى .. لكن الغالي جائع ويبكي ".

سألها بحيرة شديدة .. لا يريد إفساد سعادتهما الحالية بغضبه الذي يكتمه داخله :" كيف علمت هذا ؟!! هل اتصلت بك ؟!!".

تحركت لمفتاح الضوء السقفي .. فهم السبب عندما سطع الضوء على جسدها وطريقة جذبها لمنامتها .. مما جعله يسقط في هوة قهقهة سحيقة .. انفعلت حانقة عليه عندما وجدته يضج بالضحك :" لا تسخر مني سنمار ".

لم يصمت بل زادت حدة سخريته .. فرمته بوسادة كانت على المقعد جوارها .. لكنه كان كصقر شديد الانتباه صدها بذراعه هاتفاً :" يا ابنتي عندنا مثل يقول .. ابني على يدي وأذهب للبحث عنه .. ما تمنحينه لأحد بعد هذا .. أنت منحتيه بنفسك ثم تبحثين عنه .. هذا صداع ضيقي العقل ".

كان يقف بالفعل جوار الفراش بلحظات .. ساحباً جلبابه

ليرتديه بسرعة فوق قميصه القطني قصير الكمين

وسرواله القصير .. ووضع قدميه في خفه الجلدي :" سوف أتصرف .. سأذهب لجلبه من جواد .. وأنت بدلي ملابسك هذا .. فرائحة الحليب تتبدل بسرعة .. تصبح بشعة".

طريقته ضايقتها بالفعل وخاصة الحركة المشمئزة التي فعلها بشفتيه الملتوية .. كان كأنه يشمئز منها ومن أمومتها .. شيء صغير من المهانة كبر داخلها بلحظة ، فقررت داخلها عمل انتقامي صغير .. خلعت المنامة ومعها الملابس الداخلية العلوية ووضعتها خلف راسه في المسافة بين المرتبة وحاجز الفراش .. لا تعرف لماذا لم تعد تستطيع المغفرة كحل أولي .. أصبحت مزعجة بهذا القدر .. ولكنه كان يبدو لها يستحق العقاب ..

ارتدت منامة حريرية أخرى .. وانتظرت وصوله ..

بعد قليل **

صوت إغلاق الباب الرئيسي جعلها توقن بأن أحدهم قد حضر .. فلم تصدق بالبداية ان يكون هو .. خافت أن يكون أحد آخر .. انتفضت مستفسرة خشية حضوره مفردة

بدون صغيرها :" سنمار ؟!!".

كانت خطواته متلهفة داخلاً بحمله الصغير المتيقظ الصامت :" أقسم بالله العظيم هذا الصغير سيفقدنا جميعاً

عقولنا ".

ثم نظر إليه مستمتعاً بابتسامته السخية :" يا نصاب .. ألم تكن تبكي بمرارة عندما التقيتك ؟!!.. هيا أجب!! ".

وضعه بين يديها .. ثم خلع جلبابه مكتفياً بقميصه القطني بنصف كم وسرواله الأبيض.. صعد للفراش منتظم الأنفاس وكأنه لم يخرج لمكان .. ثم جلس يتكئ للخلف بينما صوت صغيره يناغي أمه وكأنه يحدثها فتحتضنه وتتلون عيناها بدفء خالص .. منصته لسنمار الذي أعلمها ما غاب عنها :" وجدت جواد في منتصف الطريق .. ابنك جن بالبكاء وأفقد جواد عقله .. كان خائف أن يظن الناس في المنطقة أنه قام بخطفه .. كان قادم يمنحنا خميرة العكننة كما أطلق عليه ".

هتفت بضيق وكأن الدنيا كلها هانت أمام اللقب الجديد

الذي منحه جواد للغالي :" نعم .. خميرة عكننة .. هذا

الغالي دحية ".

فخر أم يطل من بين طيات كلماتها .. ثم استطردت :" سنرى طفله كيف سيكون .. وقتها يطلق عليه ما يحلو له .. أما ابني لا أحد يتحدث عنه فهو ملاك ".

أجابها بهدوء خبير :" كل أم تقول هذا عن طفلها .. القرد

في عين أمه غزال ". نظرت له شزراً وكأنها تلومه

منحته صدرها ليرضع فتجد صوت زوجها يعلمها :" ليس بجائع لقد أطعمته فرسان وجواد ولكنه علم انه بأرض غريبة عنا .. فأعلن الحرب بالبكاء".

هتفت بألم وهي تعيد صدرها داخل ملابسها :" صدري يحن بالحليب سنمار ويؤلمني من الحليب ".

أجابها بهدوء الخبير :" كلها ساعة وتجدين وحشنا جاع من جديد .. انتظري قليلاً ".

ابتسمت قائلة :" من أين لك بكل هذه الخبرة .. فأنت هنا من يومان فقط ".

أجابها بابتسامة :" الخبرة منذ كنت طفلاً .. فوجنة كبرت أمام عيني وكنت مع أمي عالية في كل خطوة .. وباسم أنا من كنت معه .. فرحيل لم ينزل لها حليب في صدرها فكنت أنا أمه وأبيه ".

ضحكت بينما تقول له :" من هنا علمت ان الحليب تتبدل رائحته ".

أجابها بإيماءة من رأسه .. وإشارة لتقترب منه ففعلت بينما يقف على ركبتيه يحمل منها الصغير ويأخذه يوسده الفراش ثم يهتف به بابتسامة :" أنت يا أخي .. ألن تنام

قليلاً.. أريد الشعور بأني عريس جديد .. نم يا أخي ".

كانت أصابعه تدغدغ بطن الصغير فيضج بالضحك كما لم يضحك من قبل .. سعاة غامرة .. جعلتها تسأله بما في نفسها من وهن .. فكل شيء ينال من كرامتها على نحو مزعج :" لكنك كنت مختنقاً وأنت ذاهب إليه لجلبه ".

نظر لها باستغراب مستدركاً ما تعنيه ليجيبها بصدق بلا مجاملة :" مختنقاً منك .. ليس منك تحديداً ولكن من تصرف ما.. وليس منه .. أسوار لا تنسي أنه ابني أيضاً .. عندما تركناه مع فرسان بالنهار وضع أما الليل وضع آخر .. كم كنت أتمنى أن ترفضي ذهابه أو حتى تعلميني ,, تأخذين رأيي.. أنا أرفض أن يبيت أحد من أفراد أسرتي بعيداً عن عيني .. خاصة والأخ نائم طول النهار.. مرتاح الآن ونحن عبيد سيادته.. فلا داعي لنزعج البقية ".

كانت أصابعه لا تكف عن دغدغة الصغير الذي لم يكف عن الضجيج الضاحك ..

مر الوقت بهم .. حتى داعب النوم عيني سنمار فغمغم :" يبدو أن السهرة الليلة مع الغالي .. سأنام حتى أستطيع أركز غداً ".

تركهما معاً وحاول معانقة النوم الذي يحتاجه بالفعل

فلديه موعد عمل هام في الغد .. وضعه المرهق جعلها تنسى تماماً انتقامها الصغير ..

*****************
بعد ساعة كاملة **
يتحرك جواد في نومه يتقلب مما جعلها تنظر إليه منكمشة على نفسها وكأنه سيكشف سر استيقاظها .. لا تصدق أنها وضعت حاجز اليوم بينهما .. عندما أخذ الغالي :" سأذهب به لعائلته هذا الصغير مرهق وواضح أننا لسنا على

هواه اليوم ".

همست به :" آسفة طلبت من أسوار .. بل رجوتها منحه لي .. حنين مباغت ".

ابتسم لها :" أكيد .. لكن وفري طاقتك لطفلنا الذي شبه واثق أنه سيكون أقل جنوناً من خميرة العكننة ابن سنمار ".

ضحت بابتسامة رائقة .. بينما هو يأخذ الغالي يحقق معه بصوت ناعم :" ماذا جاء بك .. تتمسك بنا ثم تبكي يا طفل .. كن بقدر كلمتك ".

وعاد بعد قليل .. وجدها بالفعل كانت بالفراش ليهتف بها :" نعم حيث أريدك تماماً ".

حركت سبابتها برفض كامل :" جواد أريد النوم اليوم كانت المقابلة مرهقة جداً".

ابتسم وهو يبدل ملابسه مرتدياً سرواله الطويل .. يتذكر رشاد الصامت الذي تدفن عينيه عبرة غريبة حاول يواريها فلم يفلح :" نعم .. أدرك أنه كان مرهق بالفعل .. لكن هيئة رشاد تقول أن هناك شيء كبير .. ماذا هناك فرسان

؟!!".

لم تجد رداً ملائماً غير هتاف ضائق :" لا شيء جديد جواد .. أنا فقط خائفة من العودة .. خائفة من مواجهة الناس جميعاً .. أليس هذا من حقي ".

استلقى جوارها .. لتجد صوتها يتقطع أكثر :" خائفة على طفلنا .. خائفة جواد ".

هتف بحيرة شديدة كأنه يقصد كوثر :" ربما خائفة على طفلنا لكن ليس من الناس بالوطن .. كنت سعيدة جداً حتى اليوم صباحاً .. بالتحديد بعد أن تناولنا الإفطار عند سنمار .. ماذا حدث وغيرك .. أنت حتى لا تريدين النظر إلي.. تتهربين بنظراتك فرسان ".

تنهدت ببطء .. ثم منحته ظهرها هامسة بكلمات قاطعة :" تصبح على خير جواد ".

بعدها لم يتركها بل مد ذراعه تحت عنقها كما اعتاد وتدثر معها بنفس الغطاء يمنحها دفئاً وعذاباً بنفس الوقت ..

للآن لم تنم رغماً عنها .. خائفة حد الموت من أن تأكل عظامها بسبب الرطوبة التي تحتويها ..

هذا الهاجس من تأنيب الضمير يكاد يخنقها .. لكنها لن تستطيع مواجهة نظرات شفقة حتى لو كانت غير مقصودة منه بالذات .. جواد أصلاً يعاملها كزجاج سهل الكسر .. لو علم سيشعرها بالمرض في كل لحظة .. وقتها ستموت جذور الحب داخلها .. واهتمامه سيخنقها ..

وضع راحته على جفنيها وهو نائم .. مما جعلها تنتفض وتحدق به في ظل ضوء الغرفة الشاحب .. وجدت عينيه مغلقتين .. لكن أطرافه التي مسدت عينيها تشي بغير ذلك .. غمغمت باسمه ..تستطلع يقظته :" جواد ".

فلم يأتيها صوت منه فقط صوت أنفاسه المنتظمة عاد يسحب يده ويضمها بها .. غمغمت داخلها :" ماذا أفعل في حنانك جواد .. لا أعرف هل سأهزمك لو علمت أني مضطرة لفراقكما يوماً ".

الرحيل .. هل هو قرار أم فرض عين .. وأي رحيل تقصده ..

رحيل داخلها .. حتى الآن لم تتضح لها الرؤيا .. فكله ضبابي .. ومعتم ..لكن حتى مع المرض ستجد منه تباعد رغماً عنه .. وعنها ..

******************
ينام بالفعل وتنتظم أنفاسه .. لكن رائحة الحليب تملأ أنفه .. تحرك وقلب الوسادة .. ثم حاول إعادة النوم مرة أخرى لكنه كان مستحيل ..

غمغم بصوت محتقن بالإرهاق :" أسوار هل ملابس الغالي متسخة بالحليب ؟!!". انتفضت حقاً من مكانها ولم تجد سوى إجابة سيعرفها لو دس أنفه في طفله :" لا .. لقد بدلت له ملابسه قبل أن ينام .. ربما تكون ملابسك أنت ".

لم ينبس ببنت شفة .. بل جلس معتدلاً وسحب القميص العلوي وخلعه عن صدره المفتول بالعضلات .. جسد بناه العمل الشاق ثم طوح به بعيداً بعد أن شمه :" لا أظن .. ملابسي نظيفة .. سأفقد عقلي لي ساعة لم أستطيع إغماض عيني فيها ".

عاد يتوسد برأسه وسادته لكن تسلل رائحة الحليب الدهنية كانت تزعجه .. رفع الوسادة الصغيرة ووضعها أرضاً ثم رفع الكبيرة ليجد ألوان جديدة لا تمت للفراش وأغطيته بصلة .. سحبها ليجدها منامتها وملابسها الداخلية بما فيها حمالتها الصدرية .. كانت تشعر بالحركة خلفها ولا تستطيع النظر إليه حتى لا يكتشف فعلتها .. قلبها ينبض برهة ثم تتوقف عن التنفس فتتوقف نبضاته كاملة .. تشعر أن حركتها الانتقامية ستقضي عليها .. ثم تعود فتحاول تهدئة نفسها وخاصة والحركة مستمرة خلفها ..

فجأة وجدت ظهره خلفها يدفع ظهرها بدفء ويده تلوح لها من أعلى بملابسها التي تتأرجح أمام عينيها بإنذار :" كنت تنتقمين يا صغيرة .. لم أكن أعلم أنك شريرة لهذا الحد .. حسناً".

حاولت الخروج من مكانها فلم تستطيع .. كانت إحدى كفيه تقبض على كفيها بيد بنعومته جعله أي احتجاج منها يموت في مهده .. بلحظة كانت حمالة صدرها تعقد حول رسغيها فتمنعها الفرار أكثر حاولت أن تهمس بصوت خفيض :" هل جننت سنمار؟!! .. فك قيدي ".

لم يفعل بل كانت يده تحمل يديها حول عنقه قسراً ثم تمر حول كتفيها همسته الناعمة في آذنها كذهب مذاب تفرغ داخلها حرارة وسخونة سرت من حيث صوته إلى

أطرافها :" كنت أتوق لحملك هكذا.. منذ وجدتك ".

حاولت أن ترفع كفيها من خلف عنقه ولكنه منعها بقبلة على وجنتها ..و بيده الأخرى التي قبضت على خصرها وصوته الحازم يأمرها :" إياك والصراخ حتى لا توقظين وحشنا الصغير ".

رفعها لأعلى كتفه ثم عدل وضعها لتكون فوق ذراعيه بينما يضج قلبه بالنبضات فتصل إليها تكبل كل خلاياها لتكون معه هو وحده وكأنه أمر جسدها باستجابة حارة ثم يبتسم وهو يقول :" ذكرتيني بالماضي .. هذا الصغير ولد على رائحتي .. كنت تسرقين قميصي الداخلي وتضعينه تحت وسادتك ..".

هتفت به بلا وجع يذكر بقوتها الجديدة لن تحيا في أوجاع الماضي :" كنت تعرف.. تستحق ليلة مسهدة إذاً .. حتى لا تغضبني مرة أخرى ".

خطواته تغادر الغرفة فتضع قدمها على قائمة الباب :" أين تذهب بي والغالي؟!! ".

نظرت لطفلها تجده في منتصف الفراش ومحاط بالوسائد .. نائم في ملكوت آخر .. لا تدري متى فعل كل هذه الحماية له .. فيحدثها :" لقد أيقظتني فعليك تحمل العواقب .. هكذا أنا .. كنت خائف أن أقترب منك .. لكنك دعوتني ".

هتفت فيه وهي ترخي ساقها فتترك موقعها :"لم أقصد دعوتك .. ثم لا تكذب سنمار أنت خائف حقاً ".

أجابها وهو يتحرك للغرفة المجاورة الخالية حيث كان سيكون مكانه عندما وصل :"لا أسوار لم أكذب عليك أبداً.. أنا خائف أن أتقدم تجاهك فأفقدك.. هل ظننتِ أني مستريح في النوم بعيد عنك حتى لو كان ما بيننا ابننا ..أعلم أني السبب .. كم كنت غبياً عندما ضيعت أشهر بعيداً عنك ".

دلف بها ووضعها على الفراش برفق ثم صعد جوارها :" باب المنزل قد أغلقته بالمفتاح والغالي لن يسقط من فراشه .. دعينا نحن نسهر حتى نقتص من الماضي ".

ابتسامتها جعلته شعر بأن الخوف قد تم دحره نهائياً بينهما

هتفت بهمسة متوجعة لا يمكن أن تبعد عنها الهاجس الخائف :" كنت أحتاجك وقتها ..أردت الشعور بأن هناك من يهتم .. لكنك تركتني ".

غمغم بصوت متحسر ليقنعها :" كنت أهرب .. أهرب والخطة قد ملأت عقلي وقلبي .. لن أرتضي بوجودك مع كل تأثيرك علي .. كان سيكفيني الغالي هدية منك ".

هتفت بجدية مختنقة :" لم أمنحك الغالي لتأخذه .. أتعلم ما زلت حتى الآن أضع اصبعي على أنفه كل لحظة وهو نائم خشية ان أكون قد خنقته وقت إرضاعه .. شعور رهيب سنمار ".

مال عليها يحميها بحنانه .. يمنحها قبلات صغيرة معتذرة .. حتى نال ابتسامتها التي أنارت له الدنيا أمامه .. فيجيب عليها تحم الماضي بكل ما فيها فلا تجعل الكآبة تلون حياتهما .. لتعود للنقطة الأسبق لتجلب البسمة بينهما :" كنت تعلم إذاً أني كنت أسرق ملابسك .. شيء غريب .. وحامي كان عليك.. أكرهك وأعشق رائحتك ".

غمغم هو وهو يدفنها داخل صدره أكثر :" ربما ألقى الله هذا في قلبك حتى أظل ألوم نفسي عليك كل لحظة وأنت بعيدة عني .. ولا تتحدثِ عن فترة فراري منك قبل ولادة الغالي .. فما كان هناك وقتها شخص خائف مما وجد نفسه فيه .. شخص بلا عقل أو تعليم .. كل ما يستطيعه وضع اللوم على أحد آخر غيره .. لكن أسأليني عن الآخر الذي وجد لديه القدرة ليعترف بكل شيء حدث له بالحياة .. رجل أنت أعدتِ خلقه من جديد بحبك .. صار مختلف ".

مدت شفتيها تجاهه لتقبل وجنته فيهتف بها وكأنه ينصت لأغنيه تطربه :" الله .. الله.. الله .. أجمل شيء فيك عطاءك .. هيا لأقتص منك لإفسادك نومي ".

ضجت بضحكة تحمل دلال سعيد .. ثم دفعت نفسها داخل أحضانه .. شيء جديد يولد بينهما .. رضى وأحرفه هادئة .. لوم واعتذار وتقبل .. كلها أبجديات يتعرفون عليها معاً .. لم ينتظر منها أكثر من هذه الحركة الطفيفة فحملها معه لعالم جديد .. آفاق رحبة من نعومة الحياة وشغفها ..

*****************

شعور قاسي بالحقارة يجعلها ترفض النظر لنفسها في مرآة زينتها .. تكتف جسدها بأطرافها تطبق رأسها على ركبتيها.. تسكن العار الكامن في نفسها .. الرخص الذي فعلته يشل أطرافها .. يمنعها الحياة .. لا تعرف كيف جعلت إرادة الحياة داخلها تدفعها للخطيئة بحق نفسها .. حتى لو كان زواج .. لكنه زواج لا يعلمه أحد .. لا تستطيع الخروج به للنور .. دلف عليها أخيها الأكبر يمج سيجاره الغليظ هاتفاً بها بضيق :" هل ستظلين هكذا نادرة ؟!!.. المحامي

قادم.. هيئي نفسك لمقابلته".

لم ترفع حتى عيناها ظلت تطبق بذراعيها المعقودة أمام ركبتيها .. تدفن رأسها من نفسها .. كنعامة ضعيفة ورطت نفسها وتعتقد أن الكل لا يراها .. تمتمت ببرود :" ماذا هناك ؟!!.. ألم ننتهي من كل التهديد بعد القبض على فريد الدهان .. لن أكمل القضية .. من أجل التوأم لن أكملها كمال ".

ابتسم أخيها بسخرية .. ناظراً لها تحت مئزرها الحريري الفاخر .. ثم تولى الشرح الذي دائماً يغيب عنها :" يا ابنة الطويل .. لن تنجي ممن هم أكبر من الدهان .. تظنينه بمفرده .. ثم أي توأم الذي تنظرين إليه .. الذي أذكره أنك كلما هاتفتيهما لا يجيب عليك أحدهما ".

سقطت عيناها على هيئته الفارعة ثم همست :" أبوهما مريض .. وهم معه وحدهما ".

ضج بضحك خبيث :" ألا تعلمين أن فرسان بحثت عن أخيها رشاد هذا ".

دهشة صاعقة حطت داخل عينيها وهتاف حاقد ملأ عقلها .. لكنها لم تجب ليكمل أخيها ذبحها بسكين بارد النصل :" أتعلمين من هو ابن راشد وكلاوديا .. أوبالدو فيتوريو ".

هبت مكانها لتقفز أرضاً .. تعرب عن هويته :" صاحب بنك فيتوريو .. هذا الثري المدلل".

كان من ضمن الشخصيات التي تتابع رحلاتها بعين الحسرة .. فيخمد أخيها بارقة من أمل ضعيف كانت برزت عندما فكرت بتكالب .. أنه لن يحتاج المال من راشد :" المال يعشق المال .. وهو سيأخذ مال أبيه كله .. حتى لو من أجل الانتقام .. لماذا عاد مع فرسان التي قد تكون عقدت اتفاق مع أخيها الكبير لتأخذ حصتها من مال أبيها .. هي الوحيدة المضارة هنا ".

انطلاق كلمة الحق يأتي في مواقف مثل هذه عندما هتفت نادرة بنهي قاطع :" فرسان لا تفعلها .. تحافظ على أموال أبيها من الضياع مهما كان السبب ".

بدون تردد علق محبطاً طريقها .. فهو الآخر لن يدع أموال راشد .. كفاهم أموال ابنهم الجديد :" عندما يحرمها أبوها ماذا عليها ان تفعل وزوجها كما فهمت منك ليس بالقدر المالي .. اتكهن أن هناك أتفاق مرضي لها ".

هتفت به وهي تعقد ذراعيه أمام صدرها :" حتى لو تم هذا .. لن أكمل القضية .. توأمي لن يعجبهم الأمر ".

هتف بغضب بارز في نواجذه الضاغطة على بعضها :" بل أنت

في اضطرار لتكملة هذا الطريق .. بدلي ملابسك المحام على وشك الوصول ".

مدت أصابعها تقبض على ذراعه قبل أن يستدير عنها :" لن أفعل حتى أعرف ؟!!.. إصرارك هذا معناه أن هناك جديد ..أم تراك صرت الطامح في أموال أولادي ".

نظر لأصابعها بضيق ثم سحب ذراعه مهمها :" المحامي سيعلمك كل شيء.. سأنتظرك .. في غرفة المكتب ".

لا يدري ماذا يقول لها ؟!!.. أن هشام علوان بنفسه قد بدأ في الظهور خارج الحماية .. وهو من أتصل به حتى يكون مال راشد مقابل طلب من فرسان .. هذا الطلب لا يهتم راشد بتلبيته ..

بعد دقائق **
" نعم ماذا تقول أستاذ عادل ".

نظر لها وهو يسحب الأوراق من جديد ليضعها في حقيبته .. ثم أكمل بتؤدة :" السيد راشد يبدو أنه دعس قدم أحد الكبار ذو المقامات الرفيعة والصلات الشديدة .. أحد من فئة الرجل المهم .. هذا الرجل لن يترك راشد .. يريده فقير معدم .. وقد تحركت الآن أجهزة الدولة لوضع كافة ممتلكات راشد تحت التحفظ .. لو أردتِ حفظ مال أولادك سيكون عليك الاستمرار في القضية .. وجود قُصر يمنع التصرف في أي أصول ".

ثم أخرج لها مظروف مده لها .. أخذته لتفتحه .. سحبت ما فيه لتجدها صور لها وهي مع فادي عبد الجميل .. كانت ترقص معه .. وله في منزله .. شعرت برخصها أكثر .. اهتزت أصابعها فانهارت الصور كدليل إتهام متساقطة على حجرها ثم تهاوت على الأرض تحت أقدامها ليتوغل الذنب أكثر داخلها .. وشعور الرخص يرسخ أكثر في قلبها .. صوتها يهترئ بتأكل مسموم:" من هذا الحقير ؟!!.. من أرسل لك هذا؟!!".

صوته حسم الموضوع :" ليس هاماً من هو ؟!!.. رغم أني أعتقد أن السيد كمال علم هويته جيداً وعلم إمكانياته .. المهم الآن مواجهة الفضيحة .. هذا الشخص لا يلعب .. مستعد لهدم كل الجدران المقامة ليصل لحاجته .. هل أكمل الإجراءات أم أنسحب من الطريق ؟!!".

علمت أنه لن يقف معها في نفس الخندق .. ونظرت لكمال الذي كان يضغط على أظافره كطفل صغير فتدرك أنها صارت وحدها .. لا يهمها سوى طفليها على كل حال فالطعنة في المال تختلف عن الطعنة في الشرف .. الشرف قاتل .. حتى راشد نفسه كان سيختار أن يفقد ماله كله ..ولا تفقد هي شرفها .. تعلم أنه سيحميها من نفسها .. مدركة الآن فقط أنه كان يحميها من مغبة الأيام ومن كل شيء ..

أفاقت على سؤال المحامي الجامد القلب الذي يمد لها ورقة وقلم لتوقعها مخيراً إياها :" هل أكمل أم تكملين وحدك مواجهة صقور الإعلام ؟!!".

ليهتف أخيها محاولاً لملمة شأن الوضع كله للخروج بأقل خسائر ممكنة :" قل لمن أرسلك سنكمل ولكن بشرط واحد .. نريد وثيقة زواج موثقة قانونياً .. زواج شرعي ووثيقة طلاق كذلك .. يتخذ هو خطواته مع فادي عبد الجميل .. الذي لا يجيب علينا وغالباً تحت أمر من الرجل الهام ".

خطوة مقابلها خطوة .. تعرف أن أخيها هو الآخر يحمي نفسه ومشاريعه .. لكن هذه الخطوة ستجعلها على ارض ثابتة .. تضع العقد في عين من يتحدث عنها بسوء ..

فأومأت برأسها في استجابة راضية .. تحل الآن ما تستطيع

حله ثم في تحاول لملمة شمل عائلتها التي تفككت بلمح

البصر .. كل هذا لأنها سمعت كلام هؤلاء المحيطين بها من أصحاب القلوب الضعيفة حتى أموالها التي في القناة وتلك الشراكة مع زاهر وميادة أصبحت عرضة للضياع بعد الحجز على جميع ممتلكات ميادة جبر وإغلاق القناة ..

طلب الرجل الانفراد ليقوم باتصال هام في القضية .. وبعد دقائق كانت خطواته الواثقة تتحدث مترادفة مع صوته :" سيكون هنا بعد ساعتين السيد فادي والمأذون واثنين شهود .. سننتهي اليوم من هذه القصة .. ولكي تكوني على ثقة سأرجئ التوقيع ليكون بعد العقد والطلاق ".

سأل أخيها بلهفة المستغيث :" كيف سيكون الطلاق بذات يوم الزواج ؟!!".

أجابه المحامي الحاذق :" هذا عملنا نحن .. لا تشغل بالك سيكون الزواج اليوم والطلاق غداً ولن يستطيع فادي رفض أي شيء .. لا تخشى شيئاً".

بعد ساعتين **

جلست ترتدي أفضل أثوابها فلن تسعدها نظرة غير التي

اعتادت عليها من الجميع .. لا تريد نظرة رثاء أو حتى احتقار .. كفاها ما بنفسها من تعقيد ..

انتهى العقد وأعلنهما المأذون :" الوثيقة بعد أسبوع ". جمع

دفاتره .. بينما مال المحامي على نادرة يمنحها الورق لتوقع له على توكيلها ليستمر بالقضية ..وغادر ليقف فادي يتهيأ للمغادرة .. أستوقفته نادرة بصوتها :" كم أخذت مقابل هذا العقد ؟!!".

استدا ناحيتها يحدق فيها .. ثم يجيبها بوقاحة :" كنت دائماً أسعى خلف من هم مثلك .. سيدة كبيرة وحيدة تريد التسلية والاهتمام .. تريد سرقة أيام من شبابي .. صفقة عادلة .. المال مقابل أيام .. لكن اليوم أنا عقدت صفقة أكثر من عادلة .. التوقيع على عقد زواج وطلاق بالغد مقابل حياتي".

اندهشت وعيناها اتسعت بدرجة كبيرة .. معتقدة أن هناك تهديد بالقتل كان كسيف مسلط على عنقه .. ليبدد لها هذه السحب من فوره فلن يحتمل عاطفة منها :" نعم فشفاء هي حياتي .. حياتها مقابل عقد زواجك .. وحياة طفلي في بطنها مقابل طلاقنا .. عندما أجدها لن أترك أحد يمسها بسوء .. فكل ما أفعله من أجلها هي فقط ".

وعت أن الدار بكل ما فيها لم تكن تحت سيطرتها يوماً .. لذا غاب عنها حتى السؤال عن الفتاة التي فرت وهل عادت أو وجدوها .. ليهتف هو مؤكداً لها تلك النقطة :" أكيد لم تكلفي ذاتك وتتصلين بالدار لتعلمي ما حدث لها ؟!!.. أهبطِ من برجك العاجي سيدة نادرة الطويل حتى تري الناس على الأرض .. كم أتمنى رؤيتك عندما ..".

أدرك أنه قد تحدث أكثر من اللازم .. نفث تنهيدة واحدة .. دلف أخيها يشير له بأصبعه كخادم لديه :" أنت هيا .. لا تجعلني أراك أبداً".

ليهتف له فادي بحقد مظلل جفنيه :" إنها أمنيتي .. لكن يبدو أنك ستراني كثيراً ".

نظرت له تتمنى أن لم يكن أخيها دخل لتوه .. تريد معرفة ماذا يدور خفية عنها .. غادرها وكأن ما بينهما هو مجرد تنهيدة خرجت في لجة جنون..

خرج يبحث عنها بعيونه عن شفاء ..لا يعرف لماذا يعتقد أن نادرة قد تكون قد أذتها لتؤذيه هو .. لا يعتقد أنها لا تعرف عنها شيئاً لذا سيورطها أكثر حتى يضغط عليها فيعلم أين أخفت عنه شفاء ؟!!..

يقطع الحديقة الكبيرة حتى سيارته المصفوفة بالخارج .. ما زال داخله الحقد على نادرة تلك الحقيرة التي تقطن القصور .. لكنها كانت السبيل لاتفاق جيد ليخلص شفاء من قدر قد خطوها لها وهو الموت .. هي وما تحمل لتعريض الدار للخطر وكشف ما يحدث ومعه أعناقهم معرضة للقطع ..

******
أظهر لها جانب لم تكن تعلم عنه شيئاً .. تريد معرفة ما في الدار ،وما يحدث فيها كانت تظن أن فريد الدهان قد زور هذه الأوراق ليوقعها في شباكه لكن من الواضح أن هناك أشياء أكبر مما هي فيه من نعمة وراحة .. بيع الأطفال الذي كانت ستجد فيه نفسها ربما يكون أقل شيء .. فتيات في سن المراهقة .. شفاء وطفلها .. كل شيء أنار لها في عقلها زوايا مظلمة .. هناك جرائم ستتورط بها حتماً .. كانت تعتمد على الجميع .. ثق بهم جميعهم متناسية أن مفتاح الشر يكمن في الغفلة .. تستعيد الآن كلمات راشد .. لماذا الآن يا نادرة وطعنتك سترشق قلبه ..

أن كانت قد دلفت بقدميها للشبكة وسيتم قطع أوصالها .. يجب عليها أن تنقذ راشد من أجل أولادها .. تستحق ما تعانيه حقاً ..

عاد صوت أخيها يرغي ويزبد فيها :" أستسمحين له أن يتسلل لك من جديد نادرة ؟!!".

حدقت فيه واعية لما يقوله لها .. لقد فقدت الاحترام بسببهم .. نظروا لها كقطعة فاكهة ناضجة يجب الاستفادة منها ففقدت كل شيء بسبب تفكيرها ودلالها .. طوحت له كفها في إشارة بعدم اكتراث ثم تحركت من مكانها تحمل هاتفها مغادرة المكان .. فهو يبحث عمن يغطي تكاليف مشروع القناة الفضائية الخاسر بسبب ميادة ومروان الشاعر ..

كررت الاتصال بذات الرقم الذي لم تعد تتصل بغيره ..

همست بكل توسل تملكه :" رجاء مالك .. رد علي".

لكن لا مجيب لها هذه المرة أيضاً .. أتصلت على آنس الذي أجاب على الفور بتراحبه الدائم :" مرحباً أمي ".

ودت أن تستفسر منه عن شيء حرق أطياف قلبها :" مرحباً آنس .. أراك ما زلت تتحدث معي .. لم تتأثر بمالك ".

ليجيبها بما لم تكن تتوقعه ذات يوم :" أتقصدين بسبب خداعنا من أجل المال .. أم خداعنا بسبب العشيق المراهق أمي ".

انتفضت مكانها .. وانعقد لسانها بشلل مؤقت .. لم يحتج للرد منها فعقب :" السبب يكمن في كلمة أمي .. أنت أمي وقد وصانا الله عليك وعلى أبي .. لن أكون ولداً عاقاً لأي منكما.. الخداع سيحاسب عليه الله .. قصت لنا فرسان ذات يوم عن أحد الصحابة كان قد أسلم ووالديه مشركين .. كان رسولنا الكريم يأمره ببرهما .. لذا أجيب على هاتفك أمي ".

أدركت خسارتها الفادحة وربح فرسان التي كانت مع أخويها دائماً تمنحهما بلا توقف .. بينما هي تفكر في كم ستنال من أبيهما .. وكم ستأخذ من أموال الشركة .. وأين ستنفق هذه الآلاف وهنا تتباهى بما لديها من مجوهرات وملابس .. فجأة كل شيء ذهب مع ميادة جبر بغير رجعة حتى لو عاد سيعود بالتقطير.. هذا لو اعترف جبر نفسه بأنه سيرد الأموال عن ابنته .. يكفيها أنه لم يذكر اسمها بالقضية الملوثة للسمعة .. حمدت الله أن جعل هذه الأموال بلا عقود شراكة فعلية .. فكل ما تملكه عقد ابتدائي وشيكات من توقيع ميادة .. تخشى إظهارها حتى لا يتم تلويث أسمها ..

استفسرت ببطء ممتقع في الرخص :" كيف حال أبيك آنس ؟!!".

علق ببطء مماثل فهذه أول مرة تسأل .. ربما يكون في الأمر خدعة :" لا يوجد خير جديد غير ما يذاع ".

هتفت تحدثه بحميمية أم :" لا تخش على أبيك آنس فهو قوي .. كان دائماً يردد الأخبار السيئة تصل أسرع ".

صمت فلم يعرف بما يجيب عليها لتحسم أمرها بعد ثوان

انتظار :" أريد منك إيصال رسالة لأبيك .. أريد التواصل

معه .. ضروري .. بل بشكل مُلح يا آنس .. لا تنسى ".

أجابها بنعم :" سوف أفعل .. وداعاً".

صار يستخدم كلمات الفراق معها منذ ابتعدت عنهما .. نعم هي تستحق هذا وأكثر .. الآن فقط أفاقت لنفسها .. ليتها كانت أوصدت باب الشهوة التي رتعت في عقلها تريدها أن تعانق هواجس الشيطان ففعلت .. والان الحسرة من نصيبها وحدها ..

كورت جسدها كجنين خائف من لفحات البرد القاسية .. تشعر بلدغات الخيانة كاحتراق الجليد ..

**************
" معنى كل ما تقوم به سيد هشام أنك لن ترحل الآن .. ألم تكن هذه فرصة لك لتغتنمها ".

يمد لضيفه علبة سجائره :" لا .. لن أجعل راشد دحية ينتصر .. الذي سيحمل الوزر كاملاً هو هادر دحية .. سوف أرسل لعمله التسجيل الذي فيه أتفاقه معي على تسهيل فرصة خروجي مقابل حياة زوجته .. كنت أريده في مكان أفضل لكنه تذاكى علي .. لينل طعنتي .. ألم تشاهد

بنفسك أجهزة التنصت الذي تركها ".

أومأ له الرجل ممهداً الطريق :" ولكنه هو ما لفت نظرك للأجهزة وقد نزعنا الثلاثة وتأكدنا من أن الحماية على القصر صارت أضعف .. من الممكن أن يخترقها أي نظام ضعيف .. الرجل لم يخطئ في هذا .. لقد نبهك ".

غمغم به بحدة :" ناصر محرم .. أما ان تكون معي أو لا تكون .. من الآن حدد موقفك".

هتف الرجل بابتسامة من كان ينتظر هذه اللحظة مثل صقر يريد الارتفاع بعد الهبوط وسط الجيف :" تعلم أني كنت أنتظر هذه اللحظة من زمن سيد هشام .. أظن الخدمات الصغيرة التي كانت بيننا قد أجدت فيها ونالت استحسانك ".

اجابه هشام وهو يشعل سيجار من سجائره :" ماذا فعلت بقصة أبراهيم .. هل عثرت على ملفاته والهاتف ".

رفع ابهامه بعلامة التشجيع ثم أكد :" الموضوع يكاد يكون منتهي .. فقد توصلت لأحد زملائه ممكن يملكون حق التواجد في غرفة الملفات .. هذا سيجعلنا نعرف أن كان قد أخفاها بالداخل .. فكما تعلم زوجته مريضة وهي في مشفى الأورام بصفة دائمة وأطفاله منذ عام عند أخيه في البلدة .. لا معلومة لدى أخيه .. وقد ربط عقل زوجة مندور الويجي .. خافت على أطفالها وقد منحتها شقة صغيرة في إحدى الأحياء الشعبية و معرض صغير افتتحته مطعم للأطعمة الشعبية .. حتى تصمت هذا فوق التهديد بأن نذبح أولادها كما حدث مع زوجها .. والضابط جسور كما تعلم كل تفصيلة بحياتها عندك .. هي الآن في منزلها الزوجي .. هي تحت أيدينا بأي لحظة تريدها .. اعتبرها صارت في السماء ".

ينتشي لمجرد نظرة رضا من هذا المكتنز بالمال .. فمجرد وشاية بزملائه الذي كانوا يتراخون في مراقبة قصر دحية وخاصة جسور دحية التي كانت تخرج من الباب الجانبي وهم علموا ولم يبلغوا .. أخذ هو المعلومة وكاد لهم فكان بدياً عنهم .. الدنيا دنيا الصقور من يقتنصون الوقت المناسب لينالوا هدفهم ..

علق هشام بأمر جديد :" ستذهب مع المحامي بعد الغد

للمليجي .. أريد جميع أسهم دحية للاستثمارات باسمي ..

اجعله يوقع على تنازل عنها جميعاً .. أريد زاهر حيث هو ..

هو دائماً يختفي وقت الحاجة إليه ".

وقف الرجل بجسده العريض ينحني طاعة .. ثم مد له فلاشة صغيرة :" هذه آخر معلوماتي عنه .. هنا الحادث الذي دبر فيه موت باسم دحية .. هذه مقاطع لزاهر دحية من داخل منزله .. هذا الرجل لم يكن قلبي يرتاح إليه .. منذ جعلتني أفك الخاتم الذي أهداه له ابنه فأجد جهاز تصنت قررت أن أمارس تلك الحيلة .. لم أرجع إليك سيدي لأني لم أكن واثق من النتيجة .. لكن هنا ستجد عدة تسجيلات أظنها ستكون ذات فائدة .. ربما تضغط بها على الهدف ".

عقب هشام :" أتقصد أنك وضعت جهاز تصنت جديد بنفس الخاتم ".

أجابه الرجل بحذق الواثق :" لا سيدي نفس الجهاز ولكني غيرت تردد الاستقبال له .. هذا عملنا فلا تصدع رأسك بشيء .. دعني أنا للمشاكل التافه ".

أكمل انحناءته ثم بدأ يغادر .. ليجد صوت هشام محاولاً

تضيق الخناق بطريقة لا يستطيع راشد الفكاك منها : " ناصر .. لو خرجنا من هذه الأزمة .. سيكون لك شأن أعلى من أي فرد ".

ابتسم الرجل :" خادمك هشام باشا".

ثم غادر عالماً بأن الوقت وقته وما سيناله يجب أن يكون الآن .. فيما بعد عملة لا تصرف من البنوك ولا تشبع جوع .. لكن كسب الثقة هي أولى خطواته لجميع ما يملك هذا الرجل .. وهو عالم مع من يلعب وكيف ينال ما يريده .. فالخيانة التي تأتي من الداخل قاتلة ..

******************
الصباح الباكر **
تحركت في الفراش الناعم .. مدت كفيها تتمطى بجسدها الصغير ثم عادت تضم نفسها بوضع جنيني .. لم تكن قد فتحت جفنيها بعد ..تشعر بهدوء وسلام نفسي رهيب ..

وصلت لأسماعها صوت ضحكة تعرفها جيداً .. فتحت جفنيها بتوجس شديد .. وجدت هادر يجلس على الفراش جوارها :" أخيراً استيقظت .. ظننت الصيدلي أخطأ بالعلاج

.. من أمس وأنت هكذا ".

رفعت الغطاء لتجد نفسها في قميص حريري مما تفضل .. هدرت فيه بصوت منذر :" لا تقل لي أنك أحضرتني وبدلت ملابسي .. لتغتصبني وأنا جثة ".

ابتسم بضيق ظهر في عينيه ثم وقف خارج الفراش ليقف وكفيه داخل جيبي سرواله :" لا أحتاج هذا جسور .. الأمر أنك كان لابد لك من الراحة .. عينيك بدأ يعود لها صفائها .. كادت الهالات السوداء أن تختفي ".

انتفضت من فوق الفراش لتخرج بكامل هيئتها المشعثة .. ارتسمت صورتها على مرآة الزينة أمامها .. ثم مدت أصابعها لتعيد من تمشيط شعرها بأصابعها :" لا أظن شعري أصبح هكذا بمفرده ".

علق وهو بنفس مكانه :" تبدين وأنت نائمة كفرس جامح لا يهدأ له قرار .. تتحركين بشكل يصعب لأحد النوم جوارك ".

هتفت بضيق :" أظنني لم أبك لتجلبني هنا ابن العم .. أليس كذلك ؟!!.. كان يجب عليك أن تعيدني لمنزل

عمي ".

حدد بصوته الطريق بينهما لمرة جديدة :" جسور عودي للعمل المكتبي .. لا أظن أن الداخلية ستفقد الكثير بغيابك عن الميدان ".

ابتسمت بشحوب شديد :"هذا هو ما جعلك تجلبني هنا .. العمل الميداني أهم عندي هذه الفترة .. لن أبرح مكاني لأحد ".

ضيق عينيه أكثر من عنادها معقباً :" عليك الفترة

القادمة عدم التواجد بمفردك ".

علقت وهي تسحب إحدى بذاتها من داخل الخزينة حيث ملابسها ما زالت كما هي :" وكذلك أنت عليك هذا .. هشام يريدك هذا هو التحليل الوحيد المقبول ".

فغر فاهه وسدد لها نظراته منتظراً .. ليجدها تحدد ما سبق وعلقت به :" نعم هادر .. كان هشام يعدك لتكون مكانه في هذا القطاع الفاسد .. لذا لم يردك معي لأنه يكره أبي وعمي وربما عائلة دحية كلها ".

اندفع هائجاً :" وأنا ألست دحية ".

أجابته بزمة بين شفتيها :" سوف أصل لهذه النقطة بالذات .. سنعرف .. ربما هناك تزوير في تاريخ زاهر نفسه .. عندما يحضر عمي سوف أحصل على المعلومات كاملة ".

اجابها بالسؤال الذي يكتنف قلبه منذ الأمس :" هل ستعودين هنا ليلا!؟!!".

أجابته بنفي عازمة على البعاد :" لا .. هادر .. لن أعود .. هذا لم يكن بيتي .. قاطنوه لا يريدوني ".

تتحرك للحمام حتى تبدل ملابسها وتغادر .. وقف أمامها يعترض خطواتها .. وقفت بالفعل تحدق في عينيه في محاولة لسبر أغواره .. مد يديه يمسك أصابعها بتشبث :" من قال هذا جسور .. هذا منزلك باسمك .. كلنا نحتاج إليك .. كنت أبعدك حتى لا تظلين نقطة ضعفي التي قد ينتقم منها .. كنت فقط خائف عليك ".

نظرت لأصابعه التي تحيط أصابعها وتبتلعها داخل كفه الكبيرة .. تبدو كطفلة أمامه .. ضاقت عيناها ثم سحبت أصابعها بشيء من أمتناع كلي عن الاقتراب :" خائف لأني نقطة ضعفك هادر .. كل مرة تخطئ نفس الخطأ .. تنزع مني القرار الذي كان يجب اتخاذه .. لست طفلتك هادر .. لست طفلتك الصغيرة التي تنزع من يدها طبق التوت وتمنحها طبق العنب حتى لا تؤذي نفسها .. الأمر معك مؤلم .. وكل مرة يصبح قرارك أكثر إيلاماً .. لم تعاقب من فرقونا بل أطعتهم هادر .. منحتهم ما أرادوا .. كل مرة تقف عاجز أمامهم .. دعني أنزع عنك نقطة ضعفك حتى تصبح حر القرار ".

لم يبتعد عن مجال حركتها هاتفاً :" اليوم بالتحديد سيكون آخر يوم نتعرض لأي خطة دنيئة بعدها لن يصبح هناك أي خطر ".

رمقته بغيظ ثم سحبت ذراعيها من حولها لتعقدهما بقوة أمام صدرها بعدها صارت تطحن أسنانها بحقد .. هتفت ناطقة بضيق مستعر :" على أساس أن هذا هو ما يجعلني أوافق على العودة .. كل الخطط السابقة فشلت لأنك كنت تعمل بشكل منفرد هادر .. حياتنا ليست مجال تجارب فاشلة .. لست من هؤلاء النساء الذين يعشقن الركل هادر .. كل مرة أقترب فيها منك تركلني بقدمك بعيداً .. سأكون بالبعد دائماً وأنت حر في حياتك السخيفة هذه .. سأخذ نقطة ضعفك بعيدة عنك .. لا عودة للخلف .. لن أظل هذه الفتاة التي كان الكل يرميها بنظرة وكأنه يقول لي فاشلة في زواجك تستحقين الطلاق لأنك لست كفؤ .. أتعرف لماذا قررت الالتحاق للعمل بالداخلية ".

سحب كفيه ليضعهما داخل جيبه ناظراً لها :" ربما ستظل دائماً وجهة نظرنا مختلفة .. أول شيء في أولوياتي حمايتك حتى مني .. من حبي .. من قربي والخطر الذي أجلبه لك ".

ابتسمت بسخرية لاذعة ثم تحدثت ببطء:" نعم صحيح .. كنت دائماً الخطر بحياتي هادر .. كنت تشوش على قراراتي .. كنت بالماضي أفعل كل شيء لأهرب فقط لأقابلك .. لم يخطر ببالي أن أنتظر حتى تأتي أنت وتقدم على المغامرة من أجلي .. الآن سيكون وضع آخر .. سأنتظر أن تأتي .. لكن لا أضمن الانتظار طويلاً .. ربما أجد بالنهاية أنك لا تستحق ما كنت فيه من عناء .. ودائماً تذكر أن كل قرار كان معه بدائل .. لتقرر أنت ودائماً تختار ما يجعلني أتألم .. القصة صارت سخيفة جداً ..

سأذهب من هنا .. فلا تظهر في وجهي كثيراً ".

وكأن خروجها هذه المرة من هذه الغرفة ينتزع حياته منه .. نعم لن يفلتها هذه المرة :" لن أسمح لك جسور .. بهدم حياتينا .. بوضع حواجز بيننا ".

صدح صوتها تبتعد عن مكمن أصابعه :" دعني أذكرك كنت هنا الأمس فقط .. وأنت صرخت في حتى أغادر .. طردتني من منزلك وكأنني كلب أجرب ... خفت على الناس السعداء في هذا المكان أن أخنقهم بطريقتي ..أو ألوثهم .. دعني أقول لك كلكم مرضى ..نفسيين ".

بهذه اللحظة بالذات أصوات جلبة حلت بالخارج أمام باب الغرفة المغلق .. وصوت سامر يعاند الجميع .. ينادي لكن هذه المرة ينادي باسمها هي :" جسور .. أريد جسور ".

تحرك من مكانه هاتفاً بضيق :" أحد عشاقك النفسيين .. الذين يدورون خلفي في هذا المنزل يريدون جسور .. حتى أمي تكاد تنطق باسمك .. لا تأكل إلا عندما يقولون لها السيدة جسور أمرت .. السيدة جسور قالت ".

علا صوت الطرقات على الباب :" جسور أنت هنا .. أفتحي ..

لا تخفيها خالي هادر عني ".

وكأنه يعاقب بغلق الباب دونه .. هتف فيها هادر بلوعة قانطة :" نعم جسور .. كلنا نحتاجك .. أنا لا أعرف كيف أتصرف صدقيني .. أمامك أفقد كل شيء فأتخيل التضحية هي أفضل الحلول .. التضحية من أجلك .. بتركك بعيداً عني .. بعيد عن تلوث حياتي .. ما بين أب فاشل أعلم أدق جرائمه وأم مرهقة نفسياً استنزفتها خيانة ساعدت فيها بشكل أو آخر .. رجاء .. لا ترحلي جسور ".

كانت عيناها تطلق شذرات حانقة عليه بين الفينة والأخرى .. لا تتخيل أنه هنا يترجها البقاء .. لكن هناك شيء آخر تولد في هذه اللحظة .. شيء بسيط جداً ببساطة التعقيد الذي فيه حياتهما معاً .. لم تعد تريده في حياتها .. نبست شفتيها بالكلمات فلم تصل لآذنه .. انحنى عليها هامساً مطالباً :" ماذا قلت جسور ".

شحنت صوتها داخل حنجرتها بحدة لتطلق الصراخ بالعبارة داخل أذنه مباشرة :" لم أعد أريدك هادر ".

كز على اسنانه بضيق بالغ لتصدر صريراً ونطق اسمها

بوحشية من لا يستسلم :"لم يعد الأمر خيارنا جسور ..

ظللنا ندور في قيدنا معاً والآن بعدما قدمت تنازلات لم يعد هناك مجال لبعادنا عن بعضنا ".

مدت كفها تبعده عن طريقها هامسة بما يدغدغ مشاعره :" عندما قيدتني بعقد الزواج طلبت منك البعاد .. لكنك أصريت .. أتعرف لماذا طلبت منك هذا هادر ؟!!".

امتدت أصابعه تلتف حول مرفقها بقسوة .. خائف من هذه النظرة داخل عينيها لتكمل طريقها :"كنت بالفعل قد قررت أن أذبحك .. كنت سأنزع منك كل شيء .. لكن بلحظة علمت الحقيقة وأنك محاصر من الجميع حتى يلوثوا اسمك .. وجدت وقتها جسور القديمة التي تركتها هناك في الدوار .. علمت أنك الوحيد الذي أريد ان أكبر معه .. كنت أريد أن نشيخ معاً .. لكنك ما أن علمت أني مريضة وأن الحمل قد يقتلني ماذا فعلت .. قررت تركي .. اخترت فتخليت ".

هتف بها يهز مرفقها فيهزها معه :" لا .. لم أتخلى عنك لأنك مريضة .. لا يهمني الأطفال حتى .. لأنني كنت طفل تعيس ... كنت قد قررت ان لا أنجب أطفال تعساء مثلي .. لن أمنح أطفالي سوى الضياع .. كنت طفل معذب .. كسير .. لم أعرف السعادة إلا تلك اللحظات معك .. كنت أهرب إليك لأعيش .. حياتي كانت تلك اللحظات فقط ".

صدح صوتها بضيق رغم الشفقة التي جسدتها كلماته داخل قلبها :" تركتني هادر وهذا هو ما أوجعني .. عدة مرات تركتني .. حتى لو كنت خائفاً من نفسك .. أو علي ما كان يجب ان تتركني وحدي .. هذه القصة عندي .. هذه مشاعري .. أشعر أني لا أستحق الترك .. لو تمسكت بي كنت الآن جوارك ".

كانا ضائعين في عالمهما الضيق .. نظرات متحسرة منه ونظرات قاسية غاضبة منها .. أضافت إليها كلمات أخيرة :" عندما تجدني أزج نفسي في مصائب قاتلة .. لا تمثل دور الفارس المغوار .. لأنك لست بفارس هادر .. فقط طفل جبان .. يخاف الجميع .. لا يواجه الأخطاء بل يزيدها ويدور حولها حتى تصبح مستنقعات".

تحركت بالفعل للحمام حتى تبدل ملابسها في لحظات .. كانت تريد الاختلاء بنفسها حتى لا يكتشف عينيها التي بدأت تمطر قطرات التخاذل ..

خرجت وهي في قمة جمالها .. وكأن ما حدث بينهما له أي تأثير نفسي عليها .. كانت تريد إيلامه حقاً بالترك .. الترك الذي تظنه كان غريب عنه .. هو أكثر شخص عانى مع الترك .. ليس الفقد فكل ما أحبهم كانوا حوله لكنهم تركوه وحده يعاني .. حتى تكونت لديه حالة من البلادة .. لم يعد يتمسك بأحدهم خشية أن يتركه ..

خرجت في الرواق حيث الغرفة المحيطة بغرفته الرئيسية .. سماع أصوات بكاء جذب أسماعها فتحركت لغرفة صغيرة كانت وضعت فيها سامر .. كلما اقتربت من الغرفة أزداد الصوت وضوحاً لتجد صوت هادر يعلن لسامر :" لو تمسكت بها لن تتركك ".

بينما الصغير يزداد نحيبه معلناً للجميع :" أريد جسور .. غادرت ".

احتقنت أقنية قلبها على نحيب هذا الصغير وارتفعت حدة

الغليان على هادر نفسه .. ماذا يفعل بهذا الطفل ؟!!..

فتحت الباب هاتفة منادية باسمه :" سامر .. ها أنا .. عدت من أجلك فقط حبيبي ".

لم تكن تتخيل هذا الصغير وكيف هزم خوفه من مس الأشخاص خشية المرض .. لقد هزم خوفه باشتياقه لها .. هرول مندفعاً بصوته السعيد :" جسوووووووووووور ".

قفزته لأعلى جعلتها تتلقف الجسد النحيل باندفاعه

الهائل .. كادت تسقط للخلف لولا توازنها المتحامل على قدميها التي انفرجت وثبتت قدميها بأرض الغرفة .. لم يكن يتخيل أن جسور بهذا النقاء وكأن المدللة ذهبت إلى غير رجعة هناك بالدوار الكبير .. فلم يمهلها النطق .. فقط أحضانها للصغير هي ما كانت تحركه ليخطط ما بينهما من حدود :" له يوم يبكي من أجلك .. كما ترينه يرتدي القفازات الطبية في انتظار احتضانك له ".

سددت له نظرة واحدة ثم نظرت للصغير هامسة وهو في أحضانها :" أنا نظيفة سامر .. اخلع هذه القفازات لتمس بشرتي وتشعر بدفء الحضن .. دعنا نثبت لخالك أنك

كبير .. ومسئول ".

غمغم الصغير بممانعة طبيعية :" ولكن الطعام سيتلوث من أصابعي ".

علقت بحب فطري واهتمام طبيعي :" عندما نتناول الطعام .. وقتها أرتدي قفازات ".

اقنعته بهدوئها وكلماتها الحاسمة .. بدأ الصغير يمد إحدى يديه لنزع أحد القفازات ببطء وكأنه يخاف .. تشجيعها له :" هيا أريد تقبيلك يا فتى ".

جعله يتخلص من هذه القفازات .. ليعقد كفيه حول رقبتها

وهي تحمله فوق عقدة ذراعيها ببعضهما اقتربت لتقبل وجنتيه .. فكت كفيها لتحمله على إحداها وتربت بالأخرى على ظهره .. تمنحه الدفء الذي يفتقده .. ويمنحها الثقة في أنها ستكون أم متوازنة ..

أخيراً أنزلته على قدميه هاتفة بأمر مباشر في سيدة الواجمة عند الباب :" خذيه ليتناول إفطاره .. وأرتدي قفازات قبل صنع طعامه وامنحيه قفازات قبل تناوله ".

نظر لها الصغير نظرة اهتمام وكأنها الوحيدة الذي يعلم ما

يريد .. هي بالفعل تجيد التعامل مع الحالات الصعبة .. قبل أن تتحرك سيدة سددت لها نظرة طويلة مرتبكة .. فهتف بها هادر بشيء من العصبية :" ماذا هنالك ؟!!.. أراك متجمدة .. ماذا تريدين ؟!!".

انتفضت سيدة مكانها تسدد نظراتها للسيدة الصغيرة التي تأكدت من كل حرف قيل عنها .. وأنها ذات قدرات خاصة على قلب سيدها :" سيدتي زينة تريد السيدة جسور ؟!!".

زوجا من الأعين قفزت مكانها .. كيف هذا وهي لا تنادي أحد بل لا تتعرف على أحد من المحيط ..

صدح صوت جسور في سيدة :" هل أنت متأكدة .. أن السيدة زينة طلبتني بالاسم ؟!!".

غمغمت سيدة بارتباك واضح .. ثم بدأت تشرح ما حدث بالتحديد :" السيدة زينة .. سمعت سامر ينادي باسمك فظلت تضرب على مسند مقعدها ونادت عليك مثله .. ثم صمتت وعادت وحدها تنادي مرة واحدة باسمك ".

لن تظل جامدة هنا أمامه .. متخذة السيدة العجوز طريقتها للفرار :" دعينا نراها سيدة .. ربما حدثت معجزة حفزت

عقلها كما كانت تقول شيماء ".

كان يخطو خلفها وكأنها الوحيدة التي تفهم ما يجري هنا في حياته المرتبكة ..

بعد قليل **

تحتضن كفي السيدة الكبيرة التي تستنجد بنظرتها الصامتة .. بينما هي تعيد عليها تكراراً سؤالها المستجير :" سيدة زينة .. هل ناديت جسور ".

نظرات السيدة غامضة بلا هوية .. لكنها تحدق فيها فقط بدون أن تبدل نظرتها .. تركت جسور أحد كفيها ووقفت مكانها معلقة :" ربما تكرار لنداء

سامر فقط .. لا أظن استجابتها كما نتوقع .. عامة سوف أستدعي شيماء لتوقيع فحص جديد عليها ".

ثم مالت تربت على السيدة براحتها على شعرها المختلط

البياض بسواده .. لكن يغلب عليه الشيب أكثر .. ثم قبلت قمة رأسها .. وحاولت الاستدارة مع ترك كف السيدة التي للحظة تمسكت بكفها .. شعرت جسور بهذه الحركة .. نظرت لهادر كان قد بدأ خطواته للمغادرة بالفعل حتى وصل لباب الغرفة .. جذبت جسور أصابعها كمحفز للسيدة لتتركها لكنها لم تفعل ظلت متمسكة بها وكأنها تستنجد بها .. ثم تلا هذا نداء باسم جسور مرة واحدة .. خرج صوتها مرتعشاً .. فيصب في آذن هادر حيث مكانه .. استدار بلهفة لاوياً عنقه تجاه أمه .. شاهد منظرها وهي متمسكة بجسور .. كأن ما بينهما حديث أصابع لا ينتهي .. تحرك ليقبض بنعومة على أصابع أمه وكأنه يتلمس وجودها وعودتها حاول فك أصابعها فلم يستطيع .. فقط تقبض على أصابع زوجته .. هتف بها :" أمي تشعرين بي.. أليس كذلك ؟!!".

لم تتحدث إليه فقط هتافها الوحيد باسم الصغيرة :" جسور ".

سحبت جسور كفه بيدها وآمرته :" لن نصل لشيء ببقائنا هكذا .. أذهب وأتصل على شيماء بسرعة قص عليها كل شيء .. كل شيء ".

سحب هاتفه من جيب بنطاله .. كانت تنصت له وهو يشرح

كل شيء حتى وصله سؤال شيماء :" هناك حافز أو موقف

حدث منذ الأمس جعلهما هكذا .. ما الدافع ".

قضم شفته السفلى بأسنانه ثم أجاب :" نعم أمس حدث .. كنت اختلفت مع جسور وطلبت منها عدم التواجد بالمنزل ".

هتفت جسور بكل كبرياء :" طردني من المنزل شيماء واليوم يطالبني بالعودة .. هذا هو الرجل الذي أحيا معه ..يوم يرسلني بعيداً ويوم يتمسك بي ".

لم يحاول منع صوتها ليصل لأسماع شيماء بل وجه بوق الهاتف نحوها ليلتقط صوتها كاملاً .. ثم أعاد الهاتف لآذنه معقباً :" ليس هذا وقت هذا الكلام يا شيماء .. عندما ننتهي من وضعنا المربك سوف تعلمين كم أحبها ".

أجابته بجدية تليق بالموقف المربك :" من الواضح أن أمك وسامر تعلقا بها وقصة اختفائها من حياتهما فجأة هي ما جعلتهما هكذا .. يجب أن يطمئنا لوجودها الدائم".

سأل باستفسار حارق لعقله :" هل سيحدث هذا تأخر في حالتهما؟!!".

أجابته شيماء وهو يعلن بصوته ليكون لديها علم بما

يحدث :" لا .. لا أظن .. أظن أن العكس هو الصحيح .. حدوث المحفز قد يعيد لأمك ما تفتقده من ذاكرة وانتباه ".

أغلق مع شيماء التي أكدت أنها ستمر عليهما بالمنزل .. نظر لها وهي تجلس على المقعد وكأنها في استسلام يائس من الفرار .. ثم جلست تتحدث مع السيدة الكبيرة التي فكت أصابعها قليلاً باسترخاء من أدرك أنها ليست مغادرة ..

دلفت مسعدة بصينية تحمل طعام .. تنظر لهم بقلب مرهق على قصتهما الموجعة .. ثم وجدت طريقاً إليهم :" أدويتك سيدتي وطعام للجميع .. هلا جلستما وأطعمتما السيدة زينة ".

سحب المنضدة الجانبية ليضعها بالقرب منهما ثم سحب مقعداً وجلس .. لا يلوي على شيء سوى عودة أمه لطبيعتها وعودة جسور له .. لقد تعب من كثرة الأكاذيب .. كانت جسور تطعم السيدة بيمناها بينما اليسرى مشغولة بيد السيدة .. لتجد القرص أمام شفتيها نظرت إلى الأصابع الرجولية العريضة ثم مدت شفتيها لتنال القرص من أطراف أصابعه .. صمت مطبق كان يعم المكان .. لكن سكون غريب يعم النفوس أيضاً .. اطمئنان لمجرد وجودهما معاً .. حالتهما قاهرة للنفوس .. عشقهما من هذا العشق المتضخم مع الأيام .. وكم سعد الجميع بابتزازه للعاشقين الذين وضعا خيارهما عشقهما .. فاستحقا العقاب ..

انتهى الوضع المؤلم .. جعلت جسور السيدة زينة تنام في فراشها .. ظلت جوارها تربت على كفها حتى استسلمت لسلطان النوم ..

خرجت من الغرفة على أطراف أصابعها .. لتجده واقف أمام الغرفة .. متجمد بالرواق على الجدار يسند ظهره هاتفاً وكأنه كان يحضر الكلمات فيخرجها دفعة واحدة :"جسور .. لا أريد منك المغادرة .. كنت خياري الوحيد بالدنيا كلها .. خوفي عليك كل مرة أن أكون السبب في ضررك .. سواء بالإنجاب أو بالقتل .. ".

لأول مرة .. لم يكن يريد إرهابها فهي تندفع نحو الخطر بسيارة سباق .. شخصياتهما المتماثلة هي ما جعلته يندفع للبعد عنها ..

وقفت تتكئ على الجدار المقابل هامسة بتعثر فكري :" وأنا بالفعل لم أعد أريد البقاء هنا .. لا أريد البقاء معك .. سأمر كل يوم بالصباح والمساء .. هذه أقصى خدمة من الممكن تقديمها لك .. فقط من أجل أيام ظننا أننا

نستطيع الحياة معاً".

تحركت مغادرة المكان وهي تنادي سيدة التي لبت بسرعة :" من فضلك .. أريد حقائبي .. سوف أمر ليلاً.. عليك فقط تأكيد هذا لسامر والسيدة زينة ".

ظهر سامر بالرواق ومعه تفاحة يقضم منها فهتفت ملوحة له :" سوف أذهب لعملي سامر وسأعود في المساء ".

هتف بفم متخم بالطعام :" نعم .. نعم .. هل أنتما متخاصمان جسور ؟!!".

اغتصبت ابتسامة من بين شفتيها وحركت رأسها برفض كامل ثم أكدت له :" لا .. سامر .. نحن ..".

استعصت عليها نطق متحابان .. فهتف هادر وعيناه لا تتركان ملمح من ملامحها :" نحن متحابان سامر ".

هتف الصبي :" كنتما تتشاجران .. وهي قالت ستغادر ".

لم يحيد بعينيه عنها ليجيب :" حتى الكبار يختلفون سامر .. لكني أحب جسور منذ كنت في عمرك .. كانت ناعمة جداً .. عنيدة جداً"

ليعقب الطفل بكل براءة :" إذاً قبلا بعضكما ".

نظرا كلاهما إليه وكأنه يقول قولاً نكراً ليجيب عليهما :" أبي دائماً يقول لنا عندما أختلف مع أحد الصبية .. قبلا

بعضكما حتى تزيل القبلة الخلافات من القلب ".

فرصته جاءت له على طبق من ذهب ولن يتركها .. اقترب منها حاولت الهرب لكنه حاصرها بين ذراعيه ليصطدم ظهرها بالجدار خلفها منبهاً لها لما يريد فعله .. سددت له نظرتها الشرسة .. مهددة بصوت مضغوط :" إياك هادر ".

متأكدة أن الصبي لا يسمعها .. كانت ترتجف كورقة خريفية في مهب الريح .. مال عليها هاتفاً بتلاعبه :" هل تخشين الاغتصاب الذي نوهتِ عنه صباحاً ".

هتفت بضيق :" لا هادر .. فقط أشمئز من مجرد لمستك ".

مال عليها أكثر مما جعلها تتحرك للخلف أكثر .. طبع قبلة بطيئة على زاوية شفتها .. أغمضت عينيها وهناك هاجس يأمرها أن تفعل كما الماضي تدير وجهها قليلاً حتى تسقط على شفتيها .. وكذلك توقع هو منها هذا التصرف .. لكنها عادت تفتح عينيها تلتقط الحركة على الجانب فتكتشف خروج سامر .. مما جعلها تدفعه براحتها آمرة بصوت قوي رغم خفوته :" ابتعد عني .. فقد غادر سامر ".

رفع نفسه على كفيه بليونة نتيجة التدريبات الرياضية القاسية التي يمارسها .. مجيباً بأنفاس لاهثة وكأن التدريب شديد:" أنا أمنع نفسي عنك جسور بشكل يائس".

ابتسمت باستخفاف :" هذا الكلام أتركه لرجل يبحث عن زوجته الغاضبة وليس هذا ما تفعله أنت ".

قبضت على مرفقه بأصابع قوية تبعده عن طريقها فاستجاب بالفعل لها .. مع الحفاظ على قربه منها .. بينما هي تحدد له ما سوف يكون :" سوف أعمل على زيارة سامر ووالدتك مرتين باليوم حتى يتم طلاقنا الذي سأحدد موعده فور انتهائنا من هذه القضايا المتشابكة .. فإن كان لزواجنا الفاشل فائدة ستكون للعائلة فقط ".

أجابها بكل ما يملك من كظمه لغضبه الموجة لنفسه

هو الذي لا يستطيع الحفاظ على أحبائه .. دائما يفر منه الحب :" حسناً جسور .. لتبق العائلة أهم كما تقولين ".

التقط أنفاسه ثم هدر بصوت جاد :" لا طلاق بيننا جسور .. تأكدي أني أحبك .. بل كل ما فعلته من أجلك أنت ".

تحركت سيدة الخارجة من باب غرفتهما الرئيسية حاملة حقائب سيدتها .. تتمنى من داخلها منع الحديث بينهما .. فقد أحبت هذه السيدة رغم كل شيء .. كونها تستطيع السيطرة على جنون هذا المنزل .. يكفي أنها تمنح لصاحب المنزل الحياة فيتحرك في المنزل بدلاً من جلوسه في غرفته صامت ناقم على الكون .. لا طعام، ولا نوم فقط

سجائر يحرق نفسه معها ..

" سيدتي .. هل تأمرين بشيء خاص على العشاء ".

سددت لسيدة عيني جامدة ثم هتفت بجدية :" لن أتناول الطعام هنا .. أتفقي مع مسعدة فهذا تخصصها ".

بكلمة منعت خلاف كانت تدرك أنه سيدب بعدما تغادر .. بحنكة سيدة منزل تدرك ما يحدث في بيتها حتى وهي غير متواجدة ..

رفعت الحقيبة على كتفها وغادرت .. بينما هو سارع ليحضر سترته وسلاحه من الغرفة فهي لن تغادر حتماً بدون سيارة ..

لم تهتم أبداً مدركة أنها بدون سيارة .. خطواتها السريعة كانت ما تملكه .. لن تنتظره بل ستركله بقوة .. فكلما أبعدته عنها سيحاول الارتداد لمسارها ..

عشر دقائق مضت **
يهرول بحدة سترته تهتز بالخلف .. ليجد صوت مسعدة تهتف خلفه قرب باب المنزل :" سيدي نسيت حذاءك ".

نظر لقدميه يجدهما في خف منزلي مغلق يشبه الحذاء لذا لم يشعر معه بأي اختلاف .. جلس على أقرب مقعد ليجدها تمد له أصابعها تحمل جورب مطوي .. أخذه منها وارتداهما بلحظة واحدة ثم أكمل هرولته ..

في الخارج حيث صف السيارة أمس لم يجدها .. صعد للسيارة حتى يخرج خلفها فمحال أن تكون تجاوزت الحديقة بمسافة كبيرة ..

شعر بأن هناك انخفاض بالإطارات .. نظر تحته ليجد فالفعل الإطار مرتخي وكأنه تم إفراغه من الهواء بشكل نسبي .. هبط ونظر لجميع الإطارات .. لم يندهش مما حدث .. فالإطار الخلفي من الجهة الأخرى أيضاً فارغ .. ركله بقدمه ووقف لحظة مفكراً..

متى ؟!!.. لا ليس السؤال متى ؟!!.. بل من ؟!!.. عاد يدلف للمنزل .. هتف ينادي :" مسعدة ".

حضرت من حيث كانت تنظر خلف النافذة عليه .. مستفسرة :" نعم سيدي .. لماذا عدت ؟!!".

أجابها بحدة من يريد أن يفرغ غضبه في أحد :" متى أفرغتِ الإطارات ؟!!.. أو لنقل متى أمرتك أن تفرغي الإطارات ؟!!".

هتفت به :" لا سيدي .. لم أفرغ أي إطارات .. غير ممكن أبداً".

هتف بها بحدة :" هناك وقت ربع ساعة قطعتها أما في البحث عن سيارة أجرة أو في إفراغ الإطارات .. فاختاري أيتها المساعدة ".

ابتسمت بسخاء متحدثة بخيلاء :" سيدتي هذه ونعم السيدات .. طلبت منى جلب سيارة أجرة تنتظرها عند الأمن بالخارج .. وقد كان ".

ثم نظرت له كأخت كبرى هاتفة :" لكني شاهدتها وهي تفرغ إطاراتك .. لكني لم ولن أتدخل .. طبيعي بينكما هذا الشيء ".

ارتفع هاتفه بالرنين .. ليجد صورة شفاه حمراء مكتنزة ولسان أحمر اللون يخرج على جانب واحد .. وصلته منها ..

أغلق هاتفه.. ثم هدر في مسعدة .. نادي لي الأمن في الخارج يأخذون الإطارات فيملئونها هواء ".

علقت وهي تتحرك :" ما هذا التفكير .. يكفي أن نتصل بأحد يأتي بمضخة يملأ الإطارات .. أسرع ".

سمعها وكأنها تسبه .. لكنه يدرك أن عقله معها غائب دائماً هتف في خادمته :" مسعدة هاتي مفتاح السيارة الأخرى ".

تحركت نحو بسرعة بينما هو يقف كأسد جسور يريد تمزيق وجه من يقترب منه ... سحبت المفتاح من جيب سترتها .. فهتف بها :" دعيها تنفعك .. لن تتحركي اليوم لا شراء شيء ولن أسمح لأحد يجلب لك طلبات هنا .. هذه القاعدة .. استخدمي ساقيك .. طالما سيدتك أفضل من أي

سيدة ".

لوت شفتيها ثم هتفت :" نعم السيدة جسور غير أي سيدة ".

نال المفتاح وغادر خلف هذه المرأة التي تشعل قلبه منذ مولدها ..

على البعد كانت تضج بالضحك وخاصة قد أرسلت له صورة مسمومة تمكنها من التحكم بهاتفه .. ستصل لأكثر مما يظهر واليوم ليس غداً ..

*************
" ما هذا رشاد ؟!!".

طوح بقدمه الزجاجات الشفافة لتنزلق أرضاً تتساقط مصدرة صوت مزعج .. لم يتحمله رأسه المصدوع عندما مررته له آذنيه .. فتح عينه بصعوبة بالغة .. فمرر أبيه قدمه على الزجاجات مر ة أخرى .. فتدحرجت مصدرة صرير جعله يشعر بقشعريرة في أسنانه فأغلق آذنيه براحتيه وهدر بخفوت غامض .. مما جعل أبيه يحنق عليه فهتف فيه وهو يهزه بقوة :" ثمل .. ابني الكبير ثمل .. هل هذا ما ستعلمه لأخوتك الصغار ؟!!".

فتح عينيه بغتة وكأنه يراه للمرة الأولى .. فلم يكن يرى أي شخص من قبل .. انتبه من غفوته أكثر .. وجد نفسه ما زال هنا بالشرفة حيث ظل متيقظ كل ما يفعله الشرب فقط .. حيث كانت إدارة الأكواخ قد وضعت في المبردات مجموعة من الزجاجات الفاخرة من المشروبات الروحية هدية منها للمؤجرين .. كان قد رآهم من اليوم الأول ولم يكن ينتوي استخدامهم حتى الأمس .. شربهم جميعاً حتى نام مكانه .. وقف أمام أبيه الغاضب الذي كانت كلماته تقطر سماً:" ليتني لم أرك بهذا الوضع .. لا تعرف كيف طعنتني .. أنا في حيرة الآن .. حقاً في حيرة ".

لم يفعل شيئاً سوى أن ألقى نفسه في حضن أبيه .. يبكي كطفل صغير.. وكان طفولته قد عادت له في هذه اللحظة .. .. هل يستطيع راشد ان يمنعه هذا الحضن والدفء .. لم يستطيع إبعاده كانت ذراعاه تشدد على احتضانه .. يربت على ابنه وكأن الغضب منحه التمسك والإجهاش في البكاء .. :" ما بك رشاد .. هناك شيء بك غريب .. لم أعتقد ان تكون يوماً هكذا "

كتفاه تنتفض تحت يد أبيه .. يحاول التماسك فكيف سيعلن له ما علمه .. كيف سيعلن له أن المرض تمكن من جوهرته .. يهدد عظامها وهو أخوها كان له ضلع كبير بزيادته .. منذ علم مساء ولم ينم من الندم .. تتآكل روحه شيء من تعنيف الذات .. كم ود العودة للخلف بالزمن حتى لا يقوم بهذا كله .. لا سجن لها ولا مهاب ولا خطط شريرة .. ولا ندم معها كل لحظة .. لدرجة أنه لا يستطيع منح الحب لفينوس كما يليق بها ..

هتف أبيه بعد لحظات :" كلنا نمر بلحظات كهذه .. نريد فيها نسيان أنفسنا .. البكاء والدعاء لله أفضل .. يريح النفس .. أما هذه المنكرات يا رشاد لا تزيد الوضع إلا سوءاً ".

ثم هتف به .. يمسد ظهره الطويل المنحني على كتف أبيه :" أبكي رشاد .. أبكي .. وتحدث معي .. لن تجد غيري ناصحاً لك .. لكن عدني بأن هذه الأشياء لن تفعلها مرة أخرى ".

كان يستحي من هذا التصرف أكثر من ابنه الذي ترك

وسادته فوق كتف أبيه ودفع الزجاجات الصغيرة بمقدمة حذاءه تتدحرج وتتدافع فيما بينها لدرجة التصادم ولم يوقف سيرها سوى أصيص كبير على أرض الشرفة .. ثم نظر لأبيه كطفل صغير هامساً :" هل ستصدقني لو قلت لك أني لم أكن أشرب إلا بمناسبات قليلة !!.. ولم أصل لدرجة الثمالة .. أمس كان استثناء .. أبي ".

زفر الرجل أنفاسه ببطء شديد .. لائماً نفسه على هذا الوضع المزري .. أين كان وهما يضيعان منه .. لا يستطيع محاكمة ابنه .. بل نصحه وكفى .. تنهد ثم همس وهو يربت على كتف ابنه :" ماذا حدث وجعله استثناء .. كنتما معاً أنت وأختك وعدتما .. كلا منكما لم يمر علي .. وهي تجلس صامتة هذا الصباح .. معنا بجسدها أما عقلها بمكان آخر .. ما بكما كلاكما .. ".

انتفضت عينا رشاد بوجع المذنب .. ثم زم شفتيه هامساً من بين أطباقهما :" فقدنا صفقة كبيرة أبي .. هذا هو كل شيء".

حرك الرجل رأسه بغير تصديق مبيناً :" أختك لم تكن

ممن تحزن على فقد أي صفقة .. دائماً تعتنق داخلها .. أن هذا رزق ولكن الله كتبه لغيرها .. أنت هكذا تحدثني عن فتاة أخرى ".

عاد رشاد يزم شفتيه بشكل أقسى حتى لا يتحدث بأشياء أكثر كشفاً للوضع .. فيجد من أبيه كلمات مرجئاً بها الضغط عليه:" لن أضغط عليك .. فالخبر الذي تخفيانه سيكون بعد فترة بين الجميع .. دعني أؤكد عليك لا تشرب هذه المشروبات القذرة مرة أخرى حتى لا يفقد لسانك سيطرتك عليه ويبدأ في اخراج الأسرار التي أأتنمنتك عليها .. كما أأتمنتك على أخوتك .. لا أريد لهم أن يروك في موطن ضعف .. فنحن .. لا نشرب الخمر بأي وقت .. لأننا ننفذ تعاليم إسلامنا .. لا أريد الضغط عليك رشاد .. لكن صدقني لست مسروراً مما رأيته ".

جلس الخزي داخل عينيه وتمطى الوجع ليتسع أكبر على ملامحه ... الأسرار .. كيف نسي أنه بالفعل حامل أسرار أبيه .. كيف كان سيكون الموقف لو تحدث لنفسه حتى بكل ما في داخله من أسرار .. سواء تخص أبيه أو أخته .. كان سيفقد ذاته أكثر لو تحدث بالفعل أمام أي أحد بأي سر .. نظر حوله يبحث عن أي أحد ثم همس :" أبي أين عمرو ؟!!".

أجاب أبيه :" عمرو ذهب ليحجز لنا سوف نغادر بأقرب فرصة .. يجب علينا هذا ".

عقد حاجبيه بقسوة مستفسراً :" ماذا حدث أبي حتى تقرر العودة بهذه السرعة ؟!!".

عقب أبيه بهدوء مسترسل :" ربما لن تصدقني .. لكنه

حدس .. أشعر أن البقاء هنا أكثر لن يجلب الخير .. أخوتك بالوطن صغار .. عظامهم ليست شديدة والشركة ترزح تحت ضغط كبير ".

هتف رشاد :" كيف أبي ؟!!، وكما سبق وقلت لك أني دفعت دين بنك فيتوريو من مالي الخاص ".

رفع أبيه يده ووضعها على كتفه :" يا ابني لم أبحث عنك لأنال منك .. لك حق ويجب ان تأخذه .. لقد قدرت القديم ووضعته بين يدي جواد ".

ابتسم مجيباً :" نعم وقد منحته لفرسان لتنفيذ مشروع

شركتها الكبرى .. مساهمة مني ".

سدد له ابوه نظرته المحدقة في تواصل مده بالقوة :" ما لدي إذا سيكون من حقكم أنتم الربعة .. كل ممتلكاتي ستقسم بعد رحيلي بشرع الله .. للذكر مثل حظ الأنثيين ".

حرك رشاد رأسه بعدم فهم لكل الكلام ..ورفضاً لجزء الميراث والرحيل .. هتف :" رغم أني لم أفهم كل ما قلته لتوك .. لكن لا تتحدث عن الرحيل أبي .. ما زال أمامنا وقت كبير نقضيه معاً .. أريد خبرتك وقصصك لأولاد فرسان وأولادي .. أنت مدين لي بهذا أبي .. أما المال .. فهو آخر شيء نفكر به .. أظن أننا جميعاً سنتفق على هذا .. لو أخبرتهم بما تقوله ".

تنفس الأب بشكل حاد .. مطلقاً زفراته في الهواء :" يا رشاد أنت ابني الكبير .. ظهري وسند أخوتك .. عمري مر ولا أستطيع أن أتمسك بتلابيبه عندما يأمر الله الروح ستخرج وينتهي الأمر .. نحن فقط نتمنى .. لا دين في الأعمار رشاد .. سندعو الله بالقناعة داخلنا أنه الوحيد من يقول للشيء

كن فيكون ".

كلمات كبيرة تخرج من فم أبيه تثير الخوف داخله لكنها عميقة في معانيها أو الإحساس بها .. إحساسه أن أبيه رجل كبير .. عظيم ..

وجد أبيه يمد يده وكأنه يريج السلام عليه فوضع كفه في يده .. ظناً منه أنه مغادر .. لكن أبيه أمره بما لم يكن يتعيه :" عدني أن لا تشرب هذه الأشياء مرة أخرى .. عدني أن تكون لأخوتك سند .. أب وقت اللزوم ".

وجد نفسه يهز رأسه بخوف نابع من انقباضه رجت قلبه .. أعقبها كلمة ظلت تتكرر :" أعدك .. أعدك .. أبي ".

ليهتف أبيه :" ردد خلفي .. ولا تحنث بعهدك مهما حدث .. أقسم بالله العظيم .. لن أشرب أي خمور .. وسأكون لأخوتي

أب وأخ دائماً ".

أقسم بالله على كل مما أراده أبيه .. بصوت واثق مما يريده .. لقاء كان شديد الوطء على نفسيهما .. فها هو يضع المسؤولية في عنق ابنه .. راجياً من الله أن يكون قد أحسن الخيار .. والابن شعر بضغط المسؤولية وقيم جديدة يتعلمها من هذا الرجل .. ووعد خرج من داخله لن يترك فرسان أبداً فكما جعل جذور المرض تنمو في عظامها لن يتركها حتى تتعافى ..

هتف لأبيه الذي كان يريد المغادرة وقبل أن يسحب يده كانت أصابع ابنه تتمس بها هامساً :" رأيت فرسان تقبل يدك كثيراً .. هل لي أن أفعلها .. أتسمح لي أبي ".

ابتسم الرجل برقة ثم صرح له :" لن أمنعك رشاد .. بل كنت أتمناها داخلي .. بطريقة فرسان لها معنى مزدوج ".

مال بانحناءة نحو يد أبيه قبلها ثم وضعها على جبينه وتركها حرة .. ليرفع الرجل يده يربت على جانب وجه ابنه هامساً :" هداك الله يا رشاد .. هداك الله وأصلح من حالك بني ".

اندفع رشاد نحو أبيه يحتضنه ويقبل جبينه باحتياج .. ثم تركه ليجد صوت أبيه الصارم :" هيا نظف هذه الفوضى

ثم اغتسل وتعال لنفطر معاً ".

حرك رأسه بطاعة .. فهذا الرجل يليق به أن يكون كبير عائلته .. لعن داخله من حرمه من هذه الأبوة .. كان تشرب

منها ونهل ليكون بشخصية مختلفة ..

كان ينظر له وهو يتحرك بتؤدة وكأنه مرهق .. خائف عليه أن ينال المرض منه أكثر .. يفتقده قبل الشبع منه .. عزم أن يبحث في دينه ليعرف كل شيء عنه .. حتى يرضي أباه عنه .. لم يكن يفكر برضا أحد .. الآن يريد أن يحصل على رضا أبيه وأخته .. شيء جميل أن يكون له عائلة ..

مال يجمع الزجاجات ووضعها في سلة صغيرة في نفس الشرفة وقبل أن يحملها .. كان صوت آخر مندهش :" من كان معك بهذا الحفل رشاد ؟!!".

ترك السلة مكانها وأرتفع بجسده ينتصب أمامها كطود رجولي ثم مد لها كفيه فصدت الدرجات القليلة إليه تمد له كفيها .. أخذهما بين راحتيه دافناً شفتيه فيهما معاً :" لم .. ولن يكون هناك سواك فينوس .. لم يكن هناك حفل .. كنت في حالة يأس .. اختناق فشربت ".

سحبت كفيها لتطوق عنقه :" لم أراك تشرب كل هذه

الكمية من قبل .. لكن ما هو الشيء الذي يجعلك في

يأس رشاد .. أعتقد الضغوط صارت أخف عليك ".

لم يرد أن يترك بينهما المسافات ولكنه وعد :" أمس فقدنا صفقة هامة جداً .. فلم يكن هذا وقت ملائم لإجازة وراحة ..".

قاطعته فينوس وهي تحرك عينيها المسدلة الأهداب :" لا أريد تبرير غير مقنع رشاد .. لا أريد كذبات .. ولا أريد ان أعرف ما يجعلك أنت وفرسان كئيبي المزاج هذا الصباح .. عندما تريد ان تقص علي .. سأسمعك ".

هتف فيها بابتسامة حارة :" أنت حقاً رائعة ".

لتجيبه بابتسامة مشعة :" الأمر لا يخصك رشاد .. لذا تبحث عن كذبة ملائمة .. أعتقد الأمر يخص فرسان .. وقد يكون عدم البحث خلفها شيء جيد لها .. ولا تنس أنت من حددت موعد السفر وقلت هذه الفترة يمكنك إدارة العمل بالهاتف ".

لم يجد غير أن يمد يده ليلفها حول خصرها مغلقاً عليها حتى يجذبها فيقربها منه أكثر :" أنت فعلاً مذهلة فينوس ".

لتجيبه بتعقيب :" لا أحتاج للكذب في حياتنا رشاد .. لن

أسمح به .. طالما الأمر لا يخصك .. يمكنك قول هذا وسأفهمك .. لكن لو رأيتك تكذب بعد هذه المرة لن أسامحك أبداً ".

همهم بها وهو يحيط عينيها باهتمام عينيه :" هل كنت بهذا الوضوح ؟!!".

أجابته بابتسامة :" نعم رشاد .. عيناك عندما تكذبان لا تستقر بمكان .. كأنك تبحث عن الكذبات مكتوبة على الجدران ".

أخذها أكثر في أحضانه وهو يردد :" امرأة رائعة .. أنت كحلم جميل فينوس .. أخيراً سنسافر للوطن وسنتزوج هناك .. لن أصبر سيكون زفاف ملكي يليق بفينوس ".

جذبت خصلة من شعرها فلم تتساقط .. ثم همهمت :" أتعرف هناك سر .. كنت أنتظر حتى أخبرك به .. بدأ العلاج يعمل على انسحاب تأثير الزئبق .. ووالدك جعلني أتناول كل يوم زيت الزيتون ملعقة واحدة كل يوم كان له الأثر الرائع على شعري وكأنه كان يبدلني .. أنا سعيدة جداً

رشاد .. سعيدة جداً لدرجة البكاء ".

لام نفسه على تركها هذه الفترة فلم يكن يهتم بها كما

يليق بها .. مال على جبينها يقبلها ويحتضن وجهها بين كفيه هاتفاً :" أنت جميلة فاتنة في كل وقت فينوس .. يكفي أنك فزت بقلب أبي فصار نصيراً لك ".

همست بحب :" والدك رجل جميل مثل أبي .. كلاهما خلق للعطاء .. هيا بنا إليه .. لقد حذرني وأنا مقبلة في الطريق إليك .. قال عشر دقائق وإلا سوف يأتي هنا ويأخذني بنفسه ".

نظر لباب الكوخ وجده مغلق .. فأخذها تحت جناحه :" هيا بنا .. فقد سودت صحيفتي معه اليوم بهذه الزجاجات .. لم ترينه وهو يؤدبني كولد صغير .. لا أريد نيل محاضرة أخرى .. هيا بنا ".

هتفت به :" رشاد .. لا أحب الرجل السكير .. رجاء ..".

لم يمهلها هتف باقتضاب :" وعدت أبي .. لن أشرب أبداً .. إحدى الأشياء التي علمتها اليوم .. أن المسلم لا يشرب الخمر .. سوف أنفذ .. أنا من الأصل لم أكن أشرب إلا في مناسبات مجاملة .. لكن بعد شعوري بأني هدمت جزء قيم بيني وبين أبي .. لا مجال للتراجع ".

لفت يدها على ظهره .. فقبض على خصلة من شعرها يسحبها برقة فابتسمت .. همس وهو يقودها للدرج :" لا أصدق أني أخيراً .. استطعت التلاعب بشعرك بدون أن أنتزع منه شعرات .. كم كنت أتمنى صنع طوق ورود لتزيني به شعرك ولكني خفت أن أنتزع مه شيئاً فيسوئك هذا ".

علقت بابتسامة رائقة واثقة :"لن أرفض الآن .. اليوم أول يوم لا تهبط شعرة في فرشتي وأنا أمشطه".

بدأ يجمع بعض الورود في الطريق وكلما حصل على ورده لوى عنقها مع أخرى .. يتقدما وهو يجدل الوردة تلو الأخرى .. حتى صنع لها تاج وضعه على شعرها الأسود الجنوني بتكسراته الغجرية ..

مع طوقه كان هناك توق من نوع آخر .. ان يمتلك تلك البسمة وهذه الحالة من السعادة .. نظر للسماء كما علمته أمه أن يدعو بقاء السعادة .. ففعل .. راجياً أن يستطيع إسعادها أكثر ..

************
" صباح الخير مريم "

ابتسمت لأسما التي كانت تنتظرها .. فردت الصباح بحب :" صباح الجمال أسما .. هل كنت تريني في أحلامك يا فتاة ".

علقت وهي تقتع الطريق إليها تساعدها على فتح أبواب المعرض :" نعم .. كنت أنتظرك .. أريد ثوباً جديداً .. شيء يليق بزوجة فتحي ناصف الذي سيخرج اليوم من المشفى ".

قفزت مريم تحتضنها وهي تردد :" حفظه الرب .. مبارك لكم على سلامته أسما ".

تتمسك بها صديقة عمرها التي عادت لأحضانها بعد فترة جفاء :" الحمد لله يا مريم كنا نموت من أجله ".

ربتت مريم على وجنتيها براحتيها الدافئة :" هيا تعالي عندي ثوب نهاري سوف يظهرك كممثلات السينما العالمية ".

تحركت خلفها تسند لها العوارض المعدنية التي تحرص مريم غلق المعرض بهم حتى لا يتم اختراقه .. فالوضع غير

آمن ..

بعد دقائق كانت ترتدي الثوب الطويل النبيذي اللون بنقوش ورود صغيرة تحتل الحواف بلون كشميري وجذبت لها طرحة ملائمة بنفس لون الورود عقدت شعرها به وطوحتها للخلف .. تنظر لنفسها في المرآة الخاصة بالمعرض تدور حول نفسها ثم تقف فتلتف التنورة الواسعة على ساقيها .. تضج أسما بالضحك هاتفة :" لولا هذا الجالس داخلي بطني كان هذا الثوب أظهر رشاقتي .. لكن لا رشاقة مع هذه البطن ".

ضحكت مريم بقهقهة مماثلة :" بعدما يقشروك من عليه ستعودين لرشاقتك أسما".

تفاجأت أسما بخالتها تدخل باندفاع داخل المعرض هاتفة بها :" أنت إذا تمهدين لتنتقمي مني يا ابنة أختي .. أليس كذلك ؟!!".

صدمة تجلت داخل عينا أسما تلاها عقدة استحكمت في حلقها عندما وجدت في خالتها ردة عنيفة لتعود بها لتلك الأيام الصعبة التي كانت فيها خطيبة ابنها خالد .. لكنها لم تحتد بالسؤال الملح على عقلها :" انتقم منك كيف خالتي ولما أصلاً ".

عقدت السيدة يديها أمام صدرها لتجيب بكل حدة :" نعم .. كل ما حدث من فعل يديك أنت .. عندما يأتيني خالد ليطلب مني الموافقة على زواجه من مريم صديقتك .. أليست هذه حيلتك لتنتقمي مني على فترة الخطوبة التي تطلبت فيها كأم الزوج ".

هتفت بها أسما وهي تقف بمواجهة حامية الوطيس من

انفعال خالتها التي لا تدرك كيفية حسم الأمور .. دائماً متهورة :" أنتقم منك لو كنت بالفعل تزوجت من ابنك وعشت معك حياة صعبة .. فقدت فيها أنوثتي كشرط أساسي ثم أفقد أدميتي كلها .. كنت أعتقد أن عقلك صار أنضج خالتي .. لكنك كما أنت تبحثين عن المشاكل وكأن خالد هذا طفل .. وكأنني أريده حتى الآن .. أنظري لزوجي وتعرفين الفرق .. أنظري لأمه وأبيه لتدركين أني لا أعادل زوجي وعائلته بعشر عائلات أخري .. حتى لو كنت وضعتِ في يدي ملأ وزني ذهباً ما فعلتها لأن فتحي لا يعادله

رجل في رجولته وحنانه ".

صدح صوت خالتها :" انظري لي أسما .. لن تأكليني بهذه الكلمات .. أردتِ وضعي في وضع أصعب حتى تنتقمي مني .. وإلا لما أختارها خالد .. أليس لأنها شاغلته بتوجيه منك ".

ضربت أسما كفاً على كف ثم تحدثت بالحقيقة :" خالد يختار من يشاء هو حر .. لا دخل لي به .. ثم مريم يتمناها كل شباب الشارع .. ليست بحاجة تشغل أحدهما .. ما طلبه خالد منك والذي أول مرة أسمعه الآن من فمك .. ليس محرم هو أمر مشروع .. الزواج حلال .. أنت وأمثالك هم من تعقدونه .. لو كان ابنك مسافر لإحدى الدول الغربية وحضر بزوجة من الخارج ما كنتِ رفضتِ .. بل كنت ازددت فخراً .. القصة ليست في كون مريم مسيحية إذاً .. القصة في عقدنا التي لن تتغير .. أنت لا تريدين لخالد زوجة .. أنت تريدين لك عبدة .. لن تجديها خالتي .. مريم يتمناها الجميع ".

انتفضت مريم للخبر الذي أتت به السيدة .. فهتفت من فورها :" أتعتقدين حقاً أن هناك خطة بيني وبين أسما .. أتعرفين خالتي العيب الوحيد بخالد هو أنت .. للأسف .. عيب خالد الوحيد الذي يجعل أي فتاة ترفضه هو أنت .. أنا أرفض خالد من قبل ان يتقدم لأبي .. أتريدين برهان آخر على أني أرفضه .. هل أتزوج أول شخص يطرق على بابي .. لو من أجلك لن أفعلها ".

" أبعدي خالد عن مريم ".

ناجي من الخلف فلم يكن قد ميز أحد وجوده عندما حضر .. حدقت به كل العيون بدهشة ما عدا مريم نظرت للأرض بانكسار .. لم تكن تتمنى أن يثار هذا الكلام بالطريق بهذه الصورة :" شكراً لمقدمك أم خالد .. قصرت عليا الطريق .. كنت سأحضر لك لأقول لك .. ابعدي ابنك عنا .. لا نريد منه رعاية .. ابنتي ملكة في منزلي .. لست أنت من ترفضيها .. أنا أرفض أن تكون لها حماة مثلك .. بلا نضوج .. هيا معرضنا يتعذرك أم خالد .. سوف نفض الشراكة بيننا .. سأجعل فهمي يعد الحسابات كلها لندفع لك ما وضعتيه في المعرض من أموال ".

تحركت السيدة بغير كلمة مدركة لتوها أن انتصارها هو

انتصار وقتي زائف .. لن يعجب خالد ولن يجلب أي خير ..

بينما مريم تنظر للأرض بعيون تطفر من دموعها الكثير .. فهذه السيدة لا تحتمل .. ضغطت بكل قوة على جرحها حتى فتحته وألهبته ..

وقفت أسما تحاول جلب كلمات للاعتذار :" عمي .. أنا آسفة .. لم أكن أتخيل أنها بهذه العقلية ".

جلس الرجل على مقعده بفتور متداعي .. وصوته يكاد يتساقط في بئر الوجع :" صدقيني هي أقل مشاكلنا يا أسما .. قد تقبل من أجل ابنها .. لكنها لا تعرف أننا أيضاً نوجه أمثالها .. نحن يا ابنتي من عائلة لن تقبل هي الأخرى هذا الوضع .. وكما قلتِ لها لو كانت أجنبية ملحدة كانت ستسعد أن ابنها جاء بعروس أجنبية .. نحتاج يا ابنتي عشرات الأعوام ليتغير هذا الوضع .. وأنا مريم غالية جداً على قلبي .. هي البنت الوحيدة على أخويها .. قرة عيني ".

أطرقت أسما لتشمل نظرتها الموضوع كله .. ليست خالتها وحدها هي العقبة بل هناك عشرات مثلها .. لم تجد غير الدوران لتقبل مريم بإحباط وكأنها تعلمها أن لا شيء سيتغير بينهما مع اعتذارة خافتة .. ثم ربتت على كتف ناجي وغادرت لمعرضهم المقابل ..

لم تستطيع مريم مواجهة أبيها بنظراتها .. عمدت على تعديل وضع البضائع ليهتف هو بها :" صدقيني يا مريم .. رفضي خوفاً عليك ابنتي ".

وضعت إحدى قطع الملابس على المشجب المعد للعرض .. ثم تحركت تقبل رأسه الأشيب هامسة :" أبي .. لا تدع هذه السيدة تعكر صفونا .. لو حادثني خالد سأرفضه .. حتى نتخلص من أي إزعاج ..".

لتجد من كف أبيها التي أمسكت بكفها قبل أن تفر منه هاربة :" لا أستطيع طفلتي غير هذا .. أنا كبير قاربت أيامي على النهاية وخالد خلفه عائلة ممزقة لن يقفوا جواره .. لن يستطيع الدفاع عنك صدقيني ".

انتفضت بقوة .. تنهر تلك الكلمات داخله :" هل وجدتني

أبكي مطالبة به .. يكفيني أمه التي بلحظة أتت تضحي بكل شراكة بيننا لتجعله تحت يدها ".

رفع أبيها عينيها للخلف ليصل لعينيها التي تتحاشاه حتى لا

يرى بريق دموعها .. ثم هتف بها :" متى تمكن حبه في قلبك مريم .. لم أكن غافلاً ".

هتفت من قلب مؤمن تتلو ما تعلمته على يد أبوها نفسه :" أنزع البغضاء من القلوب وأسكب من محبتك في القلوب ".

حرك رأسه بإحباط مستسلم :" نعم مريم .. علينا ان نزرع الحب دائماً ".

كلمات لا تزرع الأمل داخل قلبها .. فمشكلتها معقدة بشكل مبالغ فيه .. بسبب هذه السيدة التي دائماً عقلها يدور في اتجاه خاطئ ..

**************
" ما بك أسما .. ماذا حدث حتى يسود وجهك بهذا الشكل ؟!!.. حتى الفستان المميز اللون لم يمنحك من لونه ".

جلست أسما تجاه شروق التي كانت تقف في المعرض منذ الأمس مكانها حيث تسلم فهمي مقاليد الأمور مع تسلمه المعرض من الشرطة التي اعتبرته مكان جريمة تم تسليمه لفريق من المباحث الجنائية حتى انهى الفريق

عمله ..

مالت للخلف .. تنظر لبطنها المنتفخة بإزعاج :" أنظري لبطني وأنت تعلمين شروق .. خالتي هذه لا عقل فيها .. حضرت باتهامات قبيحة هذا الصباح ".

عقدت شروق حاجبيها بقسوة :" اتهامات ماذا على الصبح ؟!!.. وأنت لك فترة في المشفى ولا تحضرين الشارع .. هذا بدلاً من أن تهنئك بعودة فتحي .. سيدة غريبة .. لا أعرف كيف كنت ستتزوجين ابنها صراحة ".

ابتسمت أسما بإشراق مبتهج القلب .. تتحدث وكأنها تعيد ذكرى هذا اليوم البعيد :" اتعرفِ تعرفت على فتحي وأنا زوجة لخالد .. المجنون كان يتعرض لي بالطريق .. صفعني فما كان من فتحي أن ظهر كفارس ولكن ليس بحصان أبيض .. كان بيده قوة حمتني .. كرامتي كانت بيده .. شروق .. بعدها طلقني خالد وكأن هذا من حظي ونصيبي .. بعدها بوقت كاف كنت زوجة لرجل عاملني بكرامة .. رغم خلافنا الوحيد بسبب الشيطانة يسر إلا أنه كان كرامة والله أيضاً .. فتحي هذا علمني الحب بشكله الصحيح .. خالتي منها لله كانت تتسلط علي .. تعشق عذابي والآن جاء دور مريم .. حضرت تتهمني أني أنتقم منها عن الماضي ووضعت داخل عقلها مخطط ومصرة أنه الصحيح .. هي دائماً هكذا مصرة أن ما في عقلها هو الصحيح ..".

سألتها شروق بجدية عدم الفهم :" لا أعي ما تقولين .. أفهميني أسما .. أشرحي أكثر ".

قصت عليها أسما ما حدث كاملاً .. لتجد من شروق ابتسامة سخية :" بالماضي كنت أنظر لفهمي على أنه أمل لن أحصل عليه .. لموقف طفولي بيننا .. الآن أنا زوجته وابنة عائلته .. لا تنظري لزواج خالد ومريم على أنه محال الحدوث .. الله له تدابيره .. له حكمته .. العم ناجي صديق أبي من زمن وكذلك عمي سليم وأبي ناصف .. كانوا يجتمعون في ورشة أبي .. مر الزمن وتفرقوا وعادوا لنفس الجلسة .. أمس كانوا سيتوجهون للعم سليم ليخرجونه من بيته ".

قفز مازن للداخل على هذه العبارة .. ليهتف :" سوف يعمل جدي سليم مع الأستاذة كوثر .. وهي ستتزوج ".

ابتسمت أسما قائلة لها :" يجب عليك أن تعينيه شيخ حارة .. أنه يعلم كل شيء .".

أجابتها شروق :" ملازمته لجده ناصف جعلته يعلم كل شيء ".

نظرت له تشير له ليحضر فيقف أمامها :" ألم أنهك عن

الحركة وحدك ؟!!.. ثم ما هذا كيف تتدخل في حديث الكبار ؟؟!!".

قفز للخلف حتى باب المعرض حيث دلف :" بابا فهمي يقف هناك .. مع جدي ناجي .. لقد حضرت معه .. ثم أنا لم أتدخل .. كنتم تسألون فأجبت ".

أشارت له أسما ليحضر ففعل ببراءة قربته منها وهي تمسك كفه لتميل تقبل وجنته :" أنت لم تخطئ في شيء مازن .. نحن كنا نتساءل حقاً ". أبعدته قليلاً لتسأله :" هل ستأتي معنا لجلب عمك فتحي؟!! ".

أجابها وهو يمد قامته لأعلى قليلاً ليكون أطول قامة :" نعم بالتأكيد لقد وافق بابا ".

دلف فهمي أمراً :" هيا بنا يا سيدات ".

وقفت أسما بلهفة كبيرة وكأنها تريد السفر عبر الزمن لجلبه إلى منزله الذي فقد الروح بدونه ..

******************
" أريد الحصول على زيارة لرونالدو فيتوريو في سجنه ".

علق صديقه :" محال مهاب .. محال .. هو في مكان قوي التحصينات وأنت مطلوب الآن .. من الجميع .. هناك خبر كان لابد لك من معرفته ".

انصت بلا تبدل في ملامحه .. فهذا ما أصبح عليه قطعة اسمنتية بلا قلب .. والقلب للضعفاء .. لينصت :" فريد الدهان ألقي القبض عليه .. أتوقع الخيانة الداخلية .. كونه لم يتم جعل أحد الرجال الصغار يذهب بنفسه ليتسلم البضائع .. والغريب أنها نفس القضية التي ذهب فيها سيد المليجي ومع نفس الشخص .. كذلك المليجي تلقت قوات الأمن بلاغاً من أحدهم يحدد مكان اختفاءه .. أشعر أنها تصفية داخلية أيضاً .. لو وضعت المعلومات بجوار رسالة راشد دحية ستعلم جيداً من سبب كل شيء ".

هتف مهاب بحدة فاقدة الصبر:" أريد لقاء رونالدو من أجل ذلك .. لو كان هشام فعلاً هو من جعلني هنا في هذا المكان ستكون أصابعي أقرب لعنقه ".

هتف صديقه الوحيد في هذا المستنقع الذي غرق في أوحاله :" سوف أجعلك تدلف له على حالة من اثنين أما مجرم تتلقى عقوبة أو أحد الحراس ".

هتف به مهاب :" لا .. سأكون القس الذي يأخذ اعترافه بقداس الأحد القادم .. هذا أسهل والتنكر فيه سيكون أفضل ".

وعداً الشخص الذي دمر حياته بكل خراب لمجرد تحقيق

انتقامه الابدي ..

*******************
" سيد مروان معي هاتف قد يفيدكم .. لكني لا أستطيع فتحه مغلق بمرور مرسوم ".

لا يصدق نفسه منذ الأمس عندما حضر للعمل ووجد الدرج مغلق فأطمئن أنه لم ينسى .. فتح الدرج بالمفتاح الذي في جيبه .. وسحب الدرج لآخر مسافة لدرجة مكنته من وضع كفه ليجد هاتف ملصق بشريط لاصق عريض .. سحبه ووضعه داخل جيبه بسرعة ثم أغلق الدرج بأسرع ما يستطيع ووضعه في جيبه .. خطوات تسارعت للخطو في الخارج .. جعلته ينتفض مكانه فينظر للخلف خشية ان يكون هناك أحد قد لمح العملية التي قام بها .. لكن الباب كان مغلق .. مما جعله يتنفس براحة .. خرج من فوره وللمرة الثانية يكاد يصطدم بنفس الشخص الذي هتف به :" هل من خدمة سيادة الوكيل ؟!!.. ".

سدد له وجيه نظرة حادة ثم هتف فيه :" ما اسمك ؟!!".

تذكر الرجل الآن أن هذا الرجل كان قد أخذ إفادته من قبل .. هتف :" لقد أخذت إفادتي كاملة هذا الصباح ومعها اسمي ".

ليعيد وجيه السؤال بحدة :" ما اسمك ؟!".

ليفكر متذكراً فينطقا معاً الاسم :" رضا السعدني ".

انتفض قلب هذا الموظف الذي كلفه أحدهما بملاحظة أي شيء غريب فلم يجد غير وجيه الوكيل هو الوحيد الذي يتردد على المكان .. كل هذا مقابل مبلغ لم يكن يحلم بوجوده بين يديه ..

ووجيه هو الآخر بدأ يشك فيه .. هكذا متضادان وسلكا نفس الطريق فمن تكون له الغلبة الحق أم الفساد ..

سمع صوت مروان بالهاتف على الجهة الأخرى :" هل لك في مقابلة سيد وجيه .. يجب ان ننال هذا الهاتف فلدي من يستطيع فتحه بكل سهولة ".

وقف وجيه متهيئاً لقطع المسافات :"سوف أكون لديك بعد ساعة .. سأحاول ان أدور بعيداً عن التظاهرات التي ملئت شوارع المدينة ".

ودعه وحرص على أخذ الملف الذي كان شديد الحرص على وضعه بالسيارة تحت المقعد المجاور للقائد .. حتى يتم فتح هذه الفلاشة أيضاً .. فهذا الرجل أبراهيم كان من النوع الحريص ..

*************

بعد نصف ساعة **
تعمل بكل طاقتها بعد تواصلها مع مسعدة لتعرف ما حدث .. لا تستطيع سبر أغوار هذا البارد .. أين ذهب هادر الحار الحارق .. هل ضاع عنها أم هي السبب في تغيره .. يجب عليها التحدث مع إحدى الفتيات ستموت من الغيظ .. اتصلت على فرسان بواسطة شبكة النت فأجابت بعد سماعها صوت

الهاتف :" لا أصدق جسور .. حبيبتي ".

ابتسامة مشعة ملأت قلبها وعيناها :" كيفك فرسان أنت وجواد .. والزوج سنوار .. والخطيبان في ، وعمي افتقده ؟!! ".

صوت فرسان الضاحك لم يكف عن الصدور وكأنها تريد بالفعل سماع جسور التي تتحدث بكلمات تملئها الحيوية .. لكنها تحتوي شيء تدركه فرسان .. تحتوي ضياع .. ألم تكن ضائعة طوال عمرها ..بدونه .."استفسرت فرسان :" يعني أخترتِ لكل زوج ما يناسبه فلما لم تفعلي معي ومع جواد ؟!!".

ضحكت جسور بقهقهة سخية :" لم أستطيع التفكير الجيد .. الزوج في .. كان أسهلكم.. فيتوريو وفينوس كما قص عمي علينا .. كان سعيد لدرجة كان من لممكن أن يحكي للناس في الشارع ففضلنا نحن أن نسمع .. وسنوار كذلك يستحقان هذا الدمج .. أما اسمك وجواد فلم أجد ما يجمع بينكما .. لغوياً ".

ثم عادت تضج بالضحك لتنصت لصوت فرسان تستفسر عن جميع من بالمنزل .. فعلقت جسور :" كلهم رائعين .. مميزين حتى طاهر عاد لزوجته التي لا تكف عن أعداد الطعام له .. وتنام تحت قدميه .. دينار هذه هي الحلقة المتوسطة بيني وبين أسوار .. تجيد الحياة الزوجية .. وأنت أخبريني عنك ".

حضرها صوت جواد وهو يأمرها :" تناولي هذا العصير الآن فرسان ".

صدح صوتها :" ها أنت سمعت بنفسك صدفة .. يتم معاملتي كالدجاجة الأم .. من أجل الرقاد على البيض .. متى يأتي يوم الفقس ".

إثارة البهجة وصناعتها شيء يملك أفراد هذا الوطن مفرداته حتى في أحلك الأوقات لهم.. سألتها فرسان بغتة :" وأنت .. لا أعتقد أن اتصالك لتبادليني السخرية جسور ".

اندفعت جسور بضيق مباغت أيضاً وكأنما الحياة قد

استدارت بزاوية مستقيمة :" لا أعرف فهناك الكثير بيننا .. لكن الواضح لي أني على شفا قتله .. هو بارد لدرجة غريبة معي وكأنني لا استحق وجودي معه .. يجعلني أتصرف بغباء .. أتدرين الأفضل أن تعودوا حتى لا نقتل بعضنا .. اليوم مثلاً أفرغت شحنة غضبي في إطارات سيارته .. فقط لأنه كان يمهد ليتتبعني .. والأمس طردني من منزله .. ثم بعدها بعدة ساعات خطفني من أمام العمل .. هذا الرجل سيفقدني عقلي .. لا أعرف ماذا يريد وأنا كذلك أكون في مزاج مضاد لمزاجه دائماً .. أكون مهيأة للسعادة فأجده يريد العراك وحين أحفز نفسي للعراك أجد شخص بارد .. بارد ".

ثم هتفت لفرسان :" هل ارتحت الآن عندما عرفت ما بي .. نفذتي خطتك أيتها الأخت الكبرى ؟!!".

حنقها وانفعالها جعل فرسان تسألها :" لم تسأليني عن عمي وهذا السبب الحقيقي لاتصالك جسور ".

تدلت شفتها السفلى بغير تصديق ثم غمغمت بارتباك :" كيف حاله ؟!!.. هل ساقه بخير ؟!!.. هل يتناول أدويته ؟!!.. هل ..".

عبرات متجمعة داخل عينيها كتمت صوتها مما جعل

فرسان تهمس بها :" هو بخير حال .. يكون أغلب الوقت شارد في ذكرياته .. وهذه مشكلتك أنت وهادر جسور .. كلاكما متشابه .. بل متطابق .. لا رأي أفضل من رأي كل منكما منفرداً .. أتدرين باللحظات التي تتفقا فيها تكونان رائعان .. هلا تركتيه يتصرف كما يحلوا له جسور ربما يستطيع الثقة فيك ويقوم بالشرح لك .. لأنك كلما اندفعت تجعلينه يخاف أكثر ".

خرج صوتها مرهقاً :" فرسان ربما أنت الوحيدة في حياتي التي أطلعها على ما يحدث لي .. يكفيني أنك تستمعين لي حتى لو لم نجد حلاً .. سماعك هو نصف الحل في حد ذاته "

دلف أحد الزملاء لمكتبها يلوح لها .. مما جعلها تقول :"سأغادر .. العمل يناديني .. بلغي سلامي للجميع وخاصة الزوج سنوار ".

فتعلن لها فرسان :" سوف أبلغ الجميع بما فيهم عمي .. ولك أن تتخيلي أسوار بجينات جسور .. ولكن في الحقيقة أفادها هذا كثيراً".

هتفت بابتسامة شاحبة :" يسرني أن جيناتي قد أفلحت معها .. ربما تفيدني كما أفادتها ".

لتجد آخر كلمات من فرسان التي لم تفهم لما هذه الكلمات الآن :" شكرا لاتصالك جسور .. لا تتخيلين مدى سعادتي .. دائماً كنت تظهرين باكية في وقت أعاني مشكلة ما فأتحلى بالقوة .. شكراً".

علقت جسور بلهفة :" ما بك أختنا الكبرى .. هل تعانين لهذا الحد .. للدرجة التي كنت تريدين فيها جسور الطفلة المجنونة تبكي لتجعلك تصلين للقرار .. ليت يمكننا العودة للماضي فرسان .. ليتني عدت صغيرة ".

تنهدت بحرقة ثم أطلقت وداعاً متأملاً في اللقاء .. نظرت لزميلها الذي كانت ملامحه كمن سقط في بحر متلاطم .. عقدت ذراعيها أمام صدرها هاتفة بزميلها :" هيئتك تقول مهمة قد يقتلني فيها الرائد ".

ابتسم شارحاً :" بالضبط .. من فترة ظهرت عدة جرائم في عالم النت .. إعلانات عن عمل مجزي ودخل ثابت مبالغ فيه .. مرة كفتاة إعلان .. وأخرى معرض لبيع الملابس خلال الشبكة العنكبوتية .. وغيرها من أساليب ابتزاز الفتيات.. الفتيات يذهبن وهناك يتم الإيقاع بهن .. ثم يبدأ مرحلة جديدة يرسل للضحية الصور التي تكون شيء مخالف للمتفق عليه .. حاولنا القبض على هذه الشبكة عدة مرات وكل مرة لا نستطيع .. نريد القبض عليهم بشكل متلبسين .. لأن الادعاء أننا قد دسسنا لهم الأدلة يلاقي رواجاً فيباغت الجميع بالمساهمة في إرسال اعتراض وبلحظات لا يكون أمامنا سوى الإفراج عنهم .. هما ثلاثة رجال ".

هتفت بجدية :" نعم .. كل هذا الشرح عن فشلكم .. ما دخلي به ؟!!.. ثم من يقود هذه الحملة ؟!!".

ضغط زميلها الجالس أمامها على أصابعه :" الحملة يقودها اليوم الرائد هادر .. بعد سحبها من المقدم حازم .. أما دخلك .. نريد عنصر نسائي .. فزميلتنا رفضت رفضاً باتاً قائلة خطيبي وأهلي .. لن أشارك في القبض على معرض لملابس النوم ".

لم تجد غير الضحك بحدة ثم هتفت به عندما شاهدت الاستغراب يطل من عينيه :" تريدني أن أجرب ملابس نوم أمام رجال الحملة وفي حضور زوجي ..".

ثم صمتت فجأة وفي عينيها فدادين من خبث ممتقع :"متى

ستتحرك الحملة بالضبط ؟!!.. وهل تم التواصل مع هدف سابق أم سأكون الهدف الوحيد؟!! ".

الموافقة الضمنية جعلته يدرك أن القضية ستحل اليوم فأجابها :" أنهم قد فتحوا حساب جديد لشركة وقد تم الايقاع بفتيات تقدموا ببلاغات لكنهم عادوا فسحبوها كما العادة لذا سيفلتون دائماً وتزيد الفتيات حياتهن بؤساً بسبب هؤلاء التجار بأي شيء حتى الأعراض.. لكننا لم نرسل هدف بعد وسوف يكون اليوم رتبنا سيارة المراقبة لتكون معنا الليلة ".

رفعت سبابتيها لأعلى ثم صارت تحركهما بالثني عدة مرات :" سوف أكون معكم بشرط أن يجعل الرائد أني الهدف .. لا تخبره ".

وقف يضرب لها التحية العسكرية احتراماً لقرارها .. فالعمل بالنهاية عمل وليس من المفروض أن يكون جميع العناصر متعارفة بشكل كامل .. المهم نجاح الحملة ..

قبل أن يغادرها ويغلق المكتب عاد ينظر لها هاتفاً:" السيد مروان كان يريدك في مكتبه ".

وقفت مكانها تضبط من ملابسها وتحمل هاتفها لتغادر مكتبها .. داخلها كلمات فرسان تضج في عقلها .. دعيه هو يتصرف .. ربما ستدعه بعد وضع ألعاب نارية في ظهر قميصه ..

*************
دلفت تنظر للرجل الجالس أمام مكتب مروان .. تعرفه جيداً لكنها لن تظهر هذا .. هتف بها مروان :" تفضلي جسور .. نحتاجك في شيء ".

أجابته بابتسامة متطلعة للرجل الجالس كمن يجلس على نار .. فطريقة جلوسه على حافة المقعد تحدد توتره وتحفزه .. ليهدهد مروان هذا التوتر الذي سكن بالمكان :" أعرفك جسور ".

لتهتف وهي تمد كفها بالسلام :" السيد وجيه الوكيل وكيل النيابة .. غني عن التعريف سيدي ".

سلم عليه وداخله بدأت راحة عندم تحدث مروان :" النقيب جسو دحية .. هي المسئولة عن قضية دار الرعاية وهي ما تفتح أفاق جديدة لنا كل يوم ".

تنهد ببطء زفرته راحة عندما علم هذه المعلومة فقال :" أشعر أن هناك أدلة كبيرة داخل هذا الهاتف وتلك الذاكرة الصغيرة .. لكني فاشل في الإلكترونيات المعقدة ".

ابتسمت عيناها بسخرية قليلة .. بينما مروان يشرح لها :" هذه الذاكرة وهذا الهاتف .. بهما أكواد مرور سرية لابد من فتحهما ".

غمغمت بجدية عملية :" نعم سيدي .. أمهلني لأجلب أدواتي

.. وسوف أفتح لك كلاهما ".

شعور بالارتياح أكتنف وجية عندما لم تعرض أخذهما للخارج .. غادرت الغرفة ثم عادت ومعها جهاز الحاسوب وعدة توصيلات سلكية.. وضعته على مكتب مروان ثم أخذت الجهازين .. وصلت الفلاشة والهاتف بجهازها وبعد لحظات كانا كلاهما تم فتحهما بحركة مباغتة كانت قد نقلت محتوياتهما كنسخ إضافية على جهازها .. ثم منحتهما لمروان :" لقد فككت الشفرة .. كانت بسيطة أولية .. يبدو صاحب هذه الأشياء ليس له علاقة بالأجهزة

الإلكترونية .. لقد أزلت نهائياً أي شفرة ".

وقفت حاملة كل أشياءها لتغادر لعملها .. لكن صوت مروان آمرها :" أريدك في قصة أخرى بعد مغادرة السيد وجية ".

رفعت كفها بالتحية العسكرية وغادرت من فورها .. تشعر بإثارة كونها قد نسخت الملفات .. طالما أنه ابن محمود الوكيل وبسملة علوان فهي أكثر من مهتم بما يجلبه .. خاصة وفصة ابن خاله تشابكت مع مصير عائلتها .. لم تظهر أكثر مما ينبغي فهي لا تعرف مدى معلوماته في القضايا التي ما زالت عالقة ..

جلست على مكتبها تراجع أوراقها فكل شيء يتشابك

بالنهاية .. تفرغ كاميرات المراقبة الخاصة بالدار وتتولى التحليل الفوري .. نظرت لآخر تسجيل منذ ساعة ونصف .. لتجد نادرة تقودها قدميها للدار .. لأول مرة يتم التقاطها من المراقبة الدائمة .. كل خطواتها تقول أن هذه السيدة تعاني درجة من درجات اليأس رأسها المتدلي على رقبتها .. ظهرها الساقط بين كتفيها نظارتها الشمسية الكبيرة حتى شعرها المحبوك بشدة كلها دلائل من يرى التخفي خلف كبرياء زائفة .. هتفت بها :" ماذا فعلت بنفسك نادرة لتصلي لهذه الحالة من الضياع ؟!!".

رن هاتفها الداخلي .. فأغلقت جهازها وتركته مكانه فلا أحد يستطيع التلاعب به .. غادرت للسيد مروان الذي بادرها :" جسور خذي هاذين وأفرغي محتوياتهما .. أظنهما سينفعان في القضايا العالقة ".

سحبتهما لتضعهما داخل جيب سترتها فيهمس بذكاء وفطنة :" لم يكن هناك داع لنسخ الملفات ".

نظرت لأعلى وقبل ان تجيب بكذبة .. كان يشير لزجاج المكتبة التي تقع بالخلف حيث كانت تجلس ... معنى هذا شاهد الخط الأخضر المميز للنسخ أو النقل .. ابتسمت هاتفة :" الفضول سيد مروان .. ثم هذا ابن محمود الوكيل وبسملة علوان .. انت تعرف أنها سلمتني ملفات سابقة كلها لا تكفي كدليل اتهام لهشام علوان ".

أشار لها لتجلس أمامه ثم مس أزرار جهازه ثم أداره تجاهها :" هذا آخر شيء قد استطاع هادر فعله .. أعلميني ما شعورك بعد رؤيته وتحليله ".

بعد فترة كافية **

تضع يدها على قلبها وكأنها تتلمس نبضاته .. لم تتخيل أن يتم اتهامه بالخيانة .. بل لم تتخيل أن حياتها كانت بين يدي رجال هذا الحقير .. بالفعل كان يهدده طوال الوقت بها .. لذا لا حياة له مع التوتر .. تعيد ملامحه التي كانت قد أنكرت أن لها يد فيها .. بل لم تكن قد صدقته عندما قال لها يهددني بك .. كل شيء كان في عقلها أنه يريد الخلاص منها مرة أخرى وأن هناك مؤامرة جديدة ينفذ خطواتها بإجادة .. لكنها تعلم أنه ليس بخائن أبداً ..

همست عندما حصلت على نبضات قلب معتدل المزاج :" هادر كان يضع جهاز التسجيل في ملابسه لذا لا يظهر سوى صوت فقط .. ليس علوان هو من أرسل هذا التسجيل .. هذا أول دليل على براءة هادر من تهمة الخيانة .. ثم عرضه أن يجعله يغادر هو كمين يمكن أن يعلمنا به فيما بعد ".

عادت تؤكد :" هادر لا يخون ".

ابتسم لها ثم تحدث معها " هل ذكرت خيانة هنا .. هادر من بثه ليختبر المدى والتردد .. أنا فقط جعلتك تشاهدينه .. لأني قررت ان تكوني معنا في المهمة الكبرى .. لن اترككما تفشلان خطط بعضكما .. يجب ان تكونا معاً حتى ننهي بعض القضايا ".

ثم ذكر هدفه الأساسي :" عليك التأكد أن هشام بالفعل كان يقوم بفصل هادر عن كل من يثق بهم خال فترة ليست قصيرة .. كل هذا لأنه كان يجهزه ليكون مكانه فيما بعد .. أنت من سحب السجادة من تحت أقدام هشام فانهار كل شيء .. لذا صار يتخبط وهذا معناه سيتهاوى .. الدائرة تضيق عليه لدرجة كبيرة .. لا نريد ثغرة .. هل تفهميني جسور ؟!!".

لم يعد للكلام معنى .. ابتسمت ووقفت .. سيكون له ما أراد .. ستجعل هادر يتأكد من مساره الإجباري .. نعم فعشقهما لم يعد خيار بل فرض عليهما .. لمصلحة الوطن والعائلة .. وصالحهما الخاص يجب أن يكونا معاً للأبد ..

*******************
تتحرك لداخل المشفى فتسمع صوت يناديها :" شمس ..

شمس".

لوت عنقها لتنظر للصوت الرجولي الذي تعرفه جيداً :" أستاذ فهمي ".

كان يقترب منها بسيارته ثم مال على زوجته عندما وضع السيارة على يسار شمس فيحادثها من النافذة بينهما :" لماذا لم تعلميني أنك قادمة شمس كنت حضرت معنا ".

ابتسمت لزوجته شروق الجالسة جواره وزوجة أخيه بالخلف يجاورها مازن المبتهج :" لم أعتقد ان هذا ممكن .. فلم أرد أن أثقل عليك أستاذ فهمي ".

اتسعت ابتسامته معلقاً :" كانت فرصتك اليوم في الحضور معنا .. فاليوم سنغادر بفتحي .. نحن قادمون لنأخذه .. لكن من الغد ستجديني هنا كل يوم من أجل الشيخ تيمور سأقلك معي كلما حضرت ".

هتفت بحياء :" لا .. ليس هناد من داع.. أنا أحضر في الصباح وأغادر في المساء .. لا تتعب نفسك من أجلي ".

تحتاج لتبرير وجودها فلم تجد غير أن تتحدث بما في قلبها :" أنه وحيد .. ليس له أحد يرعاه وقد حمانا جميعاً من الموت ".

لم ينطق فهمي حرك رأسه بهدوء ثم عقب :" لم أسأل

شمس لك كامل الحرية في حياتك ". تلونت بشرتها بلون أحمر قاني وعينيها زاغت في لا مكان وكأنها لا تعرف لأين تتجه..

لوح لها قاطعاً البوابة الرئيسية .. بينما تجمدت هي برهة .. تقيس فيها التصرف هل تدلف له أم تغادر .. نظرت للبوابة وأعدت قدميها لتكمل هي طريقها للداخل .. تحمل حقيبتها البلاستيكية التي تحضر فيها الطعام الذي يحتاجه شيخها ..

علقت شروق بضيق :" لقد أخجلتها فهمي.. أحمر وجهها ".

أجابها بهدوء :" صدقيني لم أقصد سوى ما خرج من فمي .. كل إنسان حر الوحيد الذي يسألنا عن حياتنا هو الله أما البشر فكل منهم يجب النظر لحاله .. تعبنا من الوصاية .. طالما لن تخسر شيئاً فيجب تشجيعها على أن تندمج معنا .. أما لو كانت لها غاية أخرى فالله وحده كاشف الضر .. يحمينا منها ".

هتفت أسما من الخلف :" ليتك تمنح هذا الدرس لخالتي ..

لا تصدق ما قالت لي اليوم ".

ابتسم بمعرفة :" علمت ما حدث .. لقد توجهت للعم ناجي شاهدت دمعة الرجل ومظهر مريم الحزين .. ضغطت عليهما فعلمت .. خالتك هذه يترك لها الناس بلاداً .. لها طريقة تفكير تقهر النساء .. الحمد لله أنها لم تصبح حماتك ".

تنهدت أسما في حسرة على الأيام التي جعلتها تتذوق العذاب فيها :" حقاً هي أستاذة في حياكة النكد وعجن التوتر .. ندعو لمريم أن ينقذها الله من هذه الزيجة .. فلا خالتي ملاك ولا المحيط مشجع ".

همست شروق :" الحب بين يدي الله يا أسما .. لو أراد لهما الزواج لن يستطيع منعه أهل الأرض جميعاً .. وخالد طالما قصد الحلال اختصر حروباً وصرعات ".

أوقف فهمي السيارة في المرآب همهم مقاطعاً :" هنا أفضل.. بجوار هذا المصعد حتى نأتي بفتحي فلا يضطر للسير .. سوف أتوجه أنا للحسابات وأنتما أكملا الطريق حتى فتحي ". صعد للطابق الأرضي وتركهم يكملون للطابق الأعلى حيث شقيقه ..

بعد دقائق **
تنظر لباب غرفته المشرع قليلاً من يراه يظنه مغلق فلم ترى الجندي الذي يرابط أمام غرفته ..

لم تهتم كثيراً ربما ذهب للحمام داخل الغرفة.. قبل وصولها للغرفة اخترق سمعها صوت أنين وصوت رجل آخر يعنفه :" أصمت يا خائن .. ستستحق العذاب فيكون فوق ما تعاني عشرات الأضعاف "... وضعت ما بيدها في الرواق حتى لا يحدث خشخشة

ليهتف به تيمور :" ليتني ما دعوتك أنت وعشرات الشباب .. لقد تغير الهدف وأنتم لا تعلمون .. لم نعد نخدم الله ودعوته .. صرنا نخدم أشخاص طامحين لسلطة دنيوية .. لسنا عبيد البشر .. نحن عبيد الله فقط ".

نظرت بنصف عين للداخل .. أمام باب الغرفة شاهدت رجلين يحملان تيمور الذي يكتم آلامه .. يجرون ذراعيه من فوق الفراش .. يريدونه أن يسير لحتفه هو يهتف بهما :" الجندي ما ذنبه .. على الأقل لا تتركونه في دمائه هكذا ".

يهتف به الرجلين :" نكون قد تخلصنا من أحد الأسواط بيد الكفرة .. والطامحين نعم يطمحون لتكون حياتك أنت وغيرك حياة عدل ودين صحيح .. لكنك كغيرك لا تهتم سوى بالدنيا وزينتها .. ألم ترافقك إحدى النساء .. لا تتركك أبداً ".

لا يصدق ما القوة التي بعثتها داخله إهانتهما لها :" هذه المرأة أفضل من الكثيرات ممكن يتواجدن في بيوتكم".

اندفعت قبضة تضربه على ظهره فصدح صوته مشتعلاً ملتهباً من الوجع ..

لا تهتم .. أن دافع عنها أم لا .. الحقيقة لم تعرف ماذا تفعل في هذه اللحظة ؟!!.. شاهدت القفل الذي يوضع على الباب بعدما تغادر .. ملقى على الأرض فرجحت ان الجندي كان يفتح الباب فغافلاه فسقط منه القفل .. عزمت أمرها بلحظة واحدة .. مدت يدها تميل على القفل الحديدي الثقيل ثم تحركت جوار الحائط مدت أطراف أصابعها لمقبض الباب الخشبي الثقيل ثم سحبته فجأة وقفزت أمامه تدفع القفل داخل مدخله وما بعد هذا لا يهم .. فقد أحكمت إغلاق القفل بثوان معدودة .. انتبه بها الرجلين فترك جسد تيمور يهوى أرضاً يجاور الجندي المسكين .. بينما الرجلين حاولا مع الباب وأراد أحدهما وضع الفوهة المسدس مستعداً لإطلاق النار على صاحب الفعلة .. لولا زميله منعه بهتافه :" لم نؤمر بقتال وإثارة جلبة ".

اندفع الرجل الشاب الغاضب نحو الفراش يسحب وسادة فيضعها على رأس تيمور الذي لم يهتم سوى بترديد الشهادتين ..عامداً لرفع سبابته بشيء من يقين واثق بمكانه في الجنة .. لم يأمره الله بقتل مسلمين .. فقط الدعوة لطريق الحق .. أما الموت والقتل والخيانة كلها من شراك الشياطين ومن تسلقوا درجات الدين يبتغون مناصب دنيوية فارغة ..

صوت الزميل الحانق منع هذه الطلقة أيضاً :" الأمير أراد تيمور حياً حتى يعلم منه معلومات .. هذا الرجل ثروة معلومات .. كل مكان كان به أهم من غيره .. هل فهمت لما قتله خسارة لنا؟!! ".

كانت تميل لأسفل حتى تغادر الباب تهرول وصوتها يصدح

في المكان :" ألحقونا .. يقتلون الشيخ تيمور ".

صوتها بلغ الجميع أن هناك قتل وقتلة .. في مشفى بها عدد لا بأس به من المرضى وأهلهم .. منهم فهمي الذي كان قد اقترب من الرواق قادماً إليها عندما وجد حساب الشيخ تيمور قد تم سداده حتى هذه اللحظة وقد تم وضع مبلغ تحت حسب وجوده وعلم أنها هي شمس من دفعت .. كان قادم لعتابها لولا صوتها جذبه إليها أكثر .. هرول تجاهها فكانت كلماتها تغزو عقله وتنذر قلبه بالخطر :" تيمور .. بالداخل هناك رجلين ضربا العسكري ويجران تيمور .. أنا خائفة .. سمعت تيمور يقول لهما ما ذنب الجندي تضربانه وتتركونه ينزف ".

تجمد أمام الباب المغلق .. هتف :" أين المفتاح شمس ؟!!.. ".

لم تنظر للمفتاح من قبل .. صارت تبحث بعينيها عندم المكان الذي وجدت فيه القفل .. تبحث وبحثت معها العيون التي تجمعت بالمكان .. اتجه فهمي للخلف .. نازعاً المقعد من مكانه ثم تحرك نحو الباب .. يتمنى أن ينتزع ضفتي الرتاج الذي يعلق فيه القفل من مكانه .. بالفعل ظل يكرر هذا وقد بدأ الرتاج يميل في جهته الضعيفة وخاصة بعد أن سانده بعض الرجال عندما بدأ رجلان يندفعان بأقدامهما نحو الباب كلا منهما يضرب ضفة من مصرعي الباب المزدوج .. حتى انخلعت ضفة كاملة وأندفع الباب من أحد مصرعيه يرتد بالجدار .. كان الجميع مدرك أن هذان الشخصان سيكونان أما هربا من النافذة أو مستعدان بالداخل بالسلاح يصيبا به ما يستطيعون .. لكن وقت الجد يظهر الرجال ونحن شعب لا نهاب القنابل بل نخرج لنشاهدها وقت انفجارها وكلنا يقين ان قضاء الله نافذ ولو كنا في بروج مشيدة ..

أندفع فهمي تجاه تيمور الساقط على الأرض بطريقة مؤلمة خاصة وإحدى ساقيه عالقة في الفراش سأله وهو يهرول تجاه الفراش :" أين ذهب الرجلان ؟!!".كانت إشارة تيمور

وصوته المتوجع :" فرا من النافذة هناك ".

نظر فهمي للنافذة فجعل بعض الرجال يتجهون إليها ومنهم من شاهد هذان يهربان فتبع خطاهما .. من نفس المكان .. ينادي فهمي الرجال :" طبيب فهذا الجندي ينزف من رأسه ".

سحب الملائمة وهو يرى الباب المفتوح والرجال قد دخلوا الغرفة ليهتموا بالجندي الذي لم يكن فارق الحياة بضربته كانت على رأسه .. صرخ بهم فهمي وقتما شاهد خلفهم شمس:" لا تدعوا نساء يدخلون المكان".

الملاءة تطير بين يديه ليضعها على ساقي ابن شارعه .. يواري عريه .. ثم نادى في الناس :" أين الفريق الطبي .. تأخروا كثيراً ".

أقبل بالفعل الفريق الطبي .. يطرقون على الباب .. بينما سارع الرجال لرفع جسد تيمور العاجز فيما بينهم يرفعونه لأعلى بقوة أجسادهم ثم يهبطون به على الفراش بنعومة شديدة وضعوه في مكانه ..

دلف الفريق الطبي منقسم لجهتين حتى يسعف الحالتين .. غمغم تيمور بأذن فهمي :" أريد ضابط المباحث .. أريد أن أدلي بشهادتي قبل الموت ".

كلها ساعة واحدة ..كان فيها الكل قد انتشر في الأماكن التي أدلى بها تيمور .. أناس كان من غير المتوقع أن يكونوا من الممولين للفوضى .. مناصب ومراكز كلها تساند .. وأدلى بكل ما يعلمه من أماكن التدريب .. قيد عنق فاروق وزوجته ويسر وغيرها من الأذناب المتطفلين .. أدلى بشهادة تاريخية .. أدلى كيف كانت عملية خطف الضابط طاهر وعملية ضرب الوحدة على الحدود وكيف كانت وأين بدأت ومن بدأ بالتخطيط لها .. ليضع هكذا يسر في مصاف الشخصيات الهامة للقبض عليها فقد صارت مخططة وليست مجرد فرد تم التغرير به ..

انتهى الضابط هاتفاً :" لا يمكننا تركك هنا .. سوف نعمل على نقلك لمشفى آخر حتى نوجد له شخصية أخرى تتخفى بها ومكان آخر .. مما علمته ليس لك أهل .. سيكون من السهل الحفاظ عليك بإخفاء هويتك الأصلية ومنحك هوية جديدة .. بإدلائك هذه الشهادة سيتم تحويلك لشاهد ملك .. لن يوجه لك أي إتهام .. فما ذكرته ليس بسيط .. خاصة في هذا الوقت .. هناك أشخاص ذوى نفوذ منتشر ".

كل هذا تحت عينا فهمي وشمس فقد رفض تيمور خروجهما

.. أراد التطهر أمامهما وأمام الله ..

هتف تيمور بفهمي قابضاً على كفه القريبة :" أخرجوني من هنا .. دعوني أذهب للشارع حتى أموت بينكم .. هذا المكان الوحيد الذي وجدت فيه راحتي ".

هتفت شمس بعد ان ضربت راحتها على صدرها :" لا .. بعد الشر عنك شيخي .." ثم نظرت لفهمي تأمره بإلحاح :" هيا أستاذ فهمي أجلب لنا سيارة إسعاف تنقله لمنزلي .. هناك أمي لا تبرح المنزل .. والعاملات لا يخلوا المنزل منهن .. لو أراد أحد به السوء سأنهش عنقه بأسناني ".

غمغم تيمور :" حتى لو جلست في المسجد أريد النهاية بينكم .. أريد منكم أنتم أن تغسلوني وكذلك تصلون علي .. رجاء خذني فهمي من هنا ".

هتف فيه بحنان :" سوف أفعل حسب وصيتك .. لكن فيما بعد تيمور .. أمامنا وقت طويل سنجلس معاً ونسخر من هذا اليوم .. سوف أجلب سيارة إسعاف تقلك أنت وفتحي للشارع وسوف أقل معنا شمس بسيارتي ".

خرج فخرجت خلفه تهتف وعيناها بدأت تقطر دموعها :"

شكراً لك يا أستاذ فهمي .. لولا وجودك ما كنت علمت كيفية التصرف ؟!!".

ابتسم وبرقت عيناه بشيء من شعاع اللطف:" أنا وهل فعلت شيئاً يا شمس .. أنت من فعلتِ عندما وضعتي القفل على الباب منعتيهم من خطفه ومن قتله .. هربا ولن يتركهما الناس ولا الشرطة .. فالمشفى مراقب بالكاميرات وسوف تصل لهما الشرطة .. ثم يكفي أنك أنت من دفعت حسابه كاملاً .. كنت بالحسابات وقدمت لأعاتبك .. فأجد بنت بلدي تنقذ الأرواح ".

كانت تنتفض سعادة .. ما يقوله وطريقته جعلتها تشعر بأنها قد فعلت شيء عظيم .. وهي لا تشعر بهذا فقط شعو بالانتماء لجميع كبار الشارع هو ما يكبلها ويطوق عنقها .. كانت تخاف ان يأكلها الجميع .. لكن شارعها وضعها على طريق التوبة ... تقبلها بالحب والعطف ..

****************************************
دلف باسم منزل أخيه الريفي الكبير .. خلفه عدد من الأشخاص .. هتفت به رحيل لمجرد سماع صوته :" ألم تقل

باسم أنك لن تعود لي .. إلا ..".

كانت قد سقطت عيناها على عينا بلون البندق جذبتها داخل بحارها الغريقة .. يسحبها من مرفقها المنثني كونها تحمل طفل من توأمها بين يديها ينام داخل حقيبة قماشية ناعمة من المخمل الأزرق .. بينما الرجل المجاور لها يحمل مثلها بلون الخوخ .. ابتسم باسم وكأنه سيطرحها على ظهرها من المفاجأة :" بدون وجنة .. لم تكوني تصدقين .. هذه هي ".

حركت رأسها باضطراب غير مصدقة .. ثم هتفت بحدة من لا يريد هذه الحقيقة .. أو من يريد الرفض أو يعلم معلومة ما :"لا ليست هي .. لا تشبهها أبداً .. هل أستطيع أن أطلع على بطاقة هويتك ؟!!".

وكأنها تحولت لضابط ومحقق شديد البأس .. اضطربت عينا آمال بينما اقتربت من زوجها .. الذي سحبها بيده الخالية من الطفل ..

لتهدر رحيل بصوت .. تحرك كفها فيبرق الخاتم الذي ترتديه كوهج مشتعل :" من أنت يا نصابة ؟!!..".

هدر فيها باسم :" هذا هو ما توقعته منك .. تظهرين العداء وتخرجين أسواطك حتى تشوشينها .. هي وجنة أختي الكبيرة ".

وقفت في وضع مستأسد تضرب كفا بكف .. وكأنها مظلومة :" طوال عمري أقول أن ولد طيب .. خائب .. تجلب الناس من الشارع هكذا .. وجنة ماتت .. وأنت لا تصدق ".

انتفض غيظاً مهاجماً إياها :" أموت وأعلم من منحك القوة لتتبدلي هكذا .. من فعلها ؟!!.. حتى أشكره ..لأنه أكد لي أن لك حياة مزدوجة .. حياة أخرى في الظلام .. لكني سوف أعرف ".

انتفاضة تقابل هبته تلك.. فتشير للخارج بأصابعها فيعود الخاتم معلناً عن وجوده جاذباً أنظار آمال :" هيا خذ ضيوفك وغادر باسم .. لا تعود حتى يعود صاحب المنزل الحقيقي فيعرف كيف تعامل أمه ".

نظر لأمه وكأنها تعاني من ازدواج شخصية ثم نظر مستفسراً لأخته التي لم تكن مسرورة من اللقاء :" وجنة .. هل تعرفين وجه أمي ؟!!".

لم تجد غير حسم أمرها بالفعل .. لا تعرفها تحدثت بهدوء :" لا .. وقبل أن تسأل .. هي لا تثير داخلي أي ذكرى .. إنما تثير تساؤل ".

نظرت للسيدة السمراء الشديدة السمرة التي تتمتع بقلب من صوان :" سيدتي .. لماذا تهاجميني من قبل ان تعرفيني ؟!!.. أعتقد أنك تعرفين أن ما لا أتذكره سيظهر حقيقة لا تريدين الكشف عنها ".

صدح صوت رحيل بغضب حارق لكل تهذيب :" هيا للخارج

.. هيا هل جلبت ناس يسبوني في منزلي باسم .. هيا ".

أخذ أخته وزوجها بطول ذراعه .. وقبل أن تحيط كفه زوجته كان صوت رحيل يتجرأ عليها :" لم أكن أظنك مغفلة بهذا الشكل زوجة ابني .. كنت أظنك أحرص عليه .. توافقين هكذا على جلب من يطالبون بميراثهم .. لكن الكل نسى أن البنات لا يرثون في عائلة دحية ".

لم ينظر لها باسم .. كأنها لا تستحق نظرته .. لكن رده يجب أن يكون كبير :" لا يوجد أرث يا أم باسم .. هل سنرث من الرجل ما تعب ليجمعه .. المال مال سنمار أبو

الغالي فقط .. كلنا ضيوف على منزله ".

ثم غادر فعلياً لا ينتوي العودة ..

خرج بالفعل للحديقة خطى حتى السيارة فتحها عن بعد .. بمجرد صعود لجميع كل بمكانه .. واجمين كلياً .. عاد هو يخرج من السيارة عندما شاهد سعيدة المرأة العجوز قادم من منطقة الحظائر .. هتف بها :" سعيدة .. خالة سعيدة ".

نظرت له تنتظر وجوده المهرول تجاهها .. وقف أمامها هاتفاً بلطفه المعتاد :" كيف حالك .. ألم نتفق على عدم عملك ويكفي جلوسك داخل غرفتك .. أنت كبرتِ على هذا الشقاء ".

أجابته بحدة :" هذا الكلام تقوله لأمك التي كانت تنتظر ضيفاً .. فأفرغت المنزل من كل الخدم .. ما عدا هنادي المسكينة فليس لها مكان تذهب إليه ".

سألها وهو ليس مستغرباً :" من هذا الضيف ؟!!".

تحركت لتصعد الدرجات للمنزل :" لم أراه يا بني .. لكن أكيد الرجال خارج المنزل رأوه ".

وكأنها كانت مصممة أن يعرف من الرجال ..

تحرك للسيارة .. عقله يضج بعشرات الأسئلة .. قاد السيارة بهم صامتون.. عند البوابة سأل باسم عن الضيف لكن الرجال لم يفصحوا .. نظرات متبادلة وبالنهاية لا جواب .. سدد لهم باسم نظرات حاقدة وصدح صوته بحيلة :" سنرى .. عندما أفرغ كاميرات المراقبة سأعرف ووقتها ستبحثون عن عمل .. خاصة عندما يعلم صاحب المنزل أنكم خالفتم أمره

فانتفض أحدهم بسرعة منتزعاً نفسه من مكانه ليقترب من آذن باسم :" سيدي الدكتور .. لا تقل لسيدي سنمار أن سيدي زاهر حضر هنا وقابل السيدة .. هذا كلام تطير فيه رقاب .. نحن نعمل من أجل لقمة عيشنا .. هو سيدي وأنت سيدي .. ماذا نفعل نحن ؟!!".

تركهم باسم وعاد يهرول للداخل بلا سيارة .. الغضب داخله يكاد يجعله يحطم القياسات العالمية .. دلف منادياً :" رحيل .. رحيل ".

أطلت من قمة الدرج .. بينما هو يهدر بنيران الغيرة على

نسائه .. لا يهمه من ولكنها تبقي تحت رعايته :" ماذا كان

يفعل هنا ؟!!.. وأي سلطة له عليك ؟!!".

تراقصت عيناها من الخوف فظل خط الكحل الأسود يتميل كموجة مهتزة أمام عينيه.. تتساءل عن هوية الشخص الذي تعرفه جيداً :" من تقصد ؟!!".

علق الاسم بينهما كحبل مشدود من التوتر المسموم :" زاهر ".

حدقت فيه بينما هو لم ينقل بصره من داخل عينيها ذات النظرات الخبيثة الجريئة .. تقطع لحظات الصمت بصوت فحيحي تبثه كره العائلة كما دأبت :" ابن عمي .. الوحيد الذي وقف جواري وجواركم ..".

ضج صوته بالضحك السمج بسخريته :" لا يتبقى غير أن تقولي أننا مدينون له بمال كان ينفقه علينا ".

ابتسمت تعقد ذراعيها أمام صدرها فيبرق الخاتم أكثر .. مما جعله يتذكر ما قاله له سنمار بينما هي تهتف فيه :" نعم .. ولكنه كريم معكم لم يطالب بشيء .. تريد الحق .. لحم أكتفاكم من خير زاهر ".

عاد يضحك بنفس الطريقة :" لن تظل الأمور في خفية

هكذا .. سنعرف كل شيء .. وسأحاصرك ".

رفعت كفها تطوح بأصابعها تجاهه لكنه أمسك بها وأنقض بأصابعه على الخاتم يخلعه قائلاً :" هذا أول حق سأناله منك .. خاتم عالية الذي حكى عنه سنمار هو حق أختي .. والدليل أنها ليس لك هذا ".

رفعه أمام عينيها مقلوباً لترى بنفسها الخيط الصوفي الذي لفته عليه حتى يكون قياسها .. حركة غبية أرادت بها الحصول على قوة لتطرد وجنة من المنزل .. ربما تغيب هناك في العاصمة .. فلا تقلق راحتها بها وبالماضي ..

هتفت به تحاول نيله :" هو لي أباك كان قد صنع لنا خاتمين .. أنا كنت أكثر امتلاء ..أنا .. أنا ..".

لم تجد ما تجهض به خطته .. فقد صار الخاتم في جيبه .. بينما صوته يهدد بسكون بارد :" لم تكوني كأي أم تحكي لي عن والدي .. نظراتك لي لم تكن تحمل الحب .. أحياناً كنت أضبطك تنظرين لي بغل .. عرفت فيما بعد أني أكثر شبهاً بأبي .. مع العشق الذي سمعت أنه كان يكنه لعالية .. لا أظن أنه أحبك قط .. ربما حيلة أن تتزوجيه .. هناك غموض في كل شيء .. كل شيء حولك ينتهي بكذبة .. سوف أظل خلف الحقيقة ..".

هبط الدرجات والخاتم داخل جيبه .. هناك دافع ليستمر في جلب الحقيقة .. فقد حمل الثأر على كتفه .. عندما سقط في بحار الشك المتلاطمة .. الخادشة للأمان .

كانت إحدى الخادمات تنتظره بالخارج .. تقدمت ناحيته بلهفة :" سيدي باسم ".

توقف لينصت كما اعتاد .. ليجدها تسر له بسرعة :" سيدتي وضاء كانت هنا وطردتها سيدتي رحيل .. من أجلي .. أذهب وطيب خاطرها ".

أجابها بجدية متفكراً :" سأفعل .. شكراً لك ".

لكنها لم تغادر همست بتعثر :" لم أقل لك شيئاً .. حتى لا أطرد من عملي ".

رفع كفه لها ملوحاً .. فغادرت من الدرج الجانبي لتهبط نحو حظائر الحيوانات .. تعود للمطبخ من بابه الجانبي ..

******************
تدور في المنطقة المحترقة .. السخام يملاً المكان والأرض ملأها الرماد الأسود وقطع الأثاث المحترقة .. هذا سرير احترقت حشوته وأخشابه لم يظل به سوى ما تم إطفائه .. خزينة جدارية من بقاياها كانت قيمة .. تدلف من غرفة لأخرى .. حدائد النوافذ لم تذوب من حرارة الحريق وكذلك هناك بعض الجدران ما زالت قائمة .. حتى برج الحمام لم يسلم .. تخيلت هذا الطير الرقيق يطير محترقاً ثم يسقط .. فلم يبتعد بعيداً .. صامتة وكأنها في حضرة الموت .. يتحرك خلفها أدم وباسم كلاهما مستعد ليكون جوارها .. كلاهما داخله أمنية يتمنى تحققها .. فأدم يتمنى أن لا تكون هي وجنة .. لا يجيد التعامل مع هؤلاء .. هذه العائلة بكل تعقيداتها .. مثل رحيل هذه جعلته يخشى على زوجته وعائلته الصغيرة .. تستطيع القتل بدم بارد ..

ظلت تدور حتى غمرها الصداع النصفي .. أمسكت رأسها فجأة .. عوت كحيوان ذبيح :" آه .. آه ..رأسي .. عقلي يطير أدم ".

كانت أصبحت بين أحضانه .. لينطلق صوته :" كفى ..

كفاها .. دائماً تصاب بهذا الصداع مع التوتر .. فلنخرج من

هنا ".

بدأ يخطو بها وهي مغمضة العينين .. تكاد تتعثر .. فتحت

عيناها لترى طريقها .. هناك في زاوية إحدى النوافذ الحديدية شاهدت بقايا دمية بلاستيكية لعروس ترتدي فستان زفاف صار أسود محترق والدمية نفسها ذاب نصفها فصارت مسخ مخيف .. تحركت من بين يدي زوجها قاصدة هذه الدمية .. جذبتها من بين القضبان الحديدية .. لتترى صور وكأنها سهام تخترق عقلها بغتة :" جينا ".

عادت تتركها وتمسك رأسها المصدوع .. ثم صدح صوتها صرخة مؤلمة :" لااااا .."

تحرك باسم لها ليحملها حملاً مع زوجها .. خرجاً بها للخارج للضوء والهواء المنعش .. تحرك بها حتى الأرجوحة والمقاعد التي أعدها سنمار .. وضعاها جالسة على مقعد من الخيزران مريح .. هرول باسم حيث سيارته .. دلف ليفتح الصندوق الأمامي .. نظرت له سمر من المقعد الخلفي حيث كانت مع الطفلين الصغيرين وهتف بدهشة خائفة :" ماذا هناك .. رأيتكما تحملان وجنة ".

وجدت أصابعه بغيته .. أقراص مسكنة دائماً ما يضعها معه متحدثاً :" لا شيء فقط صداع .. ولكنها على الأرجح كلها ردات فعل طبيعية للتذكر .. تعاني الموقف الذي عايشته قديماً".

تحدثت مطالبة :" هل آتي معك .. ربما أكون ذات نفع .. سأكون صيدلانية يا دكتور ".

أغلق الباب واستقرت أصابعه على مقبض الباب جوارها .. هبطت وحملت معها أحد التوأم فمال هو ليأخذ الآخر ".

سألها :" هل هذا باسم أم سنمار ؟!!".

نظرت في الطفل بين يديها ثم حركت رأسها :" لا أعرف ..لابد وان يكون بينهما علامة مميزة .. فسنمار كثير الحركة كما شاهدنا أمس ".

طوق كتفيها بذراعه .. هامساً :" حوارنا غباء في غباء.. هذان نائمان .. كيف نميز بينهما ".

بعد قليل **
تنظر وجنة للأرجوحة الصغيرة والماء يكاد من يتأرجح عليها أن يشعر أنه سيسقط في الماء .. ثم أشارت بيدها معلقة :" هنا في هذه الحديقة .. كان سنمار يخفيني من أمي .. هناك خلف تلك الشجرة .. كانت وقتها أجمة صغيرة ..الآن صارت ضخمة ".

شرح باسم :" هذه شجرة جميز من عمرك .. زرعها سنمار .. وهذه الأخرى جوارها شجرة كافور من عمري .. أنظري

الجميز قصيرة عريضة والكافور طويلة جداً ".

ابتسمت له تمد يدها لتمسك أصابعه بطريقة كلها أعزاز :" كنت أستحي لمسك .. وتقبيلك باسم .. كنت خائفة أن أكون لست وجنة .. كم تمنيت ان أكون هي بالفعل .. منذ علمت أن راشد دحية كبير هذه العائلة وعم وجنة .. شعور رائع أن تنتمي لعائلة .. باسم أخي وحبيبي ".

وقفت فوقف ترتمي في أحضانه وتعانق عنقه .. عيناها تهفو لعينيه الحانية .:" كدت أموت عندما علمت أن أخي هو من مات .. مات بدون رؤيته .. الآن .. أنا في أسعد حال .. هذا أخي أمامي .. والآخر رغم قسوته البادية لكنه كان حاني .. ضفيرته كانت أجمل من ضفيرة أمي .. أنظر باسم ".

نظر حيث أشارت لحبل سميك وضع خلف الأرجوحة بين

شجرتين :" هذا الحبل كان سنمار يضع عليه مساند لينة حتى لا يؤلم ظهري كلما تأرجحت .. وأصلاً هو من وضعه حتى يحجزني فلا يغادر جسدي حاجز الشاطئ كلما تأرجت .. رغم أنه لم يكن يتركني أبداً .. وهذه هناك ".

نظر للجهة الخلفية ليجدها تقول له :" هناك .. لو حفرت ستجد طاقية سنمار .. كنت أخفيتها عنه وظل يبحث عنها .. لا أعرف ما منعني أن أقول له مكانها .. بعدها كنت هناك في منزل غريب .. لمدة طويلة .. أتعرف الدمية المحشورة في حديد النافذة اسمها جينا .. لا أعرف من أين لها بالاسم .. لكني متأكدة منه ".

تحرك باسم حيث أشارت وبالفعل بعد حفر بسيط كانت طاقية سنمار بين أصابعه.. نفض عنها التراب المتمسك بها ككتل طينية ..

هتف وهو يرفعها .. بينما أدم رأى تسجيل كل ما تقوله زوجته من حقائق جديدة .. ربما يساعدها على التذكر .. فكان هاتف أدم يلتقط تسجيل مرئي لعملية استخراج الطاقية ..

هتف باسم مستطرداً لأخته :" جينا هو أسم أسوار عندما كانت طفلة صغيرة عمرها عامين .. ماتت أمها هنا في الحريق مع أبي وأمي عالية ".

غمغمت باسم جاب عقلها كصلصلة سيف :" جورجيا ".

هتف باسم بسعادة :" الله أكبر .. بدأت تتذكرين وجنة أختي وحبيبة قلبي .. كم كنت أتمنى وجود أخت لي .. الأخت ترطب الجو وتلطفه ".

ثم اغتم وجهه بحدة عندما تذكر رحيل .. فقرر ان لا

يعجل الأمور على وجنة :" ما رأيك أن نذهب لشقتي .. هي

ليست بفخامة المنزل ولكن بها كل ما نحتاجه ".

أجابه أدم بجدية :" لا باسم .. سوف نغادر .. لقد حضرنا للتعرف على الماضي .. دعها تستعيد وعيها جيداً".

صدح صوت من البعيد :" باسم .. وجنة ..أين هي ؟!!..".

نادى باسم بسعادة :" عمتي وضاء .. تعالي عمتي بجانب النهر ".

توجهت المرأة المشرقة الوجه نحو المرأة المقصودة هاتفة ببطء :" وجنة .. الغالي .. دحية ".

مقتربة ببطء وكأن قدميها تم تقييدهما للأرض حتى وصلت إليها .. تمسد ملامحها بعينيها ثم مدت راحتيها تطوقان وجهها .. تمر بإبهامها على بشرتها حتى توقفت على شج رفيع فوق حاجبها: " أنت هي .. هذا الجرح فوق حاجبك .. أنت هي ..كنت بالثانية تحملين طبقاً ،ومصرة بعناد أن تسيرين به لتضعيه أمام الغالي ليأكل .. كلما أخذناه منك تبكين وتتحركين رافضة .. حتى وضعتيه .. كلنا ضحكنا فأصبناكِ بالعين سقطت وأنت عائدة تجلبين آخر فكانت سقطتك على عتبة باب أبيك .. فزع وقتها عندما رأى الدم فوق عينك .. حملك للمشفى .. كنت غالية عليه .. كان يسميك روح عالية ".

دمعات السعادة تنطلق جالبة معها الذكريات التي تثير

موجات الحزن لتحقق السعادة بها .. جذبتها وضاء بين أحضانها مغمغمة :" حبيبتي ،وابنة حبيبتي وحبيبي ".

لتهمس وجنة بشفاه حانية وسوط جديد يلهب عقلها بالاسم :" ملكة وضاء .. أليس كذلك ؟!!".

صدح صوت وضاء بوجع :"آآآه ..آآآه يا بنتي .. آآآه .. أعاد لنا

الله كل شيء بعودتك .. اجتمعت عائلة الغالي يا باسم ".

دعاها باسم بآلفة :" عمتي .. هذا الرجل الوسيم هو زوج وجنة .. وهذان توأمها .. هي ما زلت نفساء ".

سلمت عليه العمة وضاء بقبلة حانية على خده هامسة :" أنت بعمر ابني وحيد ".

دعاها باسم للجلوس :" هيا عمتي أجلسي قليلاً ".

سحبت هي وجنة جوارها :" هيا بنا المنزل قريب .. نأكل جابر الزاد وتزورين عمتك يا وجنة .. شرفيني أنت وعائلتك ".

تحركت وجنة بقوة الشوق داخلها للمعرفة والدفء الذي تبثه هذه السيدة كروح أم حقيقة تملك كل الأبجديات ..

***************

" تعالي فضة .. هل فعلتِ ما أمرتك به ؟!!".

تتحرك فضة تحت ستار من قماش أسود كئيب .. ليس به أي بريق ..

همست بصوت متآمر :" نعم .. سيدتي فعلت .. أبلغت سيدي

زاهر .. وقال سيتصرف .. لا تقلقي ".

ثم أخرجت لها من بين طيات ردائها مجموعة أوراق :" لقد أرسل لك هذه .. يقول لك .. أطمئن كل شيء سيكون جيداً".

مدت رحيل أصابعها لتأخذ الأوراق فقبضت على الهواء نتيجة سحب فضة للأوراق خلف ظهرها .. وصوتها يحدد الجديد من طرق المنتفعين :" هاتي ما وعدتِ به ".

هتفت بها رحيل :" كنت سأجعل أختك تعيش ملكة في المنزل ".

أجابت فضة بوجع شديد :"هنادي .. لها الله .. وأنت لن تتركينها تحيا .. وأنا أريد أن أطعم كوم اللحم عندي بعد مرض الزوج .. لم يعد لي سوى الحصول على ما يكفي ".

مدت رحيل يدها داخل طيات ملابسها من الصدر لتنال الكيس الجلدي الذي تحفظ فيه نقودها .. فتحته وعدت خمس ورقات ثم منحتها لها ..

أخذت الأوراق .. ثم عادت فضة تمد لها هاتف صغير :" ألا

تريدين هذا ؟!!".

قبل أن تجيب وجدت كف فضة يفتح باستقامة تريد منها الثمن .. ففعلت وأخذاه منها .. هتفت فضة :" لو كان لي كنت أخذت ثمنه كاملاً .. لكنه مجرد توصيل .. وخمس مائة كافية ".

أدركت أنه من زاهر الذي بوجوده هي تطمئن أن هناك لها ظهر يسندها وقت الشدة ..

دلفت للداخل تحمل هذه الأشياء تصعد لتضعها في غرفتها وتغلق باب الخزينة الكبيرة عليها .. لو وجدها كلا الولدين سيكون آخر يوم لها .. كلها عقود ما تملك .. طالبته بها .. فلم يجد غير التنفيذ ..

هبطت تنادي :" هنادي هنادي .. أين قهوتي يا غبية ".

لا تصدق هنادي أن أختها قد باعتها بالفعل .. شعور بالقهر والحقارة تمكن منها .. اكتئابها ليس له بديل .. والأوامر لابد لها من طاعتها .. صنعت القهوة وغادرت للبهو .. تضعها على المنضدة الصغيرة .. أمام العقربة السوداء التي عادت تقف وتتحرك للجهة الأخرى حيث الشرفة :" هاتي المنضدة هنا سوف أشرب قهوتي بالشرفة ".

طريقتها المتعالية جارحة لقلب لم يعد يملك ذرة من

راحة ..

طاعة .. طاعة .. فقط .. لا أكثر حزناً من روح أكلتها الخطايا والمستغلين ..

وضعت المنضدة مكانها فتأرجح فنجان القهوة .. تلوث الطبق أسفله ببعض النقاط .. سددت لها رحيل نظرتها المستبدة فيما واجهتها هنادي بنظرة منحنية خانعة متأسفة ..

لم تبالي رحيل ومنذ متى تبالي بأحد سواها .. دفعت الفنجان بالطبق أسفله بظاهر يدها .. هبط مهشماً ..ملوثاً كل شيء .. تحركت هنادي لتجلب ما تزيل به الصباغ البني والقطع المتناثرة .. بصمت كامل تتحرك فلم تكد تفعل حتى وجدت صوت رحيل التي عادت قوية بحدة ضبع تريد تمزيق كل ما يصل ليديها :" بملابسك .. نظفيها بملابسك .. هي أقذر من قطع المطبخ على كل حال ".

تحرك ساقها الموضوعة فوق الأخرى .. تؤرجحها بلا مبالاة بالبشر وكأنها ملكت الكون كله ..

ركعت هنادي على الأرض تمسك أطراف جلبابها الأسود القديم وتمسح بقاع القهوة فينتقل التلوث إليها .. وكأن

المظهر منبع سعادة لعين شامتة .. آن الأوان لاقتلاعها ..

كلماتها تدفع الحليم للقتال .. :" هذا مكانك تحت أقدامي .. أنت وكل من هم على شاكلتك .. هذا جزاءك لأنك لم تطيعيني .. لن أتركك تتنفسين الراحة ".

تحركت هنادي من مكانها .. تتذكر روح أخرى كادت تقتلها لحظة ما .. عندما أمرتها بالتنظيف وفرك الأرض .. همست داخلها :" لن أتركك رحيل تتمتعين أبداً.. الجحيم مكانك ".

كأنها كانت تقسم على هذا داخلها .. تحركت فيما الأخرى تتغنى بمظهرها المقزز وملابسها بالقهوة وكأنها مغطاة بالأوحال .. يصدح صوتها :" هذا مقامك .. لو كنت ترين أختك اليوم وهي تتملص منك .. كأنك بقعة قذارة ".

تتوالى الإهانات بينما هي تتوجه لداخل المطبخ تأخذ زجاجة الكيروسين التي لابد من وجودها لمواجهة انقطاع الكهرباء ولتغذية المولدات الكهربائية لدى الأغنياء .. وكلهم بلا قلب مثل رحيل .. تتحرك ومعها الزجاجة الكبيرة للخارج مع حرصها على نيل علبة ثقاب بأصابعها العازمة ..

أن كانت أختها خانتها فمن الحاجة وأخوتها يعانون لأنهم

محتاجون .. وهي من يريدها .. ان كان هنا حجيم وهناك حجيم .. فجحيم الله أرحم ..

وقفت خلف رحيل التي كانت تتمتع بالهواء تتنسمه بعد حضور زاهر إليها لم يعد لأحد سلطة عليها .. معها أيدي تمزق بها شتات من خذلوها .. وأموالها كلها معها بموجب شيكات بنكية ليست من توقيع زاهر بل من هو أكبر ..

تنسمت رحيل رائحة الكيروسين النفاذة فنادت لهنادي :" هل عادوا يرشون الحدائق بمضاد البعوض ".

لم تسمع صوت .. بل قطرات تناثرت على شعرها من تلك المادة التي بللتها وقفت مكانها وهي تستدير لهنادي المبللة مثلها .. تأرجح صوتها بخشونة الخوف :" ما هذا ؟!!.. أجننتِ؟!!".

أشعلت هنادي عود الثقاب .. مهددة بلا خوف يلوح في قاع عينيها :" سترين رحيل الجنون مع النار ".

طوحت عود على ملابسها ولم تبلي هرولت خلف رحيل التي حاولت أن تبتعد وبلحظة كان كلتاهما كتلة من لهب مستعر ..

**********************

" من العنصر النسائي في الداخل يا شباب ".. كان هذا

تساؤله الحاد الصوت كرئيس هذه العملية التي خرج بها كبديل لأحد زملاؤه ..

يتحرك داخل عقله .. كل ما حدث هذا اليوم .. لم يجد لحظة لينفرد بها حتى يعتذر منها عن جمود مشاعره .. لا يستطيع منحها حبه وعقله متخم هكذا ..

انتزعه صوتها من أفكاره وهي تتحدث في الجهاز الموصل بالهدف .. تميل بصوتها في دلال .. نظر إليها عبر الجهاز وهي تتقدم بخيلاء وتكرر ما قيل لها :" أتقصد أن أدخل لهذه الغرفة .. وأرتدي قميص النوم هذا ليتم عرضه .. لا .. لم أظن ان العمل سيكون هكذا .. ظننته تسويق وبيع ..

إنما ارتداء هذا .. لا أظن سيوافقني بتاتاً ".

وقف هادر داخل سيارة العمليات التي لم تستوعب طوله .. فاصطدمت رأسه بسقفها وكذلك أحدث رجة في الأجهزة .. هتف أحد العاملين معه :" رجاء سيدي الرائد .. لم نجد عنصر نسائي ملائم والنقيب جسور أكثر من يصلح لهذا ".

عاد يجلس مكانه يحاول أن يأخذ الاعتراف من بين ثنايا هذا الرجل الضحل الذي بدا مقنعاً:" لماذا ترفضين ؟!!.. أنت مثل المجسم البلاستيكي بالضبط .. جسم بلا هوية وبلا رأس .. عندما سنلتقط صور الإعلان سيكون من العنق فقط .. والأجر مجزي .. لا ترفضين .. طالما لن نصور الآن .. ستكون جلسه التصوير بعد أسبوع ".

أجابته بعد تردد لاح على وجهها وداخل عينيها :" لا أظنه صواب ".

فتجد منه تأكيد :" هذه هي جلسة اختيار ليس إلا.. للأسف لابد منها حتى نقبل تعيينك معنا ".

زمت شفتيها بتراجع المحتاج والمضطر للعمل :" أليس لديكم عمل غير هذا .. أحتاج للعمل .. لو لم أجد عمل ..

سوف أطرد من الغرفة التي أسكنها ".

ابتسم الرجل متخيلاً ..أن الفريسة قد وقعت في شبكته .. مالت هي للأمام لتلتصق بالمكتب الجالس عليه وهو بالفعل خلف شاشة حاسوب محمول.. وحركت أصابعها على سطحه وتمسكت بحافته .. كأنها بالفعل تحتاج للسماجة لتعمل .. كانت فرصتها المباغتة لتضع الجهاز الصغير ليمكنهم من التسجيل .. ألصقته أسفل المكتب ذو الحافة العريضة ..

تنهدت ببطء محتجز الأنفاس :" أين القميص ؟!!.. هاته ".

منحها القميص متعمداً النظر في عينيها وكأنه يتفرس

بضاعة .. ابتسمت وأخذته واتجهت حيث أشار .. بينما هو بمجرد اختفائها في الغرفة .. دق على جهاز الهاتف الداخلي :" عادل .. نبيل تعالا.. اليوم البضاعة قشدة .. بنت ذوات ".

كان هادر أن ينفجر من كل كلمة سمعها .. أخرج سيجارة من علبة سجائره وبدأ ينفثها .. يلعن الله وضعه .. لو كان يعلم ما كان جعلها تتقدم كهدف .. لكنه عاد ينصت لهم .. ان كان قد تم التضحية .. لابد ويكون ثمنه القبض على هؤلاء ..

سمع صوت أحدهم :" هذه المرة لن نكتفي بالنقود مقابل الصور .. لابد لنا أن نتمتع مع هذه الفرس الشارد ".

كاد يقف فترجاه أحد الأفراد :" سيدي رجاء .. دعهم حتى نجد اعتراف يدينهم .. حتى الآن ليس هناك شيء يدينهم ".

هتف أحدهم :" ما هذا أنها ترتدي القميص فوق ملابسها ؟!!".

صدح صوت الآخر :" لو أعلمناها لترتديه على بشرتها الرائعة الناعمة .. سنفضح أنفسنا أن هناك كاميرا قد وضعناها في الغرفة ".

هتف الأول دعاني أطرق الباب عليها وأجعلها تدخلني لأرى

مظهر القميص عليها .. أنا عضو لجنة التقييم الوحيد ".

ضج الآخر بالضحك :" كم هؤلاء ساذجات .. هل هذا مظهر عضو بلجنة تقييم .. آخر ما يقيمه خادمة ".

دفعهما بيده فسمع الجميع صوت حركات أقدام .. توجه الرجل بعد ذلك للغرفة حيث جسور يطرق الباب .. وينادي :" آنسة .. هل لك في الخروج هنا حتى أقيم القميص

عليك ..

بالداخل نيران مستعرة وكأنها وقعت في شباك محبوكة ..

وأسفل بالشارع .. هدر في الجميع :"هيا .. لن نظل حتى يدلف الغرفة ".

هتف أحدهم :" ننتظر قليلاً حتى نقبض عليهم ".

دفعه هادر بيده :"هل أنتظر حتى ينجبا ".

دفعة في صدر زميله .. وتنظيم سريع جعل الجميع يهاجم بنفس اللحظة .. وفي لحظة كانت يد هادر تقبض على الياقة الخلفية لقميص الرجل .. يسحبه من أمام الباب .. فيما جلبت القوة الرجلين الآخرين .. طرق هادر الباب بقدمة:" جسور أخرجي ".

فيهتف الرجل :" لن نفعل شيئاً .. انها ترتدي القميص فوق

ملابسها ".

الاستدراك جعله يمنحها دليل أكبر .. خرجت هاتفة :" من أين لك بمعرفة أني كنت أرتدي ملابسي تحته .".

أدار لها احد العناصر شاشة الحاسوب المحمول الموضوع على

سطح المكتب لتظهر لها الغرفة بكل ما فيها .. هتفت هادر :" أعثروا على الكاميرا.. وقيدوا هذين .. أما هذا دعوه لي ".

لكمة واحدة في أنفه مائلة لتنال من جانب وجهه كامل .. ثم ثنى ركبته العريضة لترتفع بين ساقي الرجل بضربة عظمية كادت تفقده رجولته أو ربما فعلت .. ثم تركه يئن على الأرض .. متجهماً يسدد نظراته إليها :" كنت تعرفين أني بهذه المهمة أليس كذلك ؟!!".

هتفت بتحد مغري وشعرها يهتز مع حركة رأسها المطرقة :" نعم .. لكن لم أملك الرفض .. كان ضرورة حتى نمنع استغلال الفتيات ".

أمسك كفها بغيظ .. هاتفاً في أحد زملائه :" هل لكم أن تنهوا القصة وأخذ الأدلة وغلق هذا الوكر بالشمع الأحمر ".

أدى الضابط التحية العسكرية ..

بينما هو سحب كفها بشدة لم يتخيلها في نفسه إلا عندما قفز جسدها الصغير مع جذبته فحملها بلحظة واحدة وخرج من المكان يهدر بلا أخذ أي اعتبار للمجموعة ولا للقضية .. فقضية حياته أهم .. هتف بها :" لا برود ينفع معك ولا جنون ينفع .. لا أعرف ماذا تريدين مني ؟!!".

هتفت به وهي تغرس أظافرها في ظهره :" أريد الحب .. لا أحب التمثيل .. وأنت تمثل علي طوال الوقت ".

هبط في المصعد ووضعها هاتفاً اخلعي هذا القميص :" كادت تمزقه فهتف :" لا تتلفي الأدلة ".

خلعته بهدوء وألقت به على وجهه فقبض عليه قبل أن يصل إليه .. داخل المصعد الزجاجي القديم .. لم يستطيع تعليمها التهذيب .. سيكون بينهما معارك فاصلة ..

خرج بها سحبها معه حتى سيارته .. كان يجاورها أحد الجنود .. ألقى له بالقميص أمنحه للضباط .. هذا دليل ".

دلف لسيارته بعد أن أطمئن عليها .. أغلق الأبواب .. لكنها لم تكن تفكر بالهرب هتفت :" هادر حقيبتي بالمكتب .. دعهم يحتفظون بها لي سآخذها في الغد ".

رفع جهاز اللاسلكي بيده وفتح يتحدث مع زملاؤه .. فأخذت تضحك .. ثم هتفت :"أحبك مطيع هكذا ؟!!".

أجابها :" أحبك يا غزال النار .. كنت سأقسمه نصفين هذا

المتبجح ".

تبتسم باطمئنان .. غريب أمرها كان لابد وأن تعرف أن هناك من يريد قتلها لتصدق أنه يتحكم بخيارات زوجها ..

مدت أصابعها تمسك أصابعه المطروحة جوارها .. فهو يقود بيد واحدة دائماً :" أما زلت تقود بيد واحدة ".

هتف بشرود داخل عينيها :" حتى لا أترك يدك أبداً جسور ".

قاد بها طريق طويل من الانكسارات يريد تحويله لانتصارات ساحقة ..

**********************

عاد يحتضن خصرها .. كم كانت رائعة في كل شيء.. مميزة وكأنها المرأة الوحيدة في الكون .. ثوبها الطويل يهتز بنغم موسيقي كلما تحركت .. كانت تنظر إلى أناقته المفرطة وتلف يدها على خصره من الخلف بين قميصه وسترته الأنيقة .. تبتسم على صوته الأجش :" لن أتركك أبداً .. في أي صفقة ستكونين معي .. أسواري ".

لم تحتاج لكلماته الهاتفة بكبرياء فخور .. فقد تغنى

طوال السهرة .. بترجمتها والشروط التي وضعتها وصفقة

النقل البري التي طلبتها من العميل موضحة أن هناك أسطول بري من الممكن جعله ينقل من البحري ليوصل لكافة المناطق .. أقل سعراً وتنسيق أكبر وحفاظ على الوقت وقيمة المنتجات ..

جعل العميل يسعد كثيراً واتفق على توقيع العقد في الغد بالتعديلات الجديدة ..

صعدا الدرج القصير .. مال عليها هامساً :" هل تظنين الغالي نائم هنا مع الخادمتين أو هناك مع فرسان ؟!!",

حصل على ابتسامتها الرائعة ثم شكرها العميق :" حقاً .. لولا وجود فرسان ما تحركت من هنا .. ما كنا سندع الغالي مع أحد لم نعتاد عليه .. فمعظم جرائم الأطفال من هؤلاء الخادمات ".

جذبها أكثر إليها متذكراً الساعات التي ظلل فيها يقنعها لتكون معه .. وهي تجادل بمخاطر ترك الأطفال .. حتى حسم أبيها الموقف :" سنأخذ الغالي .. الفتيات يتعلمون فيه الأمومة .. وأنت اخرجي وأسعدي مع زوجك ".

وكأنه حصل على شهادة الجودة من حماه وعدوه اللدود في

الماضي ..

دلفا للمنزل .. ليجد الكل متواجد وحقائب كثيرة في

كل مكان .. تقدمت منها فرسان بالغالي :" كم كنت أتمنى أن آخذه معي حتى تنالي وقت عسل مع زوجك أسوار ".

ثم نظرت لسنمار :" عاملها بلطف فهي برقة الأزهار ".

فيم تنهد عمها متقدماً مودعاً :" سنغادر الليلة متجهين للوطن .. الشركة تضيع .. لابد لنا من إنقاذها ".

أحضان تتخللها دمعات .. أيدي رجولية تمتد لبعضها بالسلام .. تعهدات باللقاء والمساعدة .. من كان يظن أن المعركة ما زالت لم تحسم لهم كلمة النصر فيها ..

انتهى الفصل

روايات بقلم إيمان عمر (Just Faith)

جروبي على الفيسبوك: القلم وما يهوى!

صفحتي على الفيسبوك: القلم وما يهوى!


Continue Reading

You'll Also Like

1.4M 103K 77
هي عنيدة.. متمردة.. تُحب الظهور بشكل لائق يسر الناظرين.. بشكل متبرج..! لاتعرف شيئـًا عن الله أو الإسلام... كل ماتعلمه هو أنها مسلمة فقط! تحب نفسها...
3.2M 48.6K 66
تتشابك أقدارنا ... سواء قبلنا بها أم رفضناها .. فهي حق وعلينا التسليم ‏هل أسلمك حصوني وقلاعي وأنت من فرضت عليا الخضوع والإذلال فلتكن حر...
323K 25.7K 48
أَنا التي تأَخُذ ولا تؤخَذ أنا التي تَخدُش ولا تُخدَش أَنا التي تَربح ولا تَخسر أنا التي تُحطِم ولا تُكسَر أَنا التي يُهابها الجَميعُ ولا تُهاب أحدً...
956K 60.3K 103
" فرحات عبد الرحمن" شاب يعمل وكيل نيابة ويعاني من مرض اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع مع ارتباط وثيق باضطراب النرجسية مما يجعله ينقاد نحو كل شيء معاك...