تحقيقُ حُلُمي
أتَذَكّرُ رحلَتي الفَضائيّةَ الأولى حتّى الآن كَما لوْ أنَّها حدَثَتِ البارِحةَ، حيثُ كانَتْ تَجربَتي الأولى للذّهابِ والتّحليقِ بعيدًا عنِ الأرضِ.
كُنّا نستَعدُّ لِدخولِ المركبةِ الفَضائيّةِ ذاتِ الهيكلِ الكبسوليّ، كنتُ أشعرُ بِحماسٍ كبيرٍ ممتزجٍ بقليلٍ منَ الخَوفِ والتّوَتّرِ، فهذهِ مَرّتي الأولى الّتي أخوضُ بِها مغامرةً مُثيرةً كَهذه، لذلكَ حقًا شَعَرْتُ بالعديدِ منَ المشاعرِ الجديدةِ والمختلفةِ تهاجمُ صَدريَ.
لحظةَ صعودِنا المركبة، أحسَسْتُ بقدمايَ كالهُلامِ! بعدَ أنْ تحقَّقْنا من جميعِ احتياطاتِ الأمانِ، وتأكَّدْنا أنَّ جميعَ الأجهزةِ تعملُ بشكلٍ سليمٍ؛ شَرَعَتِ المركبةُ تستعدُّ للإقلاعِ بعدَ لحظاتٍ من إغلاقِنا أبوابَها مُتوجّهينَ نحوَ الجسمِ الأكثرِ لمعاناً في سماءِ الأرضِ ليلاً .. القَمرُ.
استَغرقْنا وقتًا طويلًا حقًا للوصولِ إلى وجهتِنا، حينَ اقتَرَبْنا منه بَدَأَ حجمَهُ العملاقُ يبرزُ، لقدْ تَفاجَأْتُ بشدّةٍ، فَعندَما ننظرُ لهُ منَ الأرضِ يبدو صغيرًا لطيفًا بسببِ بُعدِهِ، لكنْ بِمجرَّدِ الاقترابِ إليهِ قليلًا فقطْ يظهرُ حجمُهُ الفَلَكيّ!
هَبَطَتِ المركَبةُ على سطحِ صديقِيَ المليءِ بالثّقوبِ والفوّهاتِ ذاكَ بِسلامٍ، وفُتِحَ البابُ ولمْ نَكَدْ نَخرجُ منَ المركبةِ حتى شعرْتُ بِخفّةِ وزنيَ الشّديدةِ، ما مَشيْتُ خطوةً صغيرةً إلّا وَ وَجَدْتُ نفسيَ أطيرُ وأسبحُ في فلكِ الفَضاءِ؛ وذلكَ لانعدامِ الجاذبيّةِ على هذهِ الكتلةِ البيضاويّةِ.
بعدَ مُدّةٍ ليسَتْ بطويلةٍ أحسَسْتُ بدوارٍ يتملَّكُ رأسيَ، لكنَّني تماسَكْتُ؛ فَفُرصةُ الهُبوطِ على سطحِ القمرِ لا تأتي مرّتَانِ! أضحيٍتُ أطفو على سطحِهِ المُصابِ بالجدريِّ وأتأمّلُ ما حوليَ بنظرةِ دهشةٍ عملاقةٍ تعتلي وجهيَ، فالمنظرُ في الواقعِ أجملُ وأبهى وأفتَنُ بحقٍّ منهُ على شاشاتِ التّلفازِ الرّديئةِ المُخطِئةُ بحقّهِ فعلًا.
لبثْنا مدّةً زمنيّةً كافيةً نسبيًا، ثمَّ قرّرْنا العودةَ وأخيرًا للأرضِ، صعدْنا مرّةً أخرى لمركبَتِنا، وشدَدْنا الرّحالَ مستعدّينَ للعودةِ إلى كوكَبِنا العزيزِ، وبعدَ فترةٍ منَ الزّمنِ كُنّا قد هبَطْنا على سطحِ الكوكبِ الأزرقِ، وترجَّلْنا منَ المركبةِ وشعورُ السّعادةِ المطلَقةِ والنّشوةِ يتملَّكُنا، فَللتّوِّ نَجحَتْ مهِمَّتُنا العملاقةُ دونَ أيِّ عوائقٍ وحقّقْتُ حُلُميَ العظيمَ الّذي لَطالَما تمنَّيْتُ تحقيقَهُ.
كَمْ هوَ ساحرٌ أنْ نُحقِّقَ أحلامَنا، مهمَا كانَتْ كبيرةً وبدَتْ مستحيلةَ التّحقيقِ. لِنتَذَكَّرْ دومًا أنَّ كلَّ إنجازٍ عظيمٍ كانَ قبلًا مجرَّدَ حُلُمٍ!
كُتِبَتْ هذهِ القطعةُ البسيطةُ بوساطةِ أعظمِ عظيماتِ الأرضِ عندَما كانَتْ في الثالثَةَ عشرَ منَ العمرِ.