الهجين "روح آدم"

By rababtt

13.6K 432 317

( فكري في حياتك القادمة برفقتي ) هل يعي ما يطلبه؟!! كيف ستكون لها حياة معه؟!! مستحيل! أخذت تجول داخل تل... More

افتتاحية
الفصل الأول.. ضحية حلم
نسخة ورقية
دعمكم سيصنع فرقاً...
مراجعة مميزة للرواية 😊
مشاركة 💖

الفصل الثاني.. الحلم الدامي

1.4K 63 20
By rababtt


كلما مر يومٌ على بقاء "سولينا" داخل هذا القصر كلما ازدادت ثقةً بأنَّ من المستحيل أن تتقرب من سيده حتى أنَّها تخلَّت تماماً عن ذلك الحلم الغبي الذي دفعها لتصرَّ على القدوم بدلاً عن والدها؛ و إن لم تعترف بهذا من قبل.

لكن حقيقة فقده لوالده جعلتها تتفهم جموده الدائم، واختفاء تلك الابتسامة عن وجهه الساحر. فلم يمضِ على وفاته سوى أسابيع وقد كان يمثِّل له كلَّ شيء؛ خاصةً أنَّه فقد والدته منذ ولادته.

حتى هذه الأجواء الكئيبة الموحشة التي يفرضها على أرجاء القصر بدأت تتقبلها؛ تفهماً لحزنه، و للوحشة التي يشعرها في غياب والده.

توالت الأيام، وكلُ يومٍ كان يمرُ على "سولينا" كسابقه. تقضي طوال النهار داخل حجرة المكتبة بين تلك الكتب تشغلها عن التفكير بهذا القصر وساكنيه. وإن كان الطقسُ صحواً تتنزه في الحديقة الخلفية برفقة كتاب، وتلجأ إلى حجرة الطعام عندما تحين وجباتها اليومية. وتلك الحجرة كانت المكان الوحيد الذي تلتقيه فيه. لكنَّ الليلة لن يشاركها وجبة العشاء فلديه ضيفة أنفرد بها في جناحه الخاص.

هذه الليلة ليست الأولى. لقد استقبل امرأة أخرى قبل يومين أتت مساءً وبقيت في جناحه حتى الصباح، ولم تنصرف إلا بعد أن تناولت الإفطار برفقته.. وبالتأكيد أنَّ هذا ما سيحدث مع ضيفته لهذه الليلة.

ألقت نظرةً خاطفةً نحو مقعده الخالي والشعور بالوحشة يملأها. إذاً، سيتغيب عن وجبتي العشاء والإفطار بالفعل.

في غيابه, تبدو الحجرة كئيبة لا تُطاق. رغم أنَّ الصمتَ المحيط بها الآن لا يختلفُ عن ذلك الذي يحيطهما في حضوره. إلا أنَّها تفتقد تواجده برفقتها وإن لم يوجه إليها كلمةً، أو يبدي أيَّ اهتمامٍ.

لكن ليس بعد مجيء الضيفة الأولى لزيارته.. فقد بدا واضحاً ل"سولينا" الطريقة التي يلجأ إليها مضيفها للتغلب على أحزانه.

ظنَّت أنَّه من النوع الذي لا يحبذ الاحتكاك بالآخرين وأنَّه يفضِّل العزلة، وأنَّ سهراته الخاصة تقتصر على امرأة واحدة -وإن كانت حقيقة هذه العلاقة غير المشروعة مرفوضةً تماماً، وتثير اشمئزازها- لكن حضور امرأة أخرى الليلة، وقضاءها الوقت في جناحه الخاص على النحو الذي قضته سابقتها أخبرها أيَّ نوعٍ من الرجال هو.

كما وعت جيداً أيَّ نوعٍ من النساء الذي يفضِّله؛ إذ كان يكفيها النظر إلى عشيقتيه لتعرف.

مجرد استحضار صورتيهما في ذهنها يثير ضيقاً عظيماً في صدرها ويثير غيرةً مزعجةً داخلها؛ فهما فاتنتان تفوقانها جاذبيةً. تملكان حضوراً آسراً بملابسهما الملفتة ونظراتهما الواثقة.. ومن الواضح أنَّهما تملكان الخبرة الكافية، والثقة الكبيرة للتعاملِ مع شخصٍ ساحرٍ ك"آدم".

هزت رأسها برفضٍ وهي توبِّخ نفسها على هذه الأفكار المخزية. هو مجرد رجل لعوب، شخصٌ آخرٌ يختلف تماماً عن الرجل الذي تحلم به، رجلٌ لا تطمح حتى بالتعرف إليه، ومن الأفضل التوقف عن التفكير فيما يفعله أو يفضله، فكل ما تكتشفه عنه يزيدها نفوراً، ويؤكد ضرورة البقاء بعيدة عنه.

أطلقت تنهيدة ضجرة يغلفها استياء عظيم وهي ترفع كأس الماء إلى شفتيها بملامحٍ واجمة؛ مستسلمة لتلك الوحشة المحيطة بها.

************

أجرت مكالمة لصديقتها "فاتن" تسببت في تأخيرها قليلاً عن وجبة الغداء. دلفت إلى الحجرة قبل "كريمة" بلحظاتٍ. كانت ترتدي كنزة خفيفة بفتحة عنقٍ على شكلِ "v "، و تركت بعضاً من خصلاتِ شعرها تنسدل على كتفيها مضفيةً مظهراً جذاباً على شكلها العام؛ الذي بدا أنيقاً للغاية رغم بساطته.

وجدته هناك وقد سبقها بسبب تأخرها . كانت من ألقى التحية هذه المرة، فردها بهدوءٍ قبل أن يولي اهتمامه إلى خادمته التي اقتربت منه لملأ طبقه، ولم يعلِّق على اعتذارها عن تأخرها.

اختلست النظر إليه بينما كانت "كريمة" تملأ طبقها ليضطرب قلبها كالعادة منذ أن وقعت عيناها على ملامحه المحاصرة بخصلاته السوداء الداكنة، أشاحت بنظراتها وهي تحدث نفسها أنَّ من المفترض أن تتجاهل وجوده بكلِ بساطةٍ كما يفعلُ هو معها؛ خاصةً أنَّ النظرَ إلى وجهه يضعفها إلى حدٍ يثير الشفقة.

غادرت "كريمة" ليطبق الصمت الكريه على الحجرة الواسعة.

أخذت تحركُ شوكتها داخل الطبقِ بشرودِ وهي تسترجع مكالمة "فاتن".. بالتأكيد لم تصدق أنَّ "سولينا" خلال أسبوع لم تخض مع مضيفها أي أحاديث تستحق الذكر، أو تحظى بوقتٍ أقل من مميزٍ برفقته.

- كيف تجدين الوضع داخل المكتبة؟

اضطربت أناملها الممسكة بشوكتها وهي تنظر إليه متفاجئةً، فألقى عليها نظرةً قصيرةً قال بعدها بهدوءٍ:

- أخبرني "بدر" أنَّ وجود ذلك الكم الهائل من الكتب يصيبك بالحيرة، وعدم معرفتك للطريقة المتبعة في تصنيفها يأخذُ الكثيرَ من وقتك حتى تجدي ضالتك.

لم تعِ حديثه جيداً وكل ما سيطر على ذهنها تلك اللحظات رغبته المفاجئة بالتحدث إليها. لم تعلِّق، ومرت لحظاتٌ بسيطةٌ قبل أن ينظر إليها معلناً ببساطة:

- سأرافقك بعد الغداء لأرشدك إلى ما تحتاجين إليه.

اهتمامه المفاجئ بمساعدتها شلَّ ذهنها عن التفكير، ولسانها عن الحديث. فكرت أنَّ من المستحيل ألا تكون المفاجأة باديةً بوضوحٍ على ملامحها إلا أنَّه بدا لا مبالياً تماماً، وعاد إلى إكمال طعامه دون أن يتغير الهدوء المسيطر على تصرفاته.

كان لوجوده معها بالفعل فائدةً عظيمةً. أطلعها على طريقة التصنيف المتبعة، ونصحها ببعض التصنيفات، وأجاب على الكثيرِ من الأسئلة التي وجهتها إليه فيما يتعلق بالكتب؛ رغم أنَّها تعرف إجابة معظمها. لم توجِّه سوى سؤالاً شخصياً وحيداً إليه عندما تساءلت إن كان هو من قام بالتصنيف إذ أدهشتها للغاية مقدرته العجيبة على إيجاد أيِّ كتابٍ بمنتهى البساطة. بدا لها أنَّه لن يجيب عندما حلَّ الصمتُ للحظاتٍ قبل أن يتحدث بلهجةٍ مقتضبةٍ:

- لقد نشأتُ بين هذه الكتب، وأستطيع تمييز موقع أيِّ كتابٍ بكلِ سهولة.

رغم ذلك وجدت "سولينا" قدرته خارقةً؛ تثيرُ الدهشة والإعجاب بالفعل. لكنَّها لم تجرؤ على توجيه أيِّ سؤالٍ يتعلق به حيث بدا واضحاً أنَّه ليس سعيداً بفضولها.

إلا أنَّ الجزء الأيمنَ من المكتبة، والذي احتوى على مخطوطاتٍ نادرةٍ للغاية، ومطبوعاتٍ تعودُ لآلاف السنين دفع "سولينا" لإبداء إعجابها الشديد وانبهارها لوجود مثل هذه الكنوز الأثرية النادرة.

وبعد لحظة ترددٍ تساءلت باهتمام:

- هل ستفكر في بيعها إن عُرض عليك مبلغٌ مناسبٌ؟

شعرت بالإحراج لتلك النظرة التي منحها إياها. كانت نظرته هادئةً للغاية، إلا أنَّها فهمت أنَّه يعي ما تحاول الوصول إليه. اكتفى بالرد وهو يشيح بعينيه مبتعداً نحو الجانب الآخر من الرفوف:

- مستحيل. هذه إرث، وليس من الحكمة التفريط بها.

كانت تعي قيمة هذه المخطوطات جيداً، فتفهمت موقفه لاسيما أنَّها توقعت رداً كهذا.

- ألديكِ اهتمامٌ بمثل هذه الأمور؟!

فوجئت بسؤاله فرسمت ابتسامةً محرجةً على شفتيها موضِّحةً:

- الحصول على مخطوطاتٍ تعود لأزمنةٍ تسبقنا بقرونٍ أمرٌ لطالما أثارني. حلمُ حياتي أن أخصِّصَ قسماً خاصاً في مكتبة والدي يضمُّ هذه الآثار الورقية. سيكون بمثابة معرضٍ تاريخي فريد.

راقب حماسها صامتاً، ثم أعلن أسفه دون تردد:

- لهذا يعتبر إرثاً ليس من السهل الاستغناء عنه.

*************

أعاد "آدم" سماعة الهاتف الموضوع على الطرفِ الأيسرِ من سطحِ المكتب، فسمع "كريمة" تتساءلُ باهتمامٍ وهي تراقب ملامحه الجامدة:

- ما الأمر؟

- أصيبت "رانيا" بالحمى، ولن تستطيع القدوم الليلة.

- حقاً؟ كيف ستتصرف؟!!

مطَّ شفتيه بلا مبالاةٍ، ثم عاد إلى مقعده المريح خلف المكتب قائلاً باستسلام:

- لا شيء. سأنتظرُ لحين قدوم "نهال".

اقتربت "كريمة" من المكتب مؤكدةً باعتراض:

- لا، ليس من الحكمة أن تتساهل بغياب أي منهن.. هذا سيؤثر عليك سلباً.

وعندما التقت نظراتهما أردفت:

- اطلب من "نهال" القدوم الليلة.

أكَّد ببساطة:

- ليس أمامنا خيار آخر. لا يمكنني استدعاء "نهال" لأنَّها خارج البلاد.

ثم اعتدل في جلسته ليفتح أحدَ أدراج المكتب على يمينه باحثاً داخله. على حين بقيت "كريمة" تراقبه مقطبة الجبين، منشغلة البال.

أخرج "آدم" نوتةً صغيرةً تحرَّى محتوى أوراقها للحظاتٍ قبل أن يغلقها بإحباطٍ واضحٍ متمتماً:

- لا بأس بالانتظار، هما مجرد يومين.

- بل أربعة أيام.

أعاد النوتة إلى الدرج دون تعليق فسمع "كريمة" تقترح بجدية:

- لماذا لا تستفيد من وجود الآنسة "سولينا"؟!

رفع "آدم" نظراته المستنكرة إلى مربيته التي أردفت بقناعةٍ تامةٍ:

- امرأةٌ شابةٌ وجميلة. وأؤكد لك أنَّها بصحةٍ جيدةٍ. كما أنَّها تبقى وحيدةً ضجرةً في مكانٍ كهذا وبالتأكيد أنَّ من السهل الإيقاع بها.

- هل تتوقعين حقاً أنَّني قد أتودد إليها لأحظى بليلةٍ برفقتها؟!!

كانت "كريمة" تعلمُ جيداً أنَّه ليس من هذا النوع من الرجال. إلا أنَّ الظرف الراهن يلزمه بالمحاولة؛ خاصة وأنها واثقة أنه لن يضر ب"سولينا".

عادت لمحاولة اقناعه موضحة:

- من السهلِ عليك التأثير على أيِّ امرأةٍ بسهولةٍ. يكفي أن تمنحها بضع دقائقٍ تتبادل معها أيَّ حديثٍ تستشف خلاله إن كانت ستمنحك ما تريد.

كان "آدم" يستمع إلى مربيته بملامح رافضة تغلفها الدهشة، وما إن انهت حديثها حتى أكد وهو يمنحها نظرة جادة:

- وضع "سولينا" يختلفً تماماً عن الاخريات. لن تكون امرأة عابرة في حياتي لبضعة ساعات فقط، فهي ضيفة في منزلي، وابنة شخص ذو مكانة خاصة. من المستحيل أن تجمعني بها علاقة؛ وإن كانت وهمية.

ثم أشاح بعينيه عن وجه "كريمة" متمتماً بجدية:

- لستُ محبطاً إلى هذا الحدِ.

- في غياب إحدى مصادرك أنتَ بحاجةٍ إلى بديلةٍ.

هزَّ رأسه نفياً وهو ينهضُ عن مقعده مؤكِّداً بلهجةٍ قاطعةٍ:

- لستُ بحاجةٍ إلى أحدٍ. كلُّ ما أحتاجه الآن هو الاسترخاء حتى لا أستهلك الكثيرَ من طاقتي.

ثم سار نحوها بخطواتٍ هادئةٍ مردفاً:

- وأنتِ يمكنكِ الانصرافَ إلى عملك. لا داعٍ للانشغالِ بوضعي.

التفتت إليه بينما كان يتجاوزها:

- لكنني هنا لرعايتك، والاهتمام بصحتك.

تجاهل اعتراضها؛ مستمراً في ابتعاده نحو باب الحجرة، وقال دون أن يلتفت إليها:

- الغي تجهيزات الطاولة في شرفتي.

************

فوجئت "سولينا" بوجودِ "آدم" في حجرة الطعام.

كانت تتجه نحو مقعدها عندما فُتح البابُ في أقصى اليسار حيث يأتي دائماً. تجاهلت وجوده وهي تركز نظراتها على أدوات المائدة الموضوعة أمام مقعده عند رأس الطاولة، وتعجبت من إعداد المائدة لشخصين فقط.

ألم تأتي عشيقة الليلة؟!!! فكرت بخشية.. أنَّها ربما غير معنية بهذه التجهيزات، ومن المفترض ألا تكون هنا الآن؟!!

كم سيكون ذلك محرجاً، الا أنَّها طمأنت نفسها بأنَّه لو لم يكن تواجدها مرغوباً لأعلمها أحدهم .. لكن من المؤكد أنَّ هناك خطبٌ ما.

احتلت مقعدها بينما نظراتها تلتقي بنظراته الهادئة المباشرة، ولدهشتها لم تكن تلك النظرات قصيرةً، لا مباليةً كالعادة.

انشغلت عنه بفردِ الفوطة الزرقاء فوق فخذيها وهي تشعر بعينيه المسلَّطة نحوها. لم تستطع السيطرة على نبضات قلبها وتساءلت في سرِّها بتوترٍ عن "كريمة" التي لم تحضر العشاء بعد.

استند على ظهر مقعده، فتماسكت كي لا تنظر نحوه إلا أنَّ وضعاً كهذا لا يعجبها. من الطبيعي تبادل أيَّ حديث بما أنَّهما في نفس المكان وقد تأخر تقديم الطعام.

نفثت بهدوءٍ؛ محاولةً استجماع شجاعتها لتنظر إليه. إلا أنَّ الكلماتِ هربت من بين شفتيها ما إن التقت عيناهما. حاولت رسمَ ابتسامةٍ بدت متوترةً للغاية. على حين تساءل هو بلهجةٍ باردةٍ لم تعجبها:

- ألا تجدين أنَّ من الغباء ارتداء هذه الملابس في هذا الطقس؟!!

فاجأها سؤاله الفظ. هو لا يتحدث إليها أبداً، أو يهتم بها. وعندما يحدث, يكون بهذه الطريقة الفجة. أول ما قفز إلى ذهنها التساؤل إن كان هذا السبب وراء نظراته -غير المألوفة- نحوها.

منحته نظرةً مستنكرةً وهي تحاول إيجادَ كلماتٍ مناسبةٍ للرد عليه. إلا أنَّها لم تستطع إخباره أنَّ المكان يشعرها بالاختناق. فربما أنَّ أيَّ تعليقٍ ضد القصر وأجواءه قد يؤثر بشأن إقامتها داخله، لذا فضَّلت تجاهلَ سؤاله وعدم التعليق. اكتفت بالنظرِ إلى كنزتها باستنكارِ شديدٍ، فباستثناء فتحة الرقبة التي تكشف جزءاً بسيطاً من نحرها، فالكنزة مناسبةٌ تماماً لهذا الطقس بقماشها الصوفي وأكمامها الطويلة، لكنَّها اكتفت بتجاهلِ تعليقه؛ رغم الحنق والاستنكار المشتعلان داخلها.

ارتفعت أناملها الناعمة - دون وعي- إلى الخصلة المنسدلة فوق عنقها العاري لتعبث بها؛ محاولة التغلب على توترها. ولم يكن من الصعب الشعور بذلك الجو المربك الذي ساد الحجرة. بقيت سبابتها تعبثُ بالخصلة على طولِ عنقها بينما عيناها الرماديتان مسمرتان على النقوشِ المحيطة بالصحنِ الخزفي أمامها.

كانت تشعرُ بنظراته نحوها من لحظةٍ لأخرى. وتذكُّر ملامحه الحانقة كان يزيد من ضربات قلبها أكثر. حدَّثت نفسها بغيظٍ أنَّه لا يحق له التدخل فيما ترتدي، وعادت لتؤكِّد لنفسها أنَّ ملابسها مناسبةٌ تماماً وإن لم تعجبه.

رفعت نظراتها بلهفةٍ وارتياحٍ إلى "كريمة" التي دخلت أخيراً إلى الحجرة يتبعها "بدر" حاملاً معه صينيةً احتوت على أطباقٍ متنوعة أُعدت باهتمامٍ خاصٍ.

حدثت "سولينا" نفسها أنَّ هذا البذخ لا بد أنَّه أُعدَّ لعشيقته الغائبة، و بالتأكيد أنَّ مزاجه السيئ سببه هذا الغياب.

- من الجيد أنَّ العشاء هنا أخيراً لتجدين شيئا ًآخر تشغلين به أناملك.

نظرت إليه باستهجانٍ يغلِّفه الحنق، وسيطر التعجبُ على مشاعرها لجفائه الغريب. لكنَّه لم يكن ينظر إليها، واضطرت لإشاحة عينيها نحو "كريمة" الواقفة بجوارها تملأ كأسها بالماء.

شعرت "سولينا" بالبرودة تسري في جسدها الدافئ، وكانت واثقةً أنَّه السبب لأنَّ الحجرة دافئة تماماً.

فضل هو تناول الحساء أولاً وقبل أن يرفعَ ملعقته إلى فمه قال محدثاً "كريمة" بلهجة آمرة:

- بعد أن تنهي ملأ طبق الآنسة أحضري لها وشاحاً من حجرتها.

نظرت إليه "سولينا" لتوضِّح باعتراضٍ:

- لكنني لا أحتاج إليه!!

وجَّه إليها نظرةً هادئةً تحملُ تحذيراً غريباً ليقول بلهجةٍ قاطعةٍ:

- ليس من المناسبِ البقاء هكذا. ستصابين بالبرد.

أخذ قلبها يخفقُ بقوة وهي تواجه عينيه بينما الغيظُ يختلطُ بخوفها. كان هو من أشاح بنظراته بعيداً عنها ليحوِّلها إلى "كريمة" التي بقيت تراقبُ الموقفَ بتحفظ. ولم يحتج إلى إعادة طلبه من مربيته التي أسرعت تهز رأسها إيجاباً قبل أن تترك الحجرة خلف "بدر" لتلبية طلب سيدها.

بقيت "سولينا" تحدقُ في الطبقِ أمامها بملامحٍ عابسةٍ، منزعجة دون أن تفكرَ في تناول شيء. بقاؤه صامتاً أفضلُ كثيراً من حديثه الجاف، وتعليقاته الفظة.

- ألا يعجبك الطعام؟

شدَّت على قبضتها المستقرة في حجرها، و عادت لاستجماع شجاعتها لتنظر إليه متسائلةً بهدوء:

- هل ملابسي ضمن الأمور الواجب عليَّ الالتزام بها هنا؟!!

ابتلع طعامه بكلِّ هدوءٍ قبل أن يجيب دون أن ينظرَ إليها:

- أخشى ذلك.

- هل أنتَ جاد؟!!

أعاد الملعقة إلى الوعاء مؤكداً:

- تماماً.

- لماذا؟!!

ألقى عليها نظرةً خاطفةً وهو يحرك ملعقته داخل حساءه، ثم أجاب ببساطة:

- صحتك تعنينا. وكما ترين أننا في منطقةٍ نائيةٍ ومن الأفضل أن نكون حريصين.

دخلت "كريمة" الحجرة تلك اللحظة، وازداد غيظُ "سولينا" وهي تراها تحملُ وشاحاً من الصوفِ الأسودِ؛ متجهةً به نحوها. أشاحت بنظراتها الحانقة إلى طبقها للحظاتٍ قبل أن تتساءل:

- هل أنا ملزمةٌ أيضاً بتناولِ الطعام؟

تصنَّع البراءة وهو يضعُ الملعقة جانباً لينظر إليها متسائلاً:

- لماذا تتساءلين؟!

أزاحت المقعد إلى الخلف لتقف موضِّحةً:

- لأنني لا أشعرُ برغبةٍ في تناوله.

- يمكنني اعتبارَ هذه الليلة استثناءً من أجلكِ.

لم تهتم بالردِ عليه. على حين برر دون أن يبعدَ عينيه عن ملامحها الحانقة:

- عدم تناولكِ الطعامِ يضرُ أيضاً بصحتكِ، لهذا أنتِ ملزمةٌ بتناوله.

بدا التهكُّمُ واضحاً على ملامحها الناعمة إلا أنَّها لم تعلِّق وهي تستأذنه قبل أن تبتعدَ دون أن تنظرَ إليه. ولم تأخذ وشاحها من "كريمة"؛ التي انتظرت خروجَ "سولينا" لتنظر إلى سيدها قائلةً:

- نصحتك بالتوددِ إليها، وليس إغضابها. لا أعتقد أنَّ طريقتك هذهِ مناسبةً لكسبِ ودها.

أكَّد بثقةٍ قبل أن يلتقطَ ملعقته:

- لستُ بحاجةٍ إلى ودِّها.

**************

واجه "بدر" صعوبة في تثبيتِ أحد أجزاء الثريا الضخمة في سقف حجرة "آدم" الخاصة. إلا أنَّه لم يكن من النوع الذي يستسلم بسهولة.

انضم إليه "آدم" ليلقي عليه نظرةً خاطفةً قبل أن يوضِّح ببساطة:

- أخبرتك أن تنسى أمرها.

- سأتمكن منها، وسترى.

إلا أنَّ "بدر" فقد توازنه ليهوي جسده بين ذراعي "آدم". للحظةٍ، لم يدرك "بدر" كيف أنَّه أُنقذ من سقطةٍ عنيفةٍ مؤكدةٍ. لكنَّه وعى أنَّ سيِّده ليس شخصاً عادياً، وقطع تلك المسافة من باب الحجرة إلى منتصفها كقطع خطوةٍ عاديةٍ بالنسبة له.

تمتم "بدر" باعتذاره الشديد بينما "آدم" يحرره، ثم شهق بفزعٍ عندما وقعت عينيه على ذراع سيده المجروحة.

ألقى "بدر" بالزجاج المكسور في كفِّه ليمسك بذراع "آدم" متمتماً باضطراب:

- آسف سيدي . لم ...

- لا عليك. من الأفضل أن توقف هذا النزيف بدلاً عن الاعتذار.

فُتح بابُ الجناحِ لتسرع "كريمة" نحوهما هاتفةً:

- ما الذي يجري ؟!! رائحة...

بترت عبارتها وهي تحدِّق في ذراع "آدم". وقبل أن تتساءل, وضَّح "بدر" ما حدث وقد بدا مستعداً لتلقي أيِّ لومٍ أو توبيخٍ منها. إلا أنَّها انشغلت بفحص ذلك الجرح وهي تمتم بانزعاج:

- لن يلتئم الجرح و يتوقف النزيف إلا إن حصلت على دمٍ بشري في الحال.

- لا، ليس بالضرورة. سنحاول إيقافه بالطريقة المتوفرة.

ورفع نظراته إلى "بدر" الواقف أمامه يراقبه بقلقٍ ليأمره:

- أحضر حقيبة الإسعافات.

اعترضت "كريمة" وهي تقف موضِّحةً:

- لن يفلح الأمر.

- "بدر"، افعل ما أمرتك به.

عكست نبرته الحازمة جديته، ورفضه الجدال حول الأمر مما دفع بالسخط ليرتسم بوضوحٍ على وجه "كريمة".. وقبل أن تلفظ كلمةً طالبها "آدم" بعدم التدخل فما كان منها سوى الامتثال لأمره، والمغادرة بينما الكلمات الغاضبة تنهمر من بين شفتيها.

*************

نظرت "سولينا" إلى "كريمة" الواقفة عند باب حجرة المكتبة تستأذن للانضمام إليها، فأغلقت "سولينا" الكتاب وهي تسمح لها بالاقتراب.

- أعتذرُ منكِ بشدةٍ.. لكنني.... إذا لم تكن هذهِ وقاحة مني .. أحتاج إلى مساعدتكِ في المطبخ.

فوجئت "سولينا" لنظرة القلق التي ملأت عيني "كريمة" بينما كانت تردف مبررةً:

- "بدر" برفقة السيد "آدم" لأمرٍ هامٍ، وأحتاج لمن يساعدني في تجهيز أطباق الغداء.

ثم أسرعت تؤكِّد:

- لن آخذ من وقتكِ الكثير.

- حسناً. لا بأس أبداً.

انفرجت أسارير "كريمة" على نحوٍ أدهش "سولينا"، فارتسمت ابتسامةٌ واسعةٌ على شفتي هذه الأخيرة؛ معلنةً عن استعدادها للمغادرة إلى المطبخ.

طلبت "كريمة" من "سولينا" الإمساك بقطعة اللحم الحمراء و هي تبرر:

- أمسكي بها جيدا حتى يسهل علي التخلص من هذه الشحوم المحيطة بها.

رسمت "سولينا" ابتسامةً ودودةً على شفتيها موضِّحةً:

- بعض الشحم يمنح...

إلا أنها بترت عبارتها وآهة ألمٍ تفلت من بين شفتيها بفزعٍ. حدقت عيناها القلقتان في معصمها حيث أصابها نصل السكين الحاد، وتسارعت نبضاتُ قلبها بينما الدماء تنهمر من ذلك الجرح. فوجئت ب"كريمة" التي أسرعت بوضعِ وعاء زجاجي تحت معصم "سولينا" المصاب آمرةً:

- لا تدعي الدماء تتناثر في كلِّ مكان. ابقي مكانك.

أبقت "سولينا" نظراتها المذعورة على "كريمة" قائلةً بارتجافٍ:

- من الواضحِ أنَّ السكينَ أصابت شرياناً، فالدم يتدفق بغزارة.

أسرعت "كريمة" تطمئنها بينما كانت تبتعد نحو باب المطبخ:

- لا تخافي يا صغيرتي . سأذهب لإحضار الإسعافات اللازمة. ابقي مكانك.

ثم أكدت بحزمٍ:

- لا تبعدي معصمك عن الوعاء. سأعود حالاً.

وتركت "كريمة" المطبخ بينما الابتسامةٌ الراضيةٌ تملأ وجهها.

أخذت "سولينا" تبحث بعينيها القلقتين حولها عن فوطةٍ تحبس بها تلك الدماء دون جدوى. وعندما حاولت حبسها بأناملها شعرت بألمٍ شديدٍ.

التفتت إلى "بدر" الذي تساءل وهو ينضم إليها:

- أين ذهبت "...

إلا أنَّه بتر عبارته ليهتف بفزعٍ مسرعاً نحوها:

- ما الذي يحدث ؟!!

وقبل أن يصل إلى "سولينا" ظهرت "كريمة" عند باب المطبخ لتحذِّره بصرامة:

- ابتعد.

خالط الشكُ نظرات "بدر". إلا أنَّ "كريمة" لم تسمح له بإلقاء الأسئلة إذ أسرعت نحوه قائلة:

- إنَّه خطئي. كنتُ أحاول تجهيزَ اللحمِ عندما انحرفت السكينُ في كفِّي مما تسبب في إصابة الآنسة.

ثم دفعت بالصندوقِ الصغيرِ في يدها إلى "بدر" قائلةً بينما عيناها مسلطتان على ذلك الوعاء؛ المحتوي ما يلزم من الدماء:

- قم بالاهتمام بالجرح، وأنا سأساعد السيد.

لم يكن صعباً على "بدر" فهم ما عنته. خاصةً أنَّها أسرعت تلتقط وعاء الدم لتبتعد به إلى الخارج، دون أن تمنحه الفرصة للتعقيب.

**********

مسحت "كريمة" على ذراعِ "آدم" حيث زال أثرُ الجرحِ الذي كان ينزف قبل دقائق، ثم قالت بلهجة يخالطها شيء من الاستهجان:

- الكمية التي شربتها ساعدت على التئام الجرح فقط، لكنها بالتأكيد ليست كافية لتعويضك الدم الذي فقدته.

قال بملامحٍ جامدةٍ وهو يضع الوعاء الفارغ جانباً:

- المهم أنني لن أفقد المزيد.

- أليست هذه الطريقة أفضل من تشويه ذراعك بغرز "بدر"؟

- وهل تشويه ذراعها هي أمرٌ مقبولٌ؟!!

أخذت "كريمة" ذلك الوعاء الفارغ مؤكدةً بهدوء:

- لا تقلق. لم أسبب جرحاً سيئاً. قطعت الجزء الذي يعلو الشريان فقط. لن تحتاج لأكثرِ من غرزتين سيستطيع "بدر" إتقانها.

زفر بضيقٍ والتجهُّم يكسو ملامحه الآسرة، ثم تمتم برفضٍ:

- لقد تصرفتِ بتهورٍ.

- كنتَ بحاجةٍ ماسةٍ لهذا الدم. تعلمُ أنكَ لم تتناوله لأيام، وقد بدأ الشحوبُ يكسو ملامحك، وقدراتك تضعف.

- ستأتي "نهال" بعد غدٍ، و بإمكاني الانتظار يوماً إضافياً.

شدَّ على قبضته اليمنى محاولاً إيقاف الرعشة التي أصابته فجأةً -تؤكِّد مخاوف مربيته- إلا أنَّه قال بقلق:

- تركك للمطبخ حاملةً وعاء دمائها أمرٌ مريب. لا أريد أيَّ تعقيداتٍ بإثارة شكوكها.

لم يبدُ أيَّ توترٍ أو اهتمامٍ على ملامح "كريمة" وهي تؤكد بثقة:

- لقد كانت منشغلةً تماماً بأمرِ إصابتها، ولم يسمح لها خوفها بملاحظة أي شيء آخر.

أصدر هزةً بسيطةً من رأسه بينما صوته يعكس استهجانه الشديد:

- هذا واضحٌ تماماً في دمها، فطعمه مقزز.

ثم أمال فمه متسائلاً باشمئزاز:

- كيف تستمتعون بشربِ دماء هؤلاء البشر بينما الذعر يسيطر على مشاعرهم؟! إنه طعمٌ سيء للغاية.

صدرت من "كريمة" ضحكةً قصيرةً قبل أن تؤكِّد:

- نحن لا نتأثرُ بطعمِ دمائهم مثلك؛ فمشاعر الفريسة من كره أو رعب لا يفسدُ طعم دماءها.. أما أنتَ فأكثر حساسيةً منا.

- إذاً من حسن حظي أنني أملك القدرة على التنويم المغناطيسي وإلا لما تمكنت من الاقتراب من أيِّ بشريةٍ لشربِ دمائها.

لاحظت الاستياء الذي غلف نبرة صوته، فقالت بلهجةٍ ذات مغزى:

- فلتكن حذراً في المستقبل حتى لا تضطرَ لشربِ دماء لا يعجبك طعمها.

لم يكن صعباً على "آدم" أن يدركَ أنها تشير إلى "سولينا" إلا أنه تجاهل حديثها وهو يأذن لها بالانصراف.

*************

رفعت "سولينا" عينيها إلى السماء الملبدة بالغيوم من خلال النافذة المفتوحة لحجرة المكتبة بينما العديد من الأفكار تشغلها.

منذ أن عادت إلى الحجرة و ضيقٌ غريبٌ يجثمُ على صدرها. تأملت الجرحَ - الذي قطَّبه "بدر" بإتقان- في معصمها، واضطرب قلبها بشدةٍ بينما تلك الأحداث تتسارع أمامها.

عقدت حاجبيها باستنكارٍ عظيمٍ وهي تتساءل في سرها عن سببِ تصرفِ "كريمة" الغريب دون أن تجد له تفسيراً مقنعاً.

أطلقت تنهيدةً عميقةً قبل أن تعيد اهتمامها إلى الكتاب أمامها في محاولة يائسة للتركيز على محتواه.

مرت دقائقٌ قبل أن يُفتح باب المكتبة لتطل "كريمة" من خلفه. كانت تحملُ في كفها كوباً من عصيرِ الكرنبِ، ولم تتفوه سوى بكلمة ..(أحضرت).. قبل أن تسلطَ نظراتها المستنكرة على النافذة المفتوحة على يسارِ المكتب.

عقدت "سولينا" حاجبيها بتعجبٍ قبل أن تلتفت خلفها لتتأكد مما تنظر إليه "كريمة". وعندما نهضت عن مقعدها فوجئت ب"كريمة" بجوارها على نحوٍ دفعها لإطلاق صرخة فزعٍ؛ لم تلتفت إليها "كريمة" حيث كانت منشغلة باسدال ستار النافذة بعد إغلاقها بإحكام.

أعادت "سولينا" عينيها المرتعبتين إلى باب الحجرة تحاول أن تعي تلك المسافة التي قطعتها "كريمة" بلمحِ البصر.

أبقت نظراتها المذهولة على "كريمة" وقد عُقد لسانها. على حين التفتت هذه الأخيرة إليها متسائلةً باستهجانٍ غاضبٍ:

- ألم يخبرك "بدر" أن المكانَ الوحيدَ المسموحَ بإزاحة ستاره هو حجرتك فقط؟!

بقيت "سولينا" صامتةً وخفقات قلبها تكاد توقفه. ولم تصدر منها حركةٌ مما دفع "كريمة" للتساؤل باستنكار:

- ما بكِ ؟!

ازدردت "سولينا" ريقاً جافاً، ولم تستطع السيطرة على الرعب الذي تملكها بينما كانت تتمتم:

- لا شيء.

أصابها الدوار، فعادت إلى المقعد خلفها، و شعرت بالخوف من رفع رأسها حيث وقفت "كريمة"؛ التي تساءلت باهتمام:

- ما الأمر؟

أرغمت "سولينا" تلك الحروف المرتجفة على الخروج من حنجرتها الجافة، مكتفيةً بالتحديق في الكتاب أمامها:

- أشعرُ بالدوار.

- لهذا أحضرتُ لك عصيرَ الكرنب.

ثم مدت كفها إلى يسارِ سطح المكتب لتقدم لها الكأس؛ الذي لا تعلم "سولينا" كيف، أو متى وُضع هناك.

- هذا العصيرُ سيساعدُ في تعويضك عن الدمِ الذي فقدتيه. ومن الأفضل العودة إلى حجرتكِ لأخذ قسطٍ من الراحة.

هزت "سولينا" رأسها موافقةً دون أن تنظر نحوها، حتى عندما أعادت الكأس الفارغ إليها. انتظرت انصرافها بفارغ الصبر لتطلق تلك الآهة المرتجفة التي حبستها طويلاً، ثم رفعت كفها إلى شفتيها هامسةً برعبٍ:

- يا الهي. ما الذي يحدث؟!!

غطت وجهها بكفيها بينما استمرت خفقات قلبها تتسارع بجنونٍ، وقد كانت خائفةً من تصديقِ ما تفكرُ فيه.

***********

غادرت "سولينا" حجرة المكتبة ما إن غادرتها "كريمة"، وحجزت نفسها داخل جناحها مستسلمةً للأفكار والمشاعر العاصفة بها.

حدقت في ذلك الجرح الصغير في معصمها وهي تزداد وعياً لما يحدث؛ مسترجعةً كل ما عايشته قبل دقائق. حاولت ربط كافة الأمور التي لاحظتها خلال إقامتها دون أن تعيرها اهتماماً من قبل.

بقيت واقفةً أمام نافذة حجرتها المفتوحة تحدق في الحديقة الواسعة تحتها بنظراتٍ شاردةٍ يغلفها الخوف والحيرة. لم تكن تعلم ما يجب فعله. هل تنهي إقامتها في هذا المكان متعللةً بأي سبب؟ أم تكمل الأيام المتبقية لها دون أن تعير أيَّ انتباهٍ لشكوكها؟ هل من الحكمة التصرف بجهل، أم أنَّ ما حدث -على هذا النحو المتسارع والمفاجئ - تنبيه لها لضرورة ترك المكان قبل التورط في المزيد. أطلقت تنهيدةً عميقةً قلقةً وهي لا تعلم طريقةً حتى لمشاركة أحد شكوكها وقراراتها.

رفضت النزول إلى حجرة الطعام لتناول الغداء؛ خائفةً من مواجهة "كريمة". لقد توصلت لاستنتاج معقولٍ نسبةً للأحداث التي عايشتها.. لا بد وأنَّ هناك خطبٌ ما في تلك المرأة .. برودة جسدها، ووجهها الشاحب، وسرعتها الخارقة، وحرصها على أخذِ دماء "سولينا" برفقتها عند مغادرتها المطبخ .. كل ذلك رجَّح كفة الشكوك حول حقيقتها. لكن الأمر برمته لا يزال وكأنه حلم غريب، من المستحيل أن يمت للواقع بصلة.

لكن ما لم تكن تعيه "سولينا" أبداً .. السبب في وجود هذه المرأة بين أشخاصٍ طبيعيين. وهذا ما شجعها على أخذ قرارها على التصرف بشكلٍ طبيعي. وجدت أنَّ من الأفضل الانضمام إلى "آدم" حينما يحين موعد العشاء حتى لا تثير الشكوك .

تركت حجرة المكتبة في وقتٍ مبكرٍ -على غير العادة- إذ أنها لن تعي شيئاً في كلِ الأحوال. وكان خيار البقاء في الحديقة هو الأفضل لتستمتع بنهارها المشمس؛ بعيداً عن "كريمة". ولترى إن كانت ستجرؤ على مرافقتها هنا.

اقتربت من شتلات حجرية ذات ارتفاعات متفاوتة اكتظت بشتى أنواع الورود التي تبعث الغبطة لأي ناظرٍ إليها، وقد أدخلت شيئاً من البهجة والسكينة إلى قلب "سولينا".

انضم إليها "بدر" بعد دقائقٍ، وما إن اقترب منها حتى سارع بقطف إحدى تلك الأزهار ليقدمها لها بملامح ودودة، فمنحته ابتسامةً شاكرةً وهي تتناولها بحذرٍ بسبب الأشواك المنتشرة على طول ساقها الرفيع مما دفع "بدر" للتفكير في إعادتها إليه ليخلصها من تلك الأشواك أولاً. إلا أنَّ تصرفه تسبب بإصابة طرف أنامل "سولينا" التي أطلقت صرخةً قصيرةً وهي تبعد كفها عن ساق تلك الوردة.

لم يكن جرحاً بليغاً إلا أن خروج تلك الدماء القليلة كانت كفيلةً بإثارة الرعب في قلبِ "سولينا" ووجدت نفسها تتراجع لخطوات إلى الوراء بعفوية بينما عيناها الواسعتان تحدقان في "بدر" الواقف أمامها لتراقب ردة فعله إزاء رؤيته لهذه الدماء.

لامت نفسها على ردة فعلها، لكنها لم تستطع منع ذلك الذعر الذي تملَّكها وما حدث مع "كريمة" يستحوذ على مشاعرها ويثير حذرها رغماً عنها.

بدت ملامح "بدر" هادئةً للغاية، ومدَّ كفَّه إليها مطالباً برؤية جرحها، لكنها بقيت بعيدةً موضحةً بكلماتٍ مضطربة:

- لا داعٍ لهذا. سأهتم به بنفسي.

وعندما رغبت في تركِ المكانِ أمسك "بدر" بمعصمها ليتساءل بنبرةٍ رغم هدوئها أثارت خوف "سولينا":

- ما الأمر؟!

- لا شيء.

نظر في عينيها بشكٍ جعلها تشيح بهما عنه إلى أناملها مؤكدةً أنها لا تحتاج إلى مساعدته، وشعرت للحظةٍ و كأن قلبها توقف عن الخفقان عندما سمعته يتساءل بهدوء:

- أتعتقدين أنني سأحاول الاستفادة من هذه الدماء بطريقةٍ ما؟

منحته نظرةً عكست خوفها ومفاجئتها. ومرت لحظاتٌ قبل أن تتمالك نفسها متمتمة:

- بالطبع لا. ما الذي يدفعكَ إلى هذا التفكير الغريب؟

واجه نظراتها بشكٍ وهو يتساءل بلهجةٍ ذات مغزى:

- حقاً؟! ما الذي يرعبكِ إذاً؟!

لم تتفوه بكلمةٍ وهي تعي أنها لا تستطيع إنكار كل هذا الرعب المسيطر عليها. لا بد أنَّ وجهها يعكس مشاعرها.

- ما الذي تعرفينه؟

ارتجفت الكلمات فوق شفتيها وهي توضح:

- لا.. شيء.

قفزت الدموع إلى عينيها وهي تواجه نظراته المتهمة مما دفعه للتأكيد بلطف:

- لن أؤذيك.

لم تتفوه بكلمةٍ، وسيطر الوهن على جسدها فلم تبدِ أيَّ اعتراضٍ؛ موقفةً محاولاتها لإفلات معصمها من قبضته.

- ليس الأمر كما تتصورين. لو كنتُ كذلك لما بقيتُ واقفاً بكل بساطة تحت أشعة الشمس.

غاص قلبها بين ضلوعها وتصريحه الهادئ الجريء يؤكد شكوكها المستحيلة. أبقت عينيها الدامعتين عليه للحظاتٍ، ولم تكن مستعدةً أبداً للتصريح الذي أضافه متعمِّداً:

- لكن من في القصر بالتأكيد ليسا طبيعيين.

- ما الذي تعنيه؟!!!

عادت خفقات قلبها لتتسارع بعنف. من الواضح أنه لا يُقِصر اعترافه على "كريمة" فقط، لكنها لم تستطع استيعاب الأمر وهو يتساءل:

- ألا تفهمين ما أعنيه حقاً؟

- لا أريد أن أفهم...أعتقد ...أن ..من.. الأفضل العودة إلى حجرتي.

- ليس من الحكمة جعلك تعودين إلى الداخل بهذه الملامح الشاحبة. بما أن لديك بعض الشكوك فمن الأفضل توضيح الأمور بدلاً من ترككِ تتصورينها على نحوٍ خاطئ.

لم تكن بالفعل مهتمةً بمعرفة شيء. كل ما أرادته في تلك اللحظة هو الهرب. إلا أنَّ ساقيها لم تتحركا وهي تفكر أن بقاءها تحت أشعة الشمس أفضل من الانضمام إلى تلك المخلوقات في الداخل. على حين أكد "بدر":

- قد يكون التحدث في حجرتك هو الأنسب، فلتعودي، وسألحق بك بعد قليل.

بدا الخوف واضحاً في عينيها الرماديتين فأكد:

- لن يحاول أحدٌ إيذائك. لقد قضيتِ أياماً هنا دون أن يقتربا منك.

- لقد فعلت "كريمة" ذلك لتحصل على دمي.

- تلك حالة طارئة، ولن تجرؤ على إعادتها. كما أنك بخير، ولم تصابي بأذى. أليس كذلك؟

لم يبدُ عليها أيَّ رغبة في التحرك، فعاد "بدر" ليوضِّح بهدوء:

- لا يوجد مكان آخر تلجئين إليه. إن لم تدخلي الآن إلى هناك ستضطرين لاحقاً. لا تملكين سوى منحي ثقتكِ ولتتأكدي أن الاستماع إليَّ أفضل من التصرف بتهورٍ وجهلٍ قد يثير غضب "كريمة" منكِ.

- ماذا إن رغبتُ في المغادرة حالاً، والعودة إلى منزلي؟

رفع "بدر" حاجبيه والرفض القاطع يغلِّف دهشته بينما كان يؤكِّد:

- بالطبع لن تغادري.

ثم أسرع يوضِّح بنبرةٍ أكثر ليناً:

- على الأقل، ليس قبل أن تجدي أجوبةً لما يدور في خلدك.

- لا يدور شيء في خلدي، ولا أرغب في إيجاد أي أجوبة.

منحها نظرةً طويلةً صامتةً قبل أن يتمتم بثقة:

- بل هناك ما عليكِ معرفته، وما تتوقين حقاً للاطلاع عليه؛ وإن كان يخيفك.

رغم أنَّ حديثه مسَّ مشاعرها المتناقضة، وأفكارها المختلطة إلا أنَّها لم تجد الجرأة على تأكيده فعاد ليطمئنها.

- أقسم أنَّكِ في أمانٍ تامٍ، ولا داعٍ للحذر من "كريمة" أو غيرها.

ثم عرض عليها مرافقتها إلى جناحها، فلم يكن أمام "سولينا" سوى الاستماع إليه، والعودة إلى جناحها ليتركها هناك موضِّحاً أنَّه سيعود بعد دقائق.

*************

مدَّ "بدر" كفه نحو "سولينا" الجالسة على طرفِ فراشها، فنظرت إلى قصاصة الجريدة في كفِّه بتعجبٍ تحوَّل إلى دهشةٍ ممزوجةٍ بالحيرة؛ إذ بدا عنوان المقال مألوفاً للغاية. لم تحتج إلى وقتٍ طويلٍ لتؤكِّد شكوكها بينما نظراتها تنحدر إلى أسفلِ الصفحة لتقرأ اسم المحرر.

أبقت نظراتها على تلك القصاصة والذكريات تعود بها إلى سنواتٍ مضت.. إلى ذلك المساء في منزل والدها.

أبعدت "سولينا" نظارتها عن وجهها وهي تعتدل في جلستها فوق الأريكة بينما عيناها الرماديتان تراقبان والدها المنشغل بإنهاء مكالمته في آخر الحجرة.

استدار إليها فواجهت نظراته قائلةً بعدم رضا:

- أخبرتك أنك ستواجه كل هذه الاعتراضات الغاضبة.

ابتعد "كمال" عن الهاتف متجهاً نحوها وهو يقول بلا مبالاة:

- لا يهمني ما يقوله الآخرون. لقد كتبت وجهة نظري، ورؤيتي الخاصة بما أؤمن به.

- ليس في أمرٍ كهذا، وفي خضم هذه الأحداث التي تُدِب الرعبُ في قلوبِ الجميع.

لم يهتم والدها بالتعقيب، فأغلقت كتابها لتضعه جانباً مؤكدة باعتراضٍ شديدٍ:

- بمقالتك هذه أنتَ تختلق وجود مصاصي الدماء، و تسند إليهم أحداث القتل الوحشي الذي ظهرت فجأة.

احتل "كمال" المقعد بجوار ابنته ليوضِّح باقتناعٍ تامٍ:

- نعم .. إن كان وجودهم حقيقة لا مفر منها, فلماذا لا نُقِره ونوجد اتفاقية بيننا بدلاً من دفعهم إلى هذه الأعمالِ الوحشية.

- ولماذا تصر على وجودهم؟!! بل كيف تتخيل ذلك؟!!!

- أنا لا أتخيل. وصلتني بعض الصور التي حرصت الشرطة على التكتم عليها في ملفات سرية؛ مع الأخذ في الاعتبار حظرهم التعسفي للصحافيين من أن يكون لهم أي تواجد، أو صلة بتلك الوقائع.

- حتى لا يسمحوا لخيالاتهم بتبني نظريات، وتفسيرات تضاعف رعب الناس.

- خاصة إن كانت حقائق مرعبة بالفعل.

- يا إلهي يا أبي!!! هل حقاً تؤمن بهذه الخرافات؟!!! لا يمكنك طرح هذه الخزعبلات في عالمنا العربي وتنتظر القبول بخيالاتك المستحيلة. وجود الكائنات الخارقة للطبيعة مجرد أوهام وقصص؛ ينحصر تداوله افي العالم الغربي، وليس هنا.

لم يلقِ بالاً لاستنكار ابنته العظيم موضحاً ببساطة:

- أنا أطلق العنان لخيالي. وإن وجدوا بالفعل؛ فطريقتي هي الحل الذي أستطيع تقديمه لأنهم لن يفكروا في الإفصاح عن وجودهم إن لم نُبدِ نحن استعداداً لتقبلهم، وإقامة السلام معهم.

- هل تعرض هذه الأفكار الخطرة ظناً منك أنهم سيستجيبون في حال وجودهم بالفعل؟!!!! أنت فقط تعرض نفسك لسخط البعض، وسخرية الآخر.

- تعلمين أنني لا ألقي بالاً سوى لقناعاتي، وأنا مسؤول عن كل كلمة أكتبها.

أعادها صوتُ "بدر" إلى حجرتها داخل ذلك القصر المهيب عندما تحدث بهدوء:

- بسبب هذا المقال تلقى والدك دون غيره الدعوة لدخول هذا القصر.

انقبض صدرها بشدة وهي ترفع عينيها المذهولتين إلى وجه "بدر" لا تعي شيئا من هذه الحقائق المرعبة. اعتصرت قبضةٌ قويةٌ قلبها و صورة "آدم" بوجهه الساحر وحضوره المثير يسيطر على مخيلتها.. من غير المعقول أن يكون إحدى تلك المخلوقات المتوحشة المتعطشة للدماء؛ والتي رفضت بشدة حتى مجرد تخيل وجودهم الحقيقي في هذا العالم.

ارتجف قلبها كارتجاف الأحرف فوق شفتيها وهي تتمتم:

-لطالما اُتهم والدي بخياله الجامح، وسعيه للفت الانتباه والشهرة، وأحياناً بالجنون إلى أن أرغموه على التوقف عن كتابة المزيد من هذه المقالات؛ مهددينه بالاعتقال.

أبعد "بدر" تلك القصاصة من أمامها مؤكداً:

-لأنهم أرادوا التحفظ على وجود هذه المخلوقات، وإبقائها في الظل.

جثم عليها الضيقُ والخوفُ بينما الكثير من التساؤلات تملأها. إلا أن ملامح "بدر" الجادة، ونظرته التحذيرية منعوها عن الإفصاح عن أي منها ليقول بثقة:

- لا داعٍ لشعورك بالخوف. أؤكِّد لكِ أنَّ بقاءكِ هنا لا يشكل خطراً عليك مطلقاً، وهذا هو المهم.

- لماذا؟!! هل بدأ عهد السلام بيننا؟!

نبرة السخرية لم تخفِ الذعر الذي يسيطر عليها.

- أنا بشري 100٪.. وها أنا أمامكِ بكاملِ قوتي، ولم يمسني أحدهما بسوء.

كانت هذه الحقيقة غريبة بالفعل، وقد تساءلت في سرِّها عن سببِ وجوده بينهما، ومرافقتهما دون خوفٍ أو حذر. وقبل أن تفصح عن تلك التساؤلات, وضَّح هو ببساطة:

- مصاص الدماء لا يتغذى إلا على الجنسِ الآخر. أي أنَّ الذكرَ لديهم لا يتغذى إلا على دمِ الأنثى وبالعكس.. هذا يعني أن "كريمة" لن تفكر أبداً في شرب دمك. وذلك القدر الذي حصلت عليه منكِ كان من أجل السيد "آدم" دون علمه، وقد وبَّخها عندما علم بالأمر. لتكوني واثقةً أنَّه لن يقترب منكِ، أو يحاول استغلال وجودك لأن باستطاعته الحصول على ما يحتاجه من الدماء بأكثر من مصدر. كما أنَّكِ ضيفته، وابنة شخصٍ يحظى بحظوةٍ خاصةٍ لدى مصاصي الدماء المؤمنين بفكرة السلام بيننا.

- هل هو منهم؟

أسرعت بإلقاء ذلك السؤال بعفويةٍ إلا أنَّ "بدر" بقي صامتاً للحظاتٍ قبل أن يوضحَ بملامحٍ حذرة:

- السيد "آدم" ليس مُخيراً لقبولِ هذا السلام أو رفضه، فهو حلقة الوصلِ التي ستساعد على التسليمِ بإمكانية تحقيقه.

- ما الذي تعنيه؟!

- السيد "آدم" هجين.

عقدت حاجبيها بشدة بينما كان يضيف موضحاً:

- أي أنه نصف بشري .. والدته لم تكن مصاصة دماء.

حدقت فيه بذهولٍ قبل أن تتمتمَ بدهشةٍ تختلطُ بالفزع:

- كيف...؟!!

- لستِ بحاجةٍ لمعرفة تفاصيلٍ لا تعنيك، لكن ما يهمك نحو هذه الحقيقة أن تعرفي أنَّه حتى في حالِ عضِّه لأيِّ بشريةٍ فهذا لن يحولها إلى مصاصة دماء.

طالبته بكلماتٍ مضطربةٍ:

- أريد معرفة المزيد.

- لستِ بحاجةٍ لمعرفة المزيد. ما يعنيك أن تثقي تماماً أنَّكِ بأمانٍ هنا، ومن المفترض ألا تؤثر معرفتك بطبيعتهما نحو موقفكِ منهما.

ثم نظر في عينيها محذِّراً:

- ولستِ بحاجةٍ لإخبارهما بشيء. فلتتصرفي بشكلٍ طبيعي كما اعتدتِ دائماً؛ إذ من المحظور أن يعلمَ أحدٌ بهذه الحقيقة.

أبقت "سولينا" عينيها على وجهه متسائلةً بتعجب:

- هل وجَّه السيد "آدم" الدعوة لوالدي لأنَّه رغب في إخباره عن حقيقته؟!

- والده السيد "نبيل" هو من كان يتوق لرؤية والدك. ربما أنَّه فكَّر في إمكانية إخباره عن وجودهم، لكن الظروف لم تُتح له. وفكرة منح والدك شيء من كتبِ السيد "نبيل" الثمينة بعد وفاته هي فكرة "آدم"؛ حيث رغب في فعلِ شيءٍ كان والده سيسعد بفعله، خاصةً أنَّ السيد "آدم" كان يتجادل معه كثيراً كلما أتى على ذكر والدك.

- لماذا؟!!

- هو ليس واثقاً أنَّ والدكِ كان يعني حقاً ما يكتبه في مقالاته التي تتناولهم. ربما أنَّ رغبة السيد "آدم" في استقباله في القصرِ كان لغرضِ التعرف إليه عن قرب، ولا أستطيع الجزم نحو رغبته في اطلاعه على حقيقته.

***************

كان من المستحيل على "سولينا" الانضمام إلى "آدم" على طاولة العشاء. لقد تراجعت عن قرارها بعد أن عرفت حقيقته، وأخبرت "بدر" بكل صراحةٍ أنَّها لن تستطيع التصرف بشكلٍ طبيعي.

التواجدُ مع مخلوقاتٍ كانت تؤمن أنها خيالية أمرٌ ليس سهلاً أبداً. ووضحت أنَّها تفكر بجديةٍ في ترك القصر، إذ لم يعد مهماً أن تحصلَ على المزيد من الكتب. إلا أنَّ "بدر" أكَّد أنَّ قرارها المفاجئ قد يثير شكوكهما، وهذا ليس في صالحها أبداً، ونصحها أن تحاولَ تقبلَ الأمر، ومنح نفسها الفرصة للتفكير برويةٍ بدلاً من أن تخسر ما أتت لأجله دون داعٍ. وذكَّرها بأهمية بقائها بالنسبة لوالدها، وأدركت "سولينا" تماماً أنَّ نصيحة "بدر" تتعدى قيمة الكتب.

لم تنم طوال تلك الليلة، تفكر في حديث "بدر".. تخالجها مشاعرٌ قوية أن بقاءها هنا ربما لن يكون بالسوء الذي تتصوره. "بدر" محقٌ تماماً؛ فلم يحاول أي منهما إيذائها. كما أن "آدم" يحترمُ والدها، ولن يجرؤ على الاقترابِ منها، بل زجر مربيته لما فعلته معها.

لكنها لا تزال حائرة، مرتعبة .. فهل كل تعهدات، ووعود "بدر" كافية ليسكن خوفها؟!! هي تعلم أنَّه ليس سهلاً عليها التصرف كالسابق. لن تستطيع التعامل معهما وكأنها لا تعلم شيئاً عن حقيقتيهما. بالتأكيد سيكتشفان الأمر ببساطة.

أطلقت "سولينا" تنهيدةً عميقةً مرتجفةً وهي تغطي وجهها بوسادتها الناعمة؛ لا تعلم ما القرار الصائب الذي يجب أن تتخذه، لكنها واعيةٌ تماماً لذلك الفضول الذي يغمرها نحو هذا العالم الذي طالما آمن والدها باحتمال وجوده، وقد قدر لها هي التواجد هنا عوضاً عنه. بالتأكيد أن لهذا حكمة ما، وما عليها سوى التصرف بتعقل، ومسايرة الأحداث بحذر.

كان قلبها ينقبض بقوة تؤلمها كلما احتل "آدم" مخيلتها وحقيقته المرعبة تربك مشاعرها.

اكتشافها لحقيقته قضت على أي مشاعرٍ جميلة قد تحملها نحوه. إنه بالفعل آخرُ رجلٍ قد ترغب بالتواصلِ معه.

********************************************************

Continue Reading

You'll Also Like

33.3M 1.9M 47
اثناء دوراني حول نفسي بالغرفة بحيرة انفتحت عليه الباب، اللتفتت اشوف منو واذا اللگه زلم ثنين طوال لابسين اسود من فوك ليجوه وينظرولي بأبتسامة ماكرة خبي...
5.3M 156K 105
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
472K 18.5K 55
____احرق كل من يتجرأ على لمسك 🔥____ طبيبة ذات 25عاما فجأة تخسر شقيقها في هجوم مدبر و تجد نفسها وسط مؤامرة كبيرة بسبب قدرتها على قرائة افكار الناس ،...
473K 10.7K 39
للعشق نشوة، فهو جميل لذيذ في بعض الأحيان مؤذي مؤلم في أحيانا اخرى، فعالمه خفي لا يدركه سوى من عاشه وتذوقه بكل الأحيان عشقي لك أصبح ادمان، لن أستطع ا...