ليـلة الميـلاد

By _metanoiia

19.1K 3.1K 2.3K

في ليلةٍ ينعمُ الأطفالُ فيها بدفءِ العائلة، كان يفتقدُ سقفًا يحولُ بينهُ وبين ثلوج ديسمبر، وأبوينِ يغدقانه با... More

قُدُمًا
جــيمــيـن
خطوةٌ مجنونة
أمنيتي من الرب
صديقهُ الجديد
صندوق الماضي
سيدي الشرطي
مدينة الملاهي
حفنةٌ من الذكريات
نِصال السِهام المشتعلة
كانت تِلكَ ليلةَ الميلاد
كأمطار أكتوبر
العازفُ الصغير
بطلٌ خارق
جريمتهُ الوحيدة
نجمتهــا
أمي وأبي (الجزء الأول)
أمـي وأبـي (الجزء الثاني)
أناملُ ذهبية
نهاية

آلام لا تُطاق

653 144 85
By _metanoiia


*

.

مسح جبينهُ المرصع بحبات العرق، وأخذ يفركُ كفيه وينفخ فيهما؛ في محاولةٍ منهُ لكسبِ بعضِ الدفء، إنها العاشرةُ مساءاً، والشوارعُ تكادُ تخلو من الناس، وكم غدت موحشةً من دونهم بالنسبة له، وضعَ آخرَ صندوقٍ فوقَ نظرائه من الصناديقِ، وصاحب المتجرِ المُسن يراقبهُ بعينٍ مشفقة، لم يجعلْ من ذاكَ الطِفل يعمل في محلهِ هذا، إلا لعلمهِ بحاجتهِ الشديدة للعمل! وبما أن أعيادَ الميلاد بعد أسبوعين، قرر الليلةَ أنْ يعطيَ الطفل ضِعْفَ أُجرتهِ؛ فعسى أن يخففَ ذلك من معاناته ولو بالقليل، أعطاهُ كيس النقودِ باسماً، ودونَ أن يُعْلمه بما فعل؛ اعتقدَ أنَّ تلكَ ستكون مفاجأةً حلوةً له.

إبتسمَ الصغيرُ ملوحاً : إلى اللقاءِ سيد البرت! لوَّح المسِّنُ له، ثمَّ زفرَ بضيقٍ حالما اختفى جسدهُ الهزيل عن مرأى عينيه، وعادَ ليُقفل محلهُ البسيطَ ثمًّ عائداً لمنزلهِ الذي يقبعُ فوقَه، رغِبَ بأن يوصلَ الصغير الأشقرَ لباب بيتهِ؛ يطمئنُ بذلكَ عليهِ، بيْدَ أنه ليس سوى عجوزٍ، قد وهنَ العظمُ منهُ، واشتعلَ رأسهُ شيباً! أغلقَ الباب وما هي ثوانٍ حتى سمعَ زوجته تتحدثُ باستياء :
لم يتبقَ لدينا طعامٌ؛ بما أنَّ النقودَ التي تشقى للحصول عليها تقبع الآن في كيس ذلك الولد!

بتر حديثها الذي ملَّ من سماعهِ : الألمُ الذي يتجرعهُ أكبرُ بكثيرٍ من الم النومِ بمعدةٍ خاوية! كفي عن التذمر يا امرأة! إنَّهُ يعلمُ بكونِ الصغير يتعرضُ للضربِ على يد أحد أقرباءهِ الذي يعيشُ برفقته، أما عن السبب فهو لا زال مجهولاً بالنسبةِ إليه.

طريقُ عودةِ الصغيرِ كانت خاليةً، سِوى من قططٍ مشردةٍ، وربما من مختلين مختبئِينَ في الظل! لكنهُ اِعتادَ تلكَ الطرقَ وما فيها، منذُ مغادرةِ والديهِ قبلَ أشهرٍ، وبقائهِ في كنفِ خالهِ الذي يجبرهُ على العمل حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، فقدْ صمدَ في أملِ أن يعودَ والداهُ ويأخذاهُ حيث يعيشون ثلاثتهم، لا منزل خالهِ، الذي -من حُسن حظهِ- لم يبعدْ عن المتجر بكثير.
لم يحتمل البرودةَ التي تغلفُ جلدهِ المزرّق إثر الضربِ، وقدماهُ ما عادتا تحملانهِ، فهوى نحو الأرض الصردة يحتضنها بجسدهِ المرتجف، ذلك الخالُ لم يشفقْ على حالهِ، ولم يكلف نفسهُ عناءَ شراء حذاءٍ لهُ بدل الممزقِ الذي ينتعله حتى! سمحَ للدمعِ أنْ ينهمر على وجنتيهِ الجافتين، وحوّط الكيسَ بكلتي يديهِ؛ فهو السبيلُ الوحيدُ للخلاصِ من العقابِ الذي ينتظرهُ من خاله.
رغبةٌ في البقاءِ مستلقياً وعدم الرجوعُ اِجتاحتهُ بغتةً، لكن ما من خيارٍ أمامهُ غير ذاك! استقامَ بالكادِ، ومسحَ دمعهُ بعنف، لما على حياتهِ أن تكون هكذا؟ حال وصوله المنزلِ احتضن كفهُ مقبض البابِ، واخترق صوت خالهِ الأجش مسمعه قائلاً : ذلكَ الوغدُ الصغيرُ لم يعدْ بعد! أتمنى لو أنه ميّتٌ بالفعل! لم تفاجئه تلك الكلمات إطلاقاً، فهو يتفوه بها طوال الوقت، لكن ما كان يحيره دائماً هو السبب! السبب الذي جعلَ من خالهِ يكرهه بشدةٍ ولا يطيقه.

إنتظر قليلاً قبيل فتحهِ الباب؛ يستمع لتتمة حديثه، حيثُ خمّن أنَّهُ يكلِّمُ أحدهم على الهاتف : شقيقتي ماتت هي و زوجها الحقيرُ، ولم يتركا لي سوى هذا الطفل عديمِ النفع! صدقاً، لو لم يجلب لي المال كل يومٍ لَكنتُ دفنتهُ قربَ والديه!
حسناً، هو مُتفاجئٌ الآن، وبشدة! تجمد الدم في عروقهِ واسودت الدنيا في عينه ولم يعد يُحس بما حَوله، لا يمكن، لا بُد من أنه يكذب! لم يتقبل عقله أياً مما التقطته أذناه؛ فاندفعَ نحو الداخل بغتةً يصيح بصوتٍ كسير : أنتَ لستَ صادقاً! والدايَ حيّان وسيعودان لأجلي بعد رحلتهما كما وعدني أبي! حدَّق به خاله لوهلةٍ، قبل أن يطلقَ ضِحكةً ساخرة مغلقاً الخط : وما الذي تعرفهُ أنت؟ هُما أخلفا بوعْدهما ورحلا حِين غَرق يختُهما الحَبيب! ثُّم أردفَ عندما أخرستْ كلماتهُ تلكَ الطفل الأشقر : أرى أنكَّ قد فقدتَ السيطرة على لسانكَ وصِرتَ تتعدى حدودكَ معي أيها الثعلب!

تقدمَ ناحيتهُ وحدقتاهُ المدهامتانِ معلَّقتان بالكيسِ الذي يحمله، أمسكَ بعنقهِ وجُعلَ يرفعهُ حتى لم تعد قدماه الحافيتان تلامسان الأرضية، وإثرَ الكفِّ التي تطوق عنقه يإحكامٍ؛ بالكاد همس والدموع تشكل خطين على وجنتيه : دعني وشأني أرجوك! لم يسمعه كليمهُ بالأصل، بل أمتدت يده صوب الكيس ليحملهُ ويلقيَ بالصغيرِ أرضاً بينما تعلو ثغرهُ إبتسامةٌ صفراء : ما هذا الآن جيمين! من أين لكَ بهذا القدرِ من المال؟ لا شكَ في كونكَ سارقاً؛ فأنتَ نُسخةٌ مصغرةٌ من أبيكَ! عاودَ الإقترابَ مِنهُ وجرَّ شعرهُ حيث يصبح وجهه مقابلاً له : أنتَ تُشبههُ في كُلِّ شيء! أمقتكما بشدةٍ ولا زلتُ لا أدري لما كانتْ شقيقتي الحمقاءُ تحبكما! ثُّم أردفَ بتقاسيمَ ارتعدتْ لها فرائص الأصغر الذي أخذ يحدقُ بهِ بذعر : لو لم تكنْ تشبههُ لربما كنْتُ عفَوْتُ عنكَ، لكنَّ وجهكَ يثيرُ اشمئزازي وعليَّ تهشيمه! ألقاهُ مع كيس النقودِ في الغُرفةِ التي اعتاد أن يضربه فيها بالصوطِ
وقد أدرك جيمين ذلك مسبقاً.

غادرَ خالهُ الغرفة بنية جلبهِ مسدساً ليفرغهُ داخلَ رأسه! ولم يعلمِ الصغيرُ ما هو على وشك أن يحلَّ بهِ! تِلكَ كانتْ فرصتهُ الوحيدة للهربِ والنجاة؛ فلا طاقة لهُ برؤيةِ خالهِ بعد الآن، وكان لتلقيهِ خبَر مَوت والديه الفضلُ في ذلك! وضعَ صدْمتهُ جانباً، وفكّر بما عليهِ فِعلُه في الوقت الراهن قبل عودةِ الوحش البشري، إستقامَ بصعوبةٍ وأخذ حقيبة ظهرٍ مهترئةٍ وضع فيها كيس النقود، وبعضاً منْ خُبزٍ وجدَهُ على المِنضدةِ بالصُدْفةِ وحينَ همَّ بالرحيل تذكر بعضَ الأوراقِ التي يجهل ما هيتها؛ بحكمِ أنه لا يجيدُ القراءةَ، بَيْد أنَّه قد سَمِع خاله ذاتَ مرةٍ يتحدثُ عن كونها قَيمةً للغايةِ، ولطالما لاحظَ تقديسهُ لها.

وضعها في الحقيبةِ، ودون أن يضيِّع المزيد من الثواني الثمينةِ انطلقَ خارجاً من البيتِ، غير راغبٍ بالعودةِ إليهِ أبدَ الدهر! جَرى طويلاً في طريقٍ عشوائي، رسمهُ خوفهُ الشديد وسَقتْهُ عَبراته بقلبٍ راجفٍ، ليتوقفَ داخلَ زقاقٍ حين شعورهِ بأنَّهُ في مأمنٍ، ومكانٍ لنْ يقدر خاله على إيجادهِ به.

بعدَ أن عادت وتيرةَ تنفسهُ على نحوٍ طبيعي، لاحظَ كُمَّه الأيسر وقد تمزق؛ إثر جريانهِ بعشوائيةٍ، كما أنَّ ما ينتعلهُ -والذي لا يمكن تسميتهُ بالحذاءِ حتى- قد تقطعَ تماما،ً ولم تبْقى مِنهُ سِوى خيوطٍ ضئيلة الحجمِ نفضها عن قدميهِ، فزفرَ بضيقٍ شديدٍ يحاول جاهداً ألّا يجهشَ بالبكاء، تفقّدَ المِنطقةَ باحثاً عنْ مخبزٍ أو ما شابهَ لإسكاتِ جوعهِ، وبيمينه يمسِكُ بالكيس.
لمحَ مخبزاً قريباً من الزقاق الذي يقفُ فيهِ، وما إن خطى أول خطوةٍ باتجاههِ، حتى شعرَ بيدٍ تخطِفُ الكيس وتدفعهُ ليَقعَ أرضاً.
كانتْ محضَ ثوانٍ حتى أمطرتْ سماءُ عينيهِ بغزارةٍ، وأخذ يشهقُ بقوةٍ مفرغاً جزءاً يسيراً ممَّ يستوطن جوفهُ
من آلامٍ لا تُطاق، قَد خسر كلَّ شيء، كلَّ شيءٍ بلا استثناء! تمنى للحظةٍ لو أنَّهُ صبرَ على أذيةِ خالهِ بدلاً عنِ ما هو فيه الآن، لكنهُ يعجزُ عنِ اختيار الأسوءِ بينهما! براءتهُ المفرطةُ لا تتناسبُ وهذا العالم عديمُ الرَحمةِ، ولكن كذلك كان خاله.
إتكئ بجذعهِ تَعِباً بعد نوبةِ البكاءِ تلكْ، مستسلماً لكل ما هو آت، ثمَّ التفتَ لسماعهِ صوتاً خافتاً كان أشبهَ بالمواء!
أبصرَ بعدها قِطَّاً رمادياً قادماً باتجاههِ ليحتضن ساقه، أمعنَ النظر فيهِ ثم أخرجَ رغيفاً -قد تذكر أمرهُ تواً- من حقيبتهِ، ليقسِمهُ نصفَين ويضع أحدهما أمام القِّط، الذي شرع بالأكل فوراً.
حدقَ بخاصتهِ، ثم أرجعهُ حيث كان قبلاً؛ فلا رغبةَ لهُ بأي شيء! مدد جسدهُ، واتخذ من الحقيبةِ وسادةً له، سيكون هذا منزله الجديد على أي حال! شدَّ عليها بقوةٍ خائفاً من خسارةِ ما تبّقى لهُ داخلها؛ فهي -وإن ما برح لا يفهم لما تلك الأوراقُ شديدةُ الأهميةِ- في الوقتِ الراهنِ أثمنُ ما لديهِ، وقبلَ أن يخلدَ للنومِ بعين مرهقةٍ، قطعَ على ذاتهِ عهداً بالحِفاظِ عليها مهما حدث.

.

*

Continue Reading

You'll Also Like

1K 74 9
من سأختار جين أم جونكوك؟
8.1K 934 20
- لقد وقعتَ بحب خجلك - = لا تنظري لي هكذا انتي تربكيني = - لقد سمعت بكثير من قصص الحب و لكن حبنا هو الأعظم بنظري . =كيف لك ان تحبين شخصاً خجول ؟ - و...
1456 By at_xxu0

Teen Fiction

724 101 19
بينا و تايهيونغ طفل و طفله يتقابلون في منتزه لكن تنقلب حياة بينا رأساً على عقب بسبب شاب يُدعى جونكوك و تنتقل الي منزل تايهيونغ و يعيشون حياه طفوليه س...
73.3K 7.4K 26
ربما يكون فقدان احدى الحواس سبباً في امتلاك ما تتمناه... انتهت : 21/2/2018 Cover by : @caliraji Highest ranks : #1 RM #12...