روايات احلام / مصارع الثيران

Bởi Rawan117

58.2K 1.2K 52

الوقت من ذهب ... اما وقت سوريل فهو من تراب ... مدلكة تعمل عند مونيكا المقعدة . اعتقدت سوريل ان الحب ينبت بعيد... Xem Thêm

الملخص
1_بوابة الثلج
!طرد بلا انذار
مهمة فاشلة
سجينة مع الثيران
عروس لليلة واحدة
العذاب كالعسل

باقة الأوركيديا

5.8K 137 7
Bởi Rawan117

قاد بانشو الشاحنة على الدرب المنحدر وانعطف على الطريق العام محدثاً زعيقاً رهيباً في الدواليب ، وهو يسوق بسرعته المعتادة المجنونة ويكلم خوان بانفعال حول المصارعة الوشيكة . كانت سوريل تجلس كعمود بين الرجلين ، تحدق الى الطريق أمامها وذهنها منشغل بمشكلة اخرى ، كيف ستخرج من المصيدة الجديدة التي أوقعها فيها خوان رينالدا ؟ استمر بانشو يثرثر ويسأل و يعلق لكن خوان اكتفى بالاجابة على كل ذلك بهمهمات لم تشف غليله جعلاه يكف عن الكلام و ينتقل الى الصفير . استرقت سوريل نظرة جانبية الى خوان فوجدته ملقياً رأسه على ظهر المقعد ومغطياً عينيه بطرف قبعته العريضة وكأنه نائم . قفزت بهم الشاحنة قليلاً حين اصطدمت بنتوء على الطريق فلعقت سوريل شفتيها الجافتيها وأحست غثياناً في معدتها ، وهنا تذكرت أنا ما اكلت ولا شربت شيئاً ذلك الصباح .
في شارع ايبارا الرئيسي و الوحيد ، رأت نساء هنديات يرتدين تنانير طويلة وعباءات مخططة ، وقبعات مائلة عريضة الأطراف عالية التيجان ، ويحملن على أذرعهن سلالاً وهن يصعدن الباص المهترئ الشكل الذي استقلته يوم امس من مانيسالاس .
وفجأة قفزت الى ذهن سوريل خاطرة جديدة ، فمالت صوب بانشو وهمست له :
-هل لك أن تقف هنا وتدعني انزل ؟
فرمقها بنظرة جانبية مرتابة ، ولما عاد ينظر الى الطريق اطلق شتمية حارة وهو يدير المقود بعنف ليتحاشى دعس ولد كان قد اندفع من بيته راكضاً الى الطريق . هذه الحركة جعلت الشاحنة تتمايل بقوة و تطرح سوريل على خوان الذي هب جالساً ثم دفعها عنه وسأل بحدة :
-ماذا حدث ؟
فأجابه بانشو بفيض من اللغة الاسبانية الرشيقة ووضع كل اللوم على سوريل . ثم انطلقت الشاحنة من جديد تقعقع على الحصى و الحفر ، واصبحت ايبارا خلفهم .وسألها خوان بالانكليزية كيلا يفهم بانشو حديثهما :
-لِمَ اردت الترجل من الشاحنة ؟
-اشعر بالجوع و العطش وبشيء من الغثيان .
عادت الى جلستها المتشنجة السابقة وهي تحس تعاسة شديدة من جراء فشل خطتها الصغيرة للهرب الى مانيسالاس بواسطة الباص ، والحق الأكبر على بانشو الذي يدين بكل ولائه لسيده ، مثل جوفيتا تماماً . وأجابها خوان :
-ستأكلين عندما نصل كوبايا . يوجد مطعم في مركز المصارعة . أنا ايضاً لم اتناول فطوري اذ انشغلنا بشيء آخر الهانا عن الطعام ، ان كنت تتذكرين.
-لن اذهب الى المدرج . لا اريد ان اشاهد مصارعة ثيران .
-اذن لماذا تركبين هذه الشاحنة المهدمة .
-حسبت أن بانشو سيوصلني الى كوبايا حيث يمكنني السفر الى ميدلين . لم أدرِ انك ستأتي ايضاً. ظنت انك تخليت نهائياً عن احتراف المصارعة.
-تخليت عنها لفترة . لكن مؤخراً ، بدأت اتضايق من الآراء القائلة بأني فقدت شجاعتي بعد تلك المصارعة الأخيرة ، وهكذا ، عندما جاءني متعهد المصارعات المحلية وطلب الي ان اصارع في افتتاح مهرجان كوبايا وافقت على طلبه ، فهذه فرصتي لأثبت اثباتاً قاطعاً بأني لست جباناً.
كان يتكلم بمرارة ثم اطلق ضحكة قصيرة متهكمةوتابع يقول :
-خلال العامين المنصرمين بدأت نسبة الحضور تحف في حلبة كوبايا . لم تعد هناك اثارات ومنافسات عنيفة تشبع نهم المعجبين الجائعين الى الاثارة . لكن اليوم سيكون هناك جمهور كبير يتعطش الى رؤية "الشجاع" يعود الى الحلبة . هؤلاء الناس سيأملون الى حد ما ، أن يروا بطلهم يتمزق كما تمزق في مصارعته الأخيرة في مانيسالاس قبل عامين تقريباً.
-اوه ، كلا !
انطلقت هذه الصرخة من عمق قلبها فتوقف بانشو عن الصفير والتفت اليها منجفلاً ثم سمعته يسأل عما حصل . أجابه الآخر مهدئاً من روعه فعاد الشاب الى صفيره المرح . اندفعت تسأل خوان بلهفة وقد نسيت للحظة همومها الخاصة :
-أأنت مصمم على المصارعة ؟
استدار نحوها متعجباً وقال هازئاً:
-لا تقولي انك قلقة بالفعل .
-اجل ، انا كذلك .
فالتوى فمه باحتقار وأجاب :
-قلقة على الثور بالطبع .
-لا ، قلقة عليك انت . فقد ... فقد يخرق لحمك ثانية ويفترسك المرض كما حدث في المرة الأخيرة.
هز كتفيه وأشاح عنها ينظر الى يمينه من فتحة النافذة ثم تمتم بلا اكتراث :
-وماذا يهم ؟ ان ذلك جزء من اللعبة ، فالثور يفوز احياناً.
فهتفت بحماسة ولهفة :
-لكن ... لكن جوفيتا قالت انك كدت تموت آنذاك . اوه ، ارجوك يا خوان ألاّ تدخل الحلبة هذا اليوم .
فأجاب بصوت بارد وقاسٍ:
-البرنامج قد تقرر ولا بد لي من الاشتراك.
-من الجائز أن تقتل .
استدار اليها ليحدجها بنظرة ضيقة مزدرية وهمس بهزء :
-اذن يجب ان تفرحي.
-كيف يمكنك ان ترضى بذلك ؟ كيف تسمح لنفسك بأن تُستغل في ما لايعدو كونه خدعة اعلانية لتحميس عدد اكبر من الناس على شراء التذاكر ؟ كيف يمكنك ان تدخل الحلبة وتتعمد اغراء الثور على ان ينطحك ويمزق لحمك ؟ كيف تقدر أن تعرض نفسك لهذا الخطر يا خوان ؟
وعلى حين غرة ، فاضت الدموع في عينيها ، وراحت تنتحب وهي لا تدري أن سبب بكائها هو عدم احتمالها فكرة تعرضه للأذى أو للموت بحد ذاته . ومن خلال دموعها الغائمة رأته يحدق اليها بعينين متسعتين من شدة الحيرة ، فأدركت للمرة الثانية كم هما متباعدان في مواقفهما ووجهات نظرهما . ثم رفع يده وبلمسة لطيفة من رأس اصبعه ، مسح دمعة تدحرجت على خدها ، وقال برقة :
-احتفظي بدموعك لتبكي على الثور اليوم عصراً ، اذ سيحتاجها حتماً.
خفض يده مشيحاً عنها بسرعة ثم سألها وهو ينظر خارج النافذة :
-لِمَ أردت الذهاب الى ميدلين ؟
-لأخبر مونيكا أنني فشلت في مهمتي وعجزت عن اقناعك بمقابلة رامون لتفهمه انكما بريئان من تلك العلاقة . لقد وعدتها بأن اعود اليوم لرؤيتها.
-وأين ستذهبين بعد ذلك ؟ هل سترجعين الى انكلترا ؟
-ربما . لست ادري.
أسندت ظهرها الى المقعد تمسح خديها المبللين بأصابعها وتتساءل عن سبب بكائها عليه . لماذا هذا الشعور والقوي لديها ، تجاه أي شيء يفعله ، أو فعله سابقاً ؟ لماذا يؤثر على عواطفها بطريقة لم يؤثر بها عليها اي انسان من قبل ، بطريقة تدفعها الى فعل وقول اشياء غريبة تماماً عن طبيعتها ؟

على الأقل ، غريبة تماماً عن الفتاة التي حاولت دائماً ان تكونها ،الفتاة الرابطة الجأش ، والخالية القلب .
هل تحبه ؟ اغمضت عينيها وارتخت كتفاها على ظهر المقعد . كلا ، لا يمكنها أن تحبه ، لا يجب ان تحبه.
فتحت عينيها فآذاهما وخج الشمس الساطع ثم نظرت حولها فرأت المشاهد تتبدل وهو يهبطون سلسلة منعطفات قوية في اتجاه الوادي الذي يخترقه نهر عريض . الريف هنا اكثر خضرة وأكثف تشجيراً ، وبدأت تظهر للعيان ، بيدوت ذات شرفات مظللة تتدلى من عليها متسلقات تتفتح براعمها بأجمل الألوان وأزهاها . وبرغم ضجيج المحرك استطاعت سوريل أن تسمع بوضوح صوت الموسيقى وايقاع الطبول المنتظمة وألحان الزمارات الهندية العنيفة . وحين عبروا طريقاً جانبياً آخر لمحت اناساً مقنعين في ثياب عجيبة الأشكال والألوان كانوا يهتزون ويدورون في رقصة جماعية تتقدم الى شارع أوسع . ثم مروا على طريق جانبية ثالثة فرأت موكباً دينياً حافلاً يتميز بشموع مضاءة وباقات ضخمة من الزهور الحمراء و البيضاء. لدى بلوغهم مفترق الطرق التالي سلك بانشو درباً انحدارياً يخترق بيوتاً منخفضة ذات شرفات صغيرة ، ومروا بمجموعة من الأولاد يقومون باستعراض خاص بهم . في نهاية الدرب برزت الجدران العالية التي تحيط مدرجاً مستديراً وتحمل ملصقات مزركشة لماعة تعلن عن مصارعات الثيران.
قد بانشو الشاحنة عبر بوابة عريضة ثم أوقفها الى جانب شاحنة كبيرة لنقل المواشي مكتوب عليها بالدهان ، مزرعة رينالدا . فتح خوان الباب وترجل، وسرعان ما أحاط به الرجال الذين جاؤوا بالثيران . وحتى بانشو ترك الشاحنة وهرول راكضاً لينضم الى المجموعة المثرثرة بلهفة وانفعال.
وفكرت سوريل أن الفرصة سانحة لتنسحب بهدوء وبدون أن ينتبه لها أحد.
أمسكت حقيبتها ودفعت جسمها الى حافة المقعد لتقفز الى الارض لكنها فوجئت بخوان يسد طريقها ، وقال واضعاً يديه على ردفيه :
-المطعم فوقك مباشرة . لقد تأخر موعد الافطار وعساك لا تمانعين في تناول الغداء بدلاً منه . لا اريدك أن تصابي بالاغماء من جراء الجوع .
ترجلت من الشاحنة فبادر هو الى صفق الباب صارخاً ببعض التعليمات الى بانشو ، ثم امسكها من كوعها وساقها على أرض الساحة المتوهجة بنور الشمس الحار ، وعبرا ابواب البناء الزجاجية الدوارة .
كانت طاولات المطعم مكسوة بأغطية ذات مربعات بيضاء وحمراء ، ومصفوفة بمحاذاة الجدران بين مقاعد منجدة مستطيلة ذات ظهور خشبية عالية. رأت اناسا كثيرين يتناولون وجبة الغذاء وهم يضحكون ويتسامرون، وبعض الرجال حيا خوان بصوت عال وهو يرسل نظرات جريئة وفضولية في اتجاة سوريل. جلسا الى طاولة منزوية حيث حجبهما المقعدان العاليا الظهر عن النظرات الحشرية. جاءتهما المضيفة التي بدا انها تعرف خوان اذ راحت تثرثر معه بمرح وهي تسجل طلبه لشرحات لحم مشوية، بطاطا حلوة وخضار. ثم احضرت لهما فنجانين كبيرين من القهوة ورجعت الى المطبخ لتأتي بالطعام.
اخذت سوريل ترشف القهوة الساخنة وهي تحس توترا متزايدا لوجودهما منفردين في عزلتهما النسبية. وفاجأها سائلا اياها بالانكليزية:
-لماذا صفعتني؟
اضطرت الى اجابته فغمغمت من دون ان تنظر اليه:
-لم يرق لي قولك انني ارغب فيك.
-لم تكن تلك الحقيقة.
-لمن اكن امثل دورا.
-اذن كنت بارعة في تمثيل ذلك الدور. لقد خدعتني بالفعل وجعلتني اعتقد...
-وهل اغضبك ذكر الحقيقة؟
حدقت اليه بغضب عبر الطاولة، ثم مالبثت ان شهقت وغطت فمها بكفها اذ ادركت انها قد ناقضت نفسها بنفسها. وحين رأته يبتسم ساخرا، اردفت متأوهة:
-اوه، الحق عليك! انت الذي ارغمتني.
-اذن انا لست سوى وغد اسود القلب اجبرتك على عناقي، لكن لم يكن بوسعي ان اثير فيك ذلك التجاوب لو لم تكن في داخلك شرارة تنتظر من ينفخ فيها.
زفر متضايقا ومرر اصابعه في شعره ثم انتفض عضل في خده كما لو انه يصر على اسنانه ليكبح عاطفة قوية تتأجج في كيانه، قال بصوت متقلص:
-والله انت قاسية، اتعلمين ذلك؟ لو انك لم تصفعيني وتهربي ، لكنا اصبحنا حبيبين هذا الصباح.
صراحته المتناهية هزتها في الصميم، فهمست:
-كلا، كلا ، لم يكن ذلك ليحدث.
-بل كان سيحدث لاننا انجذبنا الى بعضنا البعض منذ لقائنا الاول،
لكنك ترفضين الاعتراف بهذا. انك ترفضين الانصياع لمشاعرك لانك عندما تتوقفين لتفكري بعقلك تقرين بانني لست من النوع الجدير بحبك...
انت تنعتينني بالااخلاقية لاني اتصرف بالطرق التي تنسجم مع مبادئك الخلقية... تصيفنني بالانحطاط لاني اصارع الثيران من اجل كسب عيشي... ثم تصفعينني لاني اشعر بانجذاب اليك.
حدجها بنظرة وقحة جارفة اجفلتها وتابع يقول:
-لقد غلطت هذا الصباح لاني اتحت لك مجالا للتفكير. كان يجب ان اقفل فمي واحصل على ما عرضته علي، حتى لو كان من دون حب آلمتها مرارته بشكل فاق احتمالها فصرخت تحتج بعنف:
-لم اعرض عليك شيئا!
-هذا ماتقولينه باستمرار ولست مضطرا الى تصديقك
جاءت المضيفة بطعامهما حيث وضعت الطبقين امامهما وسكبت لهما مزيدا من القهوة ثم ابتعدت. شرع خوان ياكل على الفور،فيما اخذت سوريل تراقبه بحسد. كانت ماتزال منذهلة من عنف هجومه، اما هو، فبدا ان عصبيته لم تؤثر بتاتا على شهيته. في الاخير بدأت تأكل لعلمها بانها اذا لم تفعل فسوف تندم على ذلك في مابعد.
امتد الصمت بينهما اثناء الطعام وزاد توتره ضجيج الاصوات المنبعثه من الطاولات الاخرى. احست سوريل انها تأكل تبنا لكنها ارغمت نفسها على ازدراد اللقم الجافة وهي تفكر على الرغم منها في مصارعة الثيران الوشيكة وفي ماقد يحدث خلالها للرجل الجالس امامها. من الجائز ان يقتل ، اذن كيف يمكنها ان تفارقه غاضبة؟ كيف يمكنها ان تدع علاقتهما القصيرة والحميمة تنتهي بكلمات جارحة ومرة؟ عجزت عن اكمال طعامها. جرعت مزيدا من القهوة ثم نظرت اليه ومدت يدها نحوه وقالت بصوت اجش:
-خوان... يؤسفني اني لا استطيع ان اكون ما تريدني ان اكون.
-كيف لك ان تعرفي ما اريدك ان تكونيه وانت لم تدعيني اخبرك اياه ابدا؟ لقد امضيت الوقت القصير الذي قضيناه معا تقفزين الى استنتاجات زائفة، وتنسجين افتراضات مغلوطة عني وتحكمين علي بما يروق لك. ما الذي تحاولين فعله بحق السماء؟ان تعاقبيني على ذنب اقترفه رجل اخر بحقك؟
لسعتها قسوته فردت باختصار:
-لا. انا لا اعاقبك.
نهضت واقفة على قدميها وقد نسيت رغبتها في ان تفارقه وديا، ثم اختطفت حقيبتها ودارت حول الطاولة لتجده يسد الطريق قائلا:
-اين تظنين نفسك ذاهبة؟

الى المطار. سأبتعد عنك بقدر ما تسعفني المسافات.
توقف ازيز الكلام حولهما واحست سوريل برؤوس تستدير وبعيو تحدق اليهما معا. دارت على عقبيها . وبدات تسير في اتجاه الباب لكن يد خوان امتدت بسرعة البرق لتقبض على ذراعها بشراسة مؤلمة ثم اجبرها على مواجهته. ومع انها ذعرت من الغضب القافز من عينيه كنار باهتة، الا انها احست حنقا لاهبا لانه جرؤ على لمسها في مكان عام واما جمهرة من الرجال الفضوليين، وبينهم شرع يبتسم ويطلق تعليقات وقحة، فحاولت ان تنزع ذراعها من قبضته، وزعقت مهتاجة وخداها يلتهبان بالدم الذي تصاعد اليهما:
-كيف تجرؤ على لمسي!
فقرب وجهه من محياها الى حد استطاعت معه ان ترى مسامات جلده وآثار القطب الخفيفة التي تحف بندبته، وقال من بين اسنانه البيضاء لمطبقة :
- اسمعي ، انت التي قررت اللعب بخشونة حين كنا في المزرعة ولذا سأرد عليك بخشونة اكبر حتى اتمكن من ترويضك ايتها الثورة الصغيرة. من الافضل ان تنسي الوعود التي قطعتها لمونيكا لانك ستبقين هنا وستحضرين المصارعة هذا العصر
-تألق شعرها وتماوج وي تهز رأسها بعنف وتقول:
-كلا كلا. لايمكنك ان ترغمني على حضورها، لايمكنك!
-بل استطيع وانت ستكونين هناك وتحضرينها حتى النهاية! ستكونين جالسة في مقصورة الرئس، مع المتعهد دييغو كورتيس وزوجته عندما انحني امام الجمهور وبعد ذلك اكون قتلت الثور. سوف تنتظرين هذا العصر حتى انهي مهمتي وبعد ذلك نذهب معا لنعقد زواجنا امام رجل الدين تغلبت دهشتها على خوفها وغضبها فرددت بهمسة مبحوحة:
-نعقد زواجنا؟
-اجل. ما كان في نيتي ان اعرض عليك الزواج بهذه الطريقة امام حشد من المتفرجين لكنك ارغمتني على كشف اوراقي بتصرفك السخيف العنيد. الا صرت على علم بما اريدك ان تكونيه. اريدك ا ن تكوني زوجتي في السراء والضراء. وفي الصحة والمرض. لايمكنك حنما ان تجدي في ذلك شيئا منافيا للاخلاق؟
بدأ عدد من معارفه يهتفون ويصفقون له مشجعين، فحدجهم بنظرة غاضبة ، ثم قال بسرعة:
-هيا لنخرج من هنا.
حثها على التقدم ويده ما تزال تقبض على ذراعها فشعرت كأنها لعبة يديرها محرك دمى قوي اليدين، وسارت معه مسلوبة الارادة لفرط الدهشة المسيطرة عليها.
خرجا من المطعم فتلقفتها حرارة الشمس الساطعة. اجتازا الساحة امام مبنى المطعم واتجها الى باب يؤدي الى مبان داخلية تحت المدرج.
دفعها امامه عبر الباب الشرع حتى وقفا امام باب اخر دقه خوان بقبضتيه فجعلها الصوت تفيق من ذهولها، فحاولت ثانية ان تنزع ذراعها وحين اخفقت قالت مغمغمة:
-انت مجنون. لابد انك كذلك لترغب في الزواج من امرأة تعرفت اليها منذ ثلاثة ايام فقط..
اجابها بنظرة متهكمة:
-لست مجنونا انما اقدر على اتخاذ القرارات الحاسمة عند الاضطرار، لاني من النوع الذي يعرف مايريد ويدرك قيمة هذا الشيء عندما يراه.
يمكنك القول ان تجاربي مع النساء الاخريات تساعدني الى حد ما .
سمع صوتا يدعوه الى الدخول فأدار مقبض الباب وفتحه بقوة ثم دفعها بخشونة امامه الى غرفة مكتب فسيحة رأت فيها شخصين ، رجل مسترخ وراء طاولة مكتبية كبيرة، وامرأة تجلس على اريكة. هب الرجل واقفا وهتف:
- خوان! مالذي اخرك بحق السماء؟
كان عريض الكتفين معتدل الطول، شعره الاسود الكث والاجعد بدا يشيب عند الفودين، وعيناه السوداوان صغيرتين وثاقبتين تحت جفنين مغمضين. كان يرتدي بزة رمادية خفيفة، قميصا ابيض، ربطة عنق سوداء انيقة ويقبض بأسنانه على سيكار طويل غليظ فيبدو نموذجا لرجال الاعمال الكولومبيين ، تابع يخاطب خوان بقوله:
-انسيت ان استعراض المصارعين يبدا في خلال عشر دقائق، وانك ما تزال في ثيابك العادية؟
-جئت بأقصى سرعة ممكنة. هل قمت بالترتيبات اللازمة بشأني؟
فأجابت المرأة عنه:
-اجل ، اتممنا الترتيبات.
نهضت عن الأريكة وتقدمت منهم . كانت طويلة متناسقة القوام ، تلبس رداء جميلاً من حرير القز ، لونه أحمر داكن ، وخيل الى سوريل انها ترى شيئاً مألوفاً في عينيها الرماديتين وهي تنظر اليها من تحت حاجبيها المقوسين بجمال . مدت لها يداً نحيلو و قالت مبتسمة :
-انا اوهينيا كورتيس وهذا زوجي ، دييغو . خوان حدثنا عنك يا سوريل، هل لفظت اسمك لفظاً صحيحاً ؟ اننا نرحب بجلوسك معنا في المقصورة.
ثم نظرت الى خوان بمحبة و قالت له برقة :
-لا تقلق يا صديقي ، سوف نعتني جيداً بعروسك العتيدة .
حنى رأسه وقبلها على وجنتيها قائلاً:
-شكراً لك . كنت واثقاً من استطاعتي الاعتماد عليك .
فبادلته عناقه وغمغمت :
-اذهب في رعاية الله.
ثم استدارت الى سوريل التي كانت تقف مشدوهة فهزتها من ذراعها وقالت تحثها:
-هيا ، عانقيه و امنحيه بركة دعائك . الا تدركين انه سيخاطر بحياته هذا العصر ؟
لا جدوى من الرفض أو الممانعة أمام هذين الزوجين ، وفي اي حال ، لا تريد أن ترفض لأنها الآن ، وقد اصبحت على وشك أن تفارق خوان، لا تريد إلاّ أن تتعلق به وتناشده عدم دخول الحلبة اطلاقاً . تقدمت منه وأحاطت عنقه بيديها ثم همست وهي تقرب رأسه من وجهها :
-احترس ، أرجوك .
قبلته على خده لكنه سرعان ما احتواها بين ذراعيه معانقا اياها ، ثم ابعدها عنه بقوة وخرج مغادراً الغرفة . كانت ساقاها ترتعشان وأنفاسها تتلاحق فتمسكت بظهر المقعد لتثبت نفسها . عادت اوهينيا تمشي متهادية الى حيث الأريكة لتجلس عليها باسترخاء رشيق . كان دييغو قد غادر الغرفة في اعقاب خوان وهو يحثه على الاستعجال ، وبقيت المرأتان بمفردهما. قالت اوهينيا :
-اذن سوف تتزوجين ابن اخي ، مع انني لم اسمع باسمك الاّ يوم امس. هتفت سوريل :
-ابن اخيك ؟
شعرت فجأة بحرج بالغ وتمنت لو أنها ترتدي لباساً اكثر اناقة من تنورتها الغجرية الصيفية وبلورتها القطنية البسيطة . اجابتها اوهينيا باستغراب واضح :
-اجل . ألم يخبرك ذلك ؟ أنا الشقيقة الصغرى لرودريغو رينالدا ، والد خوان . تعالي ، اجلسي الى جانبي و اخبريني اين التقيت خوان . ان قراره المفاجئ بالزواج منك هذا المساء لهو قرار مثير ورومانسي جداً

لكنه ينسجم تماماً مع تقاليد مصارعة الثيران ، فزواج المصارع كثيراً ما يتم بسرعة ، ويعقد احياناً ، وللأسف في مستشفى في لحظات احتضاره .
لحظت الرعدة السريعة التي انتابت سوريل على الرغم منها ، فلمست ذراعها مواسية و قالت :
-سامحيني ، ماكان يجب أن أذكر ذلك .
وفكرت سوريل في نفسها ، إذا روت لأوهينيا كل شيء فلربما تفهمت وضعها وكيف أنه يستحيل عليها أن تبقى و تتزوج خوان ، ولربما ساعدتها ايضاً على العودة الى ميدلين فسألتها :
-متى حدثك خوان بأمري .؟
-جاء مساء امس الى كوبايا ليزورنا و ليطلب الينا أن نقوم بالترتيبات لاجراء زواج سريع بعد انتهاء المصارعة . لكني كنت سمعت عنك قبل ذلك ، من ابنة اخي انيز ، حين قامت بزيارتي وهي في طريقها الى بوغوتا . كانت مفعمة بالشيطنة كعادتها ، وأخبرتني كيف بعثت تستدعي خوان بقولها ان هناك اميرة انكليزية جميلة ذات شعر أحمر رائع قد جاءت لزيارته . كانت مهتمة جداً بوصولك المفاجئ الى المزرعة و الذي تزامن مع ساعة رحيلها فاعتقدت ان خوان قد دعاك الى المزرعة لتعيشي معه كرفيقة . هل فعل ؟
فردت سوريل متعلثمة :
-كلا ، أنا ... أنا قصدته لأطلب مساعدته في انقاذ زواج ... زواج مونيكا انهل.
وهنا رأت التعجب يغضن وجه اوهينيا ذا التقاسيم الاسبانية الدقيقة ، فاندفعت على الفور تروي لها قصة التقائها بخوان في مركز التزلج وكل ما نتج عن ذلك اللقاء من ملابسات . وهتفت اوهينيا لما انتهت :
-الهذا السبب وحده ، قطعت كل تلك المسافة من ميدلين الى المزرعة ، بمفردك ؟ انت و الله فتاة متهورة ! الم يحذرك أحد من الخطر الذي قد تتعرض له شابة مثلك في مناطق الريف النائية ؟ كان من المحتمل أن تصابي بمكروه .
فأجابت سوريل شامخة الأنف :
-لم أتعرض لأي مكروه ، على الاقل ، قبل ان احاول الهرب من منزل ابن شقيقك .
-وماذا حصل وقتها ؟
-حاول أن يمنعني . وأخيراً ، حين تمكنت من الخروج ، لحق بي وأصر على أن ابيت الليل في منزله .
فقالت اوهينيا بحماسة :
-حسناً فعل . يسرني أن اسمع ذلك . لقد تصرف بما هو صواب .
-صواب ؟ وهل من صواب أن يحتجز ثيابي و يقفل عليّ باب غرفة النوم ؟
برقت العينان الرماديتان المركزتان عليها و قالت صاحبتهما :
-كان يفكر فقط في حمايتك .
فأضافت سوريل بصوت اجش :
-وهذا الصباح ... حاول أن ...
-من البديهي أن يحاول خوان ذلك ، فأنت ، حتى في هذه التنورة الرهيبة و البلوزة العادية ، فتاة نادرة الجمال ، كزهرة اوركيديا حمراء ، وخوان يحمل تقديراً عظيماً لكل الجمالات النادرة .
ثم تابعت تسألها بجدية تامة :
-هل تضايقت من بادرته ؟
غطت سوريل خديها الملتهبين بيديها واعترفت قائلة بارتباك :
-انا ... انا ... لا ، لم أتضايق . لكن من الخطأ أن نفعل ذلك اذ لا يمكنني التنازل عن مبادئي لأجاريه في مطالبه . اننا بالكاد نعرف بعضنا بعضاً.
ردت اوهينيا قائلة :
-هذه المعرفة تتوطد عادة بعد الزواج و ليس قبله .
-هناك فوارق عديدة بيننا . فكلانا نشأ بطريقة مختلفة ، كذلك وجهات نظرنا تختلف عن بعضنا تجاه امور عديدة .
-اتظنين ان هذا شيء نادر الحدوث ؟ ثقي انه ليس كذلك ، فدائماً هناك أناس من مجتمعات و أوطان مختلفة ، يتزوجون بعضهم بعضاً. الفوارق قد تكون عاملاً ايجابياً ومثيراً في الحياة الزوجية ، كما أن الحب كفيل بالتغلب عليها .
وهنا نهضت واقفة وأردفت :
-هيا ، لقد حان موعد ذهابنا الى المقصورة كي نشهد استعراض المصارعين .
فقالت سوريل بعناد :
-لن اذهب . لا استطيع مشاهدة مصارعة كهذه . لا استطيع ! سأصاب بغثيان ان فعلت .
-لكن يجب أن تكوني جالسة في المقصورة . خوان سيتوقع أن يراك هناك ، هيا بنا ، هذا وقت يحتاج فيه الى وجودك ، وعليك أن تقدمي مصلحته على مصلحتك .
فاحتجت سوريل قائلة :
-وماذا سيعنيه الأمر سواء كنت هناك أم لم اكن ؟
في تلك اللحظة فتح الباب ، ودخل دييغو يقول ونظرته الثاقبة تروح جيئة وذهاباً بين سوريل وزوجته :
-هل انتما مستعدتان لمشاهدة الاستعراض ؟
ثم اقفل الباب وأردف سائلاً :
-مالخطب ؟
اجابته زوجته بامتعاض :
-انها ترفض مشاهدة المصارعة . تقول ان ذلك سيصيبها بالغثيان . افهمها أنت يا دييغو . افهمها لماذا يجب أن تكون هناك . لماذا لا يجب أن تخذل خوان في هذا اليوم بالذات .
هتفت سوريل تبرئ نفسها :
-كلا ، أنا لا أخذله .
فقال دييغو :
-بل ستصيبه خيبة قوية . اوهينيا ، اسبقينا الى المقصورة فضيوفنا الآخرون قد حضروا.
فتح الباب لزوجته ولما اغلقه بعد خروجها ، ارتكز عليه ثم عقد ذراعيه على صدره وراح يحدق الى سوريل . وفي الأخير قال بصوت اجش من كثربة التدخين :
-يبدو واضحاً يا سنيوريتا انك لا تعرفين الاّ القليل عن مصارعة الثيران وعن الرجال الذين يشتركون فيها . هل تعلمين كيف نشأت هذه الرياضة عندنا ؟
فهزت رأسها نفياً وهي تشعر كما لو انها تستمع الى عظة اخلاقية من مدير مدرسة صارم لكونها اهملت واجباتها المدرسية . وتابع دييغو يقول بتمهل :
-نشأت منذ القدم بسبب حاجة الانسان الى اصطياد الغذاء ، منذ أن كان الرجال البدائيون يطاردون الثيران البرية ويذبحونها في العراء ليقتاتو بلحومها . آه ، يبدو انك بدأت الآن تهتمين بالموضوع.
كانت قد توقفت عن التحديق في يديها ورفعت رأسها لتصغي اليه عن قرب . لكنها ردت محتجة :

-ما كان يمارسه الناس من رياضة وحشية في القرن الحادي عشر لا علاقة له بالقرن العشرين . انه مشهد محط للكرامة ليس الاّ.
-اذن انت تعتقدين فعلاً اننا اكثر تمدناً في هذا العصر ؟
هز رأسه يمنة ويسرة وتابع حديثه :
-لا ، لا اعتقد اننا كذلك ، فالطبيعة البشرية لا تتغير كثيراً على مر العصور ، ومايزال الرجل يتجاوب مع التحدي الذي تمثله الوحوش البرية ، ويجب أن يمتحن شجاعته امام سطوة الحيوانات الكاسرة ... مع حلول القرن الثامن عشر ، تعاظمت أهمية ذلك الخادم الذي كان يحمل حياته على كفيه ويتقدم ليستجلب الثور بواسطة وشاح أحمر يهزه امامه في مناورات خداعية . وهكذا اصبح هو بطل هذه الرياضة وليس الفارس على ظهر الجواد . و شيئاً فشيئاً أصبحت المصارعة تعتبر تأدية دراماتيكية ، وحيث تمكن المقارنة بين مهارة وفن المصارعين و بين مهارة وفن الممثلين المسرحيين.
توقف لينظر الى ساعته وأردف قائلاً:
-الوقت لا يتسع لمزيد من الشرح واكتفي الآن بالقول ان المصارع انسان مزاجي كأي فنان لامع آخر فهو يلعب مع الموت نفسه ، وأية حركة خاطئة أو غلطة صغيرة من جانبه كفيلة بالقضاء عليه من قبل الثور المنتصر . هذا ما حصل في تأدية خوان الأخيرة . فقبل أن يدخل الحلبة ، حدث شيء لا يمكنني البوح به ، شيء ضيّع عليه تركيزه الى حد جعله يرتكب غلطة بسيطة ويتيح للثور بأن يصرعه . اليوم ، لا أريده أن يفقد تركيزه بأي شكل . فهو ان رفع بصره الى المقصورة في الجولة الأولى ولم يرك فيها ، سوف يتساءل عن مكانك وقد يشتت ذهنه ويصاب بأذى خطير . اتريدين أن يحدث له ذلك ؟
هزت رأسها ببطء و قالت بصوت كسير :
-لا أريده أن يتأذى ابداً ، كما لاأريده أن يصارع بعد اليوم .
قال دييغو :
-قد يتوقف عن المصارعة بعد الزواج . والده تقاعد عنها لكي يتزوج . لكن خوان مدين لنفسه ولمعجبيه بمصارعة واحدة فقط كي يستطيع الانسحاب بكرامة ، وليطهر اسمه من وصمة الجبن . والآن ، هيا بنا يا عزيزتي . انا واثق من استعدادك لمساعدته على بلوغ هدفه بوجودك في المقصورة ، وأعدك بأن الأمر لن يكون سيئاً كما تظنين . بوسعك أن تغطي عينيك اذا استحال عليك أن تتابعي المشاهدة .
فكرت سوريل بالندبة على وجنة خوان ، ثم تذكرت صورة الثور وهو يقذفه في الفضاء ، وتذكرت قول جوفيتا انه كاد يموت آنذاك . لا مفر لها من كبت نفورها الخاص من هذه الرياضة ، وحضور مصارعة خوان الأخيرة ... نهضت واقفة و قالت وهي تمسد تنورتها المشوشة :
-سأمشط شعري قليلاً ثم أذهب معك . ليتني ارتدي ثياباً غير هذه لكن ليس لدي سواها .
فابتسم لها دييغو و قال بشهامة و تهذيب :
-تبدين رائعة كما انت . كنت اعلم أنك ستراعين مشاعر خوان متى أدركت ماقد يتعرض له .
لدى وصولهما نهاية الممر ارتقيا درجاً خشبياً يؤدي الى مقصورة تشبه صندوقاً كبيراً ، مزينة بالاعلام و الزهور ، وتقع في وسط مقاعد المدرج المحيطة بدائرة كبيرة من الرمال الزاهية . كان الاستعراض قد إبتدأ ، وحشود الناس تهتف بصخب مغرقة صوت الفرقة الصغيرة المكونة من طبول وزمارات وأبواق . كانت تعزف لحناً حماسياً وهي تتقدم غارزي الرماح و الحراب ، ومهتهم تعذيب الثيران في الجولة الأولى . وخلفهم مر المصارعون وهم يرتدون اللباس المقصب ويردون على هتافات الجماهير بتلويح قبعاتهم المثلثة الزوايا . وحين مروا من أمام المقصورة ، رأت سوريل بوضوح تام النظرة المتألقة التي صوبها اليها خوان من عينيه الرماديتين قبل أن ينحني لها .
لم تزح بصرها وهو يتهادى حول الحلبة ، ملقياً عباءته الحمراء على كتفه ، ويسير مختالاً في حركات رشيقة من ردفيه وكتفيه تشكل جزءاً لا يتجزأ من دوره كمصارع ، وهكذا ، بالكاد استوعبت أسماء الضيوف الآخرين في المقصورة حين عرفتها اوهينيا اليهم .
ثم انحنت اوهينيا صوبها و قالت هامسة :
-هل ادركت الآن اهمية وجودك في المقصورة ؟ عظيم . بعد انتهاء المصارعة سآخذك الى بيتي واختار لك ثوباً مناسباً للزفاف بدل هذا الذي ترتدينه .
ثم ضغطت على يدها بمحبة وأردفت :
-لا تقلقي يا حبيبتي ، سأنوب ، أنا و دييغو ، عن وجود والديك أثناء الزفاف.
يبدو الأمر و كأنهم ينتزعون مقود حياتها من يديها ... فكرت سوريل وهي تجلس واجمة على مقعدها ، وتسمع هدير الهتافات حين هجم ثور اسود راكضاً الى الحلبة وهو يلبط بقائمتيه الخلفيتين وينظر هائجاً حوله.
غطت عينيها بيد واحدة كي لا ترى الحراب تغرز في الثور ، وتساءلت عن الشيء الذي حدث لخوان في مصارعته الأخيرة وجعله يضيع تركيزه .
شعرت بارتياح لأن دييغو كورتيس ، وبرغم ضيق الوقت ، شرح لها السبب الموجب لوجودها في المقصورة لدى تطلع خوان اليها . كل ذلك لم يحببها اكثر الى هذه الرياضة ، لكن بعد مافهمت شيئاً عن تاريخها وتتطورها أصبح بامكانها ان تحترم وتقدر الرجال المصارعين اكثر بكثير عن السابق . ومع تلاحق المشاهد المثيرة على الحلبة المتألقة في وهج الشمس ، ومع ازدياد هياج الثور لحظة اثر لحظة ، بدأت تراقب بانتباه على الرغم منها ، وتشعر بتوتر يتنامى في داخلها ، وما أن ابتدأت الجولة الأخيرة حتى وجدت نفسها تجلس على حافة مقعدها كسائر الناس حولها ، وعيناها لا تفارقان المصارع الثالث ذا القوام المتين الخفيف الحركة ، الذي كان يهز عباءته الحمراء الزاهية بحركات رشيقة متعددة ليحث الثور على مهاجمته ، وينتحي جانباً في الدقائق الأخيرة فقط ، فيمزق الثور ، بقرنيه عباءة الرجل القريبة جداً من جسمه. وكلما تكررت الهجمات و تقارب الالتصاق كلما علت هتافات الجماهير ودوّت في الفضاء .
وشيئاً فشيئاً بدأ الثور الصغير يستسلم للتعب وحيث قلت هجماته وازدادت شجاعة الرجل . كان يلف عباءته حول احدى ذراعيه لحمايتها ، ويمتشق سيفاً بيده الأخرى ، وهو يتقدم ببطء شديد من الحيوان اللاهث المتعرق والذي دل رأسه المخفوض على انهيار قواه . وهنا صمت المتفرجون وحبسوا أنفاسهم رهبة وتوقعاً . جلست سوريل يتوتر ، تقلص يديها على فمها وكل اعصابها ترتجف خوفاً ، ليس على الثور ، انما على الرجل الذي يترصده .
-احمه يا الهي من كل اذى ! احمه من كل اذى .
راحت تكرر الدعاء بدون أن تعي وجود جيرانها في المقصورة أو ماقد يصدر عنهم من انتقاد . وفجأة هجم الثور . هبت سوريل واقفة على قدميها كمئات الناس حولها وقد تملكها اقتناع بانها سترى جسم خوان ينقذف في الفضاء ليسقط على الرمل ويدوسه الثور بحوافره ، لكنها دهشت اذ رأته مايزال واقفاً على قدميه ، ثم استدار بسرعة ليواجه الثور الذي هجم عليه من جديد فيما كان المتفرجون يلوحون بمناديل تعبيراً عن اعجابهم . بعد ذلك جاءت النهاية بسرعة وغطت سوريل عينيها . تراخت على مقعدها وهي تشعر بغثيان يحل مكان التوتر . ثم رأت


جميع جيرانها في المقصورة يقفون ويصفقون فوقفت في الوقت المناسب لترى خوان يقترب منهم وينحني كما تقضي تقاليد المصارعة .
ثم ناولتها اوهينيا باقة من الأوركيديا الحمراء وقالت تحثها :
-هيا ، اقذفي بها اليه . انها بادرة تظهر له حبك وستفرح الجمهور كثيراً.
فانحنت على حاجز المقصورة وقذفت بالباقة الى تحت حيث سقطت عند قدمي خوان . التقطها ولثمها ثم انحنى لسوريل من جديد . وهنا عبر المشاهدون عن استحسانهم بهتافات مدوية وراحوا يمطرون خوان بباقات الزهور دلالة على اعجابهم الكامل بتأديته الشجاعة ذلك النهار . وفي الوقت نفسه اقتحم المقصورة عدد من المعجبين المتحمسين كي يهنئوا دييغو كورتيس على تقديمه مصارعة رائعة . ساد هرج ومرج فوعت سوريل أن اوهينيا قد نسيت امرها مؤقتاً ، وبالتالي زودتها بفرصة ذهبية للهرب .
هبطت الدرج بسرعة وهرولت راكظة على الممر والى مكتب دييغو.
استرجعت حقيبتها وفي بضع ثوان كانت تغادر المدرج مع حشد من المعجبين المنفعلين . سارت بينهم الى الردب الضيقة وقررت أن تبقى معهم كي تهتدي بواسطتهم الى ساحة البلدة حيث تجد سيارة اجرة تقلها الى المطار .
سارع رجل الى مساعدتها بعطف وتفهم فمشى معها ليدلها على الشارع المخصص لوقوف السيارت لكن سائق التاكسي البدين ذا الشاربين الكبيرين لم يظهر لها أي عطف وبدا مصمماً على سلوك أظول طريق امكنه سلوكه الى المطار . جلست على حافة المقعد الخلفي متوترة الأعصاب تضرب اخماساً في أسداس ، اذ خشيت الاّ تجد ظائرة تقلع في هذا الوقت الى ميدلين ، أو أن تكون الطائرة قد أقلعت وسوف تضطر بالتالي الى الانتظار بضع ساعات حتى تقلع اخرى . خنقها الحر لعدم وجود مكيف هواء في السيارة و النافذة المفتوحة لم تخفف منه شيئاً.
في الأخير ، أصبحت البيوت أكثر تباعداً عن بعضها البعض وبدأت الطريق تلتف بمحاذاة النهر العريض المحفوف بالأشجار . ثم استطاعت أن ترى سواري المطار اللاسلكية . وأخيراً انعطف التاكسي على الطريق المؤدي الى مبنى المطار . رفعت الحقيبة وفتحت سحابها لتخرج حقيبة يدها المحتوية مالاً كي تدفع اجرة السائق . أخرجتها وراحت اصابعها تبحث عن ملمس المحفظة الجلدية في داخلها ، انما عبثاً. فتحت الحقيبة على اتساعها ودققت النظر في محتوياتها فلم تجد أثراً للمحفظة . أذهلها هذا الاكتشاف فجلست مصعوقة فيما كان التاكسي يخفف سرعته ويتوقف امام مبنى المطار.
أخرجت يدها ببطء وأقفلت السحاب . ثم رطبت شفتيها الجافتين ونظرت الى السائق ... لا تستطيع التوجه الى اي مكان من دون مال .
ليس امامها الاّ أن تطلب اليه ارجاعها الى المدرج على أمل ان تجد خوان هناك ويدفع الأجرة عنها . لكن العودة تعني استسلامها لخوان ، وهذه النتيجة واضحة كعين الشمس .
وقال الرجل محتداً :
-سنيوريتا . لقد وصلنا المطار . ادفعي لي من فضلك .
فبدأت تقول :
-اود ذلك لكنني فقدت محفظتي المحتوية كل ما لدي من مال .
ثم أجفلت حين بدأ يوجه اليها سباباً ورأته يفتح بابه بعصبية مهدداً باستدعاء البوليس . هتفت بصوت يائس :
-ارجوك لا تستدعي البوليس . ارجعني الى المدرج ، حيث تقام مصارعات الثيران . اني اعرف شخصاً هناك ، وهو سيدفع لك اجرتك.
عاد يجلس على مقعده وسألها بنظرة ضيقة مرتابة :
-ما اسمه ؟
-خوان رينالدا .
بدا الاسم مجهولاً لديه فأردفت مفسرة :
-الشجاع ، مصارع الثيران .
رد باحتقار :
-ها ! أنت صديقة الشجاع ؟ اتتوقعين مني أن اصدق هذا الكلام ؟
وانخرط في سيل آخر من الشتائم ، ناعتاً اياها بالكذب و اللصوصية ولكن لحسن الحظ ضاعت غالبية عباراته القاسية في ضجيج طائرة مقلعة وربما الطائرة نفسها التي كان من الجائز أن تسافر بها .
و فجأة ، مرت بهما سيارة فارهة وتوقفت أمامهما مباشرة . انفتح احد البابين الخلفيين ، وهبط منها رجل يرتدي قميصاً قرمزياً وبنطلوناً أسود. فقذفت سوريل نفسها على مقعد التاكسي الخلفي وصرخت وهي تخرج رأسها من النافذة :
-خوان ، خوان ! انا هنا !
كان يهم بدخول المبنى لكنه توقف ناظراً خلفه ثم تقدم صوب التاكسي . حدجها بنظرة قاسية متأججة وفتح الباب آمراً اياها بقوله :
-اخرجي.
وعلى الفور قفز سائق التاكسي من مقعده وهرول الى خوان يؤشر بيديه غاضباً وبدأ يشرح له القصة . توقف فجأة وبحلقت عيناه ثم غمرت الابتسامات وجهه وهو يمد يده لخوان ويربت على كتفه بحب واعجاب.
قال له خوان شيئاً ثم أخرج من جيبه مالاً ونقده اياه . فقال السائق مبتهجاً وهو يدس المال في جيبه :
-الف شكر يا سنيور .
ثم التفت الى سوريل وأردف :
-اعتذر سنيوريتا عما حدث بيننا من سوء تفاهم .
وحالما انطلق بسيارته بدأت سوريل تسير في اتجاه المبنى لكن سرعان ما قبض خوان على ذراعها وأرغمها بخشونة على مواجهته . قال من بين اسنانه :
-لن تسافري . ستأتين معي .
رفعت بصرها اليه فطالعها وجهه المقنه بقسوة ورأت في حدقتيه بريقاً غريباً جعلها تنكمش داخلياً وتحسب الف حساب لعواقب ذلك الغضب الرهيب . قال تتوسله :
-ارجوك يا خوان . يجب أن أرجع الى مونيكا ... اذا ... اذا دفعت عني ثمن البطاقة .
اجاب بصرامة :
-لقد اقلعت الطائرة قبل قليل .
شدد قبضته على ذراعها وبدأ يدفعها صوب سيارة الليموزين حيث رأت سائقاً في لباس رسمي يجلس بصبر وتهذيب . فقالت بالحاح وهي تحاول التملص منه :
-سوف انتظر الطائرة التالية .
فأجابها وهو يفتح الباب الخلفي :
-سنزور آل انهل بعد زواجنا . أعدك بذلك . اما الآن ، فاصعدي امامي .
-كلا ! دعني اذهب ، ارجوك . الا ترى أن زواجنا سيفشل ؟ اننا مختلفان جداً عن بعضنا وغير متكافئين .
قال بوقاحة :
-اخرسي ! لا تدعيني اضربك على قفاك على مرأى من الناس ، ولا تظنني للحظة انني اهددك جزافاً !
توسلته بنظرة أخيرة يائسة ثم صدقته . صعدت السيارة كالسلحفاة ، وحالما جلس الى جانبها انطلق السائق عائداً بهما الى كوبايا .

Đọc tiếp

Bạn Cũng Sẽ Thích

126K 2.6K 11
الاحلام كالغيوم تتجمع في وديان القلب منها ماتدفعه رياح الايام بعيدا... فينسى ويمحى من الذاكرة ومنها مايمطر قطرات سعيدة فيتفتح زهر الحب . احلام آلين...
78.5K 1.5K 11
الملخص : كانت سارة متلهفة كي تستلم ميراثها ... كروم مزدهرة في وسط منطقة زراعة العنب في نيوزلندا . ولكن الرجل الذي كان يشرف على الأملاك ، لم يكن على ا...
353K 30.1K 13
في عالمٍ يملأهُ الزيف غيمةً صحراويةً حُبلى تلدُ رويدًا رويدًا و على قلقٍ تحتَ قمرٍ دمويْ ، ذئبا بشريًا ضخم قيلَ أنهُ سَيُحيى ملعونًا يفترسُ كلُ منْ ح...
133K 2K 16
عزيزتى: لقد كنا على خطأ وأعتقد أنه من الأفضل أن ننهى علاقتنا عند هذا الحد ونطوى الصفحة دون أن نحاول رؤية كلينا للآخر أنا أسف على الألم الذى سببته لك...