باقة الأوركيديا

5.8K 136 7
                                    

قاد بانشو الشاحنة على الدرب المنحدر وانعطف على الطريق العام محدثاً زعيقاً رهيباً في الدواليب ، وهو يسوق بسرعته المعتادة المجنونة ويكلم خوان بانفعال حول المصارعة الوشيكة . كانت سوريل تجلس كعمود بين الرجلين ، تحدق الى الطريق أمامها وذهنها منشغل بمشكلة اخرى ، كيف ستخرج من المصيدة الجديدة التي أوقعها فيها خوان رينالدا ؟ استمر بانشو يثرثر ويسأل و يعلق لكن خوان اكتفى بالاجابة على كل ذلك بهمهمات لم تشف غليله جعلاه يكف عن الكلام و ينتقل الى الصفير . استرقت سوريل نظرة جانبية الى خوان فوجدته ملقياً رأسه على ظهر المقعد ومغطياً عينيه بطرف قبعته العريضة وكأنه نائم . قفزت بهم الشاحنة قليلاً حين اصطدمت بنتوء على الطريق فلعقت سوريل شفتيها الجافتيها وأحست غثياناً في معدتها ، وهنا تذكرت أنا ما اكلت ولا شربت شيئاً ذلك الصباح .
في شارع ايبارا الرئيسي و الوحيد ، رأت نساء هنديات يرتدين تنانير طويلة وعباءات مخططة ، وقبعات مائلة عريضة الأطراف عالية التيجان ، ويحملن على أذرعهن سلالاً وهن يصعدن الباص المهترئ الشكل الذي استقلته يوم امس من مانيسالاس .
وفجأة قفزت الى ذهن سوريل خاطرة جديدة ، فمالت صوب بانشو وهمست له :
-هل لك أن تقف هنا وتدعني انزل ؟
فرمقها بنظرة جانبية مرتابة ، ولما عاد ينظر الى الطريق اطلق شتمية حارة وهو يدير المقود بعنف ليتحاشى دعس ولد كان قد اندفع من بيته راكضاً الى الطريق . هذه الحركة جعلت الشاحنة تتمايل بقوة و تطرح سوريل على خوان الذي هب جالساً ثم دفعها عنه وسأل بحدة :
-ماذا حدث ؟
فأجابه بانشو بفيض من اللغة الاسبانية الرشيقة ووضع كل اللوم على سوريل . ثم انطلقت الشاحنة من جديد تقعقع على الحصى و الحفر ، واصبحت ايبارا خلفهم .وسألها خوان بالانكليزية كيلا يفهم بانشو حديثهما :
-لِمَ اردت الترجل من الشاحنة ؟
-اشعر بالجوع و العطش وبشيء من الغثيان .
عادت الى جلستها المتشنجة السابقة وهي تحس تعاسة شديدة من جراء فشل خطتها الصغيرة للهرب الى مانيسالاس بواسطة الباص ، والحق الأكبر على بانشو الذي يدين بكل ولائه لسيده ، مثل جوفيتا تماماً . وأجابها خوان :
-ستأكلين عندما نصل كوبايا . يوجد مطعم في مركز المصارعة . أنا ايضاً لم اتناول فطوري اذ انشغلنا بشيء آخر الهانا عن الطعام ، ان كنت تتذكرين.
-لن اذهب الى المدرج . لا اريد ان اشاهد مصارعة ثيران .
-اذن لماذا تركبين هذه الشاحنة المهدمة .
-حسبت أن بانشو سيوصلني الى كوبايا حيث يمكنني السفر الى ميدلين . لم أدرِ انك ستأتي ايضاً. ظنت انك تخليت نهائياً عن احتراف المصارعة.
-تخليت عنها لفترة . لكن مؤخراً ، بدأت اتضايق من الآراء القائلة بأني فقدت شجاعتي بعد تلك المصارعة الأخيرة ، وهكذا ، عندما جاءني متعهد المصارعات المحلية وطلب الي ان اصارع في افتتاح مهرجان كوبايا وافقت على طلبه ، فهذه فرصتي لأثبت اثباتاً قاطعاً بأني لست جباناً.
كان يتكلم بمرارة ثم اطلق ضحكة قصيرة متهكمةوتابع يقول :
-خلال العامين المنصرمين بدأت نسبة الحضور تحف في حلبة كوبايا . لم تعد هناك اثارات ومنافسات عنيفة تشبع نهم المعجبين الجائعين الى الاثارة . لكن اليوم سيكون هناك جمهور كبير يتعطش الى رؤية "الشجاع" يعود الى الحلبة . هؤلاء الناس سيأملون الى حد ما ، أن يروا بطلهم يتمزق كما تمزق في مصارعته الأخيرة في مانيسالاس قبل عامين تقريباً.
-اوه ، كلا !
انطلقت هذه الصرخة من عمق قلبها فتوقف بانشو عن الصفير والتفت اليها منجفلاً ثم سمعته يسأل عما حصل . أجابه الآخر مهدئاً من روعه فعاد الشاب الى صفيره المرح . اندفعت تسأل خوان بلهفة وقد نسيت للحظة همومها الخاصة :
-أأنت مصمم على المصارعة ؟
استدار نحوها متعجباً وقال هازئاً:
-لا تقولي انك قلقة بالفعل .
-اجل ، انا كذلك .
فالتوى فمه باحتقار وأجاب :
-قلقة على الثور بالطبع .
-لا ، قلقة عليك انت . فقد ... فقد يخرق لحمك ثانية ويفترسك المرض كما حدث في المرة الأخيرة.
هز كتفيه وأشاح عنها ينظر الى يمينه من فتحة النافذة ثم تمتم بلا اكتراث :
-وماذا يهم ؟ ان ذلك جزء من اللعبة ، فالثور يفوز احياناً.
فهتفت بحماسة ولهفة :
-لكن ... لكن جوفيتا قالت انك كدت تموت آنذاك . اوه ، ارجوك يا خوان ألاّ تدخل الحلبة هذا اليوم .
فأجاب بصوت بارد وقاسٍ:
-البرنامج قد تقرر ولا بد لي من الاشتراك.
-من الجائز أن تقتل .
استدار اليها ليحدجها بنظرة ضيقة مزدرية وهمس بهزء :
-اذن يجب ان تفرحي.
-كيف يمكنك ان ترضى بذلك ؟ كيف تسمح لنفسك بأن تُستغل في ما لايعدو كونه خدعة اعلانية لتحميس عدد اكبر من الناس على شراء التذاكر ؟ كيف يمكنك ان تدخل الحلبة وتتعمد اغراء الثور على ان ينطحك ويمزق لحمك ؟ كيف تقدر أن تعرض نفسك لهذا الخطر يا خوان ؟
وعلى حين غرة ، فاضت الدموع في عينيها ، وراحت تنتحب وهي لا تدري أن سبب بكائها هو عدم احتمالها فكرة تعرضه للأذى أو للموت بحد ذاته . ومن خلال دموعها الغائمة رأته يحدق اليها بعينين متسعتين من شدة الحيرة ، فأدركت للمرة الثانية كم هما متباعدان في مواقفهما ووجهات نظرهما . ثم رفع يده وبلمسة لطيفة من رأس اصبعه ، مسح دمعة تدحرجت على خدها ، وقال برقة :
-احتفظي بدموعك لتبكي على الثور اليوم عصراً ، اذ سيحتاجها حتماً.
خفض يده مشيحاً عنها بسرعة ثم سألها وهو ينظر خارج النافذة :
-لِمَ أردت الذهاب الى ميدلين ؟
-لأخبر مونيكا أنني فشلت في مهمتي وعجزت عن اقناعك بمقابلة رامون لتفهمه انكما بريئان من تلك العلاقة . لقد وعدتها بأن اعود اليوم لرؤيتها.
-وأين ستذهبين بعد ذلك ؟ هل سترجعين الى انكلترا ؟
-ربما . لست ادري.
أسندت ظهرها الى المقعد تمسح خديها المبللين بأصابعها وتتساءل عن سبب بكائها عليه . لماذا هذا الشعور والقوي لديها ، تجاه أي شيء يفعله ، أو فعله سابقاً ؟ لماذا يؤثر على عواطفها بطريقة لم يؤثر بها عليها اي انسان من قبل ، بطريقة تدفعها الى فعل وقول اشياء غريبة تماماً عن طبيعتها ؟

روايات احلام / مصارع الثيرانOn viuen les histories. Descobreix ara