- هل تريدين مني أن آخذكِ للمشفى ؟
سألها حالَمَا صعدت سيارته
أجابت ببرود : لا داعٍ لهذا
وضعت في راحةِ كفِّه ورقة صغيرة
- خذني إلى هذا العنوان.
- ألَم تخبريني أنكِ مريضة ؟!
- تحجَّجْتُ بالمرض لأخرج من المدرسة
بانت الصدمة على وجه أخيها.
- كُنتِ تكذبين ؟!
- أجل.
صاح بها بغضب : أخرجْتِني من الجامعة في وقتٍ مبكِّر لأصطحبكِ من المدرسة و في النهاية كانت خدعة ! هل جُنِنْتِ ريتا ؟
صاحت هِيَ الأخرى : لا تصرخ في وجهي كأنني طفلة
زاد علوُّ صوته : لماذا كذبتِ ؟
ريتا بانهيار : لديَّ أسبابي.
بعد لحظاتٍ من الهدوء السائد.
- وأنا قد أتيتُ حالاً ظنّاً مني أنكِ حقاً مريضة.
لفت انتباهها السخرية الظاهرة في نبرته
جاهدت لِتُعِيد لِصَوْتها طبيعته ، لكنه خرج من حنجرتها مصحوباً بنبرةٍ حزينة.
- ألَم تَكُن تريد مساعدتي ؟
- أساعدكِ لماذا ؟!
- لأنني طلبتُ منك ، هذه أولُ مرة )':
تذمَّر بضجر : ما الذي تريدينه اﻵن ؟ ، و لِمَن هذا العنوان ؟
- فقط خذني إليه .. بسرعة
" يجب أن أصل سريعاً ، بالتأكيد سيتفاجأ بي ،
لكنّ المهم أنني سأطمئنُّ على حالِه ، لمَ أشعرُ أن الوقت صار بطيئاً !؟ "
بأعصابٍ مشدودة كانت تحدِّق من النافذة و تتنهَّد كلّما مرّ بعض الوقت
ولم تستمع لأخاها الذي بات يحدِّثها طول الطريق في مواضيع تافهة كما تظنُّها هِيَ.
- ألَم نصل بَعْد ! .. هل أضعت الطريق ؟
سألت فجأة باستغراب و تكاد دموع اليأس تطغى عليها
إلتفت نحوها بشيءٍ من الفضول
- ألَن تخبريني ما قصّةُ هذا العنوان ؟ .. و لماذا ستذهبين له في هذا الوقت ..
" عاود التركيز أمامه و أكمل ببرود "
كما أنها المرةُ الأولى التي تخرجين فيها من المدرسة مبكِّرة .. و بكذبة.
- سأخبرك لاحقاً
فَهِمَ أنها لن تجيب على سؤاله اﻵن ، لذا قرَّر الصمت
و في قرارةِ نفسه مُتَيقِّنٌ أنه سيكتشف الأمر فيما بَعْد.
- توقَّف ! .. هذا هو !
فاجأتهُ صرختها لِيَلْتفت و يرى منزلاً صغيراً ذا لونٍ أبيض كُتِبَ عنده الرقم الذي في الورقة ، أوقف سيارته أمامه فنزلت مُسْرِعة
- هل ستتأخَّرين ؟
- لا أعلم ، إنتظرني.
خَطَت نحو المنزل فيما اقترب هو من مقعدها و جذَبَ الباب لِيُغْلقه
- كان عليها إغلاق الباب قبل ذهابها ، تلك الحمقاء !
تمتم بسخطٍ عليها.
أخرج هاتفه و بدأ يعبث به إلى حين عودتها.
¡¡¡¡¡¡¡
طرقت الباب بتردُّد والبرودة تعصفُ بأطرافها من شدةِ توتُّرها
" أرجوك ساعدني يا رب ، أشعر باﻹغماء "
تجمَّدت عندما فُتِحَ الباب و ظهر من خلفه رجلاً كبيراً شعرهُ أسود تخالطه بعض الخصيلات البيضاء ، يبدو في بداية سنّ الأربعين
ملامحه جميلة تُسِرُّ الناظر إليها ، عيناهُ تحملان كمّاً هائلاً من لمحةِ البراءة.
ذُهِلَت ريتا من مظهره. " يشبهه !.. لا أصدِّق !.. ماذا أفعل ؟ "
لاحظ توسُّع عينيها فسألها بريبة
: تفضلي ! .. ماذا تريدين ؟
ريتا بارتباك : لا شيء..أقصد..لا أدري..كُنتُ أبحث عن شخص
- لحظة، لم أفهم !
قاطعها بابتسامة لطيفة.
إختنق صوتها ولم تَعُد قادرة على النطق
" يا إلـهي ، لا تبتسم أرجوك ، أين أنت يا جاد ؟
أنـ-ــقذني "
ألقت بنظراتها للأسفل و وجهها مُحْمَرٌّ تماماً
- هذا.. منزل نيار ؟
- أجل ، هل تعرفينه ؟
- نعم ، نحنُ..أصدقاء.
دُهِشَ الرجل و صاح بلا تصديق
- أصدقاء !! .. أنتِ صديقةُ ابني !؟
ريتا بصدمة : هاا ؟ ابنك !
" والده ؟ مستحيل. "
- تفضلي بالدخول ، أهلاً بكِ.
- شكراً.
- إنه في الحديقة ، من هناك.
أشار إلى بابٍ أسود اللون ، تقدَّمت إليه عبر الممر
وهي تشعر بنظراته الغريبة تتفحَّصها بحرصٍ شديد
تملَّكها الخوف لكنها تصرَّفت بهدوء
" إنهما حقاً متشابهان ، لا أصدِّقُ أنه والده ، ملامحه لطيفة جداً ولا تتناسب مع عمره ، نسخة مطابقة ، مثله تماماً ، لكنَّ أباهُ أجمل "
همست : كيف أمكنني قول هذا الكلام ؟ .. فيمَ أفكِّرُ أنا !!
صمتت عندما لمحت طيفاً ما في الحديقة ، إلتفتت لتجدهُ يقف أمام مشتلٍ صغير يسقي الورد باهتمامٍ بالغ
إقتربت منه فلاحظت انشغاله ، بدا لها أنه شارد الذهن ، فهو لم ينتبه لوجودها ولم يسمع خطوات أقدامها حتى.
إقتربت أكثر لتلاحظ حزناً غريباً في وجهه
ريتا : نيار .. مرحباً.
لم يصدِّق أبداً ما سمعه ، إلتفت و رءآها تقف بجواره
من صدمته أسقط وعاء الرَّي الذي كان يحمله بيديه
أمَّا هي شهقت بقوة و غطَّت فمها من الرعب
أحد جانِبَيْ وجهه مُغَطَّى بضمادة بيضاء كبيرة ، من طرف جبينه إلى منتصف خدِّه ، معصمهُ الأيسر مُغَطَّى بضمادة ، و قدمه اليسرى كذلك.
- مـ ما.. ما هذا !؟
- ريتا ؟ كيف أتيتِ ؟! لماذا ؟ ما الأمر ؟
دمعت عيناها من مظهره الذي يُرثَى له
- أتيتُ لأطمئنَّ عليك ، علمتُ بشأن الحادث المروري ،
و عرفتُ أنك تأذَّيت كثيراً ، لم أستطع اﻹنتظار فتغيُّبك أخافني عليك
- حقاً ؟ . سألها بصدمة.
ريتا : أجل ، أتعلم ؟ .. بقيتُ خلال هذه الأيام أنتظرك طول الصباح ، ظننتُ أنك ستتأخَّر فقط ، كان الجميع يعلم بما حدث عداي أنا ، حتى أنهم لم يفكِّروا في التحدث عنك رغم أنك دوماً تكون حديث الفتيات ، عرفتُ أنك لستَ بخير و لأنني لم أحتمل اﻹنتظار قررتُ أن أزورك اﻵن لِأُزِيح الرعب الذي احتلَّ قلبي ، كم أشكرك يا إلـهي لأنك حفظته ولم يُصَب بمكروه.
فتحت عينيها لتراهُ يقف مبهوتاً يحدِّق بها ، خَجِلَت من نفسها واستوعبت حديثها.
- المعذرة ، لم أنتبه لنفسي و أنا أثرثر بكثرة
- لا ، لا عليكِ ، أنا سعيدٌ لمجيئِك
" يا إلـهي كم هو لطيف ، لا أدري كيف يُتْقِنُ رسم ابتسامةٍ جذابة "
أشارت بأُنْمُلَتِها نحو خدِّه و أطراف جسده المضمَّدة
- كيف حصل بك هذا ؟
- في الحقيقة .. كُنتُ قد ذهبتُ لشراءِ حاجيَّات المنزل ، و عندما خرجتُ من أحد المتاجر ، عبرتُ الطريق و في تلك اللحظة ظهرت شاحنة من العدم واصطدمت بي ، و ألقت بي على منتصف الطريق ، وكما تَرَيْن فقط أطرافي اليساريَّة قد تأذَّت.
- أرى ذلك . كانت تنظر بألم مما حدث
" مهلاً ! ، أشعر أن هناك خطأً ما بي ! "
نظرت إلى نفسها ، للتو لاحظت أنها جاءت بزيّ المدرسة
وأيضاً نَسِيَت شيئاً مهمّاً كان عليها فعله قبل المجيء إلى هنا
- عذراً منك ، أتيتُ هكذا بسرعة خالية اليدين.
- لا بأس ، زيارتكِ وحدها تكفي.
تلفَّتت في أرجاء المنزل الذي كان يعمُّهُ الهدوء الغريب
- أين أفرادُ أسرتك ؟ .. لم أرى أحداً منهم.
- إخوتي جميعهم في المدرسة ، و أمي خرجت في زيارة لأحد الجيران ، لا يوجد سواي أنا و أبي.
عدَّل وضعيَّة وعاء الرَّي و هِيَ تحدِّق به و تراقب تصرُّفاته
" يا للمسكين ، تشوَّه وجهه ، لكنه يبقى وسيماً في عينَيْ "
أومأت برأسها مؤكِّدة على أفكارها.
عاد يسقي الورد ثانيةً و بالهُ مشغولٌ في أمرٍ ما
سأل بتردُّد و وجنتيه تحمرَّانِ خجلاً
- ريتا.. هل.. قَلِقْتِ عليَّ عندما تغيَّبتُ عن المدرسة ؟
- أجل.
- إذاً .. خَشِيتِ أن أُصَاب بأذى ؟
- صحيح ، و خِفْتُ عليك أكثر اﻵن.
تفاجأ من إجابتها ، كيف تجرَّأت للإجابة بهذه الطريقة !
إلتفت لها ببطء ليراها تتمعَّن بالضمادةِ البيضاء التي في وجهه ، كأنها شاردة ولا تعي ما حولها.
" هل كانت تجيبني بكامل وعيها !؟ "
تساءل باستغراب !
بلا مقدِّمات..تفاجأ بيدها تمتدُّ نحوه و تمسك بخدِّه
- هل تؤلمك ؟ . سألته بعفوية و لُطْف.
أجاب بارتباك : بصراحة.. لا .
تلاقت نظراتها بعينيه الخجولة ، إنتبهت لما تفعله فأبعدت يدها كالملسوعة ، تراجعت عدة خطواتٍ للخلف.
- أنا..يجب أن أذهب..شقيقي ينتظرني في الخارج
إستدارت لِتُخْفي ملامحها عن ناظِرَيْه
- إنتظري
وصل إليها و نكس رأسه خجلاً
- أرجو..أن..
أغلق عينيه و مدَّ كفَّيْه نحوها ، تعلَّقت مقلتها بوردةٍ حمراء صغيرة ، قطفها لها من المشتل الذي كان يسقيه.
- هذا..لي !
أومأ لها بصمت ، أخذت الوردة و بريقُ اﻹعجاب يُشِعُّ من عينيها
" يا لجمالها ! "
إبتسمت له و لوَّحت بيدها مودِّعة
- أشكركِ لزيارتك.
- هذا واجبي ، و أيضاً لا شكر بين الأصدقاء.
دخلت للمنزل من الباب الأسود تاركةً إياه في صدمة من كلماتها الأخيرة.
كانت تشتَمُّ رائحة الوردة عندما أرعبها ذلك الرجل بظهوره المفاجئ ، خبَّأتها خلفها كيلا يلاحظها.
- ماذا ؟
- هل سترحلين ؟
- أجل !
- أنتِ حقاً صديقته ؟
- صحيح ، ماذا في الأمر ؟
- جميع من زاروه قالوا أنهم زملاؤه ، عداكِ أنتِ قُلتِ أنكِ صديقته.
- قلتُ هذا و لكنني أُعْتَبرُ كالبقية !
ظهرت عليه ابتسامةٌ غريبة
- لا تبدين كالبقية و في يدكِ وردة من المشتل الذي لدينا.
شعرت بالصدمة تُجَمِّدها . " كيف استطاع رؤيتها !؟ "
¡¡¡¡¡¡¡
صعدت السيارة فتذمَّر أخاها كعادته.
- تأخَّرتِ أكثر من اللازم ، ما الذي كُنتِ تفعلينه
في ذلك المنزل ؟ و لمن ذهبتِ من الأساس ؟
صمت و هو يشاهدها شاردة الذهن و تحدِّق بالوردة
و تبتسم.
- أووهـ من أين لكِ هذه ؟
- لا شأن لك.
- سأخبر أمي عنها XD
- لا يهم ، هيا تحرَّك (=
" أشعر اﻵن بالراحة و السعادة ، فـ نيار بخير
و سيتحسَّن قريباً ، الشعورُ بالرضا جميلٌ جداً ،
كما أننا أصبحنا صديقين مقرَّبَيْن في مدةٍ قصيرة ،
أنا لستُ نادمة على خروجي من المدرسة. "
" إنتهى "