Themis | ثيميس

By reroevol

508 15 0

يُقَال إنَّ سيِّدة العدالة ثيميس هِي امرأة فضلًا عَن رَجل كون قلب المرأة أرحَم مِن خاصة الرَّجل، وكونها مَعصُ... More

إهداء
مُقدِمة
الفصلُ الأول 🦢 ليلةٌ ضبابِية
الفصلُ الثاني 🦢 مُواساة
الفصلُ الثالث 🦢 انتِكاسة
الفصلُ الرابع 🦢 القرار
الفصلُ الخامِس 🦢 امرأة
الفصلُ السابع 🦢 توليب
الفصلُ الثامن 🦢 احتِراق
الفصلُ التاسِع 🦢 لَيلة مُلبَّدة بِالتَّعبِ
الفصلُ العاشِر 🦢 دَقائِق مِن الانسِجَامِ
الفصلُ الحادِي عَشر 🦢 زيارة الذكريات
الفصلُ الثاني عَشر 🦢 القَضِيَّة الأولَى
الفصلُ الثالث عشر 🦢 بَاكُورَة الحُبِّ
الفصلُ الرابِع عَشر 🦢 مَحمَلِ الحُبِّ

الفصلُ السادس 🦢 طمسُ الحقيقة

19 1 0
By reroevol

أصبحتُ مِثل صَبّارٍ حزينٍ لا يبكي
لأنَّهُ يُدرك أنه لو بَكي مِئة عَام
لن يَحتضنهُ أحَد...

_ محمود درويش _                                    

•••

لماذا قد يقومُ أحدهم بطمسِ حقيقة؟ لِم يُحمِل نفسه ما لا طاقة له به؟ لِم عليه أَنْ يَقُومَ بِحفْرِ حُفرة عَميقة في مكان مهجور في قلبه ويدفن هٰذه الحقيقة هناك، مُتلويًا من شِدَّة الألمِ الذي يجلبه لنفسه كتلوي المُحترق بالنِّيران، ثمَّ يقوم بإخفاء مسرح جريمته بِكل ما أُوتي من نفاق وكذب؟ رُبما لن يلاحظها البعض لٰكنك ستفني عمرك كاظمًا على قلبكَ المسكين، ستخشى الاقتراب من تلك المناطق أو حتَّى استحضار أسمائها، ترتجف كالسمك الذي يخرج من مائه، ترتعبُ كُلّ الرعب أن تمسَّ تلك المناطق حتَّى ولو دون قصد وكأن أرواحًا شريرة ستكون هناك بانتظاركَ بفارغ المقصلة.

ببساطة تموت وأنت حيٌّ تتنفس الهواء كالسم.

لٰكن لا بد للحقائق جميعها كبيرةً كانت أم صغيرةً أن تستيقظ من رقودها وتُدافع عن نفسها وأصحابها بإقدام وعزيمة، مُحنية رأس كل من حاول ومن قام بسلبها صوتها وقمعه، مهما كانت الحفرة غائرة في أعماق أرض الخوف ومهما تصرفت باحترافية مُبهرة سيكون لكلِّ هٰذا أجل، سيكون لكلِّ شيء نهاية، جميلًا كان أم شنيع!

•••

في وقت الظهيرة...

وجدَ آرلــو نفسهُ في مكانٍ غريب وأشخاص غُرباء، مُتَّخذًا مسؤوليَّةً ضخمةً لم يسبِق له تجربتها و لم يحلم قط بتحمُّلها، دراسـتهُ للمحاماة كانت لِمُجاراة عائلته فقط لاغير، كحال الكثيرين الذين درسوا تخصُّصًا مُعينًا لٰكنهم يعملون بتخصُّص آخر تمامًا ولا يمت له بِصلة من قريب أو بعيد.

عَليهِ أَن يَحلَّ محل أخيـه الرَّاحل، ينظرُ إلى نفسه يجلسُ على كرسي كارل في مكتبه بعد أن أخبره والده أنَّ من الأفضل أن يستقرَ في غرفة كارل، فهي واسعةٌ وأنيقةٌ وستفي بالغرض، وبإمكانه إجراء أيِّ تعديل عليها حَسَبَ ذوقِه وراحته.

هل عَليهِ أن يُغير شَخصيته لتتلاءم مع عمله الجديد؟ هل ستتغيرُ من تلقاء نفسها؟ أستنزوي تلك الشَّخصية المرحة والشَّقية في زاويةٍ ما، مُكتئبة، عازفة عن الحياة؟ هل سيكونُ على قدرٍ كافٍ من المسؤوليَّة؟ هل يومًا ما سيقومُ بالثَّوران والعِصْيان في وجه الجميع؟

وبينما تَتتابعُ الأسئلةُ والأفكارُ في عقله...

جاءَ صوتُها الهادئ وهي تقول بعد صمتٍ دام لأكثر من عشرين دقيقة:

- أظنُّ أنَّ هٰذا القدر يكفي اليوم، إنَّه يومكَ الأوَّل بالنِّهاية، ومعرفة كيف ستجري الأمور بيننا كافٍ.

سلبهُ صوتها من شُروده لينظر إليها تجلسُ على أريكةٍ سوداء اللون كحالِ عَينيـها، عُيون دَعجاء يعلوها إكليل من الأهدابِ الكثيفة، تقومُ بترتيب بعض الملفات التي تتعلق ببعض القضايا التي تعمل عليها حاليًا.

أومأ لها قبل أن يستندَ بظهره على الكرسي، جاعلًا من تنهيدة تخرج منه هناك، بقي ينظرُ لها وبداخله ما زالت الأسئلة تتكاثر، لذا؛ بتوجُّس ألقى كلماته في الأرجاء:

- أنا لم أمارس المُحاماة من قبل، أنا حتَّى لا أُحبُّها. كيف سيحدث كل هٰذا؟

بَقِيت تتفرَّس ملامحه تُحاول أن تفهمه لا أن تقرأه وحَسب كـكتاب مفتُوح، فالقراءةُ وحدها لا تكفي لفهم المقصود، على المرء أن يقرأ ويفهم وإلّا قِراءتك ذهبت أدراج الرِّيح.

بعد دقيقة ألقت سؤالها عليه:

- هل تشعرُ أنَّـكَ مُجبرٌ على العمل؟

فكرَ لوهلة بالأمر، لماذا حدثَ كل هٰذا؟ لَم يُجبره أحد!! لِم إذًا؟!

- لا أدري!

أجابها بِشرود في الفراغ، ثمَّ أضاف مُكملًا:

- أشعرُ بالغرابة وكأنَّ البارحة فقط كُنت في فيتنام مع رفاقي نلهو ونمرح ونلتقط الصور، ونتشارك الأطعمة، وعندما خَيَّم اللَّيل ونمنا.... بووم... أرى نفسي هنا... وكأنَّ الأيَّام السابقة التي عشتها مع والداي في المنزل لم أعشها قط وكأنَّني في... كابوس ما!

صمت لِثانية قبل أن ينسحبَ من شرودِه ويلتفت لينظر أليها ويسأل بريبة:

- هل هٰذا طبيعِي أم أنَّ أعراضَ الخَرَفِ بدأت تظهرُ علي؟

تَفهَّمت وضعه جيدًا، هي حذِقة في معرفة الكذبِ من الحقيقة وفي تَفهُّم مواقف الآخرين، رُبَّما أعراضٌ جانبيَّة للمحاماة... ورُبَّما أعراضٌ جانبيَّة لنوازل الحياة!!

بثقة وهدوء يُناسِبانها وقفت مِن مكانها تقتربُ لتجلس في أحد الكراسي الجانبيَّة للطاولة التي يجلسُ عليها بينما تُخبره مُرسلة حمام الطمأنينة إلى شُرفة أفكاره السوداء:

- بالتأكيد إنَّه طبيعي. أستطيعُ تفهم شعورك فكلّ شيء حدثَ بسرعة مُتلفة للأعصاب.. كلُّ شيء يحدث لأسباب ستدركها لاحقًا، لٰكنك الآن تبدأ مرحلة جديدة في حياتك، وبإمكانك وحدك جعلها مرحلة لن أقول جميلة ولٰكن مُثمرة، مُنضِجة وتعلمك دروسًا ستكونُ بأمس الحاجة لها في المستقبل أو مرحلة عفنة، رديئة، لن تقدمَ لك شيئًا سوى وليمة مِن أطباق الندم والغضب وكره للذات وكـتحلية بالطبع بعض الأمراضِ النفسية.

ارتفعَ جانبٌ بسيط من ثغره مُظهرًا ابتسامة إثر جملتها الأخيرة، أعجبهُ هُدوئها ورَصانتها في الحديث مِن جانب وأزعجهُ من جانب آخر حيث فكَّرَ أنَّ جديتها المفرطة ليس بالشيء الذي يُطاق.

- إذًا علي أن أشرعَ في العمل رغم انعدام رغبتي به؟

سألها يُريد أن يعرفَ رأيها في الأمر، يُريدُ أن يستمع لرأي غير رأي والداه، كيف يستقبل الآخرون مثل هٰذه الأمور الُمزلزلة؟

- لا تقلق، سأعملُ على أن تكونَ الأيَّام الأولى سهلة وبعيدة كلّ البعد عن التعقيد لٰكن لا أعدك بهٰذا بعدها فالعمل كثير ومُرهِق ونعم علينا الشُّروع في العمل والاستمرار في العمل والانتهاء من العمل حتَّى والرغبة مُنطفئة.

شددت على كلمة 'نعم' هناك، ابتسمت بِصدق وهي تُردف بتهكم وسخرية:

- سيقوم العُملاء بعمل انقلاب ضدك إذا تجاهلتهم ولو لمرة، ويا ويلاه من غضبهم، ستشعرُ أنَّك تعيش توم وجيري في الحياة الواقعية.

ضِحْكَة خَافِتة خَرجَت مِنْه وقد اِسْتأْنس بِشَكل مَا بِهَا وبحديثهَا . الإنْسان عِنْدمَا يَشعُر بِوجود شَخْص آخر معه فِي طَريقِه بِطريقة مَا يُصْبِح القلق أقلَّ مِمَّا سيشْعر بِه لَو وجد نَفسَه وَحدَه. عِندما نرى أنَّ الآخرين أيضًا يمرُّون بِنفس مَا نَمُر بِه بِالطَّبع لَن يَجعل الجزع يختفي ولٰكنه سيقِل بِدون أيِّ شك.

تخيَّل أنَّك أنت الوحيد الذي تُعاني من مُشكلة صحِّية، وحدك في قسم من المشفى دون غيرك، تنظرُ حواليك فضاءٌ واسع لا بشر، كيف سيكون شعورك حينها؟ لن يكون بالشيء المُريح بتاتًا.
بينما لو وجدت آخرين أيضًا لديهم نفس المُشكلة، ستشعرُ بألم أقل حتَّى لو لم تلاحظ ذٰلك، وجود شخص يُشاطِرنا الوجع نعمة لا نُدركها في الغالب. تخيَّل! رؤية الآخرين يمرُّون بِمحنة كمحنتك ليس جالبًا للسعادة بكل يقين لٰكنه يُشعرك بالانتماء بِدون شك.
الانتماء لماذا؟ رُبما للجِنس البشري بشكل عام كي لا تشعر بأنَّك البطَّة السوداء، رُبما للشَّخص نفسه من يدري؟!

بقي مُستندًا على الكرسي، يُرسل لها شعاعًا عذبًا من النظرات الدافئة بينما هي تقوم باستقباله. تنهد مُبتسمًا ثمَّ قرر أن يرمي بسؤاله:

- ظنَّنتُ أنَّك لا تعترفين بشيء اسمه مُزاح، غريب!!
هل تمزحين عادةً أم أنَّكِ جدية طوال الوقت؟

لم تختفِ ابتسامتها ولم تتغير ملامحها لٰكنه يكاد يُقسم أن شيئًا ما تغير فيها، أجابته بنبرة يجتاحها البرود شيئًا فشيء:

- نعم أنا جدِّية طوال الوقت، لا مجالَ للمزاح ليس لأنَّني لا أعترف به لٰكن لا وقت متفرغ لدي لأعطيه إيَّاه.

بالتَّأكيد دون أن يشعر غابت شمس ابتسامته وبقي ينظر لها رافعًا حاجبيه بتفاجُؤ، تقدم مُقتربًا منها مُستندًا بذراعيه على الطاولة بينما نطق مدهوشًا بنبرة درامية:

- ألهٰذه الدرجة العمل كثيف؟! يا إلٰهي!! ما الذي ورطتُ نفسي به؟

ضحكة حقيقية كان مَصدرها ألينا جعلتهُ بتلقائية يبتسم دون أن يشعر بنفسه.

- إنَّه كثيفٌ نعم لٰكنك تقضي حياتك بِشكل طبيعي كـسائر البشر لِنقل أنَّ هٰذا الشيء مرتبط بي أنا كشخص كألينا العادية وليس كالمحامية.

أخبرتهُ بعد ضحكها والابتسامة لا تُفارقُها، ليفكر في الأمر وفيها قليلًا قبل أن يقرر التحدث:

- ولٰكني أهوى الُمزاح والمرح كثيرًا، هل بإستطاعتك تحملي؟

هل بإستطاعتها تحمل مزاح شخص؟ كم هٰذا مُضحك!! لقد تحملت الكثير هل ستأتي مزحة لتقوم بزعزعة صلابتها؟!

- إنَّها فقط فترة قصيرة سنرى فيها بعضنا البعض بكثرة بعدها ستكون مُنهمكًا في الأشغال والأعمال والاجتماعات والدعوات. أنا بإستطاعتي تحملك لٰكن أنت هل ستستطيع تحمل العمل الجاد بجدِّية معي؟

أخبرتهُ بثقة خاتمةً بسؤال بينما تضع ساقًا فوق الأخرى، لماذا يُعجبه الوضع؟ ابتسامة جانبية ظهرت على محياه قبل أن يُخاطبها بِنبرة لينة:

- سنرى هٰذا.

بقي شاردًا فيها لثوانٍ ثمَّ بِصوته الرجولي الهادئ قام بتهنئتها وعينيه تبتسمان:

- كُل عام وأنت بخير أيَّتُها المُحامية. ألينا روڤر.

لم تُبادله الابتسامة بل فضلت بقاء الجدية على تقاسيمها، أومأت تشكره بكلمات مُقتضبة:

- شكرًا لك.

لم يفهم ما الذي يحدث مع هٰذه الأنثى!! في العادة النساء يبتسمن عندما يُهنئهن أحد ولٰكنها لم تفعل، لٰكن النساء في الأغلب يرتحن بجانبه ويُسهِبن في الحديث، يمزح فيضحكن ويمرح فيرافقنه في مرحه، لِم هي هٰكذا مُتحفظة؟!

قررَ وبكلِّ ثقة أن يُنهي الحديث معها، فأراحَ جسده على الكُرسي بينما هو الآخر يُظهر الجدية على ملامحه قبل أن يتنحنح ويخبرها ببرود:

- حسنًا أنتِ مُحقة رُبما هٰذا يكفي لليوم كما أنَّه لديّ موعد وعليَّ الذهاب باكرًا.

أومأت بعينيها بينما يراها تقومُ لتجلب الملفات التي تركتها على طاولة مستطيلة زجاجية حول الأرائك وتُخبره قبل أن تُغادر:

- هناك العديدُ من الكُتب التي عليك مُراجعتها لتذكر الأمور الضرورية، يوجدُ هناك لدى كارل مجموعة هائلة منها.

أشارت بيدها على مكتبة ضخمة برفوف مليئة بالكتب بجانبه فأكملت:

- إذا وجدت مُتسعًا من الوقت اليوم سيكون من الجيد أن تبدأ بقراءة أحدهم من الذين قرأتهم في السابق لتنشيط الذاكرة.

لَم تُمهله حتَّى ليجيب أو يُومئ فانسحبت من الغرفة تاركةً إيَّاه في مزاج غريب. اقترب من الطاولة مُجددًا واضعًا رأسه عليها ثمَّ أطلق تنهيدة طويلة هناك. رفعَ رأسه يمرر كفه على وجهه ويقوم بفرك عينه بينما يلقي نظرة حوله، يُريدُ أن يصرخ!

' هٰذا ليس مكاني '. كلُّ ما كان يُردده في عقله. يريدُ أن يرمي كلّ هٰذه الكتب ويطرحها أرضًا ليفرغ هٰذه المشاعر التي تجتاحه حاليًا. ثم يُريدُ أن يبكي حتَّى يفنى البكاء حتَّى يفنى هٰذا الكابوس المُخيف الذي سلبهُ وما زال يسلبه أحلامه وحياته السابقة، يشعرُ بالغربة التي لم يُجربها من قبل. كان دائم التجوال والترحال ولٰكنه وبالرغم من ذٰلك لم يشعر بها في أيِّ مكان ذهبَ إليه، لِم يشعرُ بها الآن؟ فكَّر أنَّه رُبما تسرع وما كان قراره إلّا ضربٌ من الحماقة والتسرع كبعض قراراته التي لم ولن يندم عليها لٰكن هٰذا القرار...

- آاااااه.

خرجت بصوته العاجز. يشعرُ بالخمولِ والكسل عن القيام بأيِّ شيء، يرغب بالعودة للمنزل والارتماء في سريره دون أن يحل الصباح، دون يومٍ جديد، دون أيامٍ جديدة، لطالما أحبَّ الجديد لٰكنه الآن نقمته وكارثته. يَحدث أن نكره أشياء كُنا نعشقها ونُقدِّسها، يحدث أن تُعطيك الحياة صفعة مِن نوع آخر مِن طراز فاخر من النَّوع والطراز الذي تُفضلهُ أنت ثمَّ تأتي لتقول لك بكلِّ خبث ' أليس هٰذا ما قلت إنَّك تُحبُّه؟! '

* * *

الرابعة والنصف مساءً
لِم طمسُ الحقائق يا بريانكا؟!

بعد أن هرب من الشركة ووحوشها الأربعة التي تُحاصره من كل جانب جاعلةً من التنفس بِراحة عملية عسيرة، راحَ يتمشى لبعض الوقت في شوارع لنـدن المُزدحمة بعد أن تناول الطعام وتحدَّث مع والدته التي ما انفكت تتصل به تطمئن عليه، كان عليه الذهاب إلى الوجهة الوحيدة التي تعرف ما جرى، بريانـكا. لذا؛ قامَ بشراء باقة ورد لها أيضًا بجانب والدته، لم تكن معه سيارته فهو ذهبَ مع والده إلى الشركة بسيارة الآخر، لذا؛ قامَ بطلب سيارة وتوجه لمنزلها.

عِند وصوله تقدم من المنزل ببطء، تجاوز الباب الخارجي فالحديقة قبل أن يقف مُقابل باب البيت ليقرع الجرس، لم يلبث ينتظر حتَّى سمع وقع أقدام تتقدم نحوه، فُتح الباب وظهرت خلفه امرأة، أدرك أنَّها تعمل في البيت لذا؛ بنبل حياها:

- مرحبًا أنا صديق بريانكا آرلو.

- نعم. نعم، لقد أخبرتني بقدومك تفضل.

حال دخوله رافقته لغرفة المعيشة وطلبت منهُ الانتظار قليلًا، بعد دقيقة ظهرت بريانكا وتقدمت منه ليلتفت مُنتبهًا لقدومها، وقف من مكانه وتقدم خطوات بسيطة يفتح ذراعيه ليلتقطها ويحضنها، قامت بمبادلته الحضن بينما تحدثت هناك:

- آرلو... اشتقت إليك.

- وأنا أيضًا.

أخبرها بنبرة تعِبة قبل أن يبتعد ويمسك بيديها ليسحبها للجلوس على الأريكة.

- كيف تشعرين؟ هل أنت بخير؟

سألها مُتفحصًا إياها وآثار الجروح ما زالت واضحة ومنثورة على أجزاء وجهها وجسدها، نظرت لعينيه بخاصتها الزبرجدية ثمَّ علقت:

- أنا بخير... أنا على قيد الحياة بينما كارل...

انتحبت بخفوت وسقطت دموع من مقلتيها جعلت منه يقوم بمسحها بيديه، أخبرها بصوت أخرجه ثابتًا رغم تزعزعه:

- بريانكا أرجوك لا تفعلي مثل والدتي وتنزوي في الزاوية لتعيشي ألمك بمفردك، بإمكانك مُشاركتي حزنك إن أردت أنا هنا بجانبك دائمًا.

رفعت رأسها بعد أن كانت مُطرقة لتنظر له وعينيها تترقرق بالدموع ثمَّ أومأت له بالإيجاب. سألت:

- لم تسنح لي الفرصة للقدوم والاطمئنان على أُمي ماريندة، كيف هي؟ هل أفضل؟

أومأ لها وأجاب مُطمئنًا:

- إنَّها تتحسن مع الوقت ومعنا، تَشارُكنا للوجع يقلله، وهي بالتَّأكيد تنتظرك للقدوم بأيِّ وقت فالمنزل منزلك وأنت ستظلي واحدة من العائلة.

ابتسمت إثر كلماته التي لامستها فهم حتَّى مع غيابه لكارل يُعاملونها كابنتهم... كحبيبة كارل التي كان يُخطط للزواج منها لٰكن القدر شاء أن تنتهي قصتهما قبل أن تبدأ.

- أتشرب الشاي أم القهوة؟

سألته مُدركة أنَّها لم تقدم له شيئًا فأجاب:

-أظنُّ الشاي سيكون جيدًا.

أومأت وذهبت للمطبخ رُبما، اختفت من المكان لدقائق قبل أن ترجع حاملةً صينية فيها كأسين من الشاي، قدمت له أحدهم وأخذت الآخر. شكرها آرلو ليقوم برشف الشاي ويُبادلها الحوار عن أحوالها وأعمالها وبادلته هي الحديث بسؤالها عن مُغامراته التي لا تنتهي انتهاءً بعمله في الشركة.

- ماذاا؟؟!

هتفت بغير تصديق حال سماعها بالخبر قبل أن تستكمل:

- هل حقًا أنت ستقوم بالعمل كمحامٍ؟

دحرجَ عيناه ينظرُ حواليه ثم أجاب بصوت مُتملل:

- للأسف نعم أناا.

بقيت عينيها مُتسعتان وهي تحدق فيه بينما تسأل:

- وكيف كان يومك الأول؟

- كارثة!! أقسم أنَّها كارثة بشرية يجب أن يُسجلها التاريخ كأبشع وأشنع جرائم التعذيب على الإطلاق. لقد كنت أقول ' أنا رجلٌ بالجنون يعيش وعليه يموت ' ، أظنُّني الآن فككت شيفرة اللغز سوف أموت مجنونًا بسبب المُحاماة.

أخبرها بدرامية ومبالغة بصوته المُتذمر وهو يحرك يده في الهواء ثم أردف:

- إنَّه الجحيم بريانكا. إنَّه الجحيم.

كانت هي صامتة ومُستمعة لما يقوله، لا تفهم كيف من الممكن أنَّ رجلًا بروح طفل كآرلو يستلم مسؤوليَّة ضخمة كهٰذه! هو بلغ الثلاثين هٰذا العام لٰكنه لم يتغير بالرغم من ذٰلك! روحه لم تشيب بعد. وضعت كأسها الفارغ على الطاولة ثم قالت:

- ليس من الصعب تخمين هٰذا فأنت كارهٌ لأعمال والدك وأخيك ولا تطيق حديث الأعمال الخاص بهم.

- والآن أصبحتُ في فوهة المدفع، ماذا علي أن أفعل لأنجو بريشي؟

صمت لثانية قام بتحريك رأسه يمينًا بسرعة مُدركًا كلمات جملته، قبل أن يعود للنظر لها ويقول مُتهكمًا:

- لا أصدق! أتكلم عن نفسي كدجاجة يريدون شويها!

ضحكت ضحكة مكتومة وهي تنظر لحاله، إنَّ مخزون التفاهة لدى هٰذا الرجل يُوزع على العالم بأسره ومع ذٰلك لن يُصبح شخصًا جديًا.

- أتعلم ماذا يُمكنك أن تفعل؟

سألت مُتظاهرة بالجدية بينما هو يرفع رأسه بحركة بسيطة توحي ب' ماذا' .

- التصرف على سجيتك، أؤكد لك أنَّهم سيصابون بالجنون ثمَّ يقومون بتقديم الشكوى لوالدك وحينها سيرى أنَّه من المناسب جدًا عدم عملك في هٰذا المنصب.

لم تستطع كبح ضحكاتها التي صدحت في المكان أمّا هو فكان ينظر لها جامدًا لا شيء واضحٌ عليه ثمَّ أخبرها ببلاهة:

- مُحقة، إنها خطة عبقرية. كيف لم أفكر بها قبلًا؟

توقفت عن الضحك تستمع له وتنظر لملامحه وقد بدا عليه الجدية فقررت أن تُحذره بهدوء:

- آرلو إيّاك. لا تفكر بهٰذا على الإطلاق، أنا فقط كنت أمزح معك، لا يمكنك القيام بهٰذا تعلم، أليس كذٰلك؟

- ولِم لا؟

سألها رافعًا كتفيه بسخرية فألجمته بإجابتها التي كانت منطقية للغاية:

- لأنَّ هٰذا العمل ليس بمزحة، عليكَ أن تُسكت صوت الطفل المُتذمر واللعوب ومُحاولة الاستماع للرجل الراشد وإلّا وقعت في مصائب الخروج منها ليس كدخولها صدقني.

ظلَّ صامتًا يستمع لها ويدرك حقيقة كلماتها، إنَّه ليس بشيء يُمزح بشأنه. أردفت تُكمل بنبرة باردة :

- كما أشك في أن يغير والدك قراره فهو على ما يبدو مُصرٌّ على توليك للمنصب. لا فائدة من تخريب سمعة الشركة خصوصًا... بعد وفاة كارل.

هنا اقتربت منه قليلًا لتضع يدها في يده وتنصحه بكل محبة:

- أدرك أنَّك تنبذ مثل هٰذه الأعمال إلّا أنَّ الشركة آخر ما تحتاجه الآن أن يتم تشويه صورتها وهي من أهم الشركات يا آرلو.
أظنُّ... أنَّ عليك التحامل والصبر إنَّه الخيار الأصوب للجميع، رُبما هي فقط في البداية مملة ثمَّ ستبدأ بالانغماس بالموضوع، فكر هٰكذا.

قام بسحب يده وإشاحة وجهه للأمام وعلامات الغضب جلية عليه، وضعَ كأسه هو الآخر على الطاولة ثمَّ مرر كفيه على وجهه بقوة قبل أن يُعدل جلسته وينظر لها بأعين غير راضية:

- كفى، كيف سيحدث ما تقولونه؟ كيف؟ إنَّه ليس مكاني أنا لا أنتمي له. من السهل جدًا الوقوف مكانكم وإسداء النصائح الواهية التي لا أحتاج لها، لا أحد سيشعر بما أشعره، لأنَّكم لستم أنا، لن تفهموا معنى أن تكون حُرًا طليقًا لا أحد يُملي عليك أوامره ورأيه وفجأةً تُصبح محكومًا في سجن لا خلاص منه دون تهمة تُدينك، ليس هٰذا وحسب بل تتوقعون مني أن أتأقلم مع هٰذا الوضع المقزز كأنَّه خلاصي من الجحيم، كلا إنَّه هو الجحيم، أنا لن أستطيع التنفس والعيش بسلام في مكانٍ لا أنتمي إليه.

أخبرها ونبرة صوته عالية ومُنزعجة ثمَّ صمت ليُكمل بنبرة مُخذولة بعد أن أخذ نفسًا عميقًا:

- أيًّا منكم لن يفهم هٰذا بالطبع حتى وإن تظاهرتم بالفهم.

قابلت كلماته بالصمت فهو مُحق من ناحية ما، هم لن يفهموا شعوره حتَّى لو وضعوا أنفسهم موضعه، الواقِع شيء والتخيل شيء آخر تماماع فشتان بين الاثنين أحدهما عنيفٌ ولا يرحم والآخر سابحٌ في فضاء عقلك ناثرًا اللؤلؤ والمرجان. اللآلئ التي لن تجدها في الواقع، والمرجان الذي ستراه من بعيد فقط.

ساد الصمت المُزعج بينهما لمدة ثمَّ ما لبث أن تذكر آرلو مقصد زيارته الأول حتى حدجها بنظرة طويلة قبل أن ينطق ب:

- بريانكا، هناك ما أريد أن أستعلمك بشأنه.

أومأت بعدم فهم وأخبرته:

- بالطبع. ما هو؟

قام بفرك يديه معًا بينما يقول بقلق:

- أريدك أن تخبريني كلّ ما حدث تلك الليلة... أقصد ليلة الحادث. كيف بإمكان كارل أن يقود بجنون كما يقولون وهو أكثر شخص مُتأنٍ في القيادة؟ هناك العديد من علامات الاستفهام وأود إجابات لها.

وجمت من طلبه وبقيت مشدوهة، ماذا تُجيب؟
قررت بعد لحظات أن تقول بصوت يغزوه القلق والتردد:

- لا شيء حقًا.... أعني كنا سنستمتع بوقتنا معًا و... و... وقام هو بالقيادة أعني بالقيادة لمكانٍ ما لا أعرفه وبينما يقود جاءه اتصال بخصوص العمل لا أعرف حقًا ما محتواه لٰكنه أغضب كارل كثيرًا ومع الغضب لم ينتبه لقدوم سيارة تجاهه.

تنفست الصعداء حالما انتهت، وأشاحت بوجهها عنه وثبتت عيناها على يديها التي تقوم بفركهم بقوة، لم يرغب آرلو أن يُزعجها أكثر أو أن يُذكرها فالجلي أنَّها لم تتخطَ الصدمة لحدِّ اللحظة لهٰذا قام بالإمساك بيديها وتقريبها منه ليحتضنها ويربت على شعرها بينما تستمع لكلماته التي خرجت بنبرة آسفة:

- لم أقصد تذكيرك ولٰكن أردت فقط الاستفسار وتوضيح بعض الأمور، لا تؤاخذيني.

بالنهاية، هل حصلَ على أجوبة لأسئلته؟ رُبما! كلا، كان جوابها عشًا دافئًا لتفقس المزيد من الأسئلة في رأسه. إلى متى سيبقى هٰذا الرأس ينضخ بالأسئلة؟! المزيد من المتاعب جذبت الكثير منها وستتوالى الأحداث تواليًا متلفًا للأعصاب، وللقلوب وحتَّى للعائلات، شيئًا فشيء حتَّى ينقلب رأسه وعالمه كما حدث مع أخيه، انقلابًا مُدمرًا لكلِّ شيء جميل في حياته.
تمامًا كـدمى الماتريوشكا كلما فككت أحداها ستجد أخرى بإنتظارك وهٰكذا حتَّى تصل للأخيرة... حتّى يصل هو للحقيقة.

-ˋˏ ༻❁༺ ˎˊ-

مرحبًا 🌷 🌷 🌷

أتمنَّى أن تكونوا بخير على عكس آرلو 🤍

رأيكم في شخصية ألينا؟

ماذا تُخفي بريانكا؟

ولمـاذا؟

كُلُّ الحُبِّ لكم 🤍 💫








Continue Reading

You'll Also Like

5.4M 157K 105
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
521K 23.5K 35
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
1.6M 32.3K 83
اشد الجروح الما ليست التي تبدو اثارها في ملامح ابطالنا بل التى تترك اثر ا لا يشاهده احدا فى اعماقهم. هي✨ لم تخبره بمخاوفها ...ولكن نقطه نور فى اعم...
1.1M 20.6K 60
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" الذي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...