Themis | ثيميس

By reroevol

623 36 0

يُقَال إنَّ سيِّدة العدالة ثيميس هِي امرأة فضلًا عَن رَجل كون قلب المرأة أرحَم مِن خاصة الرَّجل، وكونها مَعصُ... More

إهداء
مُقدِمة
الفصلُ الأول 🦢 ليلةٌ ضبابِية
الفصلُ الثاني 🦢 مُواساة
الفصلُ الرابع 🦢 القرار
الفصلُ الخامِس 🦢 امرأة
الفصلُ السادس 🦢 طمسُ الحقيقة
الفصلُ السابع 🦢 توليب
الفصلُ الثامن 🦢 احتِراق
الفصلُ التاسِع 🦢 لَيلة مُلبَّدة بِالتَّعبِ
الفصلُ العاشِر 🦢 دَقائِق مِن الانسِجَامِ
الفصلُ الحادِي عَشر 🦢 زيارة الذكريات
الفصلُ الثاني عَشر 🦢 القَضِيَّة الأولَى
الفصلُ الثالث عشر 🦢 بَاكُورَة الحُبِّ
الفصلُ الرابِع عَشر 🦢 مَحمَلِ الحُبِّ
الفصلُ الخامِس عَشر 🦢 وِلادة شَاعِر

الفصلُ الثالث 🦢 انتِكاسة

36 3 0
By reroevol

إنَّ الحَيَاةَ صِراعٌ
فيها الضَّعيفُ يُداسْ
مَا فازَ في ماضِغِيها
إلاَّ شَديدُ المِراسْ

_ أبو القاسم الشابي _

•••


تغيرتَ نظرات آرلو الساكنة إلى أُخرى غير مُستوعبة للذي ينطقه والده. قطبَ حاجبيه بعدم رضا. إنَّهُ مُتعبٌ ولا يشعرُ أنَّ باستطاعته الخوض في نقاشٍ عقيمٍ كهٰذا، فالكُلُّ يعلم ببغضِه التقييد والمسؤولية.


هو مُصوِرٌ فوتوغرافي، يُحبُّ السفرَ والتنقل من مكانٍ لِمكان، لا يستطيعُ تحمل العمل في مكان واحد يُحاصره أربعة وحوشٍ أو جدران كما يُسميها، يبحثُ عن المغامرة في کلِّ شيء، أسوأ کوابيسه ومخاوفه العيش برتابة وروتين مُمل، يسعى لكلِّ ما هو مجنون وخطير. رجل الجنون إن صح التعبير، رجُلٌ بالجنون يعيش وعليه يموت كما يقول دائمًا، جنونه مُسبب للكثير من المتاعب له ولعائلته، وصلَ به الحد إلى أنَّهُ يتمنَّى أن يكونَ سبب وفاته غريبًا لم يحدث لبشري قط، يريدُ أن يدخل موسوعة غينيس لغرابة وعجابة موته.

دمدمَ بصوته الثقيل والانزعاج جليٌّ عليه:

- أبي، ما الذي تقوله؟ أنتَ تعلم أنَّني لا أحبُ العملَ في مكتب. كما أنَّهُ حقًا ليس الوقتَ المناسب لخوض هٰذا.

بقي غابريل كما هو، يفهمُ ابنه جيدًا ويحفظه عن ظهر غيب، لٰكنه لم يستسلم بل خاطبه بصوت مُنخفض:

- أعلم، أعلم، لٰكن تَفهم الوضع قليلًا، ضع نفسكَ موضعي وتحدَّث حينها. من سيرتبُ الفوضى؟ من سيتولى القيادةَ بعد كارل؟

لا يرغبُ بوضع نفسه موضع أحد، يكفيه همه ويزيد، قراره نهائي ولا يرغب بقول ما سيندم عليه لاحقًا، لذا؛ بنفور قال:

- لا يهمني من سيتولى قيادة الشركة. أنا خارج هٰذا الموضع منذ الأزل ولن أعدلَ عن قراري.

- آرلو، إنَّكَ لا تفكر بمنطقية. ما رأيكَ أن تق...

- لا أفكرُ بمنطقية ولا أريدُ التفكير بها. قلتُ إنَّني لن أذهب بعدَ الآن وسأبقى هنا، برأيي هٰذا وحده كافٍ بإصابتي بالهلع. لا تضع عليَّ أحمالًا أكبر من مقدرتي على التَّحمل يا أبي.

قاطعه يهتف بانزعاج لٰكن عبارته الأخيرة خرجت بنبرة راجية ومُتعبة. لن ييأس غابريل من مُحاولة إقناعه بالقدوم والعمل في الشركة، لٰكنه قامَ من مجلسه ينظر له بوجه مُرهق قبل أن ينهي دفة النقاش بصوتٍ نعِس:

- حسنًا يا بنيَّ. أنتَ الآن مُرهق، عليكَ أخذ قسط من الراحة، لٰكن اِعلم أنَّ الحديث لم ينتهِ هنا، سأمهلكَ مدة للتفكير بعمق في الأمر، واعلم أنَّني سأبقى أحاول حتَّى أراكَ تجلسُ في كُرسيكَ في الشركة.

دحرجَ عينيه، محركًا رأسه للجانب الآخر بينما يرى والده يأخذ قدميه نحو الخارج. سيضطر إلى التعامل مع إصرار والده بطريقة ما، لن يعدل عن رأيه مهما حصل، لقد ضحى بحريته مجبرًا ومرغمًا اليوم. لا يريدُ التفكير حتَّى بالأمر، لن يسافر لمدة طويلة وسيبقى يقضي أغلب أوقاته داخل المنزل. يا لها من كارثة فوق كارثة. هٰذا الجحيم بحدِّ ذاته.

بعد عدة دقائق، خرجَ هو الآخر من المكتب، يجر قدميه جرًا. أولًا نحو والدته ليطمئن عليها ثمَّ إلى غرفته، لم يكن يمتلك أيّ قوة للاستحمام، لذا؛ مشى متثاقِل الخطى نحو سريره وهو يشعر برأسه ثقيل ومتخدر، دفنَ جسده وسط السرير مُعطيًا الوسادةَ وجهه قبل أن يعدِّل جلسته وينام على ظهره، ينظر للسقف. ليت هٰذا الكابوس ينجلي ويتبدد. رغبةٌ عارمة تجتاحه للنشيج والصراخ بأعلى صوت حتَّى يفنى صوته، لٰكنه مجهدٌ ولا مجال حتَّى لتحريك قشة.

هل الحياة هٰكذا تحيك حِكايتك على مهل في الخفاء وعلى غفلة منك ترى نفسك في زيٍّ ليس زيك. قد يكون مقاسه مُناسِبًا وتنفرج أساريرك، وقد يكون ضيقًا حتَّى يكاد يخنقك فتلبث تلهث منتظرًا زيك الجديد. هل يا ترى سيكون مناسبًا ويعوضك عن معاناتك؟ أم سيكون أكثر ضِيقًا من السابق فيكون الضربة القاضية؟

لم يفهم آرلو كيف نام، لقد بقي يحدق في فضاء غرفته وأطياف خيالات تسبح في الأرجاء، حتَّى قُبيل طلوع الشمس بقليل، عندها عرف النوم له سبيلًا منه، فتسلل جاثمًا عليه.

* * *

الثالث من مارس
| الثامنة صباحًا |

أصرَّت أشعة شمس مارس التي تتفتح على مهل، أن تُداعب زجاج نافذته وتُلاطِف بشرته متوسطة الشحوب، تُدغدغه بكل لُطفٍ تمنحه دفئًا مُحببًا كتعويضٍ بسيط عما اختلج في نفسه. تحرك ببطء للجانب الآخر المُطل على النافذة بعد أن كان نائمًا على ظهره. تفتحت زهرتا عينيه وبان عسلهما، لا زال الإرهاق مُلازمًا لجسده، لا يرغب بالوقوف لٰكنه مُجبر. وكمْ ينبذ فكرة أن يكون مُرغمًا على القِيام بأشياء لا يريدها! انبثق كل ما جرى منذ مكالمة والده له إلى إسراعه بالقدوم إلى محاولته لمواساة والدته وأخيرًا حديثه مع والده دفعةً واحدةً جاعلًا منه يطلق تنهيدة خفيفة. عليه أن ينتظر حلول الليل ليختلِ بنفسه وبمُعاناتِه، وما عدا ذٰلك عليه أن يكون بِجانب والِديه.

أزاح الغطاء عن جسده وبخطوات بطيئة تحرك نحو الحمام. قرر أن يستحم لعل التوتر الذي أصابه يتساقط مع الماء. ارتدى بنطال مُريح أسود اللون وقميص قطني دون أزرار أسود اللون. ترك شعره القصير مُبلل مما زاد على سواده سوادًا

خرج من غرفته وتوجه إلى غرفة كارل حيث والدته، وما أن أدار المقبض حتَّى دلف ليرى والدته كما رآها ليلة أمس، ممددة تحتضن وسادة وتنظر نحو الأرض بأعين فارغة من أيِّ نظرة. اقترب منها بضع خطوات قبل أن يتوجه نحو النافذة يزيح الستائر التي تحجب ضوء الشمس إلا قليلًا. خاطبها بنبرة حاول أن تخرج حيوية:

- صباح الخير، منذ متى وأنتِ مُستيقظة؟

لا جواب، بقيت كما هي ساكنة كأنَّها لم تسمع شيئًا، اقترب منها وجلس على حافة السرير، أمسكَ يدها بعد أن أزاح الوسادة جانبًا، ويده الأخرى مررها على خصلات شعرها قبل أن يُكملَ كلامه:

- هل ترغبين بالاستحمام قبل تناول الإفطار؟ سأصنعه أنا لكِ خصيصًا، ما رأيكِ؟

ما الذي يحدث؟ لِم لا تُجيبه؟ لم تكن هٰكذا البارحة. هل حصل شيءٌ ما ليلًا ولم يسمع به؟ علاماتُ الاستغراب بانت على محياه، جاعلةً منه يقطب حاجبيه وهو ينظر لها.

- أُمّي؟ أُمّي؟

لا شيء مُجددًا. بقيتَ تنظر إلى الأرض دون كلام، حاول أن يُمارس واحدة من ألاعيبه عليها وأردف بنبرةٍ تَلاعب بها لتخرج وكأنَّه مُتضايق:

- هل طبخي سيئ لهٰذه الدرجة؟ حسنًا، إن لم ترغبي بتناول ما سأصنعه فحتمًا أبي سيفعل.

لاحظَ فشل مُحاولته، ضيَّق عينيه ينظر لها ليفهم ما تشعر به دون فائدة.

- أُمّي، إنَّه أنا آرلو

بعد مُحاولاتٍ باءت بالفشل، قرر تركها وحدها والخروج من الغرفة. تضايق مما جرى وذهب بخطواته نحو الأسفل. رأى عمه وزوجته مع ألارا هناك، توجه نحوهم بينما يرى عمه يتقدم ناحيته، يفتحُ ذراعيه ليأخذه بحضنه، طبطب عليه يحدثه بينما ينسحب من حضنه:

- تعازيّ لكَ يا بُنيّ. أعلمنا مايك ورالف أنكَ جئت ليلة أمس، اعذرنا لم نكن بجانبكَ. كيف تشعر اليوم؟ هل أنت بخير؟

أومأ له آرلو برأسه. يعلم كم يحبهم عمه نيكولاس هو وكارل ولا يفرق بينهم وبين رالف. لذا؛ خاطبه بصوت هادىٔ:

- لا داعي لأعذركم يا عميّ، بالنهاية نحن عائلة. أنا بخير... أعني سأكون بخير.

حركَ نيكولاس رأسه إيجابًا لما قاله آرلو قبل أن يحثه بنبرة رجولية:

- بالتأكيد ستكون بخير. عليكَ أن تكون بخير لكَ ولوالداك. إن احتجت إلى أيِّ مساعدة فتذكر نحن جميعنا هنا بجانبكَ.

ربت على كتف آرلو في نهاية كلامه قبل أن ينظر إلى زوجته وألارا الواقفتين خلفه، تنظران لهما. تقدمت زوجته سامانثا منه تنظر له بعينيها الزرقاوتين، احتضنته هي الأخرى قبل أن تأتي ألارا كذٰلك تحتضنه. كان ممتنًا لهم ولكلامهم الداعم. يحتاج من يشعر أنَّهم بجانبه في محنته ووجودهم يشعره بالتحسن.

- هل رأيتَ ماريندة؟

سألتَ سامانثا باهتمام، فأومأ لها آرلو وقد لاحظ الجميع اضطراب وجهه.

- كيف هي؟ لقد كانتَ سيئة البارحة، وهٰذا الصباح كريستين أخبرتني أنَّها ما زالت نائمة عندما استيقظنا، فلم نرغب بإزعاجها.

عاودت التحدث بنبرتها اللينة، وقد بان عليها الاهتمام فهي أمٌ أيضًا في النهاية وتستطيع تخمين مقدار الألم الجاثم فوق قلب ماريندة. تنفس ببطء قبل أن يجيب وعلامات الاستفهام تتطاير على وجهه:

- في الواقع، لا أدري ما الذي حصل لها تحديدًا لٰكنها أمس تحدثت معي حتَّى عندما رفضت تناول الطعام أقنعتها بتناول الشوربة على الأقل، بعدها نامت لٰكن... لا أدري ما الذي حصل فقبل قليل ذهبت إليها لكنها لا تتحدث ولا تنظر حتَّى إلى عيني...

تنهد يُحرك رأسه يمينًا وشمالًا دلالة على عدم فهمه وأردف:

- لا أدري حقًا ما العمل.

تفهم الجميع قلق آرلو وحزن ماريندة. ربتت زوجة عمه على كتفه تخبره:

- لا تقلق يا بنيَّ. لقد فقدت ابنها في النه‍اية علينا تفهم موقفها ومساندتها.

- مُساندتها. كيف؟ كيف وهي غير موجودة؟ وهي في مكان آخر؟ كيف يمكنني مساعدة أحدهم وانتشاله مما هو فيه وهو رافضٌ لكلِّ بادرة مساعدة مني؟

نطق آرلو بنبرة حائرة مغلفة بشيءٍ من الغضب، يحرك يديه في الهواء مع كل كلمة. حالما أنهى كلامه زفر بضيق ينظر إلى نظراتهم العاجزة والمُتعاطفة.

- الزمن كفيلٌ بحل كُلِّ شيء يا آرلو، لا شيء يدوم على حاله. اليوم أو غدًا سترجع والدتك إلى نفسها وتكمل حياتها مُضيفةً ندبة أخرى من ندبات الحياة على قلبها.

لامسته كلمات عمه التي جاءت كالماء على شرارة نار.

- هل تريدني أن أطلب منهم تحضير الإفطار لكَ؟ أو رُبما بعض الشاي؟

كان صوت ألارا الناعم من صدح، واهتمامها هي الأخرى به كان لطيفًا. حرك رأسه نافيًا قبل أن يضع ابتسامة لم تتعدَ شفتيه وخاطبها:

- شكرًا لكِ، لٰكنني لست جائعًا، لٰكن رُبما نشرب الشاي معًا في المساء.

بادلته الابتسامة لٰكن خاصتها كانت مُشرقة قبل أن يخاطبه نيكولاس:

- كما تريد يا بنيَّ، لٰكننا سنرحل هٰذا المساء، يمكننا شرب الشاي قبل رحيلنا. لقد وعدنا والدة مايك أن نزورهم وكما تعلم ألارا في شهرها الرابع وحماتها ترغب برؤيتها.

هٰذه المرة ابتسم آرلو بصدق، على الرغم، من أنَّ خبر ذهابهم أحزنه بعض الشيء إلا أنَّ حمل ألارا أسعده، كانت قد أخبرته والدته بهٰذا قبل عدة أسابيع. نظر إليها تضع يدها على بطنها قبل أن يسمع الجميع قهقهته الخفيفة وهو يمزح معها:

- هل أنتِ متأكدة من أنَّكِ حامل؟ وفي الشهر الرابع أيضًا، أنا لا أرى أي انتفاخ في البطن. أين هو الحفيد يا ترى؟

مزحته أزعجت ألارا لٰكنها أضحكت عمه وزوجته معه. حدجتهُ بنظرات منزعجة قبل أن تتحدث والدتها:

- إنَّها بالطبع حامل يا آرلو. ما هٰذا الكلام الآن؟ إنَّهُ واضحٌ جدًا أنَّها حامل لدرجة أنَّنا قمنا بإعادة الفحص ثلاث مرات للتأكد.

لم تستطعَ أن تمسك ضحكتها في آخر كلامها مما أصاب نيكولاس وآرلو أيضًا بعدوى الضحك. أما ألارا فانزعجت تنظر إلى والدتها قبل تهتف بانزعاج:

- أُمّي! لا تمزحي بهٰذا الموضوع.

رمتَ نظرة عتاب أنثوية لوالدتها قبل أن تتركهم وتنصرف إلى الحديقة لتجلس هناك. نظر آرلو إلى سامانثا يريد أن يستعلم سبب انزعاجها من مزحة. فهمت هي مغزى نظرته فتحدثت بهدوء تُخاطبه:

- إنَّها تخشى أن يحدث شيء للطفل. تقوم بمجالسة بعض النسوة اللاتي لا يبخلن عليها من قصصهن مع الحمل والولادة. فتخاف أن يحصل معها شيء مما حصل معهن من إجهاض أو موت الجنين داخل الرحم إلى ما آخره. أخبرها ألا تقلق لٰكنه قلب الأم. لقد أصبحت ابنتي أم.

خرجت آخر جملة بفخر وسعادة أحسها نيكولاس وآرلو. أومأ آرلو مُتفهمًا الوضع قبل أن يتمنى الصحة لـألارا ولـطفلها ثمَّ استأذن منهما وانصرف من غرفة المعيشة. كان لا يعلم أين يذهب ولمن يذهب، يشعر بالغربة وهو في وطنه وبين عائلته الغير مكتملة. آه كم هو بشع موت عزيز! كالمُشرد يمشي بخطواته حتى وصل المطبخ.

ولج إليه ينظر حواليه. كانت بعض العاملات هناك إضافةً إلى كريستين التي ما إن رأته حتى تقدمت منه وبنبرة مهتمة سألت:

- هل هناكَ ما تحتاجه؟ بإمكاني إعداد الفطور وإرساله إلى الغرفة أو في مكانٍ آخر كما تريد.

رمى نظرة على العاملات ففهمت كريستين مقصدها، وبسرعة هي الأخرى نظرت إليهم تُخاطبهم:

- لم يبقَ هناكَ الكثير من العمل، هيَّا بإمكانكم الذهاب والاستراحة قليلًا.

حالما خرجن من المطبخ حتَّى أغلقت كريستين الباب خلفهن. أما آرلو فقد سحب كرسيًا من الكراسي التي تحيط بطاولة طعام صغيرة وجلس هناك يحدق في الطاولة دون أن ينبسَ ببنت شفة. تقدمت كريستين منه وجلست على الكرسي المُجاور له.

- لقد رأيتها، أليس كذلك؟ والدتك.

نظر إليها، ترمقه بنظراتٍ مُتعاطفة قبل أن يومئ برأسه إيجابًا لسؤالها. استطردت بنفس النبرة المتعاطفة:

- لقد ذهبت إليها صباحًا. كنت أظنُّ أنَّها ستخاطبني أو أنَّ حالتها ستكون متحسنة على الأقل، لٰكنها لم تُجيب. قلت لها "هل أنادي السيّد آرلو؟" ومع ذٰلك، لم تستجب.

حرك رأسه وبقي ينظر إلى الطاولة لثوانٍ قبل أن يستفسر:

- لم أفهم ما الذي حدث الآن؟ لماذا كانت مرنة في التعامل أمس واليوم أصبحت فجأةً...

زفر بحنقٍ ثمَّ وضع رأسه بين كفيه يغلق عينيه. كيف يتغير كل شيء في ليلة وضحاها؟ من المفترض أن تتحدث معه على الأقل. جاء صوت كريستين وهي تربت على كتفه:

- أظنُّ أنَّ ما حدث البارحة كان بسبب صدمة رؤيتها لكَ والآن عادت إلى حالتها السابقة.

فتح عينيه وأنزل يديه لتبقيا فوق الطاولة. نظر لها يقول بنبرة ساخرة:

- وما الذي علي فعله الآن؟ هل أدعها تعيش صدمة أخرى؟ حسنًا، قولي لها لقد ذهب آرلو لنرى أي صدمة ستدعها تفيق للواقع.

أنهى كلامه ليأخذ شهيقًا ويقوم بزفره قبل أن يردف بنبرة مجروحة:

- لا أُريد أن أكون أنانيًا، لٰكنني أيضًا بحاجة لـأمّي. أريدها أن تكون بجانبي كما أنا بجانبها.

لمعت عيناها مُدركة الوضع، فآرلو مُدلل والديه وخصوصًا والدته التي تغدق عليه بحبها واهتمامها بأصغر تفاصيله وكان هو يُحبُّ هٰذا الاهتمام. والآن عندما انقطع هٰذا الحبل ولأول مرة لم يعرف ماذا يفعل. كان تائهًا ولا يدري أي درب يسلك بعد أن كان واثقًا من نفسه ومن إحساسه، مُسبقًا لم يكن هناك أيُّ داعي للخرائط كان يتجول في الأرض كأنَّها بحجم راحة الكف أما الآن فهو بأمس الحاجة إلى خريطة أو مرشد سياحي إن كان هٰذا مُمكنًا.

- ستكون، ستكون. ستتحسن والدتك وتقضيان الكثير من الوقت معًا فقط دعها تعيش ألمها كم يوم.

أومأ كالطفل الصغير الضائع للغريب الذي أخبره أنه سيعيده لوالديه قبل أن يقترب منها ويحتضنها. بادلته الحضن وهي تطبطب على ظهره بحنية الأمهات. حالما انسحب آرلو قام بتمرير كفيه على وجهه يمسح آثار الضيق الذي أصابه.

- هل أصنع لكَ القهوة؟ أنت تُحِبُّ القهوة التي أُعدها أنا. أم أنَّ غيابكَ الطويل جعلك تنسى قهوة كريستين اللذيذة؟

ابتسم لها ولاستخدامها نفس أسلوبه فهي تعرفه يحب المزاح وإغاظة غيره.

- بالتأكيد لم أنسَ أنَّكِ تعدين ألذ قهوة بالعالم لٰكن.. رُبما أكون قد نسيت طعمها. نعم، سيكون من الرائع شرب القهوة الآن. أخشى أن أجد نفسي نائمًا في أيِّ وقت.

بدأ كلامه بمزاح وأنهاه بجدية. تلفت ينظر في أرجاء المطبخ قبل أن يطلب منها:

- هل بإمكانكِ إرسالها مع إحداهن إلى غرفتي؟ سأكون في الشرفة.

- بالتأكيد.

توجه مرةً أخرى إلى غرفته، ليجلس في الشرفة المطلة على أحد جوانب الحديقة. جلس يتفكَّر في كارل. هل قال والده أنَّهُ كان يقود سيارته بسرعة جنونية؟ كارل يقود سيارته بسرعة كيف لهٰذا أن يحدث؟ قاطع سيل أسئلته قدوم والده يحمل فنجان قهوة متوسط الحجم. رمقه آرلو بنظرة مستغربة وخرج صوت والده يقول:

- صباح الخير، ها هي قهوتك. لقد أخذتها من العاملة.

أمسك آرلو بفنجان القهوة قبل أن يردَّ وهو ينظر إلى السماء:

- صباح الخير. هل ارتشفت منها رشفة كعادتك؟

ابتسم غابريل بينما يتخذ مجلسًا بجانب آرلو. لم يقم بالإجابة وقد أخذ آرلو إجابته من صمته. قرر آرلو أن يفتح الحديث بسؤاله الذي أربكَ والده بعض الشيء:

- هل بإمكانكَ إخباري بما حصل مع كارل بالتفصيل؟ لا أرغب في فتح الإنترنت وقراءة ترهات الإعلام.

تنحنح غابريل وقد بدا الاستغراب على محياه قبل أن يتحدث:

- لقد أخبرتكَ بما نعرفه وما قالته الشرطة. لقد كان مسرعًا ومع الظروف الجوية ربما.... لم يستطع تفادي حصول الحادث. أُصيب بجروح عميقة في عنقه ورأسه. قام الرجل صاحب السيارة الأخرى بالاتصال بالإسعاف. كان قد تُوفي كارل لحين مجيئهم أما بريانكا فأصيبت بجروح طفيفة.

- بريانكا؟

هتف باسمها مستغربًا. استغرب من وجود شخصٍ آخر مع كارل واستغرب أكثر من كون هٰذا الشخص بريانكا الفتاة التي يُحبُّها كارل. لم يخبره أحد بوجود بريانكا من قبل. بهدوء أكد والده كلامه:

- نعم، لقد كانت معه في السيارة.

بقي آرلو مشدوهًا. لا يدري كيف تجتمع السرعة مع كارل المتأني ولا كيف يقود بسرعة جنونية وبجانبه بريانكا. لذا؛ حرك رأسه يمينًا ويسارًا ببطء، فاغر الفاه غير مستوعب لما يسمع:

- لم أكن أدري أنَّها كانت معه. كيف هي؟ هل هي بخير؟

بدوره طمأنه والده بصوته الهادئ:

- بخير يا بنيَّ، بخير. في الواقع، لقد قمتُ بزيارتها ونحن في المشفى، لٰكنها كانت غائبة عن الوعي، وهٰذا الصباح ذهبت لأطمئن عليها وهي بخير. كانت مُكتئبة بالطبع لما حلَّ بكارل، لٰكنها على ما يُرام، ووعدتني أن تأتي للزيارة عندما تتحسن.

أومأ بعينيه قبل أن يرتشف من قهوته. 'هناكَ شيء خاطئ' هٰذا ما كان يردده في عقله. كيف؟ هل تشاجرا مُجددًا؟ لٰكن هل هٰذا يكفي لزيادة السرعة؟ كان عقله متكدسٌ بعلامات الاستفهام. عليه أن يكتشف حقيقة ما حدث وإلا ستظل تزداد هٰذه العلامات حتى يتضخم وينفجر دماغه.

-ˋˏ ༻❁༺ ˎˊ-

مرحبًا ☺️

هل من السهل عليكم التعامل مع موت شخص عزيز؟

بريانكا؟

كُلُّ الحُبِّ لكم 🤍 💫

Continue Reading

You'll Also Like

441K 34.2K 60
من رحم الطفوله والصراعات خرجت امراءة غامضة هل سيوقفها الماضي الذي جعلها بهذة الشخصيه ام ستختار المستقبل المجهول؟ معا لنرى ماذا ينتضرنا في رواية...
12.8M 520K 57
"Have you tried turning it off and back on again?" •• Christian Ivonov, CEO of Ivonov enterprises, had always been the best at fucking things up. Whe...
1.5K 167 14
" كأنك آلهة يونانية " " عفوا لم افهم " " الا يقولون ان الالهات اليونانية القديمة رمز للجمال؟ لذلك كل ما أراه جميل أنسبه للألهات اليونانية " " أحب...
840K 30K 38
فتيـات جميلات وليالــي حمـراء وموسيقـى صاخبة يتبعهـا آثار في الجسـد والـروح واجسـاد متهالكـة في النهـار! عـن رجـال تركوا خلفهم مبادئهم وكراماتهم وأنس...