Themis | ثيميس

由 reroevol

538 18 0

يُقَال إنَّ سيِّدة العدالة ثيميس هِي امرأة فضلًا عَن رَجل كون قلب المرأة أرحَم مِن خاصة الرَّجل، وكونها مَعصُ... 更多

إهداء
مُقدِمة
الفصلُ الأول 🦢 ليلةٌ ضبابِية
الفصلُ الثالث 🦢 انتِكاسة
الفصلُ الرابع 🦢 القرار
الفصلُ الخامِس 🦢 امرأة
الفصلُ السادس 🦢 طمسُ الحقيقة
الفصلُ السابع 🦢 توليب
الفصلُ الثامن 🦢 احتِراق
الفصلُ التاسِع 🦢 لَيلة مُلبَّدة بِالتَّعبِ
الفصلُ العاشِر 🦢 دَقائِق مِن الانسِجَامِ
الفصلُ الحادِي عَشر 🦢 زيارة الذكريات
الفصلُ الثاني عَشر 🦢 القَضِيَّة الأولَى
الفصلُ الثالث عشر 🦢 بَاكُورَة الحُبِّ
الفصلُ الرابِع عَشر 🦢 مَحمَلِ الحُبِّ
الفصلُ الخامِس عَشر 🦢 وِلادة شَاعِر

الفصلُ الثاني 🦢 مُواساة

42 1 0
由 reroevol

" تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضًا. أنا لا
شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري،
فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني"

_ محمود درويش _

•••

حُطامٌ يُواسِي رماد، هذا هو حال البشر، كلٌ لديه آهاته وأمراضه، كلنا مرضى في مشفى الحياة، لِكلٍ منا سريرٌ هناك. ومع ذلك، نزُور من نُحِب ونطمئن عن حالهم رغم الألم، رغم الندوب، ورغم الإعاقات. كُلُنا لدينا مشاكِلنا الخاصة التي تحب في أحيانٍ كثيرة، التطفل على عُقولِنا لِتقتات دمها ثم تُغادر مُخلِفةً المزيد من الأمراض.

في الأغلبِ، عندما يقومُ شخصٌ ما بِمُواساتِك، يكُون هو أيضًا بِأمسِ الحاجة لمن يُواسيه ويطبب عليه ويُخفِف من وطأةِ أيامه.

رُبما الآن حواليك شخصٌ تحت الأنقاض، ينتظر يدًا ممدودةً لِتخرجه من ضيقه، من يعلم كم لبث هناك مُحاصرًا؟ منتظرًا كلمةً لطيفةً تُسعِده، أو فعلًا صادقًا يُعيد لِوجهه الُمتآكِل الابتسامة التي هربت، أو شخصًا يُؤمن به ويدعمه.

رُبما يكُون هذا الشخص أنت، فرفقًا بذاتك. لا داعي لِجلد الذات وتعذيبها يكفي ما يحدث لها وما حصل لها من تنكيلٍ وتخريب.

وإن كانت الحياة تُحبُ الجلد، فنحنُ نهوى التضميد.
وإن كانت الحياة تُحبُ الإِبْعاد، فنحنُ نعشقُ الضمّ.

•••

مَكَثَ آرلو مُعانِقًا والده لِعدة دقائق، لا يرغبُ بالابتِعاد، لقدَ مضت أكثر مِن سنة دون أن يرى عائلته، والآن حينما عاد لن يجِدهم جميعًا مجتمعين على طاولة طعامٍ واحدة، ولا حتى في أمسية يتبادلون فيها الأحاديثَ عن العمل، والحياة، والمُغامرات التي خاضها.

التفكير بذٰلكَ كان قاسيًا، فكيف به يحدُث على أرض الواقع، كان كلاهما يبكيان بُكاء الفقد، يَجمعهما ألمٌ واحدٌ، أحدهما فقد ابنه الذي كبر على يده، وشاهد نُموه، بُلوغه، ونضجه، كان رفيقه الأول في الحياة منذ نُعومة أظافِره وصديقه الداعِم والناصح، ويا ويلاه كم يكوي الآباء فقد أبنائهم! والآخر، فقدَ أخيه الأكبر، أخوه الذي اعتاد مُشاركته أسراره، وهواياته، وفي أحيانٍ كثيرة مشاكله، من سيتحمل مُزاحه الآن؟ لمن يشكو همه؟ سيبقى بالتأكيد مكانه فارغًا لا يملؤه أحد.

بعد مدَّةٍ انسحبَ آرلو من حضنِ والِده، ينظرُ إليه بِأعيُنِه الَّتي يُحِيطُ عَسلُها احمِرار مُلتهب، أعينٌ مُرهقة، ذابلة كـوردةٍ في الصَّحراء، حتى ماء عينيه الأُجاج لا يستطيع إعطاءها شيئًا سوى لمعةٍ جعلت من عينيه كأعيُنِ طفلٍ بكى اللَّيلَ بنجومه وقمره، قال بِصوته الرُجولِيِّ ذي البحَّة العميقة كعُمقِ غرقه في وجعه:

- أَبِي ، مَا الَّذي يَحصُل؟ مَا الَّذي حصل؟ لَقد تَحدَّثت معهُ أَمس وكانَ كُلُّ شَيءٍ على مَا يُرام، كَيف يَحصُل هٰذا؟!

أسئلتهُ الغير مُصدِّقة للَّذي حصل، وصوته المُتعب، ودموع عينيه التي تجري كـجريانِ النَّهر، كُل هٰذا كان كفيلٌ بِجعل والده يشهق شهقة كانت الجواب لِأسئلته، مُطرِقًا رأسه، مُغلِقًا عينيه بِشدَّة، لا يُريدُ أن ينهار وتفيضُ جميع أنَّاته الآن. لقد كان يُحاوِلُ أن يستجمِع شَتَات روحه المذبُوحة طوال الوقت؛ لأنَّه يعلمُ أنَّ عليه البقاء بِجانب زوجته ومُساندتها. مُدرِكًا أنَّ قدرته على التَّحامل قد بلغت ذروتها وقد تُفرِغُ كُلُّ هٰذا الحملِ دُفعةً واحدةً في أيِّ لحظةِ وِحدة، ردَّ عليه يشعرُ بِالعجز يُمزِّقُ نِياط قلبه:

- لا نعلمُ شيئًا سِوى ما قالته الشُّرطة، كان يقودُ سيَّارته بِسرعةٍ جُنونِيَّة، الأحوالُ الجويَّة لم تُساعد على... أعني كانَ الجوُّ ماطِرًا و لم يستطع... تفادي سيَّارة أخرى كانت قادمة باتِّجاهه فانقلبت سيَّارته..

كان يشرحُ ما حصَلَ والرَّجفةُ لا تفارق صَوته، يديه، وقلبهُ. يعلمُ أنَّ عليه تفسِير مَا حصل لآرلو سريعًا قبل أن يفتعِل شِجارًا، حيثُ لم يُخبره بِشيءٍ على الهاتف سِوى أنَّ كارل تُوفِّي، ومن حقِّه معرفة ما حصل من لِسان والديه، لم يَكُنْ يمتلكُ الوقتَ لِيفتح الأخبارَ ويرى أنَّ جميعَ صفحات الأخبارِ والمجلَّات تتحدَّث عن وفاة أخيه، فمنذُ منتصفِ اللَّيلِ والأخبار تغلي. بدا على آرلو الصَّدمة ممَّا سَمِعه، انقلبت السيَّارة؟ لقد كان بِداخلها وانقلبت؟ وبينما كان غابريل سيُكمل إخباره ببقيَّة ما حدث، تقدَّم منهُما رالف ومايك، ربتا على كتف آرلو، مُتَّخذةً الكآبة من وجهيهما منزلًا لِتسكنه، قال رالف ينظُرُ إلى آرلو الواجِم:

- مِن المُستحسنِ أن ندخل إلى الدَّاخل، والتحدُّث بِهدوء. وأنتَ جِئتَ من سفرٍ، عليكَ أن ترتاح.

-أَيُّ راحةٍ تتحدَّث عنها وأخي ليس موجودًا في هٰذه الدُنيا؟ أَيُّ راحةٍ؟

قَالها بِنبرةٍ مكسُورةٍ، ينظرُ إليه بِطريقة ألجمت قلبه، وقد لاحظَ الجميع أنَّ صوته قد اختفى وباتت الغصَّة الجاثِمة فوق حُنجرته من تنطق. أردف بعد أن التهمت الدُّموع عينيه:

- لقد فقدتُ أخي للأبد، لن أراه بعد اليوم مُجددًا. عن أيِّ راحةٍ تتكلَّم يا رالف؟

ضمَّه رالف إليه مُحتويًا إيَّاه بِكلتا ذراعيه، لم يستطع لا هو ولا مايك ولا غابريل تماسك أنفسهم، فبكوا جميعًا حتى سأل آرلو سؤاله مُنهِيًا هذا المأتم، مُنسحِبًا من حضن رالف، يُكفكِفُ دموعه بيديه، ينظُر لِوالده:

- أُمي؟ أين هي أُمي؟

صمت لثوانٍ قبل أن يأخذ نفسًا عميقًا، أجاب يشعرُ بالدُّوار يتسلَّل إليه بِخفَّة:

- في الأعلى، في غرفة كارل. والدتك ليست على ما يُرام، ترفضُ حتَّى شُرب الماء. رُبَّما الآن بعد أن تراكَ ستتحسَّن وتأكل شيئًا، تعلمُ بِأنَّها لا ترفضُ لكَ طلبًا.

بالتَّأكيد هٰذا ما سيحصل، يستطيعُ توقُّع ردَّة فِعلها فماريندة امرأة حسَّاسة، مليئة بالعواطف لا تبخلُ على أحد من حنانِها وعطفها، لا تستطيع التَّفكير بإيذاء أحد. امرأةٌ في أوائل عَقْدها السَّادس، شقراء لا تجِدُ في شعرها خصلةً بيضاء متمرِّدة، عيناها كسماء يومٍ ربيعي زرقاء نقيَّة، حاجِبان خفيفان رفيعان، شفاهٌ صغيرة طبيعيَّة، فهي بعيدةٌ كُلَّ البعدِ عن إبر الحقن والتَّجميل، يستطيع المرء أن يرى كم تبدو ملامحها ناعمة ومريحة للعين، حتَّى مع التَّجاعيد الَّتي ترفضُ أن تُخفيها فهي آثار سنينَ مديدة، تمامًا كالآثار التَّارِيخيَّة مهما قَدِمت تبقى فاتنة، تشهدُ على ما واجهته من حُروب وسلام، وعلى من سكنَ فيها.

أومأ آرلو له وذهبَ مُسرع الخطى نحو السَّلالم، هو ليس مِن النَّوع الذي يُقدِّم المواساة للآخرين، فشخصيَّته مرحة، تحبُّ المُزاح حتَّى في الأوقاتِ الجديَّة، لذا لا يعلم كيف سيتعاملُ مع كُلِّ هٰذا البُؤس أو كيف سيتعامل مع والدته. حال صعوده خفَّت حركةُ قدميه لا إراديًّا حتَّى كاد يشعرُ أنَّهُما تخدَّرتا. أخذ شهيقًا وحبسه في رِئتيه لحظات ثم زفره بِقوةٍ، مرر كفَّيه على وجهه سريعًا قبل أن يتقدَّم من باب الغرفة.

سمِعَ صوتًا يأتي من الداخل، وضعَ يدهُ على المقبض وأداره، ليرى كريستين العامِلة التي تعمل عندهم، تُمسِكُ بكأس ماء، وتطلبُ من والدته شربه:

- أرجوكِ، لا تفعلي هٰذا. هيَّا فقط بضع قطرات.

كانت كريستين أيضًا حزينة، فهي تُحبُّ كارل كـابنها، شهدت جميع مراحل نموه، وسقطاته. لاحظت وُجود دخيل، نظرت له، اتَّسعتَ عيناها لجزء من الثَّانية قبل أن تُتمتم:

- سيِّد. آرلو.

ارتاحتَ ملامحها حالما رمقها بنظرة وديعة، يومئ رأسه بِبطء. إنَّها المرَّة الأولى التي تراه بهٰذه الحالة، يبدو مُشتتًا، وضائعًا. حوَّل بصره صوب والدته المُمددَّة على السَّرير تحتضنُ وسادة خضراء، عيناها مُنهكتان من كثرة البكاء، شفتاها مُبتعدتان عن بعضهما، تنظرُ بِبلاهةٍ دون إدراكٍ.

- أُمي.

قالها كطفلٍ خائفٍ من الكوابيس، هربَ لِحضن والدته حيث السَّكينة والأمان. فتحت ذراعاها له، وبلمح البصر ركض مُرتميًا في الأحضان التي احتوته طوال حياته دون كلل، احتضنته والدته بِقوَّة، مُرددةً:

- ابني... آرلو.... آرلو... كارل...

شهقت تبكي وجعًا، دفن آرلو نفسه هناكَ، لا يستطيع التحكم بِنفسه ولا بِدموعه التي تأبى أن تتوقف عن السَّيلان. منظرهما معًا بهذا الشَّكل كان كفيلًا بِجعل كريستين تذرف دموعها هي الأخرى، تأوَّهت ماريندة طويلًا، تشعر بِحفلة الجَلدِ التي تحدث في قلبها:

- آاااااااه.

رفع آرلو رأسه ينظرُ إليها، تضرِبُ على قلبها بِعنف تريد إيقافه، فلكُلِّ شخص قدرة على التحمل وهي أصبحت لا تطيقه فكل نبضة ينبضها تحرقُ أكثر من السابقة، عدَّلَ من جلسته تلقائيًا حتى أصبح يجلس بجانبها.

- أُ..أُ..أُمي.

تحدَّثَ ينظرُ كيف زاد شُحوب وجهها، كاد أنَ يطلب من كريستين الاتصال بالإسعاف لٰكن والدته صمتت فجأة، أرخت جسدها. نظرت إليه نظرات لم يفهمها، أردف بصوتٍ هادئ:

- عليكِ أن تتناولي بعض الطعام، أنتِ هٰكذا تُدمرين جسدكِ. من أجلي أرجوكِ، هـيَّا.

- لٰكنه صغيرٌ، كُنا سنفعل العديد من الأمور بعد. كان يجب أن يعيش أطول. لا يجوز للأبناء الذهاب قبل آبائِهم. هذا يؤلم وكثيرًا. لا أستطيع تحمل كل هٰذا... هٰذا كثيرٌ يا آرلو...كثير.

أنهت كلماتها التي خرجت بِصوتٍ مُشوش، تنظرُ إلى السقف، تضعُ يدها موضع قلبها، والدُموعُ تنزل قطرة قطرة، تمتصها الوسادة التي غرقت بماء عينيها. أمسكَ آرلو بيديها يُقبلهما قبلات مُتفرقة، قبل أن ينطقَ:

- أعلم، لقد فقدت أخي، وهٰذا ألمٌ عظيمٌ. بالتأكيد لن أقدر أن أتصوَّر كم تعانين، أعرف أنَّه أضعاف ألمي. ولٰكنني لن أترككِ بِمفردكِ تُكابدين الوجع، أنا هنا يا أُمي وسأظل دائمًا هنا. ابنك المُشاغب المدلل آرلو.

هدأت نفسها بعد سماعها له يُحدِثُها بنبرةٍ صادقة وبحةٍ حزينة. سألت سؤالها الذي جعل ابتسامةً شحيحة تظهر على محياه:

- هل ستبقى هنا تعيش معنا؟ لن تذهب مرةً أخرى؟

- نعم، أنا هنا ولن أذهب لِأي مكان.

قالها يومئ برأسِه مرارًا وطعم الدموع المالح يداعبُ فمه. عدَّلت الأخرى من جلستها، لتجلس مُسندةً ظهرها إلى الخلف. احتضنت ابنها لٰكن هٰذه المرة كان حضنًا كـكُلِّ مرة تحتضنه فيها، بحنان ورقة، همست:

- ابقَ ولا تذهب. لم أعُد أطيق ذهاب من أُحب.

- لن أذهب بعد الآن أبدًا.

- لقد اشتقت لكَ كثيرًا يا بني.

- وأنا أيضًا اشتقت لكِ كثيرًا يا أُمي.

ارتسمت البسمة على وجه كريستين التي تقفُ تشاهد هٰذه الصورة لِأخٍ يواسِي أمَّه المفجوعة على ولدها، رغم ألمه ووجعه، هو أيضًا يحتاج لمن يُمسك يده ويُخبره أنَّ كُل شيء سيكون على ما يُرام، يحتاج لِحضن ينام فيه لِساعات وربما لِأيام.

انسحب آرلو من حضنها، مسح دُموعها وأحاط وجهها بكفيه قائلًا:

- تعالي لِنغسل وجهك ويديك قبل أن تتناولي الطعام. ستأكلُ هنا في هٰذه الغرفة.

نظر إلى كريستين نظرةً فهمت مغزاها، فأومأت له وتركتهما لتذهب إلى الأسفل لِإحضار الطعام. غسلا وجهيهما وتوجها إلى السَّرير. نظرَ آرلو إلى المنضدة بجانب السرير، وابتسمَ عندما رآها موضوعة هناك، مدَّ يده، سحبها، ونشأ يتحسسها جزءًا جزءًا.

- إنَّها هدية يوم ميلاده الثلاثين، لقد أهديته إيَّاها بسبب حُبِه المفاجئ للأخضر.

تحدثَ آرلو رافعًا لعبة بلاستيكية على شكل 'هالك' أو 'الرجل الأخضر'، قربها من والدته، فأومأت له تأخذ اللعبة بين يديها، استطرد:

- كنتُ أظنُّ أنَّهُ لم يحبَّها، لقد قال لي وقتها

"ما هٰذه السخافة؟! يا إلٰهي! هل تراني طفلًا في الثالثة من عمره؟ ما هٰذا الآن؟ لقد أصبحتُ رجلًا ثلاثينيًا، اِحترم عُمري على الأقلِ يا رجل"

اتَّسعتَ ابتسامة والدته عندما قام بِتقليد طريقة كارل في التحدُّث، وتفاصيل ذٰلك اليوم تَمرُ أمامها، تحدَّثت وفي عينيها لمعةٌ:

- لطالما أحبَّ أخوك أن يكون كبيرًا حتَّى عندما كان صغيرًا كانَ دائمًا يجلسُ بِرفقة الكبار ويرفضُ التخالطَ مع أقرانه من الأولاد. لقد أحبَّ هديتك بالتأكيد، لٰكنه لا يُحِبُّ إظهار جانبه الطفولي.

- اعتقدتُ أنَّه قام برميها كما قال، لقد حزنت كثيرًا ذٰلك اليوم حتَّى أنَّني فكرتُ بِشراء هدية أخرى، لٰكنه احتفظ بها حتَّى يومنا هٰذا دون أن يقول شيئًا.

- نعم، لقد قام بتخبئتها في خزنته المقفلة، عندما كُنا نقوم بتجديد آثاث غرفته وجدتها هناك. كنتُ أعلم أنَّهُ لم يقم برميها، فهو يُحِبكُ وأحيانًا نشعرُ أنا ووالدك أنَّهُ يُمارس الأبوة عليكَ أكثر منا.

أومأ برأسه وابتسامة باهتة علقت على شفتيه، يُدرك جيدًا كلامها، فكارل كان يُحِبه كما هو، بالرغم من عدم تحمله لبعضِ تصرفاته اللامبالية والعشوائية ورؤيته دومًا كطفلٍ صغير، ويُحاول أن يُفهِمه أنَّ عليه النُضوج قبل أن تفعل نوائب الدَّهرِ وتقوم بصفعه صفعةً يبقى أثرها ولا يزول. أثرٌ يراه الرائح والغادي.

طرقاتٌ على الباب، أذن آرلو بالدخول. جاءت كريستين بصينية الطعام، أخذها منها وشكرها، خرجتَ متمنيةً الصحة والعافية. حاولَ أن يجعل والدته تأكل لٰكن شهيتها معدومة، فـاكتفى بمساعدتها على تناول الشوربة، أصرَّت على أن يتناول هو أيضًا فتعبُ السفر بادٍ عليه، فتناول القليل مُجاريًا ومُشجعًا لها. بعد مدة نامت والدته في حجره، وهو يُمسدُ شعرها الذي أمسى مُبعثرًا، وضعَ رأسها بِرفق على الوسادة، يُمرر أنامله على وجهها التعِب.

بقي جالسًا مكانه يمرر نظره حول الغرفة، لا يرغبُ بالكلامِ ولا بالسلام، يريدُ أن ينفجرَ رأسهُ من شدة صخب الهدوء المُحيط، فصخب عقله يأبى أن يسكن.

أحيانًا، يكونُ صخب وضجة العقل أعنف وأكثر وحشية من صخب وضجة العالم، بل في الأغلب، أسبابُ انفجار الناس سببها ضجة عقولهم وليس أي عامل من العوامل الخارجية، فيلقون اللومَ والتُّهمَ على الآخرين في لحظة عمى سببها الغضب، ويدركونُ لاحقًا عندما تخمد نيرانهم، ويرون ما تسبَّبت به من خرائب وفظائع، أنَّهم مخطئون بحقهم وبحق غيرهم، بعضهم يعترف بذٰلك وبعضهم يرفضُ التصديق بهٰذه الحقيقة كما يفعلُ كثيرٌ مع حقائق أخرى.

التفتَ بعد مدة ليرى والده يدخل الغرفة، باديًا عليه أنَّه استحم فشعره الأسود القصير الذي غلبه الشيب كان مُبللًا، يرتدي ملابسَ قطنية فضفاضة سوداء اللون، همس بِصوتٍ مُنخفض؛ كي لا يوقظ زوجته التي نامت بعد أن تناولت دواءً مُسكنًا:

- هل يُمكننا التحدُّث في مكتبي؟

قام دون أن يقول شيئًا، أطفأ النور الخفيف فاحتل الظلام حدود الغرفة عدا من ضوء يسير يتسرب من النافذة. أغلقَ البابَ بِهدوءٍ وراحَ يتتبع خطوات والده حتى وصلا المكتب. دلفا إلى غرفة فسيحة، البنِّي بدرجاته محَتلٌ إياها بطريقةٍ كلاسيكية وراقية. جلسا على الأرائك المنفردة المقابلة لبعضها، يتبادلان النظرات المُرهقة والصمت الذي دام لِأكثر من دقيقة.

تنحنحَ الأب مُعدِلًا من جلسته، مُقربًا جسده إلى الأمام ليخرج صوته المتعب:

- كيف جرى الوضع؟ لم أرغب أن أُقاطعكما.

أومأ رأسه بإشارة على أنَّه تداركَ الموقف، قبل أن يخرج صوتهُ مُتزعزعًا:

- ماذا سيحدث بعد الآن؟ لقد أُنهكت المرأة وذبلت. ما الذي ستفعله عندما تستيقظ للواقع؟ ما الذي ستفعله لتتعايش مع فكرة أنَّه لا وجود لـكارل بعد الآن؟ عندما ترى كرسيه فارغًا في طاولة الطعام، أو عندما لا تجِدُ ورودًا حمراء مُرسلة إليها كل خميس... أو عندما تستيقظ باكرًا فقط لِتطمئن أنَّه تناول الإفطار قبل ذهابه للعمل لٰكنها الآن لن تجده!

زفرَ غابريل الهواء بِقلة حيلة، وأراحَ ظهره للخلف، يعلم أنَّ كُلَّ ما قاله صحيح، هو أيضًا مُتعبٌ ولا يستطيع تحمل موت كارل، يتمنَّى أن يرجع الزمن إلى الوراء ويبقى حبيس لحظاته السعيدة مع عائلته إلى الأبد.

نطق ينظر لابنه، مُحركًا رأسه يمينًا ويسارًا:

- لا فكرة لديَّ. كلُّ ما أعرفه أنَّهُ علينا شَدُّ عَضد بعضنا، لن أسمح لأحدٍ منا أن يعيش ألمه لوحده، لا أريدُ أن ننهارَ كُليًا؛ لأنَّ حينها سوف يكون من الصعبِ إعادة بناء الجسر المتين الذي بنيناه منذ سنوات، جسرٌ أساسه الاحترام، المحبة، الإخلاص، والتآزر. نحنُ معًا في الضراءِ قبل السراء.

يدركُ آرلو كُل حرف نطقه والده، فالرجلُ اجتهد طوال حياته ليؤسِس عائلةً مُتماسكة ومُترابطة، يدعمُ بعضهم الآخر ويسانده فيما هو فاعل. وقد كان مُحِقًا، أي لا يجب أن يعيشَ أحد ألمه لوحده دون مُشاركة الأشخاصِ الصحيحين، فعندها سيتسربُ البُعد إلى علاقتهم، فتُمسِّي علاقةً مشوَّهةً يتخلَّلُها الجفاء.

لاحظَ أنَّ هناكَ كلمات عالقة في جوفِ والده، ولم يُخرجها بعد، وقبل أن يستفسر سبقه بِسؤاله:

- هل ستبقى هنا؟ لا أريد أن أضغط عليك لٰكنك مُدركٌ للموقف. نحن بِحاجة بعضنا آرلو.

- نعم. من الواضح، أنني سأبقى هنا. أنا أيضًا بِحاجة لكما.

ارتاحَ غابريل لِسماعه ذٰلك، وقد هدأتَ نفسه قليلًا. عمَّ صمتٌ خفيفٌ المكان قبل أن ينبسَ بِكلماتٍ كانت كفيلة بتغير ملامحِ آرلو:

- آرلو، أعلمُ أنَّهُ ليس الوقت المُناسب لِمُناقشة هٰذا لٰكن... رُبما يجدرُ بكَ التفكير بالمجيء والعمل في الشركة. فأنتَ.... أعني لقد بِت ورِيثي الوحيد. وأنا اليوم أو غدًا سأتقاعد، لقد أنهكني العمل يا بُنيَّ، والشركة بِحاجة لمن يديرها ويُمسِكُ زمام الأمور، فبعد ما حصلَ ستعمُّ الفوضى وأُريدكَ أن تسيطرَ عليها.

-ˋˏ ༻❁༺ ˎˊ-

مرحبًا ☺️

برأيكم، هل كارل مات بسبب حادث سيَّارة طبيعي أم أنَّ هناكَ شيء آخر؟

رأيكم بكلام غابريل في النهاية؟

إن كنتم في مكان آرلو، هل ستوافقون؟

كُلُّ الحُبِّ لكم 🤍💫

繼續閱讀

You'll Also Like

908K 89.7K 30
في وسط دهليز معتم يولد شخصًا قاتم قوي جبارً بارد يوجد بداخل قلبهُ شرارةًُ مُنيرة هل ستصبح الشرارة نارًا تحرق الجميع أم ستبرد وتنطفئ ماذا لو تلون الأ...
195K 14.6K 28
اقتربَ واضِعًا يدًا على الطاوِلة ويدًا أخرى على الكرسي الذي تجلِس عليه، انخفضَ حتى أصبحَ قريبًا جدًا منها. راقبَت الوضع في صمت في مُحاوَلة منها ألَّا...
520K 24.3K 35
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...