Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

80.4K 3.6K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

١٩. تِلفاز

930 88 22
By Mervadoz

< قِراءةٌ مُمتعة >

يومٌ فرّ من حياة زارا، يومٌ ثانٍ ، و يوم ٌ آخر... شاهدت زارا أيامها تطيرُ امام عينيها و هي تنظر عبر نافذتها الى الخارج منتظرَةً رؤيةَ وجهٍ محدد.

هو لا يجيب...

لا يوجد في شقته ...

و لا حتى نانا...

اختفى جوهان من حياتها كما لو انه لم يتواجد يومًا.

تنتهي جلسة النافذة عند نداء الافطار، و تبدأ جلسةُ الالمِ الدائم و هي تجلس امام شقيقها الذي يحاول التأقلم مع حياته الجديدة.

شعرها قد احتكّ بزاوية فكّها اخيراً، اصبح بالطول الكافي لِتعليقِ مشبك شعرٍ ... ارادت ان تُرِي جوهان و نانا شعرها، لكنهما ليسا بأيّ مكان.

" لاحظتُ ان عقلكِ يحلّق بمكانٍ آخر هذه الايام زارا "

كسَر ايزاك الصمتَ بينه و بين شقيقته بصوتٍ مليء بالشكّ.

" فقط العمل "
اجابته بنبرةٍ فارغة و هي تقلّب طعامها دون تناوله، تغذّي غضبه ببرودها.

صمت ايزاك قليلا ثم تحدث بصوت بدأ بالارتعاش.
" انتِ تعرفين القوانين يا زارا؟ أ ليس كذلك؟ "

رفعت بصرها نحوه اخيرا.
" ماذا تقصد؟ "

رمى شوكَته بعنفٍ على طبقه، انفجرَ بوجهها صارخاً لدرجة انها شهقت.
" انتِ تعلمين تمامًا ما احاول قوله زارا! لا تدّعي الغباء!! "

هو لم يرفع صوته امامها يومًا من قبل... ابحَرت عيناها في الحزن حين ادرَكت ان مرحلة هدوء ما قبل العاصفَة قد انتهت، و الانَ ستبدأ مرحلة النجاة من النجاة.

كان ايزاك لا يتحمل صوت رقّاص الساعة التي تقف كنذير شؤمٍ بينهما، لكنه حاول ادّعاء انه بخير... ان لا شيء يزعجه بعد الان، ينبغي عليه ان يكون شاكراً انه بخيرٍ مع شقيقته، لكنّ كيف له ان يتجاهل الدمار بداخله؟

" آسف... "
همس و هو يدعك عل  رأسه بيدٍ ترتعد... تملّكتها الشفقة بدلَ الغضب، نهضت زارا حين تخلّت عن خوفها منه، اقتربت منه و قرفصت امامه، تمسك يدهُ و تنظر الى وجهه باعينها الغفورة.

" هل انت بخير ايزاك؟ "

حاول ايزاك التماسك امام زارا، لكنّ و هذا الرقاصّ يلعبُ بأوتار صبره... نجحَ فقط في تعديل نبرة صوته امامها.

" لم تعوديِ محض الفتاة الجالسة بهامش القصة... انت الان سيدة هذه العائلة "

تحدث بصوتٍ منخفضٍ لكن باردٍ ادهشها، ثم نظر اليها من زاوية عينه بحدة.

" تصرّفي كواحدة "

اضاف بصوتٍ تخللته حدّةٌ قاسية.

" حاضر اخي "
رددت وراءه بِصوتٍ ضعيف و هي تترك يده ببطءٍ ...

دعت ليل نهارٍ لاجل اخيها ان ينجو... لكنّه عادَ كشخصٍ آخر... شخصٍ يُخيفها.

تبعاً لذلك، قامت زارا بمهامها العادية مع مرور الايام الباردة، ينايِر بمنتصفه، و البردُ بأوجِه في جزيرة المونديجو التي اشتدت الحراسة بها و كذلك تغيّرت بعضُ المناطق بها جراء الاقتحام الاخير.

حدّقت نحو شجرة الطيور مجددًا بعد ان خرجت من القاعة... و مجددًا لم تستطِع تفسير المشاعر المدفونة بداخلها، عدا الاشتياق و الوحدة التي شعرت بها و هي من دون جوهان و نانا.

" كيف الاحوال ايتها البجعة الصغيرة؟ سمعت ان ايزاك عاد، لابدّ انّه حزين انكِ اخذتِ مكانه، مسكين "
تحدّث ريمو بنبرة صفيقة و هو يعرِض طوله امامها كما يفعل دائماً حين يحاول الدعسَ على احدٍ.

تعرّضها للمضايقة من طرفه مع كل اجتماع اصبح تقليداً لا يمكنه تجاوزه، من العارِ انها تعوّدت على بجاحته لدرجة انه لم يعُد يزعجها بعد الان.

" سيد ريمو، لماذا تناديني بالبجعة دائما؟ "

طرحت السؤال الذي يراودها كثيراً.

" أ و لم تكوني راقصة باليه؟  "

" هل حضرت احد عروضي؟ "
هتفت باستغرابٍ شديد... زارا كانت ترقص الباليه منذ نعومة اطفالها ، تبعاً لوالدتها التي كانت كذلك... و بعمرٍ متقدمٍ فكّرت في تطويرها من هوايةٍ الى احتراف... لكنّ كل آمالها بذلك تحطمت بعد ان تحصلت على كسرٍ بالقدم انهى كل مسيرتها.

شكراً للمقنّع.

" نعم،  عرضكِ الفاشل ذاك! "
رددَ ريمو بنبرةٍ عالية جاعلاً حاجبها يرتعش... ان التقت جوهان مجددًا فستلمّح له عن مضايقاته و ستدّعي البلاهة ان قتله و خلّصها منه.

" لم ارَ شيئا اكثَر فشلاً من محاولة والديك في انجاب رجل "

هتفت وراءه بِنبرة خافتة جاعلةً ابتسامته العريضة تضمحل، و قبل ان يفتح فمه باهانة، لمحت زارا مورتا من بعيد، فتجاهلته كلياً و ركضت اليها.

" مورتا! "

توقّفت مورتا عن ملاحقة بيرلين حين نادتها زارا.

" كيف بامكاني مساعدتك آنسة سكازوس؟ "

تنفست زارا بعمقٍ و خدّاها و انفه يتوهج كفانوس احمر من البرد، تنظر بابتسامةٍ لطيفة الى مورتا التي ارتبكت من لطفها.

" هل بامكاني دعوتكِ لشربِ قهوةٍ معا؟ "

عرضت عليها فتفاجأت.

" هل توجد مناسبة؟ "

سطعت ابتسامةٌ صادقة على شفاه زارا و هي تهزّ كتفيها بِعفوية تامة.
" فقط فتاتان تجمعهما رابطةٌ رفيعة تحتسيان كوبيّ قهوة بهذا اليوم الجميل "

رددت نفس الكلمات التي رددتها مورتاَ من قبل، صمتت مورتا طويلا معرِبةً عن ترددها من قبول الدعوة،  لكن مع اصرار زارا... قبلتها في النهاية.

جلست مورتا بملابس اقلّ جدّية بنفس المقهى الذي اجتمعت فيه بزارا من قبل... تراقب كأس قهوتها و بخارها تارةً، ثم زارا المستمتعة بِكوب الشوكولاتة الساخنة خاصتها.

هل عرفت بانها تخبئ عنها سرا؟

هل حدث و تذكر ايزاك شيئا؟

فضلت مورتا فشلاً ذريعاً في ان تكون نفسها او ان تدعي ذلك بعدَ انخراطها بلعبةِ بيرلين الخبيثة ضدّ زارا المسكينة.

" لم تلمسي كأسك "

علّقت زارا، فتنهدت و اعتدلت بجلستها.

" من الصعب تصديق انكِ تقومين بدعوتي هكذا من الفراغ، اسفة "
بصقت مورتا اجابتها الباردة و هي تتجنب اي اتصال نظري مع زارا التي عبست و هي تترك كوبها ببطء.

" اتفهّم موقفك، و اننا لسنا بصديقتين اساسًا... "

تحدثت بحرجٍ ثم صمتت... تنهدت و قد امتدّ احمرارٌ على وجهها و هي تحمل كيساً ورقيا و تضعه على الطاولة.

نظرت اليه مورتا بِحاجب مرفوع،  شجعتها زارا على النظر الى داخله بابتسامة... ترددت مورتا قليلا لكنها فتحته بالنهاية.

اتّسعت عينا مورتا الزرقاوتين و يداها المغلفتان بقفازاتها تحملان الوشاح الاحمر المصنوع يدويها، تنظر اليه كما لو انها لا تصدق ما تراه.

" نيلو اخبرني انّك كنتِ تحاولين حياكة واحد، و اتذكر انك اخبرتني انك احببت خاصتي "

تحدثت زارا حين طال الصمت و تعسّر عليها قراءة تعبير مورتا.

" كما انك قلتِ انّنا مترابطتان بطريقة او باخرى... اننا فتاتان "

رددت مجدداً بصوت مرتبك و كأنها تحاول عقد صداقة لاول مرة  ... ضحكت بخفة و هي تتكلم مجددا.

" اتمنى ان يعجبك "

لم تتحرك مورتا من مكانها، لاتزال تنظر بنفس الطريقة الى الوشاح مما اثار حيرة زارا كثيرا.

" هل انت بخير مورتا؟ "

مع ذلك السؤال رفعت مورتا بصرها اخيرا عن الوشاح، تجمدت زارا مكانها اثر التعبير الجديد الذي رأته على وجهها... لم يسعها ان تصدق ان مورتا التي سارت بذراع مكسورة و دماءٍ على ابتسامة، هي نفسها التي ذاب الثلج عن عيونها اللامعة.

عاريةٌ من قناعها الخبيث كانت، فبدت كصبية في عمرها... محض صبية عادية تحب اقتناء احمر شفاهٍ كل شهر كتقليد.

" جوهان لا يغادر ورشته... لا احد اصبح يراه اساساً ... كما انه لم يحاول قتل احدنا منذ انذاك "

نبست مورتا فجأة و قد استعادت قناعها البارد.

" لماذا؟ "
تساءلت زارا بحيرة و قد توقف قلبها للحظة من التغير المفاجئ بتعبيرها.

" نانا ماتت "
اعلمتها دون مقدمات و بنبرة باردة... شلّت الصدمة زارا عن الاجابة لثوان طويلة.

" ماذا؟  كيف؟ "

بدأ صوت زارا بالارتعاش اثر الخبر الصادم الذي لم يسعها تصديقه.

" لا استطيع اخبارك اكثر من هذا "
تمتمت مورتا و هو تخفض رأسها قليلا.

" ارجوك مورتا! اترجاكِ! ساعديني لرؤيته!! "
هتفت زارا فوراً و قد امتلأت عيناها بالدموع.

" لا استطيع، محرّمٌ على انسانٍ حتى لو كان من النخبة دخول قصر المونديجو ، فقط الظلال و حراس البروج مسموح لهم "
تحدثت مورتا ببرود تام.

" اترجاكِ! فقط لساعة واحدة! لا احد سيعلم! "
توسلتها و هي تمسك يدها برجاءٍ عظيم.

"لا استطيع "
رفضت بنفس النبرة.
" حسناً نصف ساعة و حسب! عشر دقائق! لا تدعيني هكذا مورتا! سأصاب بالجنون ان لم أراه! "

بكت و هي تترجاها ، لكن كل ما نالته هو الرفض المؤلم.

" لا "

نفخت خيبة الامل عروق زارا باليأس و هي لا تجد طريقاً واحداً الى محبوبها الذي كان يصنعُ آلاف الطرقِ اليها في حاجتها و استغنائها،  لكنها لا تستطيع حتى رفع ذرةٍ من حزنه و هو بعيد عنها.

فكّرت في الكوابيس التي تجتاحه... كانت تعلم كم هي كوابيسه سيئة، كيف تنتهز ضعفه و تمنعه عن النوم...

فكّرت في الهالات اسفل عينيه... فكّرت في نظرته الخائبة... فكّرت الى ان خنقها التفكير و القهر...

لكن زارا لم تكُن وحيدةً تبكي تلك الليلة الماطرة.

تحت نفس الغيوم المحملة بالمطر و الظلام، لكن ليس تحت نفس السقف و بعيداً بأميال كثيرة... اخترقت نغمات الساكسفون الطفولية جناح مورتا المظلم بلُجّ الليل.

تلفازها القديم كان الشيء الوحيد الذي يضيء جناحها، و مثلما تلمع النجوم الميّتة في الظلام، برقَت دموعها الكثيفة امام الكرتون القديم الذي تستمر بمشاهدته دون انقطاع.

بكت مورتا بصمتٍ على الوشاح الذي حملته يداها منذ ان عادت للقصر ...

شعرت بالتّيه حين تلقّت ما ارادته كيلة حياتها...

وشاحٌ صُنع خصّيصًا لها.

ما المغزى الان من اي شيء؟

" لازلتِ تشاهدينه؟ "

نبس نيلو وراءها فمسحت دموعها فوراً بحركة عنيفة.

" أ تعلمين انه في القصة الاصلية، صاحبة هذه الوشاح ماتت مختنقة به "

اضاف بسخرية و هو يجلس امام الشاشة بمقعدٍ آخر... ابتلعت مورتا ريقها ، تنفست بعمقٍ و هي تضع يديها فوق الوشاح في محاولة بائسة منها لاخفائه، لاخفاء عواطفها.

كان بامكانه شمّ دموعها و بؤسها، لكنه لم يعلّق... بشكلٍ غريب و لسبب لا يفهمه، كان نيلو يشعر بالراحة حين يرى مورتا تبكي ، لذلك ابقى نظره للامام كي لا تشعر بالسوء للبكاء امامه .

" ربما حقا القسوة صفة ادمية، و المودّة اكتسبناها من مشاهدة الحيوانات حولنا "

همس بنبرةٍ خافتة ثم اصغى لصمتها الطويل ... اعاد التلفاز الفيلم الكرتوني مرة اخرى، ثم اخرى، و اخرى...

الى ان دقت الواحدة فجراً و هو يدور امامهما دون توقف، الى ان يئس من صوتها.

" نيلو... "

كسرت مورتا الصمت بنداءٍ ضعيف ابحّ، نظر نحوها بعينٍ جانبية.

" نعم مورتا "

" اريدك ان تفعل شيئا لاجلي "

كباخرةٍ مثقوبة على ميناءٍ مهجور، لا يمكنها الاقلاع او الغرق بسهولة... شعرَ جوهان و هو يجلس امامَ كتلة الصخرِ التي رفضَت انامِله الموهوبة.

سحنته الفارغة من اي تعبيرٍ اقسدت كل افراح العالم ، و منحوتاته مشوّهة الوجه التي ترامت على الارض تكاثَرت مع كلّ يومٍ يمر.

كان ينحتُ منذُ ان حمِلَ حقّاً في الحياة بعد امتحانه الاول... يرسمُ ما يشتهيهِ قلبه، و يحاول استحضارَه عبرَ نحته من حجرٍ او خشب او خزف... كطفلٍ بائس يحاول صنعَ اصدقاء خياليين، او مخلوقات آمنةً لا يمكنها طعنُ ظهره.

عقلُه مكدّرٌ عن التفكير، مجمّد كقلبه الذي امتَهنَ النبضَ بالايام الخوالي.

لا يجدُ مكاناً للذهاب اليه او احدًا لمكالمتِه... لا طعمَ للمثلجات بعد الان، لا طعمَ للحكمِ على الاخرين و الاسوء...

لا احد بامكانه قصّ شعره مثلما تفعل نانا.

نانا التي لا يتذكّر وجهها مهما حاول.

كما لو انها محض حلمٍ غريب رآه مرةً، و ليس انساناً شاركه ايامه الطويلة لكن المعدودة.

حياة الظلال قصيرة... كحياة نانا.

لماذا ؟

" جوهان "

اخترَق صوتٌ ناعمٌ وحدَة جوهان الذي استيقظ بعنفٍ من الفوضى بداخله.

رفع رأسه و التفت بتعبيرٍ نصف فارغٍ نصف مدهوش.

" كيف اتيتِ الى هنا؟ "

نبَس بصوتٍ خافت و اعينه تتنفس برؤية زارا رغم ادراكه بخطورة تواجدها.

عقدَت زارا حاجبيها و اعينها تتلألأ...

انها جاهزة لجلسة البكاء الجميل، فكّر و جراحه تزهر بوجودها.

تجمّدت قدماها و هي تمنع نفسها عن اظهار مشاعرها الجياشة امامَ اعينه الباهتة.

" مورتا ساعدتني "
نبست بصوتٍ منخفض.

" لا ينبغي ان تكوني هنا... "
تمتمَ و هو يخفض نظره عنها حين لمح ظلاّ من الشفقة بعينيها الواسعتين.

جمعت زارا شجاعتها، تحركت بهدوءٍ و بطءٍ اليه، تقف وراءه بصمت الى ان نطقت مُرغمَةً نفسها.

" آسفة... لاجل نانا "

لم يًجبها، بل حمَل ازميله و جهّز نفسه لِمتابعة عملية النحت.

" هل انت بخير؟ "

نبست مجددا لكن دون اجابة... فقط صوت المطرقة و انكسار الحجر.

" جوهان ارجوك... "

همست برجاءٍ و هي تضع يدها على كتفه، جاعلةً اياه يتوقف فوراً كما لو انها عطّلت جسده تلقائيا.

و رغم انه توقف الا انه استمر بصمته.

" لا استطيع تذكّر ملامح وجهها "

كلماته التي جاءت بنبرة فارغة حطمتها مثلما حطّمت الصمت.

" أ لا تملكُ صورةً لها؟ "

" ليس مسموحًا لنا بأخذِ الصّور لانفسنا "
اجابها بنبرة خالية من اي احساسٍ، تعاظمَ الحزن داخل زارا التي  استقرت يدها على مؤخرة رأسه، تنزل بلطفٍ شديد على طول شعره الذي لايزال قصيرا... ارتخت عضلاته المتصلبة اثر لمستها الحذرة، تنهد بخفوت و اناملها اللطيفة تسير بين خصلات شعره الناعم.

" لا استطيع فهمَ ما بداخلي... لا استطيع تمييزه "
تدحرج صوتهُ بنبرةٍ ضعيفة.
" هل انا غاضب؟ حزين ام ناكِر؟ ... لا اعلم "

تساءل و هو يبحث عن الاجابة بين شفاهها، زارا التي لم تنم بين كلمات اسياد المعرفة، لكنها الوحيدة القادرة على فكّ ألغاز قلبه.

" انتَ تشتاقُها "

غادرت كلماتها شفاهها المرتجفة  و هي تجلس بجانبه، لكن قدماها بالجهة المعاكسة.

" و لا بأس... هذا ما يشعر به الانسان "

همست بنبرة فاترة و هي تنظر بشغفٍ الى وجهه الذي تألق فيه البرود الحزين.

"انا أقرَب للوحش من الانسان "
تحول صوته الى نغمة اضعف.

" حتى الوحوشُ و تحبّ قطيعها يا جوهان... "
رددت وراءه و هي مصرّةٌ على تزيينِه بالريش و الورود، ربما لان زارا لم ترَ جوهان الذي علّق اخوته على صليبٍ في عاصفة ثلجية، و لا جوهان الذي قتل امرأة بلا حول و لا قوة فقط لان بيرلين قال ذلك... و لا جوهان الذي دافع عن هذا الاخير ضد نانا...

نانا التي كان بامكانه انقاذها لولا تعظيمه و تبجيله للمونديجو.

هي لا ترى سوى جوهان الذي تُزهِر ندباتها بوجوده.

جوهان الذي يحبّها حدّ الوجع، لكن ليسَ حدّ البهجة.

" لما تبكين؟ "

اعينها الطافرة بالدموع جميلة ، لكنها كانت مؤلمة.

مسحت زارا دموعها و نظرت بعيدًا، تبتسم عسى الاّ تبدو بشكلٍ بائس اكثر.

" ابكي بدلاً عنك "

كانت تلك اجابةً لم يتوقّعها جوهان، و لم يفهمها انذاك.

" انت تحبّين البكاء و حسب... كفّي عن اختلاق الاعذار "

رددَ بنبرة باردة لكن بصيغة لئيمة، ضحكت بخفوتٍ و رفعَت خصلةً من خصلِ شعره القصير المتمرّدة عن جبينه ، حاولت ارجاعها للوراء بحنان.

" ربما حين تبكي عيناك كما ينبغي ، لن ابكي بعد الان "

قالت و يدها تستقر على خدّه، تُذِيبُه بكلّ سهولة... دافئة فاترةٌ كانت، ناعمةً حدّ الجنون.

اشكال الجمال مختلفة بهذا العالم، قد تأتي على شكلِ وردة،  او قمر او شمس... لكن بالنسبة له الجمال اتى في حنان هذه الفتاةِ الشابة.

رفع جوهان يدهُ الى اطراف شعرها فلمسها بخفّة، بأنامل مترددة.

شعرها اصبح بالطول الكافي لتعليق اكسسوارات ثقيلة كهذا الذي تضعه عليه... زارا اجمل بالشعر الطويل.

زارا سكازوس بكاءة جميلة.

لمست انامله الندبةَ على خدها فتوَرّدت، كانت اناملها خشِنة بفعلِ انهماكه بالنحت... لكنها كانت دافئة و حذِرة.

أمالت رأسها كي يقع خدّها براحة يده، هناك وجدت زاراَ ملاذاً لدموعها التي لا تتوقف.

نظرا الى بعضيهما كما لو ان كلاهما تحت تأثير نفس الاحاسيس، لم ينطِق احدهما بكلمة و اشعة الشمس البرتقالية تنكسرُ عليهما...

التَقطت حوّاسه خطواتٍ قادمة، نهض على الفور جاعلاً اياها تنهض كذلك... سحبها من يدها بسرعةٍ و فتح خزانته الجدارية ذات الابواب المخرّمة.

" اختَبِئي هنا ، لا تُصدِري صوتًا "
حذّرها هامساً و هو يمسك كتفيها الرقيقين باحكام، هزّت رأسها بتفهمٍ، ثم اغلق عليها على الفور تزامناً مع انفتاحِ بابه دونَ طرق.

التَفت جوهان ببطءٍ ناحية ساينت الذي طاف بصره بالغرفة و كأنه يبحث عن شيء.

" اعتقدتُ انّك تتحدث مع شخص ما "

" لا، لابدّ انّك سمعت شيئا اخر "

قال ببرودٍ و هو يحمل منشفة، ينظف يديه بها ...

هزـ ساينت رأسه بِاقتناع، اغلق الباب وراءه و اخذ يتجوّل بالورشة كما لو انها ملكه  .

" لازِلتَ مُغرمًا بالنّحت اذاُ يا جوهان ، ماذا تصنع؟ "

ردّد بعجرفةٍ و هو يتلمّس وجوه منحوتاته المثيرة للاهتمام... وجوهٌ مميزة من يدِ نحّاتٍ موهوب لا يجيدُ رسمَ الابتسامات.

" لا اصنع العرايا الذين يروقون لك هذه الايام "
اجابه جوهان بنبرة باردةٍ غير سارّة... توقّف ساينت و جلس فوق طاولته الخشبية متنهداً بملل.

" أ و لا تعتقِد انّك تأخذ موضوع نانا بشكلٍ شخصيّ للغاية ؟ بيرلينّ منزعجٌ منك قليلاً بسبب ذلك "

تقلّص بؤبؤ عيون جوهان فجأةً كَما لو انّها امتلأت بالكَراهية، صمت طويلاً و هو ينظر نحو الفراغ، ثم انزلَ غطاءه المخملي فوق منحوتته قائلا ببلادة.

" سأذهب لِتوضيح الامور له بأقرب وقتٍ ممكن "

"  طبعكَ المتبلّد هذا لا يناسبك... اشتَقتُ حسّ دعابتك، محاولاتكَ العديدة لقتل الجميع... هيّا، انت تجعل المنافسة مملّة "
رددَ ساينت باستهزاءٍ، ثم تراجع صوته الى همسة خبيثة.

" ثمّ ان كنتَ بهذه الحساسيّة، فلا اعتقِد انّك ستكون قادِراً على تولّي منصبٍ كالموندِيغو "

حوّل جوهان نظراته الحادة الى اخيه بحركةٍ سريعة مُحذّرة.

" نانا كانت محض ظلّ اخر يموت كغيرها من الظلال الاخرين... لا اتذكر انك شعرت بالحزن من قبل على اخ او اخت سابقا ، ام انك اكتسبت بعضاً من المشاعر الادمية؟ "

قال بابتسامةٍ متعجرفة و هو ينزل عن السطح .

" حسناً، قبل ان يأخذنا هذا الحديث الى مكانٍ آخر، سأذهب اخي الصغير "

كسرَ ساينت الجو المشحون بِسخافته المعتادة، سار بعيدا الى الباب و هو يلوح له ريثما جوهان لايزال يراقبه بعينٍ جانبية ، مدّ ساينت يده لمقبض الباب كي يفتحه لكنه توقف فجأة.

توقّفَ طويلاً جاعلاً الوقت يبدو كما لو انه تجمّد.

و هناك وراء ابواب الخزانة المخرمة وضعت زارا يديها المرتجفتين على فاهها ريثما قلبها يضخّ الرعب و ليس الدماء.

هي لم ترَ وجه ساينت من قبل...

لكنّ شيء بوقفته، شيءٌ باسلوبه و هالته، يسحبُها الى حجرةِ كوابيسها...

و هناكَ و اعينها قد بدأت تتموّه، حرّك ساينت عينه بحركةٍ فولاذية اليها تماما... كما لو انه ينظر وراء الابواب المغلقة، اخترقَ روحها فقط بنظرة من اعينه الرمادية القاتمة.

اغلقت زارا عينيها غريزيا حينَ تحرك بسرعةٍ مرعبة اليها ، و بحركةٍ غير متوقعة فتحها بقوة فسقطت منها ارضاً، تحت اقدامه.

فتحت عينيها على حذائه العسكري الثقيل... سار بصرها ببطءٍ شديد على ساقيه الحجريتين، ثم الى جزئه العلوي المفصّل بقميصه الضيق القطني... الى عيونه الغامضة المثيرة للرهبة.

تنظر اليه كما لو انه الموت بنفسه، غير قادرةٍ على عتقِ لسانها من البكم.

التوت شفاَه ساينت ببسمةٍ غامضة و هو يضع يده على خصره كما لو انه صاحب اعلى سلطةٍ بالمكان، اعينه الخبيثة على جوهان الذي حمل ازميله، جاهزًا لِسفك بعض الدماء به.

ثم حوّل بصره الى زارا التي لم تتحرك انشاً من مكانها، مُصابةٌ بعطلٍ مؤقتٍ اثرَ نظراته النازفة.

و مع زمجرة بصوته تحدث بازدراء و عيناه لا تبرحان عينيها.

" ارى ان لديك ضيفاً بالفعل يا جوهان "

< يُتبع... >

Continue Reading

You'll Also Like

430K 21K 18
الأموال التي انبهرتِ بها يا خالتي بالنسبة لي عتمة أخاف ان اخطو خطوة واحدة داخلها هل تريدين التخلي عني اذا لماذا قمتِ بتربيتي لماذا لمَ تتركيني في ملج...
999K 30.4K 64
النساء لا مكان لهُنَّ في حياته، عالمه ينصب على أبناء شقيقه وتوسيع تجارته في أنحاء البلاد. هو "عزيز الزهار" الرَجُل الذي أوشك على إتمام عامه الأربعين...
10.7M 232K 13
"الحقيقة أغَـرب مِـن الخَـيال دائماً" #الكاتبة_سارة_الحسن #الأشيب #ملجأ_الغرباء
27.1M 1.1M 70
ساقفل جميع النوافذ التي تؤدي الى التسامح فلا تراجع عن الثأر ..