Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

80.5K 3.6K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

١٥ . قرِيب

1.1K 99 86
By Mervadoz

< قِراءة ممتِعة 💗>

كانت السّاعةُ تشِيرُ للسادسةِ مساءً، من المفترَضِ ان تكُون زارا قد عادت للمدينة بالفعل، و هو الان يستعد للذهاب الى بيتها.

بالاحرى يجهّز اوريو للذهاب...

ألبسها السترة التي صنعتها زارا لها، بدت لطيفة لدرجةِ انّه لم يستطع منعَ نفسه من قرصِ خديها.

" انظُري لنفسِكِ اوريو! لقد أصبحتِ التعريف الجديد للطافة! "

هتف و هو يحارب كي لا يحطّم جمجمتها اللطيفة بين يديه، زمجرت بعدم رضا، ثم انقضّت على يده تعضّه.

" يا لكِ من متوحشة! "

علّق بخفوتٍ و هو يتألم ، نهضَ كي يعقّم جرحه ثم يرتدي قفازه،  كله و هو يتبادل نظراتٍ ثاقبة معها... الى ان ابتسم مجددا مغلوباً عليه من لطافتها.

" لكنك لاتزالين لطيفة "

حملها بذراع واحدة و هو يتجه الى الباب يحادثها مجددا.

" زارا ستكون سعيدةً برؤية الحركة الجديدة التي علمتها اياك، لا تحرجيني امامها "

حذّرها و هو يفتح الباب، و بسرعةٍ تلاشت ابتسامته حين وجد زارا امامه، واقفةً كالشبح بصمت...

بدَت كمن وقف هنا امام بابِه لزمن طويل، كما لو انها بمنتصف حرب، و هي الطرفان المتنازعان معاً.

" ما الذي تفعلينه هنا؟ "
سأل باستغراب، انتشرت ابتسامةٌ خافتة على شفاهها و هي تأخذ اوريو من يديه، تطبَع قبلةً طويلةً على خدها، تشمّ رائحتَه العالقة بفروِ القطة.

" هل بامكاني الدخول؟ "
اجابته بسؤالٍ بنبرة ضعيفة، ابتعد عن طريقها و أغلق الباب وراءها حين دلفت للداخل.

استمرّت باللهو مع القطة لفترة، و هو استمرّ بمشاهدتها بصمت بعد ان نزعَ معطفه كي يبقى بِقميص اسودَ ذي ياقةٍ عالية تماماً كخاصتها.

' أ ليس من المفترض ان تعودي للبيت؟ "
طرح سؤالاً كسر الصمت، فقدت ابتسامتها الضيقة، رفعت بصرها اليه و القطة تهرب من ذراعيها  .

صمتت قليلا قبل ان تجيبه بهدوء.

" لم أعلم اين هو البيت "

هي حقّا لم تعرِف اين هو البيت بعد الان...

البيتُ لم يكُن يومًا سقفًا و اربعة جدران، البيتُ كان شخصاً... بجعبةِ زارا تواجد حنينٌ دائم للبيت، و لكنها لم تعرِف بتاتاً اين هذا المكان الذي تنتمي اليه.

هي لم تعرف اي مكان عدا بيته للالتجاء اليع...

اخفضت بصرها عنه، لم تتحمل رؤية عيونه المتعجرفة ممتلئة بالعاطفة لها.

" انا فقط لا استطيع العودة لذلك القصر... سأعرضه للبيع او ما شابه، انه كبير اساسًا على فتاةٍ وحيدة مثلي "

تحدّثت بدون اكتراث، نهض جوهان من مكانه ثم جثى على ركبة واحدة امامها، بالمستوى الكافي لجعلها عينيها غير قادرة على الهروب من خاصتيه.

" انتِ بخير ؟ "

بتلك النغمة المنخفضة الحنونة تشقّق سدّها الذي حافظت عليه لزمن طويل.

" هل حدث شيء لك؟ "

تدفّقت المياه من الشق الذي انفجر...

" هاڤن اخبريني "

تسرّبت مياهها من عيونها دون مقدمات بسبب ثلاث اسئلة منه، انهارت بسهولة امامه، في لحظة لم تهتم فيها لِكبريائها و لا لأي شيء آخر بكَت فحاولت يداها منع سيل الدموع.

" اشعر انني شخص اسوء من القمامة "

تسرّب صوتها متكسّراً كَسطحِ بحيرةٍ رقيق...

" اي نوع من الاشخاص هو الانسان الذي يؤذي والديه؟ "
همست برجفةٍ و اكتافها تهتزّ الى ان اجهشت بالبكاء تلقائيا... تحاول ايقاف الدموع لكنها تعود مجددا كباكورةٍ ذاتية.

بكَت كشخصٍ يجلد نفسه مراراً و تكراراً،

" هو من انقذني، هو لم يتخلّ عني جوهان، هو اغلق مشروعه فقط لانقاذي "

قطّب جبينه من الكلمات التي تلفظت بها.

" من اخبرك هذا؟ "
همس فنظرت الى عينيه.

" مورتا..  مورتا اخبرتني، لقد كانت هناك، بيرلين أوكلها "

همست بالحقائق التي تركت جوهان غائباً عن التغطية لثوانٍ ممدّدة.

مورتا؟

لم يكُن لديه تفسير منطقي لما يحدث بين بيرلين و مورتا، لكنه علم و تأكد...

تأكّد من ان بيرلين استبدله بكل سهولة بها.

و الان منصب المونديجو صار ابعد عنه ببرزخ.

لا تعرِف الساعة... لا تعرِف ان كان الوقت نهاراً او ليلاً

فقدت عدّ الايام التي تتمدد بالقدر الذي لا يليقُ بها.

الابيض الّذي يلوّن هذه الجدرانَ القطنيّة صار يُؤرِقها، لا احد اخبَرها من قبل ان لونًا بسبطا مثله كافٍ لدفعها للجنون.

في الزاوية بفستانها الابيض الرثّ الذي امتلأ ببقع دمائها جلست خائرة القوى، تشعر بالبرد و الالم بقدمها.

فقدت القوة على المقاومة، روّضها اخيراً كما ارادَ منذ البداية، لماذا تشعرُ انه غير راضٍ عنها، أ و لم يسعَ طيلة هذه المدة لجعلها تخرس؟

لكن الامر كان مختلفا هذه المرة... ترك الباب وراءه مفتوحاً و هو رجلٌ لا يغامرُ بهذا الشكل حتى لو بلغ غرورُه انفَهُ.

فقط نظر اليها جيدا

و شيء بداخلها فهم انه يودعها.

اعتقدت زارا انذاك انه سيقتلها، لذلك بكت بصمت...

شيء بداخلها سَعِد لأنها لن تتألّم بعد الان... اما الشيء الاخر فتحسّر بشدةٍ...

هذه لم تكُن النهاية َ التي حلمت بها؛ أرادت عائلةً و بيتاً دافئاً، أرادت حبّاً و سريرًا ناعمًا ريثما اطفالها يحيطون بها في لحظة الوداع، على الاقل شعرة بيضاء برأسها، على الاقلٍ تجعيدةٌ خلف عينها...

لم تُرِد الموتَ و هي لم تبلُغ السابعةَ عشرَ بعد...

هل كُتِبت عليها الوحدة للابد؟

بكَت بِغزارة و هي تتحسّر على نهايتها المثيرة للشفقة، لكنها التزَمت بالصمت.

امسك بذراعها، حقنها و قد كانت يده لا تجيد الحقن فآلمها، ذرفت دموعاً كثيرة ، كباكورةٍ ذاتيّة لا تنفذ منها المياه.

شعرَت بالسائل الباردِ يصعقُ عروقها، ينتشِر كالدبابيسِ بجسدها، لسانها ثقل و كذلك اجفانها، جرفها الظلام عن التحديق في قناعه الخالي من التعابير، و مع ذلك تخيّلت تعابيره، و حدسها اخبرها انهُ كان يرتدي ملامح تعيسة.

غطّت في نومٍ مشابه للموت و هو يضع كيساً اسود من القماش على رأسها، يقيدها ثم يحملها بساعديهِ القويّتين.

كانت رائحةُ الدخانِ عالقةً فيه... كان مدخّناً شرهاً.

و بعدها امتزجت رائحة الدخان بخاصة الامواج المالحة، المليئة باليود و الاملاح... الارض كانت تتمايل و تتحرك بفضل الامواج الكاسر الشرسة.

كانت نائمةً في حضنِ سريرٍ لأول مرة منذ زمن بعيد، و الشيء الذي غطّى جسدها الهزيل لم يكُن غطاءً، كان سترته التي علقت فيها رائحته، لم تستطِع الرؤية بسبب العصابة التي غطت عينيها جيدا، مخدرةٌ بما فيه الكفاية كي لا تحركَ اصبعاً منها.

كما لو انها مشلولة بنومها بقيت مستيقظة ما بين اليقظة و الخيال... و هو يدخن امام النافذة المفتوحة الصغيرة...

لا صوتَ بينهما سوى نعيق الطائر المشابه لحشرجة الموت.

كان يطيرُ بعشوائية و عدوانيّة لدرجة انه حاول الدخول، اغلقَ النافذة فصارَ  ينقب على نافذتها...

ينقب كالمنقار ، اخذَ التوتر يدقّ بعروقها و هي غير قادرةٍ عل  فعل شيء غير ذرف دموع الخوف... الى ان نامت مجددا.

رفرَفت اجفان زاراَ على انوارِ الشمس التي تسللت من وراء الستائر... اخذت لحظةً لِاستيعاب اين تتواجد و ان ما رأته للتو كان حلمًا اشبَه بالحقيقة ممّا هي الحقيقة...

جسدها الرقيق كان غارقاً بِمنامته الدافئة التي منحها اياّها ، خارت قواها من البكاءِ لساعات فنامت على اريكته.

نهضت بجزئها العلوي و هي تدعك على عينها المتورمة، ثم توجّه بصرها الى مصدر الضوضاء... جوهان منهمكٌ بتحضير الفطور كما لو انه على وشكِ اختراعِ ذرّةٍ جديدة.

لا يَصنعُ شيئا دون احداث فوضى وراءه... المغسلة امتلأت بالصحون و الادوات المستعملة بعد ان كانت فارغة ليلة امس.

ثم اوريو فوق الطاولة تراقبه باعينها الثاقبة و هو يضع فطورها في صحنها المخصص.

كان يشعر بالتوتر من نظراتها دون ادنى شك.

" كابوس مجددا؟ "

سألها حين وضعت قدميها على الارض... فهمت حينها انها كانت تتخبط بشكل واضح في نومها عدة مرات.

" اخبرني احدهم انّ الحلم ملتقى الاماني و المخاوف ... و حين تتشابه الامنية و الخوف، نسميه كابوس "

تحدثت بصوت منخفضٍ و هي تتجه للثلاجة كي تخرج بعض الثلج، تضعه في كأس ثم ملعقتين معه... وضعتهما على عينيها المنتفختين و اضافت بتعبير مستخفّ.

" لا استطيع تفهم صاحب المقولة لان لا اثر للاماني في احلامي ... هل احلامك هكذا ايضا؟

وقف ينظر اليها تقوم بروتينها اليومي ، البكاء ثم وضع الملاعق الباردة لتخفيف الاثار اللاحقة.

" لا اعلم... "
ردد بحيرة .

" ماذا ترى في احلامك اساسًا؟ "
سألت و هي تعيد وضع الملعقتين بالكوب المتجمد.

" ليست باشياء مهمة "

" اخبرني عن واحد كي انسى ما رأيته بحلمي "

" لا اتذكر... "

" اخبرني اذاً عن الذي رأيته هذه الليلة و سأخبرك عن خاصتي "

رضخ جوهان بسهولة لشروطها، كان يريد سماع ما بجعبتها.... شجعته بأعينها الحمراء ان يشرع بسرد ما بحوزته فتبسم بخفوت.

" كثيرا ما يراودني نفس الحلم...  "
تحدث كاسراً الصمت الطويل  .

" عن ماذا؟ "

" المرأة التي قتلتها و انا طفل "

" التي اخبرتني عنها؟ "

هز رأسه بِايجابٍ، ضيّقت اعينها مصغية.

" ماذا يحدث لها في حلمك؟ "

تنهد بخفوتٍ و هو يستقبل قطته بحضنه، يمرر انامله بين فروها الناعم ريثما بستمر بروايته بنبرة غير مكترثة.

" تصرخ، تتحدث كثيرا، لكنني لا استطيع فهم حرف مما تقوله ... احاول الهرب منها، و حين تكاد تمسك بي...."

توقف عن السرد جاذباً انتباهها، رفعت حاجبا و هي تتوقع الاسوء، تترقّب التالي لكنه ابتسم قاضياً على حماسها.

" استيقظ "

دحرجت عينيها بمللٍ و تنهدت.

" اعتقد ان روحها تحاول الانتقام مني "
علّق بمللٍ و هو يضع اوريو على الارض.

" اخبريني الان عن حلمك "

......

الشجارُ و الصراخ، التهديدات و الدماء ... روتينٌ عادي بمركزِ الشرطة.

" ان استمررت بحشرِ انفِك في اعمالي يا كيليان فودّع عائلتك منذ الان "

لكنّ نانا لم تتقبّل ان يهدّد تاجر المخدرات الاكبر بداكوتا الشمالية محبوبها كيليان الذي تزوجتهُ دون ان يعلم.

صمت كيليان امام التهديد العلني، حتى لو كان رجلاً قد يدفع حياته للعدالة، الا انه لم يكُن مستعدّا بتاتا لفقدان عائلته...

ركلَ كرسيه حين استشاط غضباً، صمت زملاءه غير قادرين على مواساته بحرف، ثم التقى نظره بنظر نانا في زيّ عامل التوصيل و بحوزتها الفطور الذي قاموا بطلبه.

" ما الذي تفعلينه هنا ايضاً؟ "

ردد بلهجة عدوانية، وضعت الطلب امامه.

" اقوم بعملي، ام هذا مخالف للقانون حضرة الشرطي؟ "

" أ و لم تكونيِ البارحةَ عاملةَ نظافة؟ "

سأل و هو يضع يديه على خصره، ينظر اليها كما لو انها تستغبيه.

تمّ طردًها لانّها كانت تستعمل الحمض لتنظيف كل شيء...

الحمضُ هي الطريق الاسرع لنتيجة مثالية، خاصة في التعذيب - هذا ما اخبرت المدير به فطردها فوراً -

" لم يُلائمني ذلك العمل جيدًا ، احاول خدمة مجتمعي بطرقٍ اجيدها اكثر "

برّرت بلطافة و هي تبتسم بايجابية أعمَتهُ.

" هل انتِ تُطاردينني؟ "

" لا... انا فقط أحرسكَ! "
اجابت بنفس الطريقة فضحك زملاءه... كيليان صارَ مهزلةً من وراءِ حبّ نانا غير المحدود.

" نانا، لا تعتقدي ان بامكانك اللذوذ بالفرار فقط لانك جميلة ، هذا لن ينطلي على الجميع كرؤساء عملي! "

حذّرها و هو يلوح بِسبابته في وجهها كالسيف، لكنها لم تركّز سوى على جزءٍ صغير بكلامه.

" تعتقد انني جميلة اذاً؟! "

هتفت و السعادة تغمرها، لطم وجهه بيده غير قادرٍ على مناقشتها مجددا بأي امر.

استيقظ في اليوم الآخر على اخبارٍ غريبة من الرجل الذي هدده ليلة البارحة، اذ انّه خسِر كلّ تجارته في حرائق مدبّرة اندلعت في نفس الوقت من ليلة امس.

و هو يعرف من السبب في كل هذا...

و لغرابة الامر، السبب قدِم اليوم للكنيسة بكل براءة للصلاة كما لو انها لم تفعل شيئا يستحق العقاب و الذمّ.

" لا يمكنكِ فعل اشياء كهذه!! لا يمكنكِ احراق مستودعاتٍ بهذه البساطة! هل انت مجنونة ام ماذا؟! "

انفجر كيليان في وجه نانا التي كانت تدعو له بكلّ براءة قبل قليل.

هي لم تُنكِر ذلك حتى... اعتقدت انه سيكون فخوراً بها.

نانا تمنّت لو كان بامكانها احراق الرجل ايضاً مع مخدراته، لكنّها اعتقدت انْ قتله بشكل آخر سيكون افضل... شاكرة جدا انها تركت امره للنهاية، فكيليان كان سينفصل عنها دون شك.

- تفكّر كما لو انهما بعلاقة حقيقية -

" اعتبر الامر انها عدالةٌ الهية تحققت عبر نانا الرائعة "

غمزت فاستشاط غضبا.

" و ماذا تعرفين عن العدالة الالهية نانا؟ شخصٌ مثلك يلوح بمسدسه في وجه الجميع و باذنيه سماعاتٌ صاخبة؟ شخص كهذا ماذا يعرف عن العدالة الالهية؟ "

انتشر العبوس بوجهها امام لهجته الحادة التي جاءت بها كلماته القاسية.

" انتَ اخبرني ما الذي تعرفه عن العدالة؟ هل فقط لانك حفظت بعض الكتبِ و تخرجت من جامعة ما ستعرف المعنى الحقيقي للعدالة؟ "

اجابت و قد تغيرت نبرتها الى اخرى حادة.

" حتى لو عرفت معناها... لن تستطيع ايجادها في اي زاوية من زوايا هذه الارض ،  أ تعلم لماذا؟ "

استكان كيليان حين ارتدت نانا تعابير جادة و حادة لاول مرة امامه... شعر بجدية الامر فلم يقل شيئا و هو ينتظر اجابتها.

" لأن الكرة الارضية كروية، ليس بها زوايا "
اجابت نفسها بنفس التعابير الجادة.

لا، لا يمكنه الضحك... لا ينبغي عليه السماح لنكتة سخيفة باضحاكه منها ...

" انتِ بحاجة لمساعدة حقيقية نانا "

تمتم بعد ان زالت نوبة ضحكه التي كتمها.

" توقف عن مغازلتي "
رددت بنبرة جادة.

" انا لا افعل! "

" نعم فعلت! "

" لا! مستحيل ان اغازل امرأةً تحرق مستودعات بما فيها ثم تعود للكنيسة للبكاء و الدعاء "

تحدث بصوت جهور، بنفس التعابير الجادة ضمت يديها ببعضهما و هي تستنتج...
" فهمت... انت واقعٌ بحبّي "

استسلم كيليان عند تلك النقطة، انبغى عليه الاستسلام امامها و الا سيفقد ما تبقى له من عقل.

زفر نفساً قوياّ...

" دعيني اوصلكِ لبيتك قبلَ ان يتأخّر الوقت "

استعادت نانا تعبيرها المرح و هي تمسك يده فجأة.

" هلاّ توقفنا لبعض المثلجات؟ "

نظر الى يديهما المتشابكتين بذهول قليلا، ثم ابتسم ضاحكًا ...

استنتج كيليان انذاك ان نانا هي الانسانة الوحيدة الخارجة عن القانون التي تروق له ... استثناؤه الوحيد اللطيف.

" حسناً "

الحادثة الاخيرة زرعت جوّا يخلو من الثقة بقصر المونديجو، انتشرت الهمسات و كثُرت لدرجة انها صارت مسموعة ...

أعلن ساينت ان المتمرّد الذي تم احتجازه مات بسكتة قلبية من التعذيب فلم يستخرج منه اي حرف... و ذلك عسّر الامور على المونديجو في بحثه عن مصدر هذا الفساد الجديد.

" أقترِحُ ان نزرع جواسيس بكلّ المرافق، جواسيس يدعون انهم متمردون، هناك سنعرف من اينَ مصدر هذه البلبلة "

اقترح جوهان الذي وقف امام المونديجو بعد استدعائه له.

" أقترِح ان نتخلّص من اي احدٍ قد يحاول خيانتنا "

اقترحت مورتا الواقفة بجنبه ايضاً.

" نعم، الى ان نبقى انا و المونديجو لحالنا "
علّق جوهان بسخرية لكن تعبيره جعل ما قاله مليئا بالجدية، نظرت مورتا نحوه بعينٍ جانبية.

" لما استثنيتني؟ "

" لا اعلم مورتا، لما في رأيك؟ "
بادلها النظرة الجانبية، يقذفها بِاتهامٍ صامت امام بيرلين الذي شاهد بهدوء.

" اخي العزيز، لابدّ ان  مجالسةَ تلك الطفلة قد أفقدك شيئا من رزانتك "
تحدثت بازدراء، شاهدت بعضاً من الذمّ ينتشر ببطء على وجهه الجميل.

" ربّما انت لا تعرفينني بالقدر الكافي يا مورتا للتفوه بكلمات كهذه "

ابتسمت مورتا و كأنها لا تهتم للتهديد، بل و كأنها بمنصب لا يسمح لها بالاهتمام لامره لعقد من الزمن.

" اعرفك بالقدر الكافي الذي يجعلني اراهن اننا سنكون أعزّ الاصدقاء بحياةٍ اخرى "
تحدثت بايجابية مستفزة فردد وراءها .
" بحياةٍ اخرى ستجدين وحمةً بصدركِ يا شقيقتي الحلوة "

" فوق القلب تماماً "
اضاف بلهجةٍ حادة، لكنها لم تتوقف عن الابتسام في وجهه رغم التهديد اللطيف.

" يكفِي "
قاطع بيرلين شجارهما الهادئ، ارتكز بمرفقيه على سطح طاولته، ينظر باهتمامٍ الى جوهان.

" هل هناكَ ما يؤرقك جوهان؟ انت تتصرّفُ بعدوانية "

اغمض جوهان عينيه لوهلة و كأنه يشحد بعض الصبر... فتحهما بعد ان اخذ نفسا خفيفاً و تحدث بنغمة ثابتة.

" لا اعترض على قراراتك حضرة المونديجو لكنني لا افهم لما سلّمتَ مورتا بالذات حملَ سرّ خطير كسر آل سكازوس في زمنٍ يكثره الخوَنة؟ "

" هل تناقِش ابَاك في قراراته؟ "

" معاذ الرب، انا فقط ابحث عن الحكمة التي رأيتها في الامر بما انني لا املك بصيرةً مثلك "
تحدث بِانزعاج واضح بنغمة صوته ... انتشرت ابتسامة جديدة على وجه بيرلين اصابت جوهان بِالغثيان.

" هل اصابتكَ الغيرة جوهان؟ "

صمت جوهان عند تعليقه المستفز، ثم نظر الى مورتا التي ضحكت بخفّة...

يكره هذا الشعور، ان يركض طيلة الوقت كي يجد نفسه في نفس المكان الذي عزم ان يغادره.

كان طفلاً منعزلا، و كان اشفاؤه يتهامسون و يسخرون منه بهذه الطريقة دائما... ظنّ انه كبِر، اكتسب صداقات و معارف، حظى بالاحترام و القوة... ظنّ ان الامر تغير... لكن ها هو في نفس الموقف، لكن امام الرجل الذي ناداه بأبي.

تصلّبت عضلات فكّه و هو يأخذ الصمت كحليف لثوانٍ، ثم ارتفع ركن شفاهه بابتسامة غامضة و هو ينبس بصوت هادئ.

" الغيرة؟ هل تعلم كيف هو الشعور بالغيرة يبدو يا حضرة المونديجو كي تتعرّف عليه؟ "

شعر بيرلين بالتلميح القاتم بكلامه فتضاءلت ابتسامته ثم نبس آمرا.

" مورتا،  اتركينا لمفردنا "

مع رحيل مورتا نهض بيرلين و اخذ خطواته البطيئة ناحية جوهان المنتصب كالموت.

" والداك اقترفا ذنبًا و نالا جزاءهما ، و انا بصفتي بالمونديجو عفوتُ عنك، ربيتك كابنٍ لي، منحتك كلّ ما تملكه الان "

لا يحبّ هذا... لا يحبّ كيفَ يرتدي بيرلين تعابيرَ الرحمة المخذولة هذه... لا يحبّ حين يلعبُ دور القدّيس و هو لا يفصله عن الشيطان سوى حلّته الآدميّة.

" و بامكانك سلبي كل ما املكه ايضا "
ردد وراءه و هو يرفض عقد تواصل نظري معه ، توقف بيرلين فجأة،  تمعن النظر فيه للحظات.

" يبدو انك اخذت الامر بشكل شخصي بيننا؟ "

" لا يأخذ محلّ الحب الكبير عند زوالِهِ سوى كرهٌ عميق حضرة المونديجو... "
اجاب جوهان بطريقة غير مباشرة.

" هل اصبحتَ تكره والدكَ جوهان؟ "

" انت لست بوالدي، انت من قتلتَ والدي "
صحّح له و قد تخللت نبرته بعض الحدة.

" والدكَ جنى عليكَ بهذا القدر حين جلبك لهذه الحياة التعيسة ... انا من جعلتك هذا الرجل الذي انت عليه الان ، البطل الذي يشهد الجميع حتى اعداؤه بِقوته "
تحدث بفخرٍ و هو يشدْ بيديه على كتفيه المنتصبتين .

" لماذا؟ حبّاً فيني؟ حبّا في وليدِ سعادةٍ دمّرتك ؟ "
تمتم جوهان بصوت فارغ من اي نبرة، فتلاشى الامل الزائف على وجه بيرلين و انزل يديه عنه...

انه يكسر الرابطة التي بينهما دون اي اعتبارٍ للنتائج، جوهان الذي استندت حياته على الزيف و الادعاء، لم يدّخر ذرّة في ادّعاء حبّه للرجل الذي اعتبره كوالده.

" كيف تحلمُ بقتلي؟ "
نبس بيرلين فجأة بصوتٍ جاف، لمعت اعين جوهان و قد ترك قناعه الادمي ينزلق قليلا فلمعت عيناه.

" اريد صلبَك ، اريد رؤية الثلج يتبلل بدمك الساخن "

" لا يمكنك "
هتف بيرلين و قد بدا غير مكترثٍ بتاتا للتهديد الواضح.

" سأفعل ، لست بطفل بعد الان "

اتسعت ابتسامة بيرلين عند كل كلمة تفوّه بها و كأنه يسخر منه و من احلامه التي لن تتحقق بتاتا.

" يداكَ قد تتبللان في دماء اكثَر شخصٍ تحبه بهذا العالم، لكنها لن تحمل قطرةً من دم الرجل الذي تكرهه بشدة... "

صمت قليلا كي يُشعره بتأثير كلماته ثم أضاف بصوت خافتٍ ثاقب.

" لانك قبل كل شيء ظلّي، و الظلال لا تتركُ اصحابها حتى في الظلام "

جوهان اعتقد ان بامكانه التغيّر في ليلة و ضُحاها، بسبب قصةٍ او حقيقة، بسبب نبض قلب او حب...

لكنه كان لا يدرك بعدَ ان المرء لا يولدُ في الحاضر بمبادئ و وجهات نظر جديدة ، هو نتاج ارضٍ و بذور زرعت فيها منذ عقود .

هناك وراء الذاكرة، في عالم الطفولة الاولى سيبقى دائما، يتخبط الاف السنين ليتحرر من كونه ظلا دائما، و ان تحرر سيضمحل... لأن الظلال لا تعيش دون اصحابها.

و مثلما يتلو الليل النهار... ترضخ الظلال الدائمة الى المونديجو.


طعمُ الحبوب لم يعُد قابلاً للتمييز في فمها من كثرةِ ما تعاطاها جسدُها آخر مرة، و لا حتى تأثيرها.

ابتلعت حبّةً حسب وصفة الطبيب، كانت قد وعدت جوهان انها لن تفرِط بها مجددا ، احترمت وعدها له حتى حين لم يكُن بجانبها هذا اليوم بالسيارة.

ارتكزت برأسها على زجاج سيارتها الدخاني ريثما سائقها يقود بالطرقات الجانبية للمدينة... فكّرت مجددا بجوهان، هل علاقته ببيرلين ساءت لدرجة انه قد يكلّف احدا غيره بمهمة كمهمة مورتا ؟ لماذا؟ ما الذي حدث بينهم ذلك اليوم؟

توقفت السيارة فجأة بمنتصف الطريق بعدَ ان انخفض مستواها و مالت قليلا الى جانب...

" ماذا حدث؟ "

" اعتذر آنستي لكنّ اطار السيارة يحتاج تغييراً حالا "
اعتذر السائق بكياسة، نظرت الى ساعتها، كان المغيب قريباً، فهزّت رأسها بتفهم .

" حسنا، أسرِع "

اسرع الى صندوق السيارة كي يأخذ معدات الاحتياط ريثما خرجت هي و بحوزتها مسدسها تنظر بالارجاء...

كان عليها اخذ حذرها، فلا شيء عاد طبيعيا لها حتى لو كان اطار سيارة مثقوب.

و هي تتأمل الغابة التي انبسطت امامها، بدا المكان مألوف جدا لها...

هذه هي الغابة التي وجدوها فيها بعد ان اطلق خاطفها سراحها.

بدأت الاجراس و الاصوات تدقّ بعقلها...

" اركضي و الا اطلقت النار عليك "

الهواء كان محمّلاً بنفس مكونات ذلك اليوم،  الصقيع الثقيل الذي يجعل الانوف تتوهج كالفانوس...

تحدّت الصقيع و هي تنزل عبر المنحدر القصير الى الغابة المكونة من اشجار عارية منتصبة كهياكل عظمية مخيفة لكن كثيفة.

لماذا توقفت السيارة هنا بالضبط؟ لماذا؟

تعسّر عليها تصديق ان الامر محض مصادفة.

بدأ السائق بالبحث عنها، نادى باسمها حين لم يجدها... هو لم يعد سائقها بعد الان، هو اصبح خطراً.

سارت ثم بدأت قدماها تسرعان...

بدأ الفزع يتسرب بمعدتها  حين سمعت حفيف النباتات.

التفتت حولها، شعرت بظلّ يراقبها... ازدادت سرعتها...

ما كان عليها القدوم الى هنا... كل جزء من جسدها طالبها بالمغادرة ،  ان تركض، ان تهرب.

انكسر كعب حذائها فخلعته و سارت حافية القدمين ...

شعرت بحدة الحجر و الاغصان اليابسة تتحطم تحت قدميها و تخترق جلدها الرقيق ، الفروع تخدش جسدها ... نفس المشهد الذي حدث قبل سنتين تكرر الان،  الالم في قدميها الحافيتين، البرد و الفزع... كله يتكرر.

اظلمت السماء و انخفضت بغيومها الداكنة، تساقطت دموعها فبللتها، لكنها لم تشعر بشيء سوى الفزع و دموعها تختلط بدموع السماء.

رائحة دخان السجائر انتشرَ مع رائحة الارض المبللة... انه هو، قادمٌ لقتلها.

عندَ نفاذ الانفاس منها اختبأت وراء جذع شجرة ضخم، فكّت صمام الامان عن مسدسها و اغلقت فاهها بيدها مانعةً لهاثها من التسرب.

انكسرت الاغصان الميتة تحت قدميه لكن سماعه صعبٌ مع المطر ، تسابقت خطواته مع دقات قلبها، انه يقترب ...

شعرت بقلبها بين قدميها  و جسدها يتعرض للشلل بسبب الهلع... احست بالموت يدق في عروقها مع كل ثانية تهرب من عمرها.

و حين انكسر غصنٍ بجهتها اليمنى التفتت بكل ذرةِ شجاعة باقية لديها، اشهرت مسدسها على الظل الاسود الذي ظهر امامها فأغلقت عينيها غريزيا و هو يمسك يدها، يزيحها في اخر لحظة عنه.

" اهدئي، هذا انا زارا "

تسلل صوته الدافئ الى مسمعها بعد ان انتشر دويّ الرصاصة العنيف.

" جوهان... "
همست باسمه و كأن اسمه الكلمة الوحيدة التي استطاعت نطقها انذاك و هي تُخفِض مسدّسها ببطء عن وجهه...

ارتخت عضلاتها على الفورِ حين رأته، شعرت بالامان تلقائيا، الى ان نظرت حولها باحثة عن الظل الذي شاهدته.

" ثمةَ احدٌ كان يلاحقني ... و تلك الطيور ايضا... انها تلاحقني ... سمعت صوتها هنا... تلك اللعينة "

هتفت و هي تتقدم للامام ، تتحدث الى نفسها غير آبهة للمطر العنيف و لا للجراح التي ملأت جسدها بسبب الاغصان الحادة.

" اي طيور؟ "

" تلك التي رأيتها بالجزيرة "

" تلك التي لا تتواجد الا بالجزيرة ؟ "
ردد وراءها بشيءٍ من الاستغراب، صاحت و هي ترتعد من البرد و الجزع.

" هل انت تتهمني بالكذب اذاً؟! "

" ربما افرطتِ في تناولها مجددا؟ "
لمّح لها عن ماضيها السيء بالادمان، نظرت اليه باعين متسعةٍ بالخذلان، و دون قول اي حرف تجاوزته بصمت... سار وراءها متحدثاً بصوتٍ عالٍ بسبب المطر الغزير.

" انا لست عدوّا لكِ، لست هنا لِاهانتك او اتهامك بالجنون ... اريد مساعدتك فقط ! "

" انت مثلهم جميعا جوهان... تعتقدون انني مجنونة... امثل دور البجعة السوداء او ما شابه... لا احتاج مساعدة احد مثلك ، بل انت من تحتاجها ! "

رددت بصوت متهدج و هي تحاول السير بسرعة بأقدامٍ مجروحة، بلحظةٍ وجدت قدماها ترتفعان عن الارض و كذلك جسدها و هو يحملها فجأة.

تخشب جسدها بين ذراعيه، من قربه الفظيع و الذي نشَر احاسيس متضاربة جدّا بداخلها...

" اتركني جوهان "
همست حين وجدت قدرتها على الكلام بصوتٍ بارد.

" انتِ باردة للغاية "
علّق و هو يتحرك حاملا جسدها الهزيل بسهولة، شدّته من ياقته بعنفٍ صارخة بوجهه بأقوى صوت لديها.

" قلتُ اتركني يا هذا سأقتلك جوهان! '

" أ و ليس القرب افضل طريقة لادفاء احدهم؟ '
تحدث غير مهتمٍ لسلوكها العدواني.

" جوهان اتركني!!"
صرخت بهستيرية و هي تحاول ضرب صدره لكنه صامد غير آبهٍ بها.

" على جثتي "
همس و هو يَقبض بقوة على ذراعها بيدها كي يثبتها جيدا.

كما لو انها حيوان ضعيف بين مخالبِ وحش فتاكٍ شعرت كلّ مرةٍ استشعرت جسد احدهم عليها... الامر كان لا يطاق، و مع ذلك حاولت كتمَ مشاعرها القوية.

اهتزت اكتافها و هي تكتم غصتها، تحاول التصرف كانسان طبيعي و ليس كقُنبُلة متحركة... لكن الغضب تحوّل الى دموعٍ جزعة، ذرفت سيلا منها و قد اختلفت بشدة عن المطر الذي بلل وجهها...

تساقطت دموعها على صدره فكانت ساخنةً مؤلمة.

" انت قلت انك لن تؤذيني ... "

همست ببحّةٍ و جسدها يرتجف بشكلٍ مرعب كصوتها المليء بالرجاء.

" لا يوجد شبرٌ من جلدي يلمس شبراً من جلدك "
رددَ و هو يصرّ على ان خوفها غير منطقي و انه سئم منه.

" انت قريب جدا مني "
همست و قد شرب الجزع صوتها فخرج على شكل لهاث عنيف.

" صدقيني هاڤن لو استطعتُ لكنتُ اقربَ من هذا "
همس بصوتٍ هادئ و هو يستمر بالمشي متمسّكًا بها.

" جوهان اكرهك  ، انزلني "
هتفت و هي تكوّر قبضتيها كي تضعهما على كتفيه...

" اكرهيني كما تريدين لن ادعكِ تسيرين بهذا الشكل "

اعولت بالبكاء حين لم تعُد قادرةً على التحمل، بكَت كالاطفال بصوت عالٍ، شعر جوهان بالتوتر فجأةً بسبب ذلك.

" لماذا تبكين الان؟! انا لا افعل شيئا لك!! "

" قلت انزلني!! "
اصرّت بصوتٍ عالٍ.

" حسنا! حسنا! "
امتثل لطلبها مغلوبا على امره، لكنه قبل ذلك نزع حذاءه و تراجع خطوتين ثم بِسلاسةٍ انزل جسدها كي تضع قدميها فيه...

تركها و قد علقت رائحتها به كما علقت حرارته بها... مسحت دموعها برسغها و صوتها يتضاءل شيئا فشيئا ، انحنى و جثى على ركبته بتواضع امامها.

هدأت و نظرت اليه فكان قد مرّر بصره على ساقيها الطويلتين كراقصة باليه، شديدتي البياض لدرجة ان بعض العروق الزرقاء برزت من تحت بشرتها الشفافة...

شعرت بدمائها تتسرب الى خديها فجأة و هو يخفض بصرها الى قدميها، ثم  يربط شريطه باحكام كي لا ينزلق منها بسبب فرق الحجم...

" أ تريدين العيش هكذا للابد؟ دون لمس احدهم؟ في الصقيع دومًا؟ هل تفكرين هكذا حقا؟ "

تحدّث ريثما هو يعقد الشريط، تصلب فكها غضبا ريثما هي تجيبه.

" انت لا تفهم... لا احد منكم يفهم ما بداخلي... انا بجحيم دائما بسبب هذا الألم ... أ تعتقد انني احب ما انا عليه الان؟! أ تعتقد انني احب وحدتي؟! "

رفع بصره اليها حين انتهى من الشريط، و قد كانت اعينه التي امتلأت يوما بالعجرفة تنظران اليها بولعٍ غريب... ولعه كان مشحونًا بالالم، و كذلك روحه.

شخصٌ لا يهتمّ ان ابتلع المحيطُ من حوله، قد يبكيِ على قطة و ليس على انسان، كان قلبهُ مرتبطاً بقلبها...

كان من المثير للفخر لها انها الانسان الوحيد الموجود بكاميرا جوهان بجانب القطط الضالة.

" كيف لكِ ان تكوني بالجحيم و انت بقلبي دائماً؟ "

جاءت كلماته بصوتٍ منخفضٍ دافئ و عيناه لا تطلقان عينيها... و هناك يرعبها حجم العاطفة التي يحملها لها، و يرعبه التفكير في ما قد يفعله لاجلها.

رجلٌ يحلم دومًا باستكشاف خطوط يدها، لكنه لاجلها لن يضع اصبعاً عليها... يفعل اي شيء لاجلها بغض النظر عن ما بداخله...

و ذلك ما ارعبها قليلا... ان الحبّ الذي ينبع منه، لا يحمل نفس قواعد الحب الذي تعرفه.

نهض و عيناه لا تزالان في عينيها، ثم قال بصيغة آمرة.

" لنذهب للمشفى، قدماكِ لاتزالان تنزفان "

اخفضت رأسها و هزته بايجاب، ثم استدارت لاكمال طريقها...

فجأة توقّف جوهان قليلاً و هو ينظر الى السيجارة المرمية على الارض... لم تكُن مبلّلةً بالمطر على غرار الارض و الاوراق...

هذه السيجارة كانت جديدة، و صاحبها رماها للتو.

التفت حوله ليأخذ نظرةً سريعة...

" جوهان؟ هل هناك شيء؟ '

ايقظه صوتها القلق من فوضاه فاستدار مجددا ناحيتها و تلبع السير بجانبها.

عضات الحبّ امر منتشر بهذا الجيل، على الرقبة و كل انحاء الجسد ... انها بمثابة وضع وسم الملكيّة على جسم المحبوب.

زارا تعتبرني ملكها اذاً... فكّر جوهان المُغرمُ بالعضة التي تركتها هاڤن خاصته على يده... تلك العضة التي لا تزال تنزف بعد نصف ساعة... اسنانها تركت اثرها بعمقٍ على لحمه لدرجة انه يكاد يقسم انه يرى منها عظامه.

" متأكد انك لا تحتاج ان يلقي احدهم نظرة عليك  ؟ "

سأل الطبيب بحيرة من تعابير جوهان المغرمة بالعضة.

كما لو ان زارا لم تشتمه و تعضه ما ان حاول منعها من الهروب من المشفى حين استوعبت ان هدفه من جلبها  كان لمقابلة طبيبها النفسي الذي كان مشرفا عليها بالمصح.

اولاً اوريو ثم زارا... فتياته يحببنهُ بشدّة.

استعادَ جوهان تعابيره الجادة حين ذكّر نفسه باسباب تواجده هنا، اطلق سعالين لتطهير حلقه و اخذ بزمام المحادثة.

" انها تسمع اشياء لعينة بسبب الادوية التي تمنحها اياها يا هذا "

اخذ الطبيب يحسب عدد الحبوب للمرة الثانية كي يبرهن له انها لا تفرط باستخدامها  ، و حين انتهى هتف بِصوت جسور.

" انها تستهلكها بانتظام ، لا يمكنها سماع شيء منها "

" غيـر الدواء اذاً يا ذكي "
تنهد الطبيب بارهاقٍ و هو يتكئ على كرسيه... زيارات جوهان اصبحت ترعبه، كل ما يجيده هو اصدار الاوامر الخيالية.

" اصبحت لديها مقاومة امام المركّبات الاخرى "
برّر له اختياره و هو يلمّع زجاج نظارته، صمت قليلاً ثم اخذ يتحدث بما شغل باله.

" تحدثت اليها  قبل قليل ، و قد تكلّمت عن ظلّ يلاحقها في الغابة، طيور ايضا ذات صوتٍ مزعج ... و كان السيد ايزاك قد اخبرني شيئا مماثلا في الماضي... شقيقته عند عودتها كانت تخشى بعض الاشياء و الاصوات المعينة دون سبب يذكر  .... صوت صرير الباب كان اولها... كما كانت مع الابر، انت لا تتخيل كم من ابرة  انكسرت بسبب مقاومتها "

علّق بشيء من الاسف و هو يرتدي نظارته مجددا.

" جميعنا استنتجنا سبب خوفها منها، لكنها لم تستطع التذكر، كانت لاتزال بحالة صدمة، و بالكادي تذكرت شيئا عن المكان الذي احتجزت فيه، تطلب الامر جلسات عديدة , لكنها مع ذلك لم تستمر فيها بعد بلوغها سن الرشد "

جلس جوهان امامه و هو يرفع حاجبه، لقد قدم الى هنا فقط لجعله يغيّر دواءها ، لم يفهم لماذا يناقشه بتفاصيل حالتها معه.

" ما الذي ترمي اليه بكلامك؟"

ارتكز بذراعيه على طاولته منهمكاً بالشرح له.

" تعرف تلك التجربة التي اجراها بعض العملاء على طفل رضيع، يضعون امامه حيوانات معينة و عندما يحاول لمسها فهم سيصدرون صوتا قاسيا يجعلهم يبكون ... الطفل كبر و اصبح يخشى تلك الحيوانات دون ان يعلم لماذا، يخاف من الاصوات العالية ايضا "

هزّ جوهان رأسه بايجابٍ و قد انخفض حاجبه تدريجيّا.

" خلاصة القول ان الاشياء التي نخشاها، لا نخشاها دون سبب، غالبا ما تكون مرتبطة بأحداث مؤلمة، و منها ينشأ الخوف ... جسدنا و عقلنا غير الواعي يمتص الذكريات حتى لو لم نستطع تذكرها... و يتصرف حسب غريزته  "

" تقصِد ان الطيور التي تتحدث عنها، صوتها مرتبطٌ بحادثة مؤلمة لديها؟ "

حلّل جوهان ببطءٍ و قد بدت نبرته منخفضة و تعابيره غامضة على غير العادة .

هزّ الطبيب رأسه باحتمالٍ...

أظلمَ وجه جوهان بشدّة و اتّسع بؤبؤه في لحظةِ ادراكٍ مؤلمة.

كيف له ان يغفل عن شيءٍ كهذا طيلة هذا الزمن؟ أ مشاعرُه لحبّ بيرلين الزائف كانت بهذه القوة حقا؟

بيرلين لم يجِد لا زارا و لا ايزاك حين تم اختطافهما رغم نفوذه و سلطته ، ليس لان الامر كان اكبَر منه كما كان يدّعي...

بل لأنّه لا يريد ايجادهما و حسب.

لأنه هو اساس المصائب، هو من اختطفهما، هو من كان يضغط على آل سكازوس طيلة هذه السنين ...

تاجر الاكاذيب... بيرلين اللعين.

< يُتبع... >

Continue Reading

You'll Also Like

1M 32.5K 65
النساء لا مكان لهُنَّ في حياته، عالمه ينصب على أبناء شقيقه وتوسيع تجارته في أنحاء البلاد. هو "عزيز الزهار" الرَجُل الذي أوشك على إتمام عامه الأربعين...
237K 28K 11
سَفير كوريّ يقطُن في سويسرا ، يعيشُ حياة هادِئَة مع زرجتهُ بعد ان تزوجا عن قصة حُبٍ عظيمَة ثُمّ فجاة ! تظهرُ فتاة من العدم و بين يديها طِفلَة تزعمُ ا...
5.3M 145K 59
عِش العراب. روايه صعيديه... من الصعيد الچوانى فتاه تحمل على عاتقها خطيئة أختها تؤخذ بذنب لديها يقين أن أختها لم ترتكبه عنوه تُغصب أن تكون الزوجه ا...
1.3M 66.6K 22
كون هاي الدنيا تصغر حيل تصغر وتلتقي الوادم باهلها اي باهلها يعني انا وانتَ هيجي نلزم الدنيا ونذلها......