صفـــاء الــــــــروح.

By slamamimouna

18.1K 1.4K 753

تمهيد / في هذه الرواية لا تتوقع أن تجد بطلًا خارق القوى، ثريًا ثراءً فاحشًا، ولا بطلة جميلة جمالًا خارج أسوار... More

المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
©️
الفصل الثالث
💛💞
الفصل الرابع
الفصل الخامس
©️
الفصل السادس
©️
©️
الفصل السابع
©️
الفصل الثامن
الفصــــــــــــــــل التاسع
©️
الفصل العاشر
©️
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
تنويه 📌
الفصل الرابع عشر
©️
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل التاسع عشر
©️
الفصل العشرون
©️
الفصل الواحد والعشرون.
الفصل الثاني والعشرون
تنبيه..
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
اقتباس
الفصل السادس والعشرون
إقتباس 😍
الفصل السابع والعشرون
اقتباس على الماشي.. 👈👉🤭
الفصل الثامن والعشرون
اقتباس يا شباب... 🔥🔥
الفصل التاسع والعشرون
إعلان... 📌
☘️إعلان☘️
اقتباس ممنوع على السناجل 🤭😏
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
تنبيه للغوالي...📌
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
Note.
اقتباس على الماشي.. 😎👇
الفصل ال35
طلب صغير 👌👈👉☺️
الفصل ال36 ج1

الفصل الثامن عشر.

222 18 19
By slamamimouna

فصل اليوم حزين يا جماعة.. حضروا مناديل ورقية...

لا تنسوا ذكر الله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ ✨
Vote and comment!
Enjoy!

الفصل الثامن عشر.

بعد أن تفقدت زهية طعامها، عادت لتواصل حديثها مع صفاء، التي لا زالت على حالتها المصدومة من آخر كلمة أرسلتها لها. وربما؛ لولا تلك الرسالة التي أرسلتها الآن، لظلت على حالتها حتى يتفقدها سكان البيت. حقا لا يستطيع أحد توقع أفعال ولا أقوال زهية.

«هل لا زلت هنا؟»

ردت عليها صفاء بعد أن استعادت ثباتها الانفعالي:
«وهل استطعت تحريك قدمي بعد ردك الغريب ذاك!»

«وماذا توقعت مني أن أقول؟»

«أي شيء، عد ذلك الرد البارد!»

«عزيزتي صفاء، إذا لم يقنعك كلام رب العالمين، كيف لي - أنا عبدته الضعيفة- أن أقنعك بالحجاب، حتى لو كنت داعية؟! على كل حال سأرسل لك ما سيقنعك، بإذن الله. »

لحظات وكانت صفاء تستقبل رسالة زهية، والتي تحمل الآية الكريمة التي ستكون المنطلق لبداية تغيرها الجذري:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا»

ارتفعت نبضات قلبها عندما مرت عيناها العسلية على كل حرف من حروف الآية الكريمة، كأنها لأول مرة تقرؤها.

شتت أنظارها في أرجاء الغرفة، وهي تشعر بطوفان من المشاعر يهاجمها بقوة، فشلت في تحديد ماهيته. أتراه الخوف من عقاب الله لتركها فرضا من فروضه؟ أو انشراح قلبها لفكرة تنفيذ أمره دون جدل أو نقاش؟

عادت ببصرها لشاشة الهاتف، تقرأ الآية مرة أخرى، لكن هذه المرة بصوت مرتفع قليلا، أرسل قشعريرة في أذنها. توقفت برهة تتأمل الآية «ذٰلك أدنىٰ أن يعرفن فلا يؤذين»، فقد لامست قلبها وجعلتها تعود بذاكراتها إلى أحداث الأمس، تسأل نفسها بجدية:
«ماذا لو كانت ترتدي حجاباً، هل كان سيتعرض لها ذلك الشاب؟ وحتى لو كنت ترتديه، أتراه سيبصق تلك الكلمات البذيئة على مسامعها، أو يكتفي بمضايقتها فقط؟»

وفي زحمة أفكارها، لم تدرك أن زهية أرسلت لها رسالة أخرى، تخبرها فيها بكلمات مختصرة، بأنها ستتصل بها لاحقا.

لقد كانت ضائعة بين نفسها القديمة، التي تصر عليها أن تبقى على ما هي عليه، وألا ترهق نفسها بالتفكير في شيء ليست مستعدة له. وبين ذاتها التي تحسها على الإسراع وارتداء ثوب العفة؛ فالعمر قصير، والموت أقرب لنا مما نتصوره!
.
.
.
.
.
.

في بيت أول مرة نحط رحالنا فيه، وفي إحدى غرفه. تجلس تلك الفتاة الجميلة على كرسيها الهزاز في الشرفة، تراقب الأطفال الذين لم يمنعهم يوم الجمعة من اللعب والاستمتاع بوقتهم.

كانت تتخيل لو أن الله رزقها بأبناء؛ لكانوا الآن يلعبون معهم... يصرخون مثلهم... يفسدون ملابسهم بالتراب؛ فتصرخ هي عليهم بعد عودتهم، موبخة إياهم بحزم أمومي. لكن ما أن ترى دموعهم، حتى يلين قلبها؛ فتحتضنهم بحنان وعاطفة جياشة.

لكن قدر الله أن تحرم من ذلك الشعور، إلى أجل غير معروف! فبعد طلاقها من زوجها، أحاطت نفسها بأساور عالية، لتمنع أي ذكر لا يحمل وسم الرجولة من أن يقتحم مملكتها مرة أخرى! فبسبب سوء اختيارها، لا زالت تلك الغصة المريرة تهاجمها كلما لاح ما حدث معها منذ عام أمام عينيها البنية.

عادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم، الذي قضى على أنوثتها وعلي ثقتها بذاتها؛ فصارت أشلاء أنثى ترى نفسها أقل النساء!
**************
كانت تسابق الزمن لتصل لمملكتها الصغيرة، وترمي بجسدها الصغير بين أحضان زوجها، تمنت لو كان لها جناحان لتحلق بهما، بدلا من جلوسها في سيارة الأجرة البطيئة... أو ربما هي تراها بطيئة، فيبدو أن الخبر السعيد الذي تتوق لأخبار زوجها به، قصف بصبرها إلى أبعد نقطة في العالم. رغم ذلك الشحوب المنبعث من وجهها الجميل؛ إلا أنه لم يستطع إخفاء بريق السعادة من عليه. فالخبر الذي تحمله، أنساها مرضها الذي كانت تعاني منه منذ سنين عديدة!

«أخيرا... الحمد لله الحمد لله!»

رددتها بفرحة عارمة، ما أن وصلت سيارة الأجرة إلى المبنى الذي تعيش فيه. ترجلت منها بلهفة بعد ما حاسبت السائق. مشت بخطوات أنثوية شبه سريعة، وهي تتخيل سعادة زوجها ما أن تزف له هذه الأخبار البهيجة.
دقائق، وكانت تقف أمام باب شقتها، تبحث بلهفة عن المفتاح في حقيبتها الصغيرة.
«ها هو ذا! »

تمتمت بها بغبطة؛ فقد كانت تخشى أنها نسته في البيت في غمرة فرحتها، عندما اتصلت بها الطبيبة المسؤولة عن حالتها. وقبل أن تضع المفتاح في فتحة الباب، تناهى إلى مسامعها أصوات قادمة من داخل الشقة؛ فجعدت ما بين حاجبيها باستغراب، لأن الأصوات القادمة من الداخل لأكثر من شخص، وهي تعلم أن زوجها ليس من النوع الذي يستقبل الناس في بيته.

«لعلهم أهل زوجي!»

طمأنت فؤادها بتلك الكلمات، مكملة فتح الباب، وقد عاد حماسها وسرورها يحلق أمام عينيها. سارت بخطوات بطيئة في ممر الشقة، وقد قررت مسبقا بمفاجئة زوجها ومن معه. لكن ابتسامتها البشوشة اختفت وحل محلها الجمود، عندما وقعت عيناها على المرأة الجميلة... أو الفاتنة التي تتوسط أحضان زوجها.

تيبست قدامها في الأرض، كأن يدا خفية تمسك بهما، لم تستطع الحركة، بقيت ساكنة في مكانها كتمثال حجري. لا تدر هل تتقدم أم تتأخر؟
صوت حطام صدع صداه في الغرفة، ظنت أنه صوت قلبها! لكن يبدو أن جسمها تجمد حتى عن الشعور؛ فما ظنته صوت قلبها هو بالأحرى صوت سقوط فنجان الشاي من يد حماتها العزيزة!
«أمي! هل أنت بخير؟»

انتفض زوجها من أحضان المرأة برعب، فآخر شيء توقع حدوثه اليوم، ظهورها أمامه بهيئتها الضعيفة والشاحبة.

أما المرأة التي كانت في أحضانه، وقفت هي الأخرى بخوف تحتمي خلف ظهره، ليظهر بطنها المنتفخ خلف ثوبها الفضفاض، وهذه المرة كسر قلبها حقا؛ فالأمر أمامها واضحاً وضوح الشمس، ولا يحتاج إلى تفسير، فيبدو أن زوجها على العتابات الأولى ليصبح أباً!

حاول زوجها تبرير موقفه لها، لكنه لم يجد الكلمات التي تسند حجته. هل يقول لها إنه مل من انتظار شفائها؟ هل يخبرها أنه كرجل لم تعد تؤثر فيه؟ فجاملها الذي لطالما تفاخر به أمام أقربائه قد ذبل، وحل محله الشحوب والتعب! أما يقول لها إن أراد أن يصبح أبا؟ فالعمر يمضي، وهو أصبح على مشارف الأربعين. أوليس من حقه أن يكون له ذرية تسنده في عجزه وأرذل عمره؟!

في الحقيقة، شعوره كان متناقضا، لا يعرف إذا كان ما فعله صحيح أم خاطئ؟! فمهما حدث، تظل هي زوجته وأول حب يقتحم قلبه!

أما هي؛ لم تحتج أن تخبره عن شعورها الحالي... عن خيبتها... عن كسرتها، وعن سكين الغدر المغروس في قلبها؛ فعيناها التي أعتاد رؤية الأمل والحب فيها، يراها الآن خاوية، تائهة، ومتألمة. في لحظة، شعر ببوادر الندم على فعلته يتسلل إلى قلبه، لكن نبرة والدته الحادة، وأدت ذلك الشعور قبل أن يلد، واستبدلته بنرجسية مقيتة:
«رقية! ماذا تفعلين هنا؟»

«ماذا أفعل هنا؟!»

همست بها بخفوت، لا تصدق أن المرأة التي كانت تعاملها كوالدتها، تلقى على مسامعها هذا السؤال السخيف. أوليس هذا بيتها، الذي اعتادت أن تستضيفها فيه في أوقات كثيرة، تطبخ لها ما طابت له نفسها، دون ملل أو كلل؟
ابتسامة تهكم انبثقت من شفتيها الجافة، أقلقت من أمامها، وجعلتهم يشعرون بعدم الراحة.

نفور مفاجئ اكتسح قلبها ناحية من كانت تحسبه عالمها السعيد، لا تصدق أنها أتته مهرولة كالطفلة، لتزف له خبر شفائها من ذاك المرض الخبيث، الذي كاد أن يحرمها من الإنجاب طيلة حياتها!

سخرت من نفسها بحدة، حبها له أنساها والداها اللذين وقفا معها في محنتها. كمْ من مرة رأت والدتها تصلي في دجى الليل، تدعو الله بقلب ذليل، منكسر، لحوح، أن يشفيها من مرضها، دون أن تأبه أن يرى أحدا ما دموعها التي أغرقت وجهها السمح؟! وكمْ من مرة رأت والدها يتصدق بماله على الفقراء بنية شفائها؟ وكمْ من مرة شعرت بشقيقتها الصغرى تستيقظ في منتصف الليالي لتتأكد من أنها لا زالت تتنفس أم أن روحها صعدت إلى السماء؟

أما هو- زوجها المزعوم- فمرات زيارته لها في المستشفى أو في بيت أهلها تعد على الأصابع. حقا نحن من نعطي قيمة لمن لا قيمة لهم!

رغم الألم الذي يسيطر عليها الآن، ورغم حبل الخيانة الذي ألتف على رقبتها، يخنقها بلا رحمة؛ إلا أنها استجمعت شتات نفسها بقوة؛ فمن حاربت مرضا خبيثا لأربع سنوات، قادرة على تخطي هذه المصيبة وبكل برود.

« أنا أنتظر ورقة طلاقي!»

ألقت بها بنبرة باردة، كأنها قادمة من أعماق البحار. ثم ألتفت مغادرة البيت بكبرياء أنثى لا ترضى المهانة ولا الخيانة! تاركة إياهم يحدقون في أثرها بعدم تصديق. فقط توقعوا أن يجن جنونها، وتبدأ بالصراخ. لكن أن يشاهدوا هدوءها هذا، حقا لم يكن في حسبانهم.

وقبل أن تهم بالخروج من الباب، وصلها صوت زوجها الخائن المستفز لأذنها:
- هل ستنهين سنوات العشرة بالطلاق؟

ضحكة ساخرة نبعت من روحها المنكسرة، قائلة باشمئزاز:
- سنوات العشرة؟
ثم استطردت بجمود، تشير بيدها لزوجها وحماتها، وقد ظهرت شخصيتها الجريئة:
- غريب كيف يستطيع الإنسان أن يرتدي ثوب الحمل بكل بساطة، مع أنه ثعلبا منافق؟ يا الله، خمس سنوات ولم أستطع فيهم اكتشاف معدنكما.

ثم صفقت بيديها، مواصلة حديثها بضحكة متألمة:
- لقد كنتما ممثلين من الدرجة الأولى، تستحقان الأوسكار وبجدارة.

جفلا من كلماتها القاسية؛ فمن أمامهما ليست رقية الرقيقة، التي اعتاد فمها أن ينطق سوى بارق وأعذب الكلمات! ماذا كانا يتوقعان، قطة غبية تتمسح بهما، رغم علمها بفعلتهما النكراء؟! لقد كان من أبسط حقوقها أن يخيروها بين الموافقة أو الرفض! لكنهما فضلا طريـــق الغدر بدلًا من الصدق!

خرجت من البيت الذي شهد أجمل أيام حياتها بجرح غائر، لن تستطيع لا هي ولا الأيام أن تداويه بسهولة؛ فأثره - للأسف- سيظل قابعا على قلبها، يخبرها في كل مرة تحنو إلى تلك الأيام، كم كانت سخيفة عندما ظنت أنه إذا خانها الجميع لن يفعل هو! لقد وعدها! ووثق وعده على عقد زواجهما بأنه لن يتزوج عليها ولو لم يقدر الله لهما أن ينجيا أطفالا... لكنه وببساطة أخلف بوعده؛ فصار من حقها هي أيضا طلب الطلاق.
***********

قاطع سيل ذكرياتها الأليم، صوت فتح الباب، لتندفع منه شقيقتها، تهتف بحنق:
- رقية، أرجوك اقنعي والدي برفض العريس، تعلمين أنني أنتظر هشام، لا أتخيل رجلا آخر سواه! بالله عليك تحدثي معه.
تنهدت رقية بياس من شقيقتها، ورأسها اليابس، فقالت بهدوء:
-عائشة هذا ليس زواج، بل رؤية شرعية. لهذا لا داعي لمبالغتك هذه. قابلي الشخص المتقدم، بعدها قومي برفضه إذا أردت. لكن أنصحك بأن لا ترفضيه دون سبب مقنع، صلي صلاة استخارة أولاً، بعدها قولي قرارك لوالدي.

ثم تابعت بجدية وحزم، وهي تحدق في وجه شقيقتها العابس:
- وأيضا، لا تربطي نفسك بالمدعو هشام دون رابط شرعي، ولا تضعي آمالك عليه، كي لا يسحب البساط من تحتك بقوة. إذا كان يريدك لتقدم لخطبتك منذ زمن طوي...

قاطعتها عائشة بلهفة، وهي غير راضية على حديثها عنه:
- لقد أخبرني أن أنتظره، وهذا ما أفعله!

لوت رقية شفتيها بسخرية:
- تقصدين الوعد الذي وعدته إياه وأنت في عمر الرابعة عشر، لا أصدق أنك لا زلت متمسكة به!

جلست عائشة على السرير، وقد بدأت دموعها بالهطول، فما تقوله شقيقتها صحيح، لقد مضى على ذلك الوعد أكثر من عشر سنوات، ولم يبدي أي حركة تدل على رغبته بالتقدم لخطبتها.

تأثرت رقية بدموع شقيقتها مرهفة الإحساس، وحبها اللامتناهي للمدعو هشام، والذي في نظرها لا يستحقه؛ فالنسبة لها، الرجل الذي لا يحافظ على وعده لا يحسب من جنس الرجال.

جلست بجانبها، محتضنة إياها بحب أخوي، قائلة بجدية يشوبها الحنان:
- لا تبكي حبيبتي، والله لا يستحق أي ذكـــر دموعك الغالية. لقد قلت لك كم من مرة إن تنسي وعده، كي لا تضيعي في متاهة الألم؛ لكنك تصرين على الإبقاء عليه.

- لكن...

قاطعتها رقية:
- لا وجود للكـــن... عليك نزعه من قلبك، أنت أغلى من أن تتمسك بحبلٍ راشيٍ.

يأت وقت على الإنسان، تتبخر من عقله الأفكار؛ فيصبح كطفل رضيع لا يعرف شيئا سوى البكاء؛ ليعبر عما يريده. وهذا ما حدث لعائشة، لم تجد كلمة أو فعل يعبر عن الفوضى القائمة في قلبها وعقلها؛ سوى البكاء في أحضان أختها الكبرى.

.
.
.
.
.
.
.
«السلام عليكم ورحمة الله»
وما ان أنهى الإمام صلاة الجمعة، حتى وقف المصلين يغادرون المسجد، إلا قليلاً منهم اجتمعوا حول الشيخ مصطفى، يسألونه عن أمور دينهم.
وما ان لمح الشيخ مصطفى هشام ابن الحاج احمد يهم بالمغادرة هو أيضاً، حتى ناد عليه بصوته الرخيم ان ينتظره لبرهة.

أدرك هشام ما يريده منه الشيخ مصطفى، فيبدو أنه مبعوث من طرف والده. زفر أنفاسه بشدة وتعب. لقد قضى ليال يفكر في قراره الذي اتخذه، يعلم أنه سيسبب حزنا كبيرا لوالديه، لكن ليس بيده حيلة، فقد فشل في إيجاد عمل مناسب في بلده. أرض الله واسعة، متأكد أنه سيجد عملا جيدا في البلاد الذهاب إليها.

شعر بيد تستقر على كتفه، فاستدار لصاحبها، والذي لم يكن إلا الشيخ مصطفى.

«يبدو أنك غارقا في التفكير إلى درجة أنك لم تسمعني وأنا أناديك!»
قال الشيخ مصطفى بنبرته الرزينة، وعيناه تناظر الواقف أمامه بابتسامة بشوشة.

حك هشام مؤخرة رأسه بخجل منه. لا يصدق أنه كان منغمسا في أفكاره الخاصة، دون أن ينتبه لوقوف الشيخ بجانبه.

تنحنح هشام، قائلا باعتذار:
- أعتذر منك يا شيخ مصطفى، لم أسمعك.

ربت الشيخ على كتفه، وهو يقول بهدوء:
- لا بأس بني
ثم استطرد برزانة:
- فلنذهب معا يا بني.

أومأ هشام له برأسه فقط، مجاريا إياه في خطواته الثابتة، والبطيئة في نفس الوقت. كان الصمت يخيم عليهما، حتى قاطعه الشيخ مصطفى بقوله:
- لقد أخبرني والدك أنك ستسافر إلى بلاد أخرى؟

- أجل.
أجاب هشام ببساطة.

- لكن والداك غير راضين عن سفرك!

- أعلم!

- وهل فكرت في قرارك جيدا؟ فكم تعلم يا بني الغربة ليست سهلة.

- لقد فكرت فيه كثيرا يا شيخ مصطفى، لدرجة أنه أصابني الأرق. لقد مضى على تخرجي أكثر من خمس سنوات، ولم أوفق بإيجاد عمل يوافق تخصصي الجامعي. لهذا قررت أن أجرب حظي في بلد آخر.

حرك الشيخ مصطفى رأسه بفهم لما قاله، ثم قال بحكمة:
- لكن يا بني، هل أنت ضامن أنك ستجد عمل إذا غادرت وطنك؟

- لست كذلك. لكن هذا أفضل من البقاء مكتف اليدين. وأيضا السفر من أجل البحث عن عمل ليس ضد الشرع.

توقف الشيخ مصطفى عن السير، ملقيا بنظرة جادة على العنيد الواقف أمامه:
- أجل السفر من أجل ابتغاء العيش الكريم ليس ضد الشرع، لكن برك بوالديك أفضل. وأيضا ما دمت لست ضامنا حصولك على عمل لماذا لا تنتظر حتى يفرج الله عليك.

لامست كلماته قلب هشام، فتنهد قائلا بصراحة:
- يا شيخ، أنا شاب في بداية الثلاثين، من هم في سني لديهم أطفال، وأنا لا زلت لم أسس حتى حياتي العملية. فانتظاري لشيء قد لا يحدث مضيعة للوقت فقط.

وتابع بخجل:
- أيضا... هناك فتاة أريد خطبتها، ولا يمكنني التقدم لوالدها دون عمل أو دخل ثابت.

ابتسم الشيخ على ملامحه الخجولة، قائلا برزانة:
- لا تقلق يا بني، إذا كانت هذه الفتاة من نصيبك، لن يظفر بها أحد سواك. وأما بشأن العمل، فاقترح عليك أن تصلي صلاة استخارة، وإن شاء الله سيرزقك الله من واسع فضله، فقط لا تقنط.
ثم استرسل في الحديث، بعد أن لاح عدم الرضى على وجه هشام:
- هل تعرف قصة الرجل الذي أتى الرسول ﷺ يستأذنه أن يسمح له بالجهاد؟

- أجل.

- فما كان رد رسول الله ﷺ؟

- سأله إذا كان والديه حيان، فلم رد عليه بالإيجاب، أخبره ﷺ بأن يكون جهاده فيهما.

- رأيت يا هشام، رغم أن الجهاد من أعظم العبادات، إلا أنه يأتي بعد بر الوالدين؛ فما بالك بالهجرة إلى بلد أخرى وترك والدك! أنصحك يا بني أن تجبر بخاطر والديك، وما يدريك ربما يصب عليك الخير صباً فقط لأنك أرحت فؤادهما!

ثم استطرد الشيخ مصطفى بعد أن تذكر:
-بالمناسبة، أنت جيد في إصلاح السيارات، ما رأيك أن تفتح ورشة في الحي، خاصة أنه لا يوجد واحدة؟

جعد هشام حاجبيه من الفكرة. تصليح السيارات بالنسبة له
هواية يقضي بها وقته. لم يفكر يوما أن يجني منها مالا، أو أن تكون كعمل ثابت له.

رغم أنه لم يستسيغ الفكرة كثيرا، إلا أنه لم يشأ إحباط الشيخ مصطفى، فرد عليه بهدوء:
- ورشة! لم أفكر في الأمر من قبل، لكن من أجل خاطرك سأضع الفكرة في حيز تفكيري.

- لا بأس بني. أسأل الله أن ينير لك بصيرتك.

أمن هشام على دعوته بخشوع، وقد انزاح جزءا كبير من الهم الذي كان يجثم على نفسه. حقا الحديث مع شخص يصغي لك باهتمام، دون سخرية أو تحقير، يزيح على عاتقك الكثير. والشيخ مصطفى خير مثال.
.
.
.
.
.
.
«صفاء! حضري لنا الشاي!»
خرجت تلك الكلمات الآمر من فم سارة، الجالسة باسترخاء بجانب زوجها المنهمك بمراسلة شخص على هاتفه.
- لكن يا أمي، من المفترض أن يقوم يوسف بتحضيره.
غمغمت صفاء باعتراض طفيف، وعيناها مسلطة على يوسف الجالس بكسل، غير عابئ لكلامها. ويداه الخشنة منهمكة في تفحص آخر الأخبار على هاتفه:

- يوسف يقوم بتحضيره أغلب الأوقات، لكنك نادرا ما تقومين بذلك.
ردت عليها والدتها بلا اهتمام لاعتراضها، وقبل أن تقول شيئا، اقتحم نقاشهما صوت والدها الحاد، يأمرها بالذهاب، دون أن يكلف نفسه عناء النظر لها؛ فهبت واقفة بسرعة، كأن طاقة مجهولة ضربت خمولها.

وبعد مرور عدة دقائق، عادت صفاء إلى غرفة الجلوس، تحمل بين يديها صينية نحاسية، تحوي فناجين من الشاي وبعض الحلوى المتنوعة.

أسرعت نسرين بأخذ قطعة الحلوى المفضلة لها، قبل أن يسبقها أحدا ما، خاصة شقيقيها؛ فنهرتها صفاء بحدة، فتصرفها الأرعن أوشك أن يسقط الصينية من يداها:
- انتبهي أيتها الحمقاء. لقد كدت أن توقعي الصينية من يدي.

-أنت الحمقاء، ولست أنا.
ثم وجهت نظرها إلى والدها، تشكوها له بدموع التماسيح:
- أبي، انظر لصفاء، لقد قالت عني حمقاء.

رفع والدها رأسه من على شاشة هاتفه، ناظرا إليهما بأعين حادة من تصرفاتهما الطفولية، فهتف بصرامة:
- يكفي أنتما الاثنتان، لا داعي لتصرفاتكما الشبيهة بالأطفال...

قاطعته نسرين بعبوس طفولي، وهي تشير إلى نفسها بجدية مضحكة:
- لكن أنا لا زلت طفلة!

ابتسم الجميع على ردها غير المتوقع، كعادتها تنجح في كل مرة في رسم البسمة على وجوههم حتى في أسوء الأوقات.

بعد مرور دقائق، هتفت سارة بنبرة عالية، وقد تذكرت الدعوة التي أعطتها لها أم زين أمس:
- يا الله نسيت.

- ماذا نسيت؟
سألها زوجها باستغراب، وقد بهت من صراخها العالي، وكذلك فعل الجميع.

أجابت عليه بهدوء:
- بالأمس، جاءت أم زين لتسلمني دعوة زفاف.

صفقت نسرين بيدها بحماس، وهي تقول:
- رائع، من سيتزوج؟

ضربتها صفاء على قفاها بخفة، قائلة بسخرية:
- ولماذا هذا الحماس كله؟!

- واتش ، لماذا ضربتني؟ لقد آلمتني!

وقبل أن تبدأ نسرين وصلة بكاءها المزيف، قاطعت والدتهما مشاحنتهما بحزم:
- توقفا حالا!
ثم تابعت، موجهة بصرها نحو صفاء، ترمقها بحدة:
- وأنت توقفي عن التطاول على شقيقتك الصغرى. لم تدعاني حتى أكمل كلامي.

- قلت لك يا أمي، لقد قاموا باستبدال أطفالك في المستشفى! لأنه من المستحيل أن يكون لدي شقيقتان غبيتان، مثيرات للمتابع مثلهما!
ألقى يوسف بكلماته على مسامعهم بتهكم ومزاح في نفس الوقت. بينما رمقته صفاء ونسرين بشزر من مزاحه الثقيل، ولم يلقيا له بال.

استطردت والدتهم حديثها بتنهيدة حارة من سلوكهم:
-على كل حال، الخالة أمينة ستزوج ابنتها سكينة، وحفل الزفاف سيكون غدا، وسنذهب له جميعا.

اعترضت صفاء على الأمر، فهي لا نفس لها لفعل شيء، فما بالك بالذهاب إلى حفل زفاف:
- أنا لا أريد الذهاب، و....

قاطعتها والدتها بنبرة لا تقبل النقاش:
- بل ستذهبين، لا مجال لنقاش في هذا الأمر.
أردت صفاء طلب يد العون من والدها لإقناع والدتها. لكن صمته، وعدم اهتمامه بالأمر، جعلها تدرك أنه هو من طلب منها أخذهما- هي وشقيقتها- معها.
.
.
.
.
.
.

«أين بشرى؟!»
سأل سمير والدته التي تضيع الطعام على الطاولة، وعينيه تجوب أرجاء الشقة بحثا عن طيف شقيقته.
أجابت عليه بسخرية، وهي تأخذ مكانها على الطاولة:
- لو كنت تتسكع في البيت كما تتسكع في الشوارع؛ لعرفت أين هي الآن!

تجاهل سمير كلمات والدته الساخرة، وهو يعيد سؤالها مجددا:
- أليست هنا؟

ردت عليه بفتور، وهي تتناول طعامها:
- عند والدها العزيز!

- ماذا؟! وهل سمحت لها بالذهاب بهذه البساطة؟!
تفاجأ سمير من ردها، بالأحرى ما فاجأه أكثر سماحها لشقيقته بالذهاب لبيت العائلة، وبهذه البساطة! هو يدرك كم تكره والدته ذهابهم إلى بيت جده. خاصة بشرى، كي لا تحتك بزوجة أبيه. بالتأكيد هناك سر ما خلف قبولها.

- وهل تعرف هذا عني؟!
هتفت باستهزاء. ثم تابعت بنبرة ماكرة، تحمل الشماتة:
- زوجة أبيك مريضة، لهذا سمحت لها بالذهاب.

اتسعت عيناه هذه المرة من الدهشة؛ فمتى كانت والدته تهتم بأحد، غير شقيقتيه وهو؟! والأغرب أن من أولتها اهتمامها هذه المرة عدوتها اللدودة. وقبل أن يتفوه بكلمة، وصل إلى مسامعه صوت والدته القاسي:
- سمحت لها بالذهاب لتطلعني على كل جديد يخص مرض زوجة والدك العزيز. هل ستتحسن حالتها أم عساها تموت وتريح الناس من وجودها؟!

- ماهذه القسوة؟ لماذا تدعين عليها؟!

رمقته والدته برفعة حاجب، معقبة على قوله بتهكم:
- من أين نزلت عليك هذه الحنية؟ ألست انت من وعدت قبل أيام بأن تنتقم من الوقحة زهية؟!

حول نظره نحو طبقه، مكملا تناول طعامه. هي محقة في كل كلمة تقولها، ولا زال على وعده بأن يحول حياتها إلى جحيم، هي وابن شقيقتها الغالي. رغم ذلك رد عليها بنبرة عادية:
- تعلمين أنه ليس لدي مشكلة مع الخالة إلهام، فهي لم تتعرض لي يوما، أو توجه لي كلمة من شأنها ان تجرح مشاعري. لهذا لن يفرحني ان تدعي عليها، فهي اولا وآخرا والدة اخوتي.

- لا يهمني كيف تراها، ما يهمني ألا تقترب منها ولا من أولادها، فهمت يا.. ابن بطني!
ثم استرسلت بغمغة:
- مغفل! مثلك مثل والدك!

كلماتها قاسية، ولسانها حاد كالسكين، لا يرحم أحد، ينفر منه الصغير والكبير، هذه هي والدته، وللأسف هو نوعاً ما يشبهها في خبثها ومكرها.  لطالما أشفق على والده، كلما تذكر أنه صبر عليها لخمسة عشر سنة. لو كان في مكانه لطلقها في أول يوم زواج.

انتشله من أفكاره سؤال والدتــــه، الذي سبب له الارتباك:
- إلى أين تذهب كل يوم وتعود عند الفجر؟

رمقته بنظرة جانبية، وهي ترى ارتباكه، فاسترسلت بشك:
- هل تفعل مصيبة خلف ظهري يا فتى؟

رد عليها بسرعة، فنبرتها تنذر بعاصفة غضب شديدة:
- لا أفعل شيء.

- وماذا تسمي رجوعك متأخراً كل ليلة؟
سألته برفعة حاجب.

حاول بث الصدق في كلامه، فرد عليها بتلعثم:
- فقط أظل ساهراً رفقة الأصدقاء، نلعب الدومينو. تعلمين لقد أخذت عطلةِ السنوية، ولم أجد ما أفعله سوى البقاء معهم...

- تقصد التسكع معهم!
قاطعته بتهكم. ثم استطردت بحدة وتحذير:
- على كل حال، أنا أحذرك منذ الآن، إذا وقعت في مصيبة فلا تنتظر مني مساعدة، لديك والدك وجدك العزيزان.

أوما لها برأسه دون كلام؛ فماذا لديه ليقوله. الصمت في هذه الحالة أفضل خيار له ولها.
.
.
.
.
.
«ما الذي تتحدثان عنه؟»
قاطعت زهية الحوار الدائر بين شقيقتها وابنها، وهي تحمل بين يديها صينية القهوة على الطاولة. وضعتها على الطاولة الصغيرة، ثم جلست على الأريكة تنتظر ردهما.

«أين الحلوة الخاصة به؟»
سألها فراس، وهو يهم بأخذ فنجان قهوة.
-ستجلب صينية الحلويات ريما.
ثم استطردت، وهي تعيد عليهما سؤالهما برفعة حاجب:
- عن ماذا كنتما تتحدثان؟

نظرت شقيقتها إلى ابنها، غير المبالي بما يحدث. ثم عادت بأنظارها نحو زهية، التي تحدق فيها باستفهام، فتنحنحت قائلة:
- لقد قرر فِراس أن يخطب.

- ماذا؟
كان ذلك صوت ريما التي وقفت في مكانها مبهوتة بما سمعته. لا يستطيع عقلها الصغير استيعاب فكرة أن شقيقها أخيرا قرر الدخول إلى القفص الذهبي... وبرضاه! أما زهيـة، فقد ظلت ساكنة في مكانها، تحاول تفكيك تلك الشفرات المطلسمة التي اخترقت أذنها!
.
.
.
.
#يتبع

[اعتذر عن التأخير. لا تنسوا التصويت والتعليق على الفقرات. ✨]

Continue Reading

You'll Also Like

8.7K 297 3
يقولون أن أقدَار الناس مكتوبة منذ بداية الخليقة وأن لكل انسان قَدَرُه ... جاكلين جوهانسون فتاة شابة ، تذهب إلى جنوب افريقيا بهدف العمل في واحدة من أك...
31.7K 673 37
الملخص صادفت منقذها في أصعب لحظات حياتها.. في قمة ضعفها وهوانها، كان السبب في نجاتها.. عشقته منذ التقت عيناها عينيه! كل ما يذكره عينان بنفسجيتا اللون...
28.7K 1.7K 32
حُرِم، فعوضَ. لم يقبل أهلها به لكونه لا يوازي غناهم، جُرح قلبه وكبريائه بسبب الحب، وقرر أن يوصد بابه في زنزانة لا تُفتح وغير قابله للكسر، لم يعلم أن...
524K 12.5K 43
رواية بقلم المبدعة ساندي نور عشقكَِ .. عاصمةُ ضباب بفتح الكاف أو كسرها .. لا يهم العشق واحد والقلوب تختلف بداخل كل منا شيئا من ضباب شيئا لا ندرك كيف...