التقينا فأشرق الفؤاد بقلم / إ...

By SamaSafia

88.6K 2.3K 90

رواية تدور أحداثها في الصعيد وما يحتويه من عادات وتقاليد تربط بين العائلات من خلال يوسف الذى تجره الأحداث للع... More

الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادى عشر
الفصل الثانى عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادى والعشرون
الفصل الثانى والعشرون
الفصل الثالث والعشرين
الفصل الرابع والعشرين
الفصل السادس والعشرين
الفصل السابع والعشرين
الفصل الثامن والعشرين
الفصل التاسع والعشرين
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثانى والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الواحد والأربعون
الفصل الثانى والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الواحد والخمسون
الفصل الثانى والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصــل الأخيــر
الخـاتمــــة

الفصل الخامس والعشرين

1.6K 49 0
By SamaSafia

منذ بزوغ الفجر والمنزل كخلية نحل، مجموعة من مساعدات المنزل بقيادة هنية يتحركن بكل نشاط وكد فى كل اتجاه

ينظفن هنا ويرتبن هناك أما هنية نفسها فتقف كقائد محنك يقود كتيبته وتلقى بتعليماتها فى كل صوب ثم تعود إلى المطبخ لتحضير الإفطار لأصحاب المنزل بمساعدة أمل والحاجة أصيلة

مع الشروق كانت نساء البيت يتجمعن بالمطبخ يتناولن فطور سريع لتعود كلاً منهن إلى عملها، ما عدا شمس التى استيقظت متأخرة وتسللت من فراشها تاركة زوجها ينعم بالنوم بمفرده فى يوم الصباحية وهبطت للبهو لتطلع على مجريات الأمور

كان الجميع يتناولن الإفطار وحين انتهت ياسمين من إفطارها نهضت بكل بساطة والتقطت حقيبتها الجلدية ثم ألقت التحية مغادرة المنزل إلى عملها كأى يوم عادى

تبادل الجميع نظرات ذاهلة ثم هبت ندى وشمس تقطعان عليها الطريق، وقد عقدت كلاً منهن ذراعيها تحت صدرها وتبادلن النظرات بإصرار ثم تساءلت شمس ساخرة وهى توجه حديثها لندى قاصدة به ياسمين

:- أنتِ مش ملاحظة أن النهارده عندنا خطوبة يا ندى

حركت ندى رأسها بتعجب وتنهدت بطريقة مسرحية ثم قالت بلوم

:- أيوه ملاحظة ... بس يظهر العروسة معندهاش خبر

تابعتهم أصيلة مبتسمة بحنو يشملهم جميعاً، أما أمل فكانت تشاهد مشاغبات الفتيات التى اعتادت عليها فى الأيام المنصرمة وأصبحت تستمتع بها وكأنها تتابع مسلسل تلفزيونى هزلى

بدلت ياسمين نظراتها بينهما بلامبالاة ثم قالت ببساطة وكأن الأمر لا يعنيها أو كأنها مجرد ضيفة على هذه الخطبة

:- عندى أول حصتين وهعاود طوالى ... إحنا لساتنا فى أول النهار (هزت كتفها بلامبالاة مردفه) وبعدين ديه مچرد فاتحة هنحضر إيه يعنى!!

تبادلت ندى وشمس نظره غيظ ثم تحركن فى وقت واحد ليطوقوا ياسمين من الجانبين وهتفت ندى بمرح

:- إحنا مضطرين نلجأ للعنف بقى

تعالت قهقهات أمل وهى ترى الفتيات ينتزعن الحقيبة من على كتف ياسمين ويقبضوا على ذراعيها من الجانبين ثم بدأن فى ترديد ما يتوجب عليها فعله بالتبادل بلهجة تقريع

:- اتفضلى يا عروسة قدامنا ... لازم تاخدى حمام ونعمل شوية ماسكات لوشك الجميل ده ... ولازم ترتاحى عشان وشك ينور ... و لسه هنختار الفستان ونجرب الميك أب و....و ...

ترقرقت الدموع بمقلتى أصيلة وهى تتأمل وجه ياسمين التى حاولت الحفاظ على تعبيراته اللامبالية، ولكن الأم تشعر ... تشعر بسعادة وفرحه ابنتها ولكنها تخشى أن تظهر فرحتها، تخشى من خذلان جديد يصيبها فتحاول السيطرة على مشاعرها أو كتمها بداخلها وكأن السعادة ليست من حقها

نهضت أصيلة من مكانها وتوجهت نحو الفتيات اللاتى يتجادلن بصخب كمجموعة من الصيصان الصغيرة فلا تسمع أحدهما الأخرى، وقفت بينهم فعم الهدوء المكان

رفعت كفيها المتغضنتان تضم كتفى ابنتها وابتسامتها تضئ وجهها، مقلتيها ترسم ملامح ابنتها الجميلة وقالت بصوت عميق محمل بمشاعر أم تصبو للاطمئنان على ابنتها وطمأنتها فى نفس الوقت

:- أفرحى يا ياسمين .. افرحى يا بتى ... طه راچل زين وربنا عوضك به خير ... أوعى تكتمى فرحتك ولا تخافى من اللى چاى طول ما توكالك على الله

قربت جسد ياسمين منها تحتضنها بدفء، تمسد على ظهرها بحنو ثم رفعت رأسها تمحو أثر دموعها المتسللة من مقلتيها، دموع السعادة والرضا وقالت بحماس

:- يلا همى مع خواتك .... ووضبى حالك ولو فى حاچة ناجصة جولى نلحج نچيبها ... يلا يا بنات ربنا يسعد جلوبكم جادر يا كريم

استسلمت ياسمين لكلمات والدتها وشعت البسمة على وجهها بينما أشارت أصيلة نحو أمل تحثها على الانضمام لهن ومشاركتهن فرحتهم

وحينها ظهر جلال على باب المطبخ ناعس الملامح، خامل القوى ألقى التحية على الجميع ثم خص ياسمين بالحديث يشاكسها رغم جدية نبرته

:- صباح الخير يا عروسة ... أحب أحذرك أن عريسك مجنون ... مصحينى من الفجر عشان يبلغنى أنه هيكون هنا بعد المغرب على طول

أحنت ياسمين وجهها المتورد بالخجل فيبدو أن عريسها أكثر حماساً من أبناء عمومتها بينما أعتلت الفرحة والطمأنينة وجوه الجميع

حول نظره نحو ندى وغمز نحوها بخفة فتحركت من فورها للداخل لعدة دقائق ثم عادت تلتصق به، تمرر شئ إلى كفه بخفة خلسة عن الجميع وكأنهما جاسوسان يعملان فى مهمة سرية

تراجع جلال للخلف متقهقراً بعد أن تمت العملية السرية بنجاح لكن صوت أصيلة تبعه وهى تهتف به باهتمام

:- أجعد يا ولدى كُل لجمة وأشرب شوية شاى

استدار يواجهها مبرراً

:- معلش يا عمة العريس منتظر بره وهننزل على المحافظة ... هنبقى ناكل حاجة فى الطريق

كاد يغادر ولكنه توقف مرة أخرى مستطرداً

:- لو احتاجتم أى حاجة جاد وعوض فى الجنينة ... وأنا هرجع من مشوارى مع العريس على الجنينة على طول

وجه نظره نحو ياسمين التى تقف بارتباك منذ ذُكر اسم طه تتلمس لهفته وصدق رغبته فى الارتباط بها فى تصرفاته وقال بنبرة هادئة محملة بمشاعر الأخوة الصافية

:- مبروك يا أحلى وأطيب عروسة فى الدنيا

هزت ياسمين رأسها متمتمة بكلمات خافتة شاكرة له، تنهدت أصيلة حامدة الله على عطائه ثم نظرت للفتيات مرة أخرى وبدأت فى توزيع المهام

:- يلا يا بنات روحوا شوفوا حالكم ... وأنتِ يا شمس حضرى الفطور لچوزك واطلعى به يفطر براحته فوج ... الدار مجلوب إهنه ومش هيكون على راحته وسط التنضيف والجلبة ديه

*******************

استيقظ من نومه فلم يجدها بجواره، تحرك نحو الحمام يغتسل ليستفيق ويستعيد نشاطه لكنه لن يغفر لها أن تركته نائماً وحيداً فى أول يوم زواج حقيقى بينهما

كان يرغب أن يفتح عينيه على وجهها كأى عريس توقظه عروسة فى يوم الصباحية، أن زواجهما لا يتبع أى من الخطوات المعتادة بل يسير بطريقة مختلفة عن المعتاد

خرج من الحمام يرتدى بنطال قطنى مريح، عارى الصدر وبيده منشفة صغيرة يجفف بها شعره القصير، ملامحه عابسة لم يكن هذا ما خطط له فى يوم صباحيته

رفع المنشفة عن وجهه ليتفاجأ بابتسامة مشرقة تستقبله استقبلها بنظره عتاب وتقطيبه جبين لم تلقى لهم شمس بالاً بل هرعت ترتمى بين أحضانه، تحتوى خصره بين ذراعيها البضين ويرتاح رأسها فوق قلبه تسترق السمع لنبضاته المنغمة

لم يستطع أمام تلك المشاعر وهذا الدفء الذى تسلل إلى جسده أن يواصل العبوس وإنما رفع ذراعيه بتلقائية يحتوى جسدها الأنثوى الصغير وأستند بذقنه فوق قمة رأسها مغمغماً بتذمر

:- بتحاولي تصلحى غلطتك ... لكن مش هسامحك برضو

رفعت رأسها نحو وجه تتأمله بعيون شقية عاشقة ومازالت ذراعيها تضم خصره وذقنها الدقيق يستند إلى صدره متسائلة بتعجب

:- غلطتى!! ... أنا عملت إيه زعلك منى؟

فتح فمه يوضح لها سبب تذمره لكن لم يتسنى له الفرصة حين واصلت الحديث بنبرة متدللة متوسلة

:- عشان خاطرى بلاش زعل النهارده يا چو

أخفضت نظراتها بخفر وتمتمت بنبرة أهدأ

:- النهارده صبحيتنا ... بلاش زعل أرجوك

سحب كفه فوق ظهرها صعوداً إلى وجهها ثم رفع رأسها نحوه لتواجهه من جديد وقال معاتباً

:- ويصح في يوم صبحيتى أصحى ألاقى نفسى لوحدى فى السرير .... والعروسة هربانة

قهقهت بمرح وشبت على أطراف أصابع قدميها تطوق عنقه بذراعيها واقتربت من وجهه هامسة

:- فى ديه عندك حق

مالت تخطف قبله من خده الحليق ثم عادت تواجهه

:- لكن معاى عذرى

حركت مقلتيها جانباً توجه نظره نحو طاولة قصيرة أمام الأريكة موضوع فوقها صينية تحوى إفطار فاخر

ألقى نظره حيث أشارت ورفع حاجبه دهشة فلم يلحظ قبل ذلك هذه الصينية العامرة بما لذ وطاب، همهم باستحسان

:- هممم ... فطار أنا جعان جداً

اغتنمت قبله أخرى من وجنته بادلها إياها بعدة قبلات صغيرة دافئة تعرف طريقها من وجنتها حتى شفتيها لكنها تملصت منه مبتعدة بنعومة وجذبت كفه نحو الأريكة ليجلسا متقاربين ثم رفعت كفها نحوه بكوب من اللبن الدافئ، تناوله منها برضا وتسائل بجدية

:- قوليلى بقى إزاى جبتى الفطار لحد هنا ... أحنا متعودين نفطر كلنا مع بعض تحت

ضحكت بمرح ومالت على الطاولة تصنع شطيرة من أجله موضحه

:- الموضوع بسيط ... هنية قالبه الدنيا تحت هى والعاملات بينضفوا البيت لاستقبال العريس بالليل

التفتت نحوه تمد يدها بالشطيرة، أبعد يدها وقرب كوب اللبن من شفتيها لترتشف منه القليل بملامح راضية باسمة ثم تجرع الكوب بالكامل مرة واحدة وقال غامزاً بعبث وذراعه تلتف حول خصرها ليقربها من صدره

:- يظهر أن العرسان كتروا فى البيت

توردت وجنتيها وأحداث الليلة السابقة تداعب مخيلتها وتتلاعب بمشاعرها، تنفست بخفة لتشتت تفكيرها وأوضحت هاربة من تمعن مقلتيه فى وجهها

:- الكل صاحين وفطروا من بدرى ... أحنا أتأخرنا فى الصحيان

زاد من ضمه لها ومال برأسه نحو عنقها مداعباً بقبلات بطيئة دافئة وهمسه يصلها يدغدغ أعصابها

:- من حقنا نصحى متأخر يا عروستى الجميلة

تلجلجت الحروف على لسانها وحاولت الابتعاد متمنعة بإرادة واهية مرددة بأنفاس هاربة تواصل سردها

:- عمة أصيلة قالت نفطر هنا أحسن من دوشة تحت ... وأمل حضرت معايا الفطار وأتوصت بزيادة بأخوها زى ما أنت شايف

توقفت شفتيه عن عملهما حين ذكرت شقيقته وارتسمت البسمة عليهما قائلاً بحنو واهتمام

:- أختى حبيبتى ... البنت ديه حنينة أوى وقلبها أبيض ربنا يهدى جوزها ... مش هيلاقى واحدة زيها أبداً

:- بيحبوا بعض أوى ... بس العند دخل بينهم

قالتها شمس مؤكدة مما رأته من حب أمل لزوجها وحديثها عنه أومأ يوسف مؤيداً وعقله يشرد فى فاروق وكيفية التفاهم مع رأسه المتيبس

جرت مقلتيه على ملامحه الحبيبة حتى سقطت على جسده عارى الجذع فشهقت فجأة مستنكرة ونهضت نحو الخزانة قائلة بامتعاض

:- الدنيا برد وأنت قاعد بالشكل ده

أخرجت سترة رياضية مريحة واقتربت تمرر رأسه منها لكنه راوغها بشقاوة وحاصر خصرها ناهضاً من مكانه وحملها بين ذراعيه هامساً أمام شفتيها

:- برد إزاى وأنا حاضن الشمس جوه قلبى

ناظرته بحدقتى عاشقة وقلب ملهوف، تضم رأسها بحب هائمة المشاعر، مغمضة العينين بينما اندفع بها نحو الفراش ليسقطا سوياً فى أمواج مشاعرهما المشتاقة للوصال

*******************

فى غرفة ياسمين كان هناك معسكر نسائى صغير يقوم بترتيب وتنسيق ما سترتديه الليلة ثم بدأت شمس وندى فى وضع بعض من مساحيق التجميل على وجه ياسمين لتجربة مظهرها واختيار الأفضل

بعد أن استقروا على مظهر مناسب بلمحات بسيطة من مساحيق التجميل وقفت ياسمين بمنتصف الغرفة تتأمل نفسها برضا فى المرآة وقلبها يهفو بالدعاء المتواصل والابتهال لله

فى الخلفية كانت أمل تجلس على حافة الفراش تتأمل ما تقوم به الفتيات بفضول، وتتذكر يوم زفافها حين أستأجر فاروق مصففة شعر خصيصاً لها، كانت هذه هى المرة الوحيدة التى تزينت فيها بالكامل وبعد ذلك كانت لا تستخدم المساحيق التجميلية إلا نادراً

ففاروق لا يهتم بهذا الجانب كثيراً كما إنها لا تتقن استخدامها

استفاقت من شرودها على صخب ندى وهى تحاول قرص ركبة ياسمين باستماتة مما أثار ضحكات شمس وياسمين التى تحاول التهرب من هذه القرصات المؤلمة

انضمت لهم فى الضحك بمرح حتى تحولت شمس نحوها واتجهت إليها تجذبها من يدها وأجلستها أمام المرآة هاتفة بجدية

:- الدور عليك يا حلوة

خبطت أمل على صدرها بكلا كفيها باعتراض هاتفه بينهم

:- يا مُرى ... لاه مينفعش ... مجدرش أحط أحمر وأخضر فاروج يودرنى (يقتلنى) لو عرف

مالت عليها ياسمين تقنعها بهدوئها المعتاد

:- ومين هيشوفك غيرنا يا أمل .. أحنا بنجرب ونلعب

بررت ندى بعدها قائلة

:- ما تقلقيش يا أمولة ... البيت كله حريم وجلال مش هيرجع دلوقتِ خالص ... وبعدين هو أنتِ هتخرجى بالميكاب فى الشارع يعنى

نزعت شمس وشاح أمل عن رأسها ليظهر شعرها الأسود الحريرى وقالت بلين

:- يا حبيبتى عيشى وجربى هتخسرى إيه ... الأوضة مقفولة علينا

مالت عليها تلكزها بخفة وتغمز بمشاكسة هامسة بشقاوة

:- عشان تجننى فاروق بجمالك لما ترجعى بالسلامة

أخفضت رأسها حياءً وكل تفكيرها يدور حول عشقها الأول والأخير الذى اشتاقت له شوق الأرض الجدباء للمطر رغم قسوته وجفائه

**********************

اتسعت ابتسامته حين عاد وقت العصرية ووقعت مقلتيه على أمل التى تزين وجهها ببعض مساحيق التجميل بشكل رقيق أظهر جمالها الطبيعى، شعر بالسعادة من أجلها وبامتنان من الفتيات لمحاولة إخراجها من حزنها حتى ولو لبضع دقائق

أسرعت مقلتيه نحو شمس التى تزينت أيضاً والتقت عيونهما فى ضمة خفية يحتوى كلاً منهما الأخر فى اشتياق

تقدم يوسف نحو شقيقته هاتفاًبعد صافرة متغزلة صدرت من شفتيه

:- إيه الجمال ده كله يا حبيبتى ... ما شاء الله عليكِ أجمل من القمر بشوية

تخضب وجهها بحمرة الخجل وأحنت رأسها بحياء مبررة

:- البنات كانوا ... يعنى جالوا آآآآ ... مفيش حد فى الدار ونچرب المكياج و آآآ ..

رفع رأسها بأنامله يقابل نظراتها بحنان وحب أخوى كبير قائلاً بتأكيد

:- ده بيتك والبنات أخواتك استمتعوا بوقتكم ... قريب هترجعى لولادك وجوزك إن شاء الله

أنهى عبارته مطمئناً إياها بالقليل من الكلمات التى لا يدرى مدى صحتها بعد مواجهته الفاشلة مع فاروق متحجر الرأس

تأملت مقلتيه بلهفة ولوعة أم لم تبتعد يوماً عن أولادها وبيتها قائلة :- صُح يا يوسف .... هشوف ولادى

أحتضنها بحنو وربت على ظهرها قائلاً بخفوت : إن شاء الله ياحبيبتى ... إن شاء الله قريب

**********************

فى المساء حضر العريس في أبهى صورة يرتدي بذلة زرقاء اللون ورابطة عنق بنفس اللون فوق قميص ناصع البياض أضفت عليه أناقة مميزة وأخفت بعض من وزنه الزائد فظهر بمظهر متألق ولكن الذى منحه هذه الطلة المشرقة حقاً هو سعادته الداخلية التى طلت من عينيه المتلألئة والبسمة التى أضاءت وجهه وكيف لا وهو يرى حلم العمر المستحيل يتحقق أمام عينيه

تحرك بخطى متمهلة عكس دقات قلبه الذى يقرع طبول الفرح داخل صوان صدره المضاء بمصابيح السعادة

تتقدمه أسرته المتمثلة فى والدته وشقيقته الصغرى فى أبهى حلة وخلفهم والده الشيخ رضا الذى كان يجاوره منذ دقائق قليلة وبمجرد أن دلف للحديقة تراجع خطوات عن والده مهابة من الموقف أو ربما عدم تصديق

استقبل الزائرين على باب المنزل جلال ويوسف بترحاب كبير ودعوهم للداخل ثم وقفا فى انتظار العريس

تقدم طه نحوهما وهما يتفحصان أناقته بنظرات استحسان وما أن وقف بينهما حتى واجهه جلال يمسح على أكتافه وكأنه يزيل أتربة غير مرئية عن كتفيه ثم مد يده يؤكد على عقدة رابطة العنق قائلاً بمشاغبة

:- عشت وشفتك عريس يا دكتور البهايم

عدل طه من وضع عويناته الطبية وتسائل بلهفة وأصابعه تؤكد على أزرار سترته

:- شكلى مليح يا چلال ... كويس إكديه هاه

حرك جلال رأسه يتطلع فى وجهه ثم قلب شفته وقال ببرود

:- كويس هنعمل إيه يعنى خلقه ربنا ... المهم العروسة متطفتش منك

جحظت مقلتى طه وأدرك مشاغبة صديقه فالتفت يواجه يوسف لعله يجد إجابة شافية وقال بجدية

:- جول أنت يا يوسف ... چلال ده مبيتكلمش چد واصل

اومأ يوسف موافقاً وتصنع الجدية قائلاً

سيبك منه ... أنت تمام بس ... بس :-

رفع ظاهر كفه يمرره على ذقن طه مضيقاً عينيه وقال يتصنع الجدية

:- دقنك كانت محتاجة وش تانى ... و شعرك أنت نسيت تتسرح تقريباً

تلفت بينهما بقلق فتعالت ضحكاتهم المشاكسة عليه، تأفف منهما وأشار نحو باب المنزل بتذمر

:- أنا مش ناجص توتر ... هتدخلونى ولا أمشى أنا

ربت جلال على ظهره مؤازراً وأقترب خطوة من صديق عمره مطمئناً بجدية

:- نجم عالمى يا دوك ... ما تقلقش البدلة هتاكل منك حتة

تبسم يوسف فى وجهه مؤيداً وأشار أمامه يدعوه للدخول

دلف طه بابتسامة مشرقة بين صديقيه حتى قاعة الضيوف الذى اجتمعت بها أسرته مع الحاجة أصيلة وندى

ألقى السلام ببشاشة ثم تقدم نحو أصيلة التى تتصدر المجلس بعباءة حريرية سوداء يزين جيدها كردان ذهبى ضخم ويتدلى من أذنيها قرط ذهبى مخروطى الشكل أما عينيها فقد تكحلتا بالكحل الإثمد فظهرت بطلة قوية واثقة وسعيدة بنفس الوقت، انحنى طه يقبل ظاهر كفها حباً وإحتراماً كما أعتاد فقابلته ابتسامة رضا منها ودعت له بنية خالصة

بعد وقت قصير من الحديث الودى بين الجميع حان وقت دلوف العروس حاملة صينية كبيرة تحوى كؤوس المشربات وبجوارها شمس بصينية أخرى تحتوى على بعض أطباق من الحلوى

هب طه واقفاً يستقبل عروسة باتساع بسمته ومقلتيه تطالعها بنهم وحب يتراقص على صفحة وجهه، قلبه غير مستوعب للفرحة التى يعيشها "ياسمين ... أصبحت عروسة ... أصبحت ملكه وحده بعد طول انتظار"

ردد بصوت وصل لمسامع الحضور ومقلتيه تدوران على ردائها الوردى الناعم اللون والملمس وحجابها السكرى الرقيق وزينتها البسيطة التي أكدت على سحر عينيها السوداء وجمالهما

:- اللهم صل على كامل النور

تخضبت وجنتيها بلون الخجل وارتبكت فى وقفتها من كلماته ونظراته وكأنها تقابل خاطب لأول مرة فى حياتها، فتحت بهية ذراعيها لها تدعوها إليها لتضمها بدفء ثم أجلستها بجوارها لتتوسط والدتها وحماتها على الأريكة

تأمل يوسف زوجته التى انتحت إلى جانبه بعد أن وضعت الصينية على المنضدة، استقبلها بجواره بنظره اشتياق ثم دار بعينيه فى الحضور التى غابت عنهم أمل كعادتها حيث لا تتواجد فى حضرة أي غريب رجل كان أو امرأة وقد تركها تتعامل كما ترغب لكن اليوم الوضع مختلف

اليوم يوم فرح و عليها أن تعتاد التعامل مع الناس، عليها أن تندمج فى الحياة وتشارك أسرتها فرحتهم، يكفيها خضوعاً وعزلة لذا مال على زوجته الجالسة بجواره وسألها عن شقيقته لتجيب هامسة

:- مش راضية تحضر الفاتحة ... حاولت معها أنا وياسمين كتير رافضة خالص ... خايفة من زعل فاروق

أومأ متفهماً ثم أستأذن لدقائق وخرج من القاعة تتبعه زوجته

واتجه نحو المطبخ المقر الشبه دائم لشقيقته، لمح طرف رأسها من جانب الرواق المؤدى للمطبخ تتابع من بعيد ما يحدث

حرك رأسه متعجباً وقال بلهجة لائمة

:- ده اسمه كلام يا أمل ... واقفة تتفرجى من بعيد ... مكانك وسطنا ... تفرحى معانا

شهقت واضعة كفها المضموم على شفتها قائلة برفض

:- لاه يا يوسف ... ميصحش أنا شايفة من إهنا مليح وباركت لياسمين كمان

تبادل يوسف مع شمس نظره ملولة بينما حركت شمس كتفيها مستسلمة لعناد أمل، أما يوسف فقال يحثها على التغير

:- أمل أنا فاهم أنك فى بيت جوزك كنت بتتعاملى بطريقة مختلفة ... لكن دلوقتِ أنتِ عندك أسرة والتزامات اجتماعية لازم تشاركى فيها .... فاروق مش هيقدر يمنعك عن أهلك تانى

طأطأت رأسها بعجز، لاتقوى على مخالفة أوامر فاروق وهى أعلم برغباته وطبيعته الغيورة ... واصل يوسف إقناعها بنبرة هادئة

:- أنتِ مش هتعملى حاجة غلط ... هتحضرى خطبة بنت عمتك وأخوكى جنبك ومراته وكلنا حواليكِ

رفعت عينيها المحتفظة بلون الكحل الأسود المحيط بهما فزادت إتساع وجمالاً نحوه بحيرة وهزت رأسها برفض فاستطرد قائلاً

:- اعقليها كده ... فاروق هيغير عليكِ من الشيخ رضا ولا من العريس اللى مش شايف غير عروسته

تدخلت شمس مؤيدة وهى تمسد على كتف أمل تحاول إقناعها

:- يوسف بيتكلم صح يا أمل ... وبعدين يا حبيبتى كلنا حواليكِ وفى كل الأحوال بعد الفاتحة هنخرج كلنا ونقعد فى القاعة التانية ونسيب الرجالة لوحدهم

ناظرها يوسف بإصرار وقد أدرك حيرتها وقرر أن يستغل ترددها فالتقط كفها بين راحته يبثها الأمان قائلاً بلطف

:- خمس دقايق هتفرحى ياسمين وتفرحينا كلنا

رفع كفها يلثمها بخفة مردداً :- ماتخفيش أنتِ مع أخوكى

رفرفت جفنيها مترددة وخائفة لكنها استسلمت لحديث شقيقها فهو على حق يجب أن تتغير وتندمج بالحياة ولا تكتفى بالمشاهدة من بعيد، رفعت كفيها تمسح على وجنتها وفمها بقوة تتأكد من خلو وجهها من أى مساحيق متسائلة

:- لسه المكياچ باين يا شمس

حركت شمس رأسها نفياً وقالت تطمئنها

:- يا حبيبتى أنتِ غسلتى وشك ميه مرة ... مفيش حاجة إلا شوية كحل بسيط

قطبت جبينها بتردد بينما زادت قبضة يوسف حول كفها ثم التفت نحو شمس وأعطاها مرفقه لتتعلق به من الجهة الأخرى قائلاً بخفوت

:- فاكرة فاتحتنا قريتها تحت تهديد السلاح

دفعت مرفقها فى خاصرته بامتعاض ثم عضت على شفتيها تكتم ضحكتها وتحركوا نحو القاعة مرة أخرى

***********************

عادوا إلى القاعة ليصمت الحديث الدائر وتتجه الأنظار نحو أمل ويوسف قابضاً على كفها بمساندة والجميع يتأملها بين نظرات مرحبة بوجودها من عائلتها وأنظار تعجب وفضول من جانب طه وأسرته

طأطأت أمل رأسها حياء بينما تقدم يوسف قابضاً على كفها حتى لاتهرب منه واتخذ مجلسه ساحباً أمل بجواره أما شمس فدارت حولهم وجلست بجوار أمل من الجهة الأخرى تدعمها وتساندها، قال يوسف معتذراً

:- لامؤاخذة على المقاطعة ... لكن فرحتنا هتكمل بوجودك أختى أمل البدرى

تأملتها بهية بفضول إذن هذه هى أمل البدرى التى قلبت سيرتها البلدة رأساً على عقب منذ هروبها من منزل السمرى ثم انطلقت مرحبة

:- ما شاء الله ... مرحب بست البلد كلاتها منوره يا ست الناس ضمت أمل ساقيها بتشنج إلى جانب بعضهما فهى لم تعتاد التعامل مع الناس وخرج صوتها خافت شاكراً وحدقتيها تحيد نحو ياسمين التى تبتسم نحوها بسعادة وامتنان

تنحنح الشيخ رضا وبدأ الحديث الذى أجله حتى عودة يوسف من خارج القاعة مردداً

:- الحمدلله رب العالمين الطيبون للطيبات ... وأشهد الله إن ولدى الداكتور طه ولد صالح ... بر بوالديه وسمعته طيبة بين الخلج ... والحمد لله عمل نفسه بنفسه وإن شاء الله ربنا يجدره ويوفى كل طلبات عروستنا الغالية

رفعت أصيلة رأسها وعقدها الذهبى الثمين يزين صدرها وقالت بانشراح صدر وثقة بالنفس

:- الداكتور غنى عن التعريف ... ده ولدنا وأتربى على عينينا وبكفاية أصله الطيب اللى يشرف أى حد يا شيخ رضا

حرك الشيخ حبات مسبحته يحمد الله ثم قال بحبور بلهجة تساءل

:- على بركة الله نجرا الفاتحة ربنا يسعدهم ويبارك فيهم

لم ينتظر طه أى لحظة بعدها إنما رفع كفيه عالياً وبدأ فى القراءة، تبعه الجميع فى قراءة الفاتحة أعقبها زغرودة عالية من والدة العريس صاحبتها زغرودة شقيقته الصغرى

تابعت أمل الحدث بفضول ومقلتيها تتجول فى الوجوه وخاصة فى عمتها التى تجلس بثقة وكبرياء بين الجميع، تتحدث بكل طلاقة وسلاسة يعاملها الجميع باحترام وتقدير

تعالت أصوات الجميع بالمباركات المصاحبة للزغاريد المنطلقة من العائلتين وساد جو من البهجة والسرور فى القاعة ... أخفضت ياسمين رأسها بخفر تخفى ابتسامة سعادة ورضا جذبتها والدتها لصدرها تقبل رأسها وتدعو لها بالفرح ثم احتضنتها والدة العريس وقدمت التهنئة بدورها ثم مدت كفها نحو أصيلة تقبض على كفها مهنئة وداعية للعروسين

تنحنح طه بارتباك وأشار نحو جلال برأسه يحثه على الحديث كما اتفقا سابقاً، استجاب جلال لإشارته قائلاً بصوت مرتفع نسبياً ليصل للجميع

:- العريس كان نفسه يقدم هدية صغيرة للعروسة ... ولا إيه ياعريس؟

عدل طه وضع نظارته الطبية وحرك رأسه مؤيداً وكفه تمتد نحو شقيقته التى نهضت من مكانها لتنتقل بجواره وتناوله علبة مخملية متوسطة الحجم

حولت ياسمين بصرها نحو والدتها بحيرة، وكأنها تطلب الأذن منها ... ربتت أصيلة على ظهرها تشجعها ومقلتيها متلألئة بدموع الفرحة التى تسيطرعليها وتحاول حبسها داخل مقلتيها بينما دفعتها بهية برفق لتشجيعها على الانتقال بجوار خطيبها

أسرعت ندى نحو ياسمين بعد إشارة عمتها وجذبتها لتنهض من مكانها، قبلتها مهنئة ثم دفعتها لتجلس على مقعد قريب من طه ووقفت خلفها بينما فتحت منار العلبة المخملية وقربتها من طه الذى تناول من داخل العلبة خاتم ذهبى رقيق التصميم يظهر به قلبين متداخلين على اختلاف أحجامهم وكأن القلب الكبير يحتضن الصغير باحتواء يحيط بهما فصوص متلألئة ومد كفه نحو أصابع معشوقته الرقيقة

لمس كف عروسة على استحياء فتزلزلت أوصاله وقفز الخاتم من بين أصبعيه أرضاً وتتدحرج بعيداً حتى ارتطم بحذاء العروس واختار أن يتوقف بجوارها وكأنه يعلم صاحبته

كتمت الفتيات ضحكاتهن على ارتباك العريس حتى شمس مالت على أمل تهمس بمرح بجوار أذنها، تحاول أن تفك تشنجها الواضح وتجذبها للاندماج فى الحدث

انحنى طه يلتقط الخاتم من على الأرض معتذراً بعد أن سحبت ياسمين قدمها للخلف بعيداً عن الخاتم الذهبى، ثم رفع رأسه وعدل وضع عويناته الطبية وتنفس بعمق ليعاود المحاولة من جديد ... مقلتيه ترتاح فوق ملامحها الخجولة وهمس بالقرب من وجهها بارتباك

:- يدك فيها كهربا ولا كهربة السد العالى يا أستاذة

اشتعلت وجنتى ياسمين خجلاً خاصة حين استقر الخاتم رقيق التصميم، غالى الثمن فى أصبعها بشكل مثالى

تعجبت من مناسبة مقاس الخاتم لأصبعها فرفعت نظرها نحو ندى بدهشة ومازال كفها معلق فى الهواء وطه يجاهد لغلق الأسورة الذهبية حول معصمها رغم تدربه طيلة النهار على معصم شقيقته، حين انتهى أخيراً قاوم نفسه حتى لا يلثم كفها أمام الجميع .. عليه أن ينتظر قليلاً حتى تصبح حلاله فقد مر الكثير جداً ولم يتبقى سوى القليل، همس بصوت محمل بمشاعره المتأججة

:- مبارك يا ست البنات ... ربنا يجدرنى وأسعدك

:- الله يبارك فيك

قالتها بهمس وعينيها تتهرب من صخب مشاعره التى تطل من مقلتيه، مد يده إلى جيب سترته وأخرج خاتم أخر ومد كفه ليلتقط كفها الأخر ووضع الخاتم فى بنصرها

تأملت الخاتم الذى تعرفه جيداً، فهو خاتمها الشخصى ... أذن هكذا استطاع معرفة مقاس أصبعها وبالطبع هناك من تواطئ معه فى هذه المؤامرة، نظرت نحو جلال الذى ابتسم لها ثم التفتت نحو ندى وقد فهمت ما حدث قائلة بتفهم

:- أنا جولت برضك ... أكيد لك چاسوس فى الدار لاچل ما تعرف مجاس صباعى تمام

استقرت كفى ندى على كتف ياسمين وهمست بجانب أذنها قبل أن تلثم وجنتها بحب

:- جاسوسة ... جاسوسة المهم تبقى مبسوطة ... ربنا يتمم لك بخير يا حبيبتى

قال طه يبرر تصرف أصدقائه

:- والله ندى وچلال تعبوا أمعاى كتير اليوم عجبال ما نفرح بهم

حول نظره نحو أصيلة وقال بجدية وارتياح

:- إن شاء الله العروسة تنزل تختار الشبكة اللى تعچبها وجت ما تحب .... وأنا تحت أمرها فى كل شئ

هزت أصيلة رأسها بقبول داعية لهم بالخير فقد تم الاتفاق مسبقاً على تأجيل الشبكة والزواج حتى تستقر أمورهم ومشاكلهم

مد يده فى جيبه مرة أخرى ليخرج دبلة فضية عريضة ... تنحنح بخجل رجولى متأدب اكتنف أوصاله قائلاً بنبرة تتراقص فى حروفها أنغام الفرح

:- لامؤاخذة يا ست البنات ... أنا استعچلت و چبت دبلتى بدى الناس كلاتها تعرف بفرحتى بكِ ... ممكن تلبسهالى

نظرت للحلقة الفضية بين أصابعه ثم رفعت حدقتيها تتأمل عينيه المتلهفة عليها وعلى إعلان ارتباطهم أمام أهل البلدة ثم مدت أصابعها الرقيقة تلتقط الدبلة من يده، تتأمل اسمها الذى نقش داخلها بجوار اسمه لا يفصلهم سوى قلب صغير، رفعت رأسها تتمعن فى ملامح وجهه السعيد ربما لايتميز بوسامة ولكن ملامحه عادية تحمل الطيبة والبشاشة ... أما عينيه فيفيض منهما نبع حنان يكاد أن يغرقها، عندما يأتى عوض الله فلا تتعجب من جميل عطاءه بل ألهج بالحمد والشكر لجابر القلوب الكسيرة

فرد كفه أمامها منفرج الأصابع بلهفة، لهفة للحظة ترقبها لسنوات ... وضعت الحلقة حول أصبعه ببطء دون أن تلامس أناملها كفه لكن مقلتيهما كانا فى حالة عناق حميم حيث وجد كلا منهما مرساه الذى يتوق إليه

******************

فى نفس الوقت بالخارج مرت سيارة فارهة من أمام منزل البدرى التى تعالت بداخله زغاريد الفرح وأثارت تجهم ملامح سائق السيارة الذى تصور زوجته الهاربة وسط عائلتها تطلق الضحكات والزغاريد وقد نسيت زوجها وأولادها ولا تفكر في العودة لهم

نسيت حب عمرها ورفيق صباها وأبو أولاده من أجل أسرة لم تعلم بوجودهم إلا من أسابيع قليلة

ضربت الغيرة مواطن قلبه وعقله فدعس دواسة البنزين بانفعال ينطلق مبتعداً بصوت فرقعة مدوى وعاصفة ترابية تتبع أثره وكأنه يضغط على أخر مواطن التعقل فى رأسه حتى لا يقتحم المكان لينتزعها ويخفيها عن عيون الأنس والجان ولا تدركها سوى عينيه العاشقة وقلبه المعذب

أفزع صوت السيارة شبح يتربص داخل الحقول المقابلة للمنزل وسط الظلام، ظل قابع بين الزراعات خشى من اكتشاف أمره حين سمع زمجرة السيارة المنطلقة كما يزمجر صاحبها الغاضب داخلها

ولكنه عاد فاستكان مكانه فى أحضان شجرة وارفة، مكانه الذى اعتاد أن يقضى به ساعات يومياً بعد انتهاء عمله، يبدل بصره بين شرفات المنزل على أمل لمحة من حلمه المستحيل

اليوم يصل لمسامعه أصوات الفرحة ... فرحة وصال حبيبين، فرحة لا يجرؤ حتى على الحلم بالوصول إليها فى يوم من الأيام أبداً فقلبه الخائن أختار المستحيل ليكون له عشق، فكتب عليه الشقاء والحرمان للأبد فلن يتزوج الشاطر حسن من الأميرة الحسناء سوى فى الأساطير

أما جاد ... الفقير الضعيف فكل أمله وحلمه أن يُكحل عينيه برؤيته قطر الندى حتى ولو عن بعد

تراجع برأسه يستند إلى جذع الشجرة خلفه وعينيه متسمرة على شرفات المنزل المضاءة، ملامحه تحمل معانى الأسى والهوان ففى خلال أيام قليلة سيعرف الجميع حقيقته، وسيحرم حتى من طيفها الذى يداعب مخيلته

خلال أيام قلائل ستشتعل نار الثأر من رماد الماضى لتحرق الجميع وسيكون هو وقلبه أول الضحايا وأكثر المعذبين ...

هو المرغم على المشاركة فى ثأر لا يعنيه ولا يرغب فيه خاصة بعد أن وجد قلبه هنا وتعرف على المعدن الأصيل لهذه الأسرة الكريمة وإن كان ليس مقدر له أن ينال حب فتاته فكان يكفيه تعاطفها وشفقتها عليه، يكفيه أن يجاورها ويبصرها عن بعد

ولكن حتى هذه الأمنية أصبحت صعبة المنال

*****************

في منزل العزازي يراقب حسام زوجته بغيظ أصبحت لا تترك الطفل من بين يديها نهائياً وتراجعت مكانته فى قلبها إلى المركز الثانى

ورغم أنه يقدر اشتياقها للإنجاب كحاله تماماً إلا أنها تناسته وتناست حبها وتدليلها له وهو يحتاجها يرغب فى زوجته شريكة حياته التى عانت معه وشدوا عضد بعضهم البعض حتى أكرمهم الله بالذرية

انتبه إلى حديث والده الذى يجاوره يتابعون أحد البرامج الإخبارية فى التلفاز حين سأله بنبرته الوقورة

:- اليوم جراية فاتحة الداكتور طه؟

انتبه حسام لوالده وتركت حدقتيه صورة زوجته الحاملة لطفله بين أضلعها والتى تجاور شقيقته وتتحدث معها فى حوار جانبى وأجاب والده الحاج سليم مؤيداً

:- أيوه يا أبوي ... ربنا يتمم لهم على خير ... الدكتور طه يستاهل كل خير و دار البدرى ولاد أصول

خاض مع والده حديث هادئ الصوت أما نسمة فكانت تهدهد طفلها بين ذراعيها، تسترق النظر إلى زوجها من وقت لأخر، بالطبع مازالت تعشقه حتى لو صبت كل اهتمامها على الصغير فهو أولى بالرعايا الأن ولكن يظل زوجها مالك القلب وساكنه الأول

مالت على فرح التى تجاورها هامسة حين ذكر حسام مناسبة زواج طه وياسمين

:- يعنى سيادة النجيب مظهرش من يوم ما كان إهنا بيتغدى حدانا

لوت فرح شفتها بخيبة أمل، لقد بنت أمال عريضة على عزومة مدحت فى منزلهم ولكنه لم يفصح عن شئ ربما كانت نسمة محقة وكانت نظراته مجرد إعجاب فقط لذا أجابت بامتعاض

:- وأنا مالى يا نسمة ... بتسألينى أنا عليه ليه

تنهدت نسمة بخفة وقالت ناصحة بقلب صافى يحمل الود والاهتمام بأشقاء زوجها اللاتى تعتبرهن بمثابة شقيقات

:- يا حبيبتى أنا كل غرضى أوعيكى لحالك ... مش ناجصين مشاكل وكسرة جلب ... ربنا سترها مع شمس لاچل سمعة أبوكِ وأخوكِ فى البلد ... لكن مش كل مرة تسلم الچرة

شهقت فرح باعتراض وعينيها الغاضبة تطالع وجه نسمة باستنكار مرددة بتوضيح وقد عادت للهجتها الأصلية بحمائية

:- أنتِ بتجولى إيه يا نسمة أنا واعية لحالى مليح جوى .... ومدحت كمان محترم وولد أصول ومحاولش يضايجنى واصل

أحنت رأسها حياء لدقيقة مفكرة ثم قالت بخفوت

:- يمكن يكون بنا إعجاب متبادل وبس

ضمت نسمة وليدها لصدرها أكثر قائلة باهتمام شقيقة كبرى

:- أحب ما عليا أشوفك عروسة كيف البدر ... لكن كله بالأصول وهو لو رايدك يدخل الدار من بابه وأهوه إحنا سبجنا وعزمنا ودخل الدار وأتعرف على العيلة كلاتها ... واچب بجى يفاتح أخوكِ لو رايدك صُح

أومأت فرح مؤيدة وأكدت بثقة

:- ماتخافيش عليا يا نسمة ... أنا مش هفتح قلبى غير لما دبلته تبقى فى صباعى

ربتت نسمة على فخذ فرح برفق قائلة

:- ربنا يكملك بعجلك يا حبيبتى

:- تعرف يا أبوى إسماعيل ولد البكرى هيتچوز على مرته

تعمد حسام أن يرفع طبقة صوته حين وصل حديثه مع والده إلى هذه النقطة لعل زوجته تستفيق من غفلتها أو تتعظ

بادله الحاج سليم الحديث قاطب الحاجبين وتسائل عن سبب هذه الزيجة الجديدة، أجاب حسام بمرارة واضحة وحدقتيه ترمى سهام اللوم على زوجته

:- بيجول مرته هملته من يوم ما ولدت وكأنها نسيت إنها متچوزة وچوزها له حجوج عليها

تحولت رأس نسمة نحو زوجها بفزعة واضحة وحدقتيها تراقبة بقلق واضح تستشف جديته من هزله بملامح مقطبة فقابلتها نظراته اللائمة التى ألقاها فى جزء من الثانية ثم عاد لحديثه مع والده ... مالت فرح على أذن زوجة شقيقها تشاغبها بهمس

:- ألحقى نفسك يا أم العريف ... حسام شكله هيقلب عليكِ

طالعتها مقلتى نسمة بجزع وقلبها يخفق بتخوف من تغير قلب زوجها عليها

*****************

بعد وقت قصير كانت نسمة في غرفتها الخاصة تفكر فى حالها ... حقاً أهملت كثيراً فى حق زوجها وأنصب كل اهتمامها على طفلها الوليد خاصة وأنهم قضوا شهور من الحرمان أثناء الحمل، اتبعتها بإهمال زوجها بدون قصد بعد إنجاب الطفل الذى وصل عمره لشهرين الأن

وضعت الطفل داخل فراشة الصغير برفق وجلست بجواره تمسد على وجهه الناعم بحنان، تتحدث معه وكأنه يدرك ويفهم حديثها

:- إحنا تعبنا كتير جوى لاچل ما تاچى وتنور الدنيا يا سى محمد .... أبوك صبر كتير أيام وليالى وشهور وتحمل تعبى وخوفى وجلجى ... وأنا كمان صبرت حاكم أبوك ده حب العمر كلاته ... لو عليا أخبيكم فى رموش العين أنتوا التنين ومهملش واحد فيكم واصل ... لكن معلهمش بجى ههملك الليلة تنام لحالك وأشوف أبوك ... حاكم أنا مجدرش على زعله

مالت تلثم خد الصغير الناعم وهمست له

:- وكلام فى سرك أتوحشته جوى جوى أنا كمان

كان زوجها خلف باب غرفتهما يهم بالدلوف حين تهادى لمسامعه مناجاتها لوليدها فانتظر حتى تنهى حديثها ثم دلف بوجه يرسم عليه ملامح اللامبالاة متجاهلاً وجودها بالغرفة ثم اتجه إلى فراشه وجلس عليه يخلع ساعة يده ويضعها جانباً، يفتح أحد أدراج الكومود ويعبث فى محتوياته يتعمد الانشغال عنها حين اقتربت منه واضعة كفها الناعم فوق كتفه تدلكه بنعومة وتتساءل بتدلل

:- صُح إسماعيل رايد يتچوز على مرته

رمقها بنظره جامدة بصمت فابتسمت بوجهه وقالت بثقة

:- لو كل الرچالة عملت إكديه أنت متعملهاش

رفع حاجبه محذراً وتأملها بعبوس فاستمرت بصوتها المتدلل التى تعلم تأثيره عليه ومالت عليه تضع رأسها على كتفه كقطة صغيرة تتمسح بصاحبها الأثير مفسرة بغنج

:- ماتجدرش تكسر جلبى ... طول عمرك بتضلل على وتخاف على زعلى وعمرك ما چيت عليا فى يوم من الأيام

رفعت رأسها عن كتفه تتوغل فى عينيه السوداء المحدقة بها و رددت بهمس مغوى

:- أنت خابر لو بس بصيت لحرمة تانية أموت يا حبة جلبى

أزاح جسده قليلاً للخلف بعصبية ليواجهها وقال بتأنيب، تأنيب زوج حريص على مشاركة زوجته بكل مشاعره حفاظاً على علاقتهما وحياتهما الزوجية

:- يانسمة أنا راچل وليا طلبات كيف كل الرچال ... وأنتِ من يوم ما ولدتى كل اهتمامك بالوليد ... دايماً شيلاه على جلبك لغاية ما تعود على الشيل ... ده صبي وهيبجى راچل فى يوم من الأيام وطريجتك ديه وچلعك فيه هتعمل منيه واد خرع يچرى ورا ديل أمه

خبطت على صدرها بكف يدها مستنكرة وهتفت باعتراض

:- لاه بعد الشر يا أخوى ... أنت خابر أنه چاى على شوجه وخوفى عليه كبير وكمان لساته صغير ومحتاچ رعاية

تنهد بفارغ صبر، يحرك رأسه بتفهم قائلاً بنفس النبرة العاتبة

:- خابر وحاسس باللى بتجوليه ... لكن طريجتك ديه هتعمل منيه واد مچلع كيف البنتة

قبض على ذراعها برفق ينصحها :- إحنا لازمن نربية أحسن تربية من دلوك الأيام بتچرى ويوم والتانى هيشب ويبجى طولك ومش هتعرفى ميتى حُصل ده

:- إن شاء الله هيبجى زين الرچال كيف أبوه ... يا أبو محمد

أنهت حديثها وهى تدفع بجسدها البض فى كتفه بدلال، حدجها بنظره جامدة مالبثت أن تلين وقد بدأ يترك لمشاعره العنان وقال آمراً بحمائية

:- من إهنا ورايح الواد هينام فى سريره مش چايبين السرير زينة إحنا ... وكمان تهمليه لحاله مش طول الوجت شايلاه على جلبك

أومأت موافقة على حديثه برحابة صدر، تعلم أنه يرغب فى الأفضل للصغير، لايريده أتكالى أو متمسك بأمه دوناً عن الآخرين ... يؤمن أن بناء شخصية الطفل تبدأ من المهد

مطت جسدها تقبل رأسه طالبه العفو منه على تقصيرها فى حقه ثم قربت وجهها من وجهه هامسة بدلال

دير بالك على الواد وأنا هعاود طوالى يا أبو حماده :-

مالت على وجنته تقبله بحب ثم أسرعت نحو خزانتها جذبت قميص قصير ثم أسرعت نحو الحمام

ابتسم حسام بزهو فزوجته مطيعة كعادتها، يعلم مقدار حبها له ومدى تفهمها لعقله وتفكيره .... نهض نحو فراش طفله الذى مازال مستيقظاً يحرك ذراعيه فى الهواء وكأنه يسبح فى عالمه الخاص، مد أصبعه يداعبه برقة ومال بجذعه فوق الفراش يهمس نحو الصغير

:- لامؤاخذة يا أستاذ حماده هتنام فى سريرك من إهنا ورايح ... أنا كنت بخشى أتجلب وأنا نايم لأذيك من غير ما أدرى ... أمك بتحبك جوى بس حتى الحب لازمن يكون بالعجل خصوصى فى تربية الولاد الصغار كيفك

غمز نحو الصغير الذى تمسك بأصبع والده يحاول أن يقربه من فمه وتحدث بخفوت كمن يُسر إليه بسر خطير

:- بينى وبينك أتوحشت أمك جوى ... بكره تكبر وتتچوز وتنيم العيال من بدرى برضك

انفتح باب الحمام وخرجت نسمة مسرعة دون الالتفات نحوه مرتدية مئزر الحمام واتجهت نحو الخزانة تقلب فى محتوياتها بشكل عشوائى قبل أن تعود إلى داخل الحمام حاملة بضع ملابس أخرى

قطب حسام جبينه وهو يتابعها بعدم استيعاب ثم نظر نحو صغيره يسأله بتعجب

:- مالها أمك يا محمد

ربت على صدر الصغير بحنو وأحكم غطائه عليه قائلاً :- هروح أشوف مالها!!

قرع باب الحمام ونادى على زوجته متسائلاً

:- فى إيه يانسمة ... حُصل حاچة؟

تسلل صوتها من الداخل بخيبة أمل

:- أصبر يا حسام هخرچ حالاً

:- مالك بس فهمينى!!

أنفتح الباب بعد دقائق قليلة لتخرج بقميص نوم قطنى بحمالات عريضة وينزل على اتساع بألوان مبهرجة متداخلة حتى يصل لما بعد ركبتيها وقالت مطأطأة الرأس بحرج

:- كل جمصان النوم مش داخلة فيا ... أنا تخنت جوى يا حسام

تأمل جسدها البض الذى أزداد أنوثة مع الحمل والولادة واللذان منحاها عدة كيلوجرامات زائدة، حاوط خصرها الممتلئ بكفيه وقال باسماً

:- وماله ... بجيتى كيف البطة المزغطة

قرب رأسه من رأسها هامساً :- وأنتِ خابرة بحب أكل البط المربرب

ضحكت بغنج ورفعت ذراعيها تحاوط كتفيه قائلة بدلال وقد منحها تقبله لها ولتغير جسدها ثقة بالنفس

:- يعنى لسه عچباك

أومأ بملامح عاشقة وضمها إلى صدره ينثر قبلاته على وجهها الحبيب بينما قالت بغنج :- شيلنى يا حسام

رفع رأسه بعيداً عن وجهها يتأكد من كلمتها بدهشة وعينيه تجرى على جسدها الممتلئ

:- أشيلك!! ... ليه يا نسمة ما أحنا حلوين إكده

قطبت جبينها وهزت كتفها متصنعة الغضب قائلة بتذمر

:- شفت كيف إنى تخنت جوى ومش هتجدر تشيلنى تانى واصل ... أنا لازمن أخس

لم يرغب فى إفساد ليلته التى ينتظرها منذ زمن، فوقف يقيس بعينيه المسافة بين الفراش ومكانهم الحالى ثم زفر مستسلماً لطلبها وانحنى قليلاً وضع ذراع خلف ركبتيها والأخرى خلف ظهرها ثم رفعها بحركة خاطفة فتمسكت بعنقه بسعادة وهى تطير فى الهواء وتستقر فوق ذراعيه وابتسامتها تتسع على ثغرها

تحرك مسرعاً بخطوات واسعة نحو الفراش وألقاها من بين ذراعيه بخشونة ثم هبط بجوارها يستلقى على الفراش يفرد ظهره ويستعيد أنفاسه اللاهثة قائلاً بمشاكسة وهو يرفع سبابتة فى الهواء

:- اسمعى يا نسمة أنتِ حرة تتخنى ولا تخسى أنا جابل ... لكن شيل مش هشيل تانى أنا مش مستغنى عن حالى

اعتدلت جالسة بجواره وانكمشت ملامحها بتحفز هاتفه بانفعال واضح ونبرة صوت تتصنع البكاء

:- مبجتش عچباك خليص ... ومش رايد تدللنى كيف زمان

تأمل ملامحها بشغف ثم جذبها بقوة لتستلقى فوق صدره وهى تتمنع بغنج حتى كبل حركتها فى حضن ساخن استسلمت له فى عشق دائم لن ينتهى

*****************

حان موعد ولادة غالية والإسطبل فى حالة استنفار فى انتظار المُهر الصغير، تواجد فاروق منذ الصباح الباكر فى المكان المخصص لغالية، فرسته الأثيرة ... يدلك جبهتها ويمسح على جسدها برفق ودعم ليهون عليها ويطمئنها

يقف على مقربة منه فى حدود إطار الباب من الخارج ولده البكرى ياسين بصحبة شقيقه الصغير، يتحرق شوقاً وحماساً لاستقبال المُهر الصغير

طل برأسه إلى داخل الكشك المخصص لغالية وقبضته تتمسك بإطار الباب حتى لا يتجاوز للداخل طاعة لأوامر والده رغم صوته الذى خرج بشئ من التذمر سائلاً والده

:- أدخل أجف معاك وأساعدك يا أبوى

حرك فاروق رأسه رفضاً وأصابعه تتخلل شعر الفرسة المستكينة بجوار صاحبها وقال مفسراً

:- غالية تعبانة دلوك ... ولو كتر البنى آدمين حواليها يصيبها الجلج على صغيرها كيف أى أم

تجهمت الوجوه الصغيرة اشتياقاً وحنين إلى أحضان أم طالت غيبتها حتى أدمت قلوب الجميع، انتبه فاروق إلى كلماته حين وجد ياسين يتراجع للخلف ويحول رأسه نحو شقيقه يتبادلا نظرات صامتة وكأن كلاً منهما يشكو وجيعته للأخر بدون كلام فما يشعران به من فقد لمصدر الحنان والرعاية يتجاوز كل الكلمات

فهما الضحية الأولى فى هذا البعاد الإجبارى ومع ذلك التزما بالطاعة لأوامر والدتهم بطاعة والدهم فلم يشكوا أو يتذمروا

كما حافظا على عهدهما مع والدهم فلم يجرؤ أياً منهم فى الاقتراب من منزل البدرى لرؤية والدتهم فوقعا بين شقى الرحى لوالديهم المتناحرين

ترك فاروق الفرسة بعد أن مسح على ظهرها عدة مرات ثم تحرك للخارج يحتوى ولديه تحت جناحيه، يمسد كتفيهما بحنان، يفخر بحسن تربية أبناءه وحفاظهم على كلمتهم معه كالرجال الأشداء، لقد أحسنت زوجته فى تنشأتهما ورعايتهما

نفث حرقة اشتياقه لهباً يصطلى داخل جنباته وحاول تشتيت تفكير أبناءه ليمحو نظره الحزن من عيونهم الصغيرة قائلاً

:- فكر فى اسم يا ياسين للمُهر بتاعك ... كلها ساعات ويوصل بالسلامة

رفع الصغير رأسه يطالع والده يرغب فى إطلاق سؤال يتقافز على لسانه لولا تفكيره فى حالة الحزن التى يعايشها والده ولا تخفى على عيون الأطفال وكلمات جدته التى تؤكد على عدم عودة والدته إلى دارهم مرة أخرى، فى حين أطلق فارس سراح نفس السؤال هاتفاً بلهفة :- أمى هتعاود ميتا يا أبوى؟

اتسعت مقلتى فاروق وألجمه السؤال الذى كان يخشاه ولا يقوى على مواجهته ولا يملك تبرير له

بماذا يجب!! ... هل يخبرهم بمدى نزف جرح قلبه النازف؟؟ أم يخبرهم بجرح كرامته وكسر كبرياؤه ... هل يشرح لهم ما يعانيه من مشاعر نبذ زوجته ... معشوقته له!!

أرخى جفنيه قهراً يُخفى آلمه وعذابه داخل غياهب صدره الضائق بما فيه

جاء الإنقاذ لفاروق من إجابة السؤال حين وصل لمسامعهم صوت يلقى تحية السلام من خلفهم، التفت الجميع نحو الدكتور طه الذى تقدم نحوهم بوجه بشوش حاملاً حقيبته فى يده

تأمله فاروق فى تقدمه وعقله يستعيد أصوات الفرح المنطلقة من منزل البدرى منذ أيام قليلة فى خطبة طه وياسمين

ازداد تجهم وجهه وعقله يصور له زوجته تجالس الجميع وتضحك وسطهم وهو ... هو من يملكها محروم من رؤيتها، تتأكله الوحشة ويؤرقه الفراق

اضطرب طه حين توقف أمام فاروق بملامحه العابسة ومقلتيه الشاردة فتنحنح بتوتر وحرك نظارته فوق أنفه متسائلاً بعملية

:- أخبار غالية إيه؟ ... أنا چيت طوالى أول ما محروس طلبنى على الموبيل

انفرجت تعابير فاروق قليلاً رغم العبسة المستحكمة بجبينه وانتبه لحديث طه فقال مرحباً بنبرة حيادية

:- أهلاً بك يا دكتور ... أتفضل أكشف عليها لساتها ما ولدت لكن بدأت فى آلام الوضع

أومأ طه متفهماً فبالطبع يملك فاروق خبرة فى التعامل مع الخيول طويلة وليست أول حالة ولادة لمهر يحضرها، تحرك طه نحو مكان الفرسة يقوم بالكشف عليها بعد أن أخرج أدواته من حقيبته ... أستغرق الأمر منه عدة دقائق ثم قال حين انتهى من فحصه

:- جدامها ساعة تجريباً ... ما تجلجش أنا معاها يا فاروج بيه

حاول طه من مكانه بجوار الفرسة أن يطمئن فاروق لعل ملامحه الجامدة تلين قليلاً، لا يدرك أن هناك مشاعر متضاربة تتصارع داخل جنبات، فضول لمعرفة أخبار زوجته ... غيره أن هذا الرجل الغريب رأها وربما جلست فى حضرته أثناء الخطبة ... رغبة فى تهشيم رأس طه وربما فقأ عينيه التى وقعت على زوجته ولو للمحة بسيطة

دس فارس رأسه فى إطار باب حظيرة الفرسة التى يسدها جسد والده الضخم وتسائل بطفولية ليطمأن على مهرته أيضاً

:- وعزيزة هتولد ميتى يا دكتور ... الاچازة جربت تخلص

أخفض فاروق حدقتيه نحو الصغير الذى انحشر بجانبه وابتسم فى وجهه بحنان ربما ولادة هذه الأمهار تشغل أطفاله قليلاً عن غياب والدتهم حتى يرى ماذا سيفعل وربما يحصل حينها على إجابة لأسئلتهم الصعبة عن والدتهم أما طه فأجاب الصغير بحبور وهو يتحرك ليجمع أدواته

:- نكشف على عزيزة كمان يا فارس بيه ... واچب برضك نلحج أچازة نص السنة جبل ما تخلص

تحرك فاروق من مكانه ليفسح الطريق أمام طه بينما فارس يحدق فى وجه طه قائلاً بعفوية

:- أنا مش بيه يا دكتور ... لما أكبر هبجى بيه كيف أبوى

ضحك طه ببشاشة فهو كان يقصد تدليل ومداعبة الصغير، انحنى قليلاً يطالع الوجه الطفولى البرئ وقال بجدية

:- وهتبجى أچدع بيه كمان يا أبو الفوارس ... يلا بينا نطمن على عزيزة

تحرك فارس مع طه خارج الحظيرة متجهين نحو المكان المخصص للفرسة عزيزة وترك محروس بجوار غالية يراعيها

أمر فاروق ولده الأكبر وهو يمسح على خصلات شعره

:- روح مع أخوك يا ياسين ... أطمن غالية لسه وجتها مچاش

أومأ ياسين وتحرك خلف شقيقه بينما أخرج فاروق أحد سجائره التى أصبح يدخنها بشراهة منذ غياب زوجته

حول رأسه نحو الفرسة التى تقف بزاوية الحظيرة تسند رأسها على الجدار فى حالة استسلام لآلمها يسترجع حديث زوجته الغيور المعترض وهى تهتف فى وجهه

:- أنت بتحب فرستك أكتر منى يا فاروج

قطب جبينه مستنكراً رغم البسمة التى تزين ثغره وقال متعجباً

:- كيف يعنى يا أمل ... ده حتى اسمها على اسمك

أقترب منها يضم خصرها براحتيه وأخفض رأسه أمام ناظريها يبثها حبه الأبدى

:- سميتها غالية ... كيف ما أنتِ غالية على جلبى ... أغلى ما بحياتى كلاتها

حاولت محو ابتسامتها التى خانتها وأضاءت وجهها وكفيها تتحركان صعوداً على صدره حتى استقرت فوق كهف قلبه تطمئن بنبضاته القارعة تحت لمستها الحانية وقالت بتذمر

:- كل يوم بطول الغيبة عنديها ... وتهملنى لحالى وأنت خابر فرحة جلبى بوچودك چارى

تنهد عشقاً ورفع كفيه يحتضن رأسها قائلاً بشغف

:- حتى لو خرچت سايبلك حتى منى ... ولادنا اللى واخدينك عنى وأنا صابر وساكت

اقتربت برأسها تزرعها فوق موطنها، فوق قلبه وتنهدت بجذل مهمهمة

:- والله لولا وچودهم چارى فى غيابك ... ما كنت أجدر أتنفس ولا أعيش ... أنا عايشة بيكم ومن غيركم أموت يا فاروج

أعتصر مقلتيه يقطع الطريق على عبرات آلم وغضب وحنين وغيرة ترغب فى الظهور ... لسان حاله يجلده "وها هى استطاعت الحياة دونهم طوال الفترة المنصرمة التى شارفت على الشهرين وهو يصطلى بنار جحيم البعاد وسياط جلد كرامته من نظرات الجميع"

:- تبارك الله ... الولاد يفرحوا الجلب يا فاروج بيه ربنا يباركلك فيهم

انتبه من جحيم أفكاره على كلمات طه الذى عاد مع أبناءه مرة أخرى حيث يقف فاروق، رسم فاروق ابتسامة ممتنة وقال بهدوء

:- عجبال ما تشوف ولادك يا دكتور ... ألا بالحج مبارك الخطبة ربنا يتمم لك على خير

صاح الطفلين فجأة فرحاً وهرعوا نحو عمهم الذى قدم من بعيد وبصحبته نواره، تابعتهم عينا والدهم وطه يشكره بخجل رجولى

:- آمين يارب ... الله يبارك فيك يا فاروج بيه

عاد فاروق يحدق فى وجه طه وفضوله يدفعه ليستوضح وضع زوجته فى بعاده ... "هل إعتادت مخالطة الغرباء أم مازالت على عهدها معه"

سعل بخفة قبل أن يصبغ لهجته ببساطة الحوار ويسأل بشكل عفوى أراد به الاستفسار

:- وديه خطبة ولا فاتحة يا دكتور

ابتلع طه ريقه بحرج فقد طرقت خاطرة فجأة على رأسه أنه أصبح نسيب فاروق بيه السمرى بشكل أو بأخر، ابتسم بطيبة أخلاقه وبشاشة وجهه قائلاً

:- فاتحة بس ... الحاچة أصيلة تعرف الأصول مليح وجالت الوجت مش مناسب دلوك للخطبة

فهم فاروق ما يرمى إليه طه، فيبدو أن عائلة البدرى تراعى مشاعر ابنتهم العائدة إلى أحضانهم وتقدر الخلاف بين العائلتين ولا ترغب فى اتساع الفجوة بينهما

أومأ فاروق بصمت ثم طاوع فضوله مرة أخرى حين سأل بنبرة جاهد أن تكون عادية

:- والمعازيم كانوا كتير على إكده؟

أدرك طه العاشق الذى كان يستقى أخبار حبيبته يوماً ما من خلال أى كلمة تمر على أذنه رغبة فاروق فى الاطمئنان على زوجته فأسهب فى الإجابة

:- مفيش حد غريب عيلة البدرى وعيلتى بس ... وأنا متربى بيناتهم طول عمرى ... عيلة البدرى عيلة أصيلة وواعية للأصول زين .... الحريمات حضروا وجت جراية الفاتحة وجاموا لجاعة تانية كلاتهم وياهم أمى وأختى

أدرك فاروق أن يمامته حلقت فى السماء واندمجت مع عائلتها الجديدة وتركت قفصها الذهبى ... تأمل طه جيداً بنظرات ثاقبة أصابت طه بالقلق أن يكون أخطأ الحديث ولكن جاءت كلمات فاروق الهادئة تسكن قلقه

:- عيلة الشيخ رضا أهل ثقة ونعم الأخلاج

فرد طه كفه مبسوطة على صدره يربت بها عدة مرات ممتناً وقد شعر بالهدوء النفسى لرد فعل فاروق

وصل أحمد السمرى بجوارهم وألقى السلام على الجميع ولم ينسى أن يرفع يده بالتحية لمحروس الذى يقف بالداخل بجوار غالية

رحب به الجميع ثم أستأذن طه لمباشرة عمله وترك الشقيقان بمفردهما ليتحدثا بحرية

*******************

:- خير شايف دكتور طه جلجان وأنت بتتحدد وياه

قالها أحمد السمرى مستفسراً فأجابه شقيقه ببساطة

:- أبداً كنت بباركله على خطبته ... بيجول عيلة البدرى مأجلين الخطبة الرسمى لغاية الأمور ما تتصلح

حرك أحمد رأسه على غير هدى وتمتم بمكر

:- يعنى لسه عنديهم أمل ... واه صُح ديه أمل ذات نفسيها عنديهم

ارتفع حاجبى فاروق بانفعال ومقلتيه تناظر شقيقه الذى يتلاعب بالكلمات بدهاء والذى واصل الحديث

:- أحنا كمان رايدين يعود لينا الأمل والكرة فى ملعبنا

واصل فاروق تحديقه الصامت فى وجه شقيقه الأكبر بينما واصل أحمد بتعقل

:- يوسف البدرى حاول يتفاهم بدل المرة تنين وأكيد هيحاول التالتة ... وتبجى التالتة تابتة كيف ما بيجولوا ونجعد ونسمع ونتفاهم

حرك مقلتيه نحو نظرات شقيقه الأصغر المسلطة عليه وقال برصانة

:- كرامتك محفوظة والراچل چه لحد عنديك ... والفراج علم فيها وفيك وفى الولاد اللى مالهم ذنب فى كل اللى حُصل ديه

رفع فاروق رأسه نحو السماء زافراً بضيق ثم نزل ببصره نحو أبناءه وهم يلعبون مع ابنة عمهم، ربت أحمد على كتفه يدعمه وينصحه

:- الناس عمرها ما هتبطل حديت ماسخ ... ودلوك فى حكاية چديدة فى البلد شغلت لسنت الناس ونسيوا حكايتك خليص ... شوف حالك اللى يريح جلبك ولا تهتم بحديت الناس

استمع لشقيقه فى صمت شارد النظرات، ممزق الروح ثم تبادل مع شقيقه نظره حائرة تاركاً تفكيره ومشاعره يقودانه إلى القرار الصحيح

*****************

انشغل طه ومحروس في مساعدة غالية في وضع وليدها ووقف الأطفال يراقبون على بعد مناسب ولادة المهر أما الشقيقان فكانا يقفان على باب الإسطبل متجاورين كلا منهما يتفكر فيما يشغل باله

التفت فاروق نحو شقيقه وقد تذكر حديثه السابق من تحول حديث البلدة إلى حكاية أخرى ... حكاية أثارت اهتمام شقيقه شخصياً الذى واجه حمدى بفعلته فأنكر ونكس كالجبان

استدار فاروق بجسده يواجه شقيقه متسائلاً

:- معرفتش حاچة چديدة فى حكاية شموع؟

حرك رأسه نفياً ببطء وكأنه يحمل هم كبير وبدأ يسرد ما حدث بينه وبين حمدى قبل يومان

:- معرفتش أوصل لحاچة ... حمدى أنكر الجصة من أولها وجال على الست نرچس مخبلة وبتدعى عليه والدليل حچازى اللى أكد أن نرچس أتچنت لما بتها ماتت

نكس رأسه يردد برفض تام وصوت خافت :- كيف ماتت؟ ... وميتا وفين؟

دس فاروق كفيه فى جيب بنطاله وقال مؤكداً

:- حمدى طول عمره عينه على شموع وطمعان فيها ... لكن هى دايماً كانت بتصده وتاچى تشتكى لى منه

جعد أحمد جبينه بغضب وقال جازاً على أسنانه بانفعال

:- ليه ماخيرتنيش وكنت حاميتها منيه ... وليه أنت محمتهاش من ندالته

دهش فاروق من غضبه شقيقه واهتمامه المبالغ فيه فى هذا الأمر وقال مبرراً موقفه

:- زجرته أكتر من مرة لاچل ما يبعد عنيها ... وحذرته من مضايجتها لكن فى الفترة الأخيرة أنا انشغلت بحالى ... ما أنت عارف

حاول أحمد التحكم فى أعصابه وقال بنبرة محايدة

:- عندك حج ... طب ليه ماچتش تشتكى ... ليه ماطلبتش مساعدتى ... مساعدة حد فينا

صلح جملته سريعاً لكن انفعاله ومشاعره لم تخفى على شقيقه الذى قال موضحاً

:- شموع بنت جوية وتجدر تحافظ على حالها مش هتخضع لحمدى واصل ... وأخر حاچة عرفتها عنيها أنها اتچوزت وسافرت مع چوزها ... أمها اللى خبرتنى بنفسها

:- واللى يموت ده مش بترچع جتته تدفن فى أرضه ... أنا مش داخل عجلى حكاية الموت ديه

هز فاروق كتفيه بمعنى لا يعرف تفسير لذلك ثم تسائل بجدية

:- وأنت عملت إيه مع حمدى؟

:- أنا فهمته جصاد عمى سعيد ... لو ظهر أن له يد فى أى مشكلة حُصلت للبنية المسكينة ديه مش هسكت واصل وجليل لو ما طردته من البلد كلاتها ... بكفيانا فضايح من تحت راسه

*****************

يتهرب من الجميع بعد فضيحته فى القرية، اختفى فى منزله لأيام ثم خرج إلى أرض والده بعد أن وبخه شقيقه الأكبر وأثار شجار كبير حول مشاكله فى القرية وتخاذله فى العمل

لقد توسعت الفجوة بينه وبين شقيقه وأصبح يضيق عليه فى الأموال، عليه أن يداهنه حتى يحصل على بعض من المال ويبتعد عن البلدة عدة أيام خاصة بعد أن أصر والده سعيد السمرى على ضرورة تزويجه سريعاً بعد فضيحته الأخيرة وتهديد أحمد السمرى له بطرده من البلدة

قضى بضع ساعات فى أرض والده ثم عرج إلى مقهى حجازى ليستطلع الأمر، عليه أن يُخفى أى أثر لهذه الفتاة حتى تنتهى القصة عند هذه المرحلة

دلف إلى المقهى يوزع تجهم وجهه على مرتادى المقهى المعدودين فى هذا الوقت من الظهيرة وجلس بركن هادئ، هرع حجازى نحوه بعد أن طلب من صبى المقهى الشيشة الخاصة بحمدى ثم انضم له تفصلهم طاولة مستطيلة أتكأ عليها حجازى مرحباً فقاطعه حمدى بوقاحة

:- مرتك المچنونة لساتها بتخطرف ولا جطعت النفس

ابتسم حجازى بلزوجة وقال مهادناً

:- أديك جولت يا باشا ... مچنونة وبتخطرف ومحدش هياخد على حديتها بعد ما عجلها راح ... وأنا بأكد للناس أن شموع ماتت وأدفنت خليص

ابتلع ريقه بتردد ثم تسائل بفضول خافت

:- إلا البت راحت فين يا حمدى بيه؟

حرك حمدى رأسه نحوه فجأة غاضباً فأبعد مرفقيه عن الطاولة ورسم الخضوع على وجهه، تقدم رجب صبى المقهى يضع الشيشة أمام حمدى ويعدها له ثم انصرف من أمامهم وهو يبدل نظره بينهما بارتياب

تناول حجازى خرطوم الشيشة الرفيع وقدم المبسم نحو حمدى الذى التقطه بعصبية وسحب نفس طويل ثم أطلقه فى الهواء وعاد يرمق حجازى زاجر النظرات والكلمات

:- بتكم فاچرة هربت من دار چوزها وچابتلكم العار ... دمها حلال وجسماً بالله يا حچازى لو عرفت مُطرحها ومجلتش لحرق الجهوة ديه وأنت چواها

اتسعت مقلتى حجازى فزعاً فحمدى بلا قلب وكم قام بإيذاء الكثيرين من قبل، ابتلع ريقه الجاف وأومأ بطاعة مؤكداً

:- والله ماخبرش عنيها حاچة ولو عرفت أى شى هخبرك طوالى ... ما لناش بركة غيرك يا حمدى بيه

سحب حمدى نفس أخر أطلقه فى الهواء بعد ثوانى ثم أشار بمبسم الشيشة باحتقار نحو حجازى لينهض من جواره

ابتعد حجازى بارتباك أمام نظرات الفضوليين بينما جلس حمدى منفوخ الأوداج بغرور يفكر فى كلام والده الذى خيره بين استعادة زوجته السابقة وأولاده أو الزواج من أخرى حتى يتخلص من فضائحه العديدة ويحسن صورته وسمعته ولو قليلاً

**********************

صرخة عالية أطلقتها نوارة مندفعة إلى حضن والدها تحتمى بحصنه المنيع وتخفى دموعها وخوفها فى أحضان الأمان

رفعها أحمد من تحت إبطيها لتقف فوق بالات القش المرصرصة جانباً ورفع وجهها يطالعه بتخوف يحاول فهم ما حدث

:- فيك إيه يا نواره ... حُصل إيه يا بنتى؟

ضم والدها رأسها لصدره يمسد على ظهرها بحنو بينما مال فاروق عليه هامساً وقد استنتج خوفها حين رأت عملية ولادة الفرسة

:- مكنش لازمن تاچى معاك

مسد على ظهرها بحنو، لايقوى على رفض طلب لها فهى ابنته المفضلة لذا قال باستسلام

:- شبطت فيا ومجدرتش أكسر بخاطرها

تردد صوتها الباكى من فوق صدر والدها

:- مش رايده ابجى بنت يا بوى ... فارس بيجول البنات بتتعذب

استدار فاروق نحو أولاده بغيظ وتحرك صوبهم بتحفز بينما ابتعد أحمد بجذعه يرمق طفلته الباكية، احتضن وجهها بين راحتيه وإبهاميه تمحو عبراتها بنعومة وقال يشاكسها

:- بنت أحمد السمرى تخاف وهو موچود كيف ديه ... نوارة چدعة وواعية مش إكده

:- مش رايدة أخلف يا أبوى ... مش هخلف واصل

عاد يضمها ويقبل رأسها يبثها الاطمئنان والأمان ثم قال معاتباً

:- كيف بجى متخلفيش ... ومين اللى هيچيب لأبوكى أحفاد كتير وبخدود حلوه إكده

داعب خديها اللذين زاد أحمرارهما مع بكائها، مسحت أنفها بظاهر كفها وقالت باعتراض

:- لاه ... مش رايده أتعذب

مسح على شعرها المصفف في جديلتين طيلتين وقال بهدوء

:- بلاها خلفة خالص ... لكن لازمن تشدى عودك وتجوى أعصابك إكده أومال هتبجى دكتورة كيف

اومأت بوجه عابس وهو يبتسم في وجهها موضحاً بكلمات بسيطة

:- تعرفى يا نوارة... ربنا أختار الحريم هما اللي يحملوا ويخلفوا عشان هما جد التعب والمسئولية ديه ... ربنا بيحمل كل واحد اللي يجدر يشيله .. اللى على قد طاقته ويبعد عنيه اللى مش هيجدر عليه

رفع ذقنها المستدير الناعم لتنظر بعينيه الحنونة وسألها بجدية

:- أنتِ خابرة أن ربنا بيحبنا

أومأت موافقة دون تردد فواصل حديثه

:- خلاص يبجى لو ربنا عالم أنك جوية وچامدة وتجدري تچيبي عيال حلوين هيرزجك بهم ووجتها نجبل عطيه ربنا ونحمده على فضله... مش إكده

اومأت مرة أخرى بتردد وهى تمسح ما تبقى من دموعها وقد هدأت نفسها قليلاً لكنها قالت بامتعاض

:- مش هتچوز برضك وأهملك يا أبوى

قهقه أحمد ضاحكاً وضمها لصدره بقوة يقبل أعلى رأسها بحنان

في نفس الوقت كان فاروق يقف بين أولاده يرفعهم من مؤخرة أعناقهم كاللصوص المقبوض عليهم بسرقة الغسيل وقال من بين أسنانه
:- عملتوا إيه وخوفتوا بنت عمكم يا غجر

رفع ياسين كفيه مستسلماً وهتف مدافعاً

:- أنا معملتش حاچة

أشار نحو شقيقه الصغير وأعترف عليه :- هو اللى خلعها (خوفها) يا أبوى

ترك ملابس ياسين ونظر لفارس الذى عبس وهتف مدافعاً

:- أنا جولت الحج ... الحريم بتتعذب فى الولادة كتير والرچال مش بيتعبوا فى الخلفة واصل وهى شافت بعينها أهاه

أشار نحو غالية التى يظهر عليها أثر الألم وجزء من المهر الصغير ظهر خارج جسدها بينما طه يحاول سحبه برفق بعد أن أرتدى قفازين طويلان يصلان لمرفقيه

رج فاروق جسد الصغير بغيظ هاتفاً

:- وهو الراچل يخلع (يخوف) الحريم إكده يا جفل

هتف فارس مستنكراً برفض
:- هى نوارة حريم

اتسعت مقلتى فاروق وعجز عن مجارة الصغير فتركه وحرك سبابته أمام وجهه يحذره

:- لسانك الغلباوى ده هقطعهولك ... يا واد ما يصحش تتحدت جصاد الحريم بالطريجة ديه لازمن تكون محترم ومؤدب... وبعدين كيف الرچال مش بتتعب فى الخلفة ما هو بيطلع عنينا فى تربيتكم أهاه

ابتسم ياسين بخبث وأفكار صبيانيةتتلاعب في رأسه
التقط فاروق ابتسامته الصغيرة فالتفت نحو ابنه ذو التسع أعوام وقد بدأ يخطو نحو أعتاب سن المراهقة ... غمز نحوه وقال بخفوت

:- شكلك واعى وفاهم أنت!!

مال ياسين قليلا نحو والده وقال بصوت خفيض

:- إحنا أخدنا فى حصة البيولوجى أن الحيوا...

كتم فاروق فمه بكفه العريض يوقف سيل الحديث وفارس يتابعهم بفضول

:- بكفاية هما بيعلموكم الكلام ديه من دلوك ... إيه الچيل المنيل ديه .. مستعچلين على إيه!!

ناظر طفليه بجدية وواصل حديثه محذراً

:- اتكلموا باحترام مع نوارة ومع أى بنت تانية كمان ومحدش يچيب سيرة الخلفة والچواز ديه تانى خصوصاً جدام الحريم ... وأنا ليا جاعدة طويلة معاكم

حول نظره نحو المهر الذى خرج للحياة ويجاهد للوقوف بأرجل مهتزة فوق الأرض وبجواره محروس يقوم بتنظيفه أما دكتور طه فينهى عمله مع غالية

ركز ياسين مع محروس الذى يعتنى بالمهر وسأله بسعادة كالأب الذى ينتظر مولده الأول

:- واد ولا بنت يا عم محروس؟

ابتسم فاروق ومسح على شعر ولده وهو يتابع المهر بعينيه وأجاب هو عوضاً عن محروس

:- مُهر ... مُهر يا ياسين

صاح الطفلان نحو نواره لتأتى إليهم وتشاهد المهر الصغير وهما يلوحان لها فى الهواء

:- مهر يا نوارة ... تعالى شوفى ولد ولد

ألقت نفسها فى حضن والدها بدلال طفولى وقالت باشمئزاز

:- عفش ... واد عفش

استقبلها والدها داخل أحضانه بحنان واحتواء وهمس لها

:- تراهنينى أن غالية دلوك مليحة ولا كأنها تعبت واصل

رفعت مقلتيها نحو والدها بنظره بين الشك والتصديق لحديث والدها، اقترب منها عمها واقتنصها من بين ذراعى والدها ليلثم وجنتها المكتنزة مداعباً

:- ما تخفيش يا حبيبة عمك ... تعالى أتأكدى بنفسك أن غالية مليحة وشوفى المهر عفش ولا حلو

هزت رأسها نفياً معترضة لكن والدها قال بهدوء

:- نوارة عاجلة وشاطرة .... روحى مع عمك واتأكدى بنفسك

تحرك فاروق حاملاً نواره وخلفه أحمد وتوقفوا خارج الكشك لتنظر نوارة من بعيد بنصف عين نحو المهر الذى وقف أمام محروس يحاول أن يتوازن فى وقفته وقد لمع جسده من النظافة وظهر جمال لونه الذى يطابق لون والدته الذهبى

أنهى طه عمله وغسل يديه ثم أخرج بعض أوراق من حقيبته يدون بها بعض الأمور ثم سأل فاروق حين اقترب منه

:- هتسمى المُهر إيه يا فاروق بيه؟

:- صاحب المُهر اللى يسميه يا دكتور ... هتسميه إيه يا ياسين؟

رفع ياسين نظره نحو نوارة فوق ذراع والده وسألها

:- إيه رأيك يا نوارة .. شكله مليح مش إكده ... نسميه إيه؟

تأملت الفتاة الصغيرة المهر وجرت نظراتها نحو غالية التى تقف بهدوء تتناول طعامها وحين اطمأنت للمشهد قالت ببراءة :- غوايش ... سميه غوايش

:- غوايش إيه .. ده راچل يا نوارة

:- والله لون الغوايش الدهب بتوع أماي

قالتها بحمائية فى وجه ابن عمها ياسين الذى لمع الاسم فى رأسه فهتف بانتصار :- دهب ... هسميه دهب

:- أيوه يا ياسين سميه دهب ولما عزيزة تچيب مهر أسود لونها هسميه الدهب الأسود

كان هذا فارس يلقى أحد دعابته التى أثارت ضحك أحمد وأحتضن رأس الصغير بينما رفع فاروق رأسه للسماء مستغيثاً

:- يارب ارحمنا من خفة دمه

ضحك طه بمرح ودون الاسم فى أوراقه ثم قال بعملية

:- مبارك عليك دهب يا ياسين ... أنا هخلص كل الإچراءات وهستخرچ بطاقة لدهب وبعد ما أوثقها هبعتهالك إن شاء الله يا فاروج بيه

أومأ فاروق متفهم بينما تسائل فارس

:- هتعمله بطاقة شخصية يادكتور

:- طبعاً يا فارس ... كل الخيول العربية الأصيلة لازمن يكزن لها بطاجة بأصلها ونسبها ... ونعملها باسبور كمان لو هتسافر بلاد بره

جمع طه أوراقه وهو يواصل حديثه :- كلها كام يوم ونعمل لمُهر عزيزة بطاجة هو التانى

رفع فارس إبهاميه فى الهواء موافقاً بينما أستأذن طه وانصرف من المكان

ترك فاروق نوارة أرضاً فاقتربت من محروس تطمأن منه وعينيها تتمعن فى غالية التى وقفت تتجرع من دلو الماء القريب منها

:- غالية مليحة يا عم محروس؟ ولا تعبانة؟

:- كيف العروسة زى ما أنت شايفة أهوه يا بنت الغالى

مدت أنامله الرقيقة تمسح على جسد غالية برفق فنادى عليها ياسين الذى وقف بجوار المهر الصغير يمسح على رأسه

:- تعالى يا نوارة ... شوفى دهب

أسرعت خلف نداء ابن عمها ووقفت بينه وبين شقيقه تمسح على شعرات المهر الصغير بنعومة

احتضنت مقلتى أحمد المشهد بحنان وخاصة بعد أن عادت نوارة لطبيعتها بعد أن اطمأنت على الفرسة ووليدها

تسائل فاروق وهو يتابعهم بتفكر

:- يا ترى هتبجى من نصيب مين فيهم يانواره

لم يرفع أحمد نظره من على الأطفال وإنما قال

:- اللى جلبها يريده

طأطأ رأسه قليلاً وقد أدرك أنه لم يختار بقلبه قط وتحولت حياته الزوجية لجفاء ولكنه يتمنى الأفضل لابنته فقال بخفوت

:- واللى جلبه يعشجها

*******************

فى المساء توجه طه إلى منزل خطيبته بخطى حثيثة بعد أن تأخر عن موعده معها، كان عليه أن يعود للمنزل ليغتسل بعد عملية ولادة غالية ويهندم ملابسه للقاء الخطيبة الغالية

وقف طه أمام باب منزل البدرى المشرع بعد أن اجتاز الحديقة الصغيرة وصفق بكفيه ليعلن عن وجوده هاتفاً :- يارب يا ساتر

خرج له جلال مرحباً واصطحبه للداخل ملقياً السلام على جميع أفراد الأسرة المجتمعين فى البهو وقد غاب عنهم يوسف وشمس الذى أصبح اختفائهم المفاجئ فى جناحهم الخاص يتكرر بشكل كبير هذه الأيام ثم قال معتذراً بتلقائية

:- آسف على التأخير كان عندى ولادة فى مزرعة السمرى وآآآ

جاء صوت من خلفه يتساءل بلهفة :- غالية ولدت؟

استدار نحو الصوت الغريب الذى يسمعه لأول مرة بدهشة ثم أخفض عينيه بحرج حين وقع بصره على أمل وأجاب بارتباك

:- أيوه ولدت مهر ما شاء الله ... ياسين فرح به كتير

رفعت كفها تضغط بها على قلبها الخافق بشدة وتقدمت خطوة نحو طه تتساءل بلوعة أم حرمت من ولديها وتستقى أى خبر عنهما

:- ياسين ... شفت ياسين ولدى

تدافعت الدموع لمقلتيها فأسرعت ياسمين إلى جوارها تدعمها وتجذبها نحو المقعد لتستريح بينما زاد ارتباك طه الذى يتحدث لأول مرة معها ويشعر أنه أفسد الأمر فتلفت حوله بتوتر وارتباك ونظر إلى جلال كأنه يطلب منه المشورة هل يواصل الحديث أم يصمت، حرك جلال رأسه بلا معنى

فسعل طه بتردد وقال متلعثماً

:- ياسين وفارس بخير ... التنين كانوا فى الإسطبل وفرحانين بولادة المهر

ألقت أمل بجسدها بجوار عمتها التى ضمتها لصدرها بينما أمل تردد بشرود والدموع تهطل من عينيها بلوعة

:- فرحانين .. فرحانين

أشارت أصيلة نحو جلال برأسها، فاستدار يربت على كتف طه قائلاً

:- تعالى يا طه نقعد فى الجنينة شوية ... ياسمين لو سمحتِ هاتى حاجة للدكتور طه يشربها

تحركوا للخارج وطه يميل على صديقه متسائلاً بحيرة

:- أنا غلطت ولا إيه!!

رفع جلال حاجبيه وحرك رأسه بلا إجابة، خلفهم كانت أمل تردد بحرقة من بين احضان عمتها

:- ولادى نسيونى ... نسونى خلاص نسيوا أمهم

أبعدتها أصيلة عن صدرها ترفض هذا الخنوع فى ابنه شقيقها وتسعى لتبثها القوة، رمقتها بقوة وثبات قائلة بتأكيد

:- مفيش عيل بينسى أمايته مهما طال الزمن ... أوعى تفكرى أن فاروج يجدر ينسيهم أمهم ولا يعوضهم عنيكِ ... لاه محدش يجدر يمحى حبك من جلوبهم

أرخت جفونها تتنفس بتسارع، تتمنى العودة ... لقد أضناها الفراق وأصبحت غير قادرة على الاحتمال

***************

تحت أستار الليل البهيم تسلل فوزى مغادراً فيلا السمرى بعد أن ساد الصمت والظلام أنحاء الفيلا دلالة على نوم قاطنيه

تحرك فى طرقات البلدة الخالية من البشر بشكل كبير فى هذه الساعة من الليل، أصبحت معاملة الجميع نحوه يشوبها الشك منذ تم استدعائه للشهادة فى قضية محاولة قتل يوسف

أصبحت نظرات الجميع تتهمه فى الاشتراك فى الجريمة أو ربما فى سرقة ساعة فاروق وتلفيق التهمة له

نظرات الاتهام تحاوطه من كل جانب حتى الضابط قام بحبسه لعدة أيام قبل أن يُطلق سراحه لعدم وجود أدلة مادية ضده، يشعر أن فاروق سيوقع به عن قريب فصمته وتجاهله له يشبه الهدوء الذى يسبق العاصفة

يجب أن يُسرع ويأمن نفسه لن يُطرد فى الشارع بدون مقابل، وصل إلى مقهى صغير على أطراف البلدة مصنوع من الألواح الخشبية يخدم الطريق المؤدى بين القرى المجاورة يقصده عادة عمال اليومية من جميع القرى

جال ببصره بين الجالسين حتى وقعت عينيه على ضالته، رجل أسمر الملامح ضخم نسبياً يرتدى جلباب رمادى، يملئ صدره بدخان الشيشة بنهم

أقترب منه بتعجل وأتخذ مجلسه على مقعد بجواره قائلاً بهجوم

:- بتهرب منى ... ومهملنى فى المصيبة اللى وجعتنى فيها

نفث الرجل دخان الشيشة فى الهواء وحرك رأسه ناحية فوزى يرمقه بلامبالاة قائلاً

:- مصيبة إيه!! وههرب منك ليه ... أنت بعت وأنا أشتريت وخلصنا

خبط فوزى على الطاولة المعدنية الصغيرة التى تفصلهم قائلاً بغل

:- أنا لا كنت ناوى أبيع ولا أشترى أنت اللى غاوتنى

ضحكة استهزاء عالية أطلقها حامد قبل أن يترك خرطوم الشيشة من يده فوق الطاولة ويلتفت بكليته نحو فوزى يرمقه بخبث قائلاً خفوت

:- غاويتك!! ... عيب ياراچل تجول إكده ... أنا عرضت عليك الفلوس وأنت وافجت طوالى

ارتبك فوزى فهذه هى الحقيقة لقد قبل بيع ساعة ولى نعمته ورب عمله بمجرد أن رأى النقود أمامه بدون أى مماطلة كان يظن أن الأمر بسيط وسيمر ... أشاح بوجهه مجيباً بخزى

:- كنت محتاچ فلوس ولولا إكده ماكنتش بعتلك ساعة فاروج بيه

أعاد وجهه يواجه حامد مردفاً بتأكيد

:- وماكنتش خابر إنك هتودينى فى داهية ... فى چريمة جتل ... كنت مفكر إنك هتاخدها تبيعها ولا حتى تلبسها وأديك غريب عن البلد وهترحل عن جريب

زفر حامد بنفاد صبر وعاد لألتقاط الشيشة قائلاً ببساطة

:- أبيعها .... ألبسها ... أرميها حتى ... شئ مايخصكش أنت أخدت فلوسك وخليص

قطب فوزى حاجبيه غضباً وهتف بحدة مع ارتفاع طبقه صوته مما لفت انتباه بعض من الجالسين على المقهى نحوه

:- أنا مروحش فى داهية بخمسية چنيه

اتسعت مقلتى حامد محذراً من علو صوته وتلفت نحوه قبل أن يقول :- وطى صوتك .... غرضك إيه دلوك؟

نفخ فوزى أوداجه وأخفض صوته قائلاً بمهادنة

:- كلك نظر ... أنا ممكن يتجطع عيشى من الشغل بسبب الحكاية ديه وكل اللى فى الدار مش طايجنى خليص

زفر حامد بضيق، يرغب فى التخلص من هذا الرجل ولكن سيستغله لأخر لحظة ... صمت مفكراً قبل أن يسأله باشمئزاز

:- وإيه اللى فكرك بالحكاية ديه تانى ... فات عليه شهر وزيادة

زفر الرجل بضيق مفسراً

:- الجضية لساتها مفتوحة والظابط مش ساكت ونازل سؤلات فى كل حته

أطرق برأسه فى خزى :- حتى فاروج بيه صُح أتشغل شويه فى حكاية مرته بس نظراته ليا مخيفة ومش هيهملنى غير لما يعرف الحجيجة

قهقه حامد بشماتة وقال بتشفى

:- فاروج خايف من السچن ... خايف يلبس هو الجضية مش إكده

تنفس فوزى بتهكم ثم ثبت نظره على حامد مجيباً بمرارة

:- فاروج بيه أتولد مابيخافش من شى ... إحنا اللى بنخاف ياواد عمى ... الفجير اللى مالوش ضهر هو اللى يخاف

جز حامد على أسنانه بحقد، كم يكره هؤلاء الأغنياء بأموالهم وسطوتهم، لا يهابون شئ ويملكون كل المفاتيح ... صمت للحظات ثم ردد كمن يحدث نفسه بغل

:- كله من يوسف ولد الفرطوس همله لحاله بعد ماعرف أنه كان هيجتله ... راچل معندوش نخوة صُح

ابتسم فوزى بخبث وقال بنبرة تحمل التهديد

:- وهو فاروج بيه اللى كان هيجتله برضيك

رفع حامد رأسه يرمقه زاجراً ولكن فوزى أقترب يتكأ بمرفقه على الطاولة الصغيرة بينهما وأردف بخفوت

:- أسمع ... كل اللى رايده جرشين وههچ من البلد كلاتها وأنت حر وياهم

مسح حامد على ذقنه بكفه مفكراً ثم أومأ بقبول قائلاً

:- هديك كمان خمسمية چنيه و آآآآآآ

قاطعه فوزى بإصرار وهو يرمى بطعم جديد ليحصل على المزيد من المال

:- ألف چنيه وهجولك على اللى حُصل فى مجابلة يوسف مع فاروج بيه وخناجهم على ولاد الست أمل

أثارت كلمات فوزى فضوله فربما يستفيد من تلك المقابلة فى مخططه القادم فوافق سريعاً على طلبه، مما دفع فوزى ليخفض صوته قائلاً

:- من سبوعين يوسف جابل فاروج بيه فى عزبة السمرى اتعاركوا مع بعض عركة كبيرة وصوت فاروج بيه كان واصل للسما كل عمال العزبة سمعوه

ركز حامد مع القصة وسأل باهتمام مضيقاً عينيه

:- وإيه سبب الخناجة؟

أسترسل فوزى فى الحديث بيبع أسرار رب عمله من أجل حفنة من الأوراق المالية

:- يوسف كان رايد ياخد ولاد الست أمل لاچل ماتشوفهم وفاروج بيه رفض والدم غلى فى عروجه وكانوا هيمسكوا فى خناج بعض ... لكن بعدين يوسف سكت ومشى خزيان ومن كلم يوم إكده يوسف عاود تانى وكلم فاروج بيه فى نفس الحكاية وبرضك موصلوش لحل

أومأ حامد برأسه متفهماً وصمت ليفكر قليلاً، يدبر خطة جديدة... عليه الاستفادة من كل معلومة تصله

بعد عدة دقائق التزم فيهم الصمت همس لفوزى بصوت غواية

:- ليك عندى ألفين چنيه مش ألف واحدة ... بس تنفذ اللى هطلبه منيك بالظبط

تفكر فوزى بقلق وابتلع ريقه بتخوف قائلاً

:- أنا مش هودى نفسى فى داهية لاچل خاطرك

:- لاه ماتخافش ... هما كلمتين هتجولهم والباجى عليا

أومأ فوزى طامعاً فى الأموال رغم أن راتبه كبير ويكفيه ولكن الطمع أغشى عليه فتنازل من البداية وخان الأمانة

نهض حامد من مكانه على عجل بعد أن قال لفوزى

:- جابلنى بكره إهنا تاخد فلوسك وأكتر شوية ... وهجولك تعمل إيه بالظبط

ثم غادر بلهفة وفوزى مكانه يتابعه بتعجب، لايعلم ما سر بغض حامد لفاروق ويوسف ولا يهمه أن يعلم ... ما يهمه حقاً هو الحصول على المال والهروب بنفسه من العقاب

***************

Continue Reading

You'll Also Like

44.9K 889 36
كانا من عالمين مختلفين مثل المغناطيس يتنافران و يتجاذبان اما عن التنافر ف كان عندما اجبرتهما الظروف ع الزواج من أحدهما بالاخر اما عن التجاذب فصار عند...
421K 11.3K 20
ليس كل صديق يكون مخلص و ليس كل ما يظهر سيئ فهو بالفعل سيئ كان يظنها من تريد أن تسوء سمعته و لكنها كانت ضحية خدعة
10.3M 251K 55
من بعد تلك المرة الوحيدة التى جمعها القدر به اصبحت من بعدها غارقة بحبه حتى أذنيها..قامت بجمع صوره من المجلات و الجرائد محتفظة بها داخل صندوق كما لو ك...
5.9M 167K 108
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣