الفتاة التى لن تكون ﺃبدا فردا من عائلتنا .
مرت ساعات الفترة الصباحية على ﺃقل من مهلها ، كان الطقس خلالها دافئا ومشرقا ،ولكن بمجرد ﺃن دقت الواحدة بعد الزوال تغير كل شيء ، وعادت الغيوم لتتجمع في صفحة السماء من جديد ، وشكلها كان يشبه افراد عصابة قد اجتمعوا ،للإغارة على محل ما ﺃو شيء من هذا القبيل .
ذهابا ﺇلى مكتب طارق ،ﺃين كان قد عاد لتوه من المحكمة ، يوم آخر متعب ومثير للأعصاب ،وبمجرد ﺃن دلف مكان عمله توجه ﺇلى غرفته مباشرة ،ورمى بجسده المرهق فوق الكرسي ،ثم اغمض عينيه وبقي للحظات على ذلك الحال يسبح في صمت ثقيل ، ولكن طرق المساعدة لبنى باب غرفته ، ﺃعاده الى الواقع وهناك رفع رأسه ودعاها للدخول
_ادخلي !
دلفت لبنى ﺇلى الداخل ،وصارت تتقدم حتى وصلت امامه ، كانت تراتيل وجه طارق تحكي تفاصيل يوم متعب ،لتقول له بينما ابتسامة صغيرة تعتلي تراتيل وجهها القسيم
_تبدو متعبا حضرة المحامي !
مرر طارق لسانه فوق شفتيه ،ثم اومئ برأسه فهي لم تخطئ في التخمين كعادتها ، ﺃخرج علبة السجائر من الدرج ثم قال لها
_ﺃجل ولذلك اريدك ﺃن تلغي جميع مواعيدي لنهار اليوم وﺃن تحضري لي فنجان قهوة !
يريدها ﺃن تلغي جميع مواعيده ، ولكن ماذا عن تلك الفتاة الانيقة التى تنتظره منذ الصباح ،ترددت لبنى في المغادرة ،وكانت كما لو ﺃنها ترغب بقول شيء ما ولكنها مترددة ،وهناك لاحظ طارق ترددها ذلك فرفع حاجبه وسألها مستغربا
_ماذا هناك هل تريدين شيئا ما !
فركت لبنى يديها ببعض ثم قررت اخباره
_في الحقيقة هناك انسة قد اتت سابقا ، وكنت اخبرتها بأنك في المحكمة ،ومع ذلك بقيت تنتظرك ولأنك تأخرت في الرجوع رحلت منذ دقائق ولكنها قالت بأنها ستعود !
استغرب طارق كثيرا من كلام لبنى ، ترى من تكون هذه الانسة ،وما هو سبب اصرارها على مقابلته وﺇن كان امرا مهما ،لماذا لم تأخذ موعدا مثل باقي الزبائن ، هل الموضوع يتعلق بمحمود ، عاد المحامي من دوامة الافكار وسأل لبنى
_ﺃلم تخبرك ﺒﺈسمها !
هزت المساعدة رأسها يمينا وشمالا ،وبينما كانت ستجيبه سمعا طرقا على الباب ، في ذلك الوقت طلبت منه بأن ينتظر دقيقة ،ثم استدارت وخرجت من غرفة المكتب من اتجاه قاعة الاستقبال ،وهناك وجدت نورا واقفة لتقول لها
_انتظري دقيقة لو سمحت !
طارق الذي شعر بالفضول ،لمعرفة هوية هذه الانسة التى تصر على مقابلته ، وقف من مكانه و لحق بمساعدته الى الخارج ، حيث خرج من غرفة المكتب وهناك لمح نورا واقفة ، ليسألها بنبرة مليئة بالقلق
_نورا ، هل حصل مع محمود شيء آخر !
هزت نورا رأسها يمين وشمالا نافية للأمر ، يبدو بأنها اثارت قلقه من دون داعي ،اقتربت من طارق بضع خطوات وقالت مهدئة الاخ الاكبر ،الذي فقد اعصابه لمجرد ﺃن لمحها ، ظنا منه انه قد حصل مكروه لأخيه الاصغر
_لا محمود بخير ولكنني كنت ﺃريد التحدث معك بضع دقائق لو سمحت طبعا !
هناك فقط استطاع طارق ﺃن يتنفس الصعداء ، رفع يده في تلك اللحظة ،وطلب من نورا الدخول الى غرفة المكتب ، بعد ذلك نظر ﺇلى لبنى ،التى كانت واقفة وتتفرج وقال بينما ابتسامة صغيرة تعتلي شفتيه
_لتكن قهوة مرة و عصير برتقال للآنسة نورا !
هزت المساعدة رأسها بالإيجاب ،وذهبت لإحضار القهوة والعصير للمحامي وضيفته العنيدة ،التى يبدو أنها لديها الكثير لتقوله لطارق اليوم ، اما طارق استدار ثم دلف غرفة المكتب ﺃين وجد نورا لا تزال واقفة تنتظره ،وهناك طلب منها الجلوس
_اجلسي لو سمحت !
جلست نورا فوق الكنبة ،ثم وضعت حقيبتها فوق الطاولة الزجاجية ،ﺃما طارق فقد جلس امامها مباشرة ، وفي الحقيقة استغرب كثيرا من حضورها الى هنا ، ترى ما هذا الموضوع المهم ،الذي تريد التحدث فيه ،دقائق مرت حتى اتت القهوة والعصير حيث وضعتهما المساعدة فوق الطاولة ورحلت ليقول طارق لضيفته
_تفضلي ﺃنا اسمعك !
لم تعرف نورا كيف ستبدأ الموضوع ،ولكن بمجرد ﺃن تذكرت محمود ،والتنمر الذي يتعرض له باستمرار بسبب موضوع الزواج المبكر ،سرت في عروقها شجاعة غريبة وقالت
_ الموضوع يخص محمود وأتمنى ﺃن تسمعني للأخير !
توقع طارق امرا مشابها ، ﺃصلا الرابط الوحيد الذي كان بينهما هو محمود ; ويبدو انه قد وقع في مشكلة اخرى كعادته ، ولأنها لم تكن تريد تضخيم الامور بالأخص بعد الذي حصل منذ ايام ، حضرت بدون موعد ،ليرفع يده ويقول بكل لباقة كعادته
_تفضلي ﺃنا معك ﺇلى اﻷخير !
مررت نورا لسانها فوق شفتيها ،وبقيت تحدق بطارق ، ذلك الرجل الشهم المثقف الذي كان دائما بمثابة ﺃب لمحمود ثم قالت
_ سبب زيارتي هو محمود كما اخبرتك سابقا ، وفي الحقيقة لم يعجبني كلامك البارحة معه ،والذي لم يكن جارحا و قاسيا فحسب بل مهينا لمحمود شخصيا ، وأنا لم اتعود عليك هكذا ،فمحمود كان دائما يحكى لي عن دعمك الكبير له ،وأتمنى من كل قلبي ﺃن تستمر بدعمه لو سمحت !
امسك طارق فنجان القهوة وارتشف منه ، ﺇذا سبب مجيئها ﺇلى هنا كلامه !وما به كلامه يا ترى على الاقل هو صريح معه ، ليس مثل بعض الناس الذين يسمعونه كلاما معسولا فقط ليكسبوا محبته ، اعاد طارق الفنجان فوق الطاولة الزجاجية ،ثم قام بتعديل ربطة عنقه ليضيف بملامح جدية وقاسية
_ اسمعيني جيدا نورا ، ﺃنا لست ضده ولم ﺃكن ابدا ضده ولكن ما حصل البارحة كان كثيرا للغاية ، فهو قد تخطى جميع الخطوط الحمراء ،ﺃخبريني ماذا لو قتل محمود ذلك الشاب ﺃو ﹸقتل على يد ذلك الشاب اخبريني ماذا لو حصل شيء لتلك الفتاة ، ﺃلم يكن ليتورط في قضية بسبب غبائه !
صمتت نورا فهي تجد جوابا مقنعنا ، وعلاوة على هذا كان طارق على حق ،وكل كلمة قالها كانت صحيحة ماذا لو قتل ﺃو ﹸقتل على يد مجهول ما ،ليضيف حضرة المحامي
_صمتك هذا يعني بأنني محق ، اما بالنسبة لموضوع الزواج المبكر ..
في ذلك الوقت قاطعته نورا ، فهي لا ترى عيبا ﺃن يعالج محمود في مقالاته موضوعا مشابها ، كما ﺃنه لا يأتي تلك المعلومات ، عن مخاطر تلك الافة من وحي خياله ،بل هي دراسات قد اجتهد وتعب لإخراجها الى النور
_ ﺇنه موضوع مهم ،والكثير من العائلات يقترفن هذا الخطأ في حق بناتهن ، البعض منهن يجبرن على ذلك ،ﺃما البعض اﻵخر بكل ارادتهن الخاصة يتزوجن لتجد الفتاة منهن نفسها في سجن مظلم ،وسجانها هو الرجل الذي رسم لها كل تلك الاحلام الوردية ، ناهيك عن المشاكل التى ستواجهها ،ما ﺇن سكنا الزوجين مع ﺃهل الزوج ، برأيك ألا يستحق هذا الموضوع ﺃن يتم مناقشته !
ﺇذا هي وراء هوس محمود بهذا الموضوع ، رائع ! في تلك اللحظة وقف طارق من مكانه ،وتمشى حتى وصل ﺇلى طاولة المكتب ، وهناك جلس على طرفها ثم قام بجمع يديه وسألها
_كيف ذلك ، اشرحي لي ﺃكثر !
اخذت نورا نفسا عميقا ،ثم عادت للشرح لطارق الذي يتصنع الجهل فقط لاستفزازها ، ولكنها لن تستسلم حتى تقنعه ،بالتوقف عن تدمير اخيه بتلك الطريقة الباردة
_اسمعني طارق المقال لن يكون له تأثير فقط على هذا النوع من العائلات ،اللاتي يجبرن بناتهن على الزواج ،بل حتى على جميع الفتيات من جميع الاعمار سواء كانت مراهقة ﺃو ﺃرملة ﺃو عانس ،قد فآتها قطار الزواج ،ستوقن بأن الرجل ليس مغارة علاء الدين وليس الفانوس السحرى ،الذي سيحقق لها جميع احلامها ، ﺃي نعم الزواج نصف الدين ،ولكنه ليس كل شيء في هذه الحياة فهناك ﺃمور ﺃهم من الزواج مثل الدراسة ،فعندما تدرس الفتاة منهن وتجتهد وتنجح ،هذا سيغنيها عن جميع رجال العالمين .
كان طارق يعرف كل ذلك الكلام ، ومع ذلك توعية الفتيات بمخاطر الزواج المبكر ليس مسؤولية محمود ، لتضيف نورا
_وليس هذا فحسب حتى ذلك الاب الذي يسمع ابنته شتي الاهانات ليل نهار بسبب تأخر زواجها ،عندما يقرﺃ المقال ،سيدرك بأنه من الافضل ﺃن تبقى صغيرته عانس طوال حياتها ، ﺃهون الف مرة من تكون على ذمة رجل لا يهتم بها يهينها ويضربها ،مثل تلك الفتاة التى انقضها محمود امس .
ضحك طارق بسخرية ، وهز رأسه يمينا وشمالا مستغربا من كون بضع مقالات مملة ،ستفعل كل هذا ،استمر بالضحك بينما نهضت نورا من مكانها واستمرت بالكلام
_ هذه المقالات ستجعل الانثى تدرك ،بأنه لا بأس ﺇن فآتها القطار اللعين ،فهذا ﺃهون لها من ﺃن تركبه مع الانسان الغلط ، الذي سيلقي بها من الباب عند ﺃول مشكلة تصادفهما ، ﺃقدارنا موزعة منذ ﺃن كنا في بطون امهاتنا وعلى كل فتاة ،ﺃن لا تخجل من تأخر نصيبها ،بل عليها ﺃن صبر و ﺃن ترضى بما كتب لها ،ﻷن الرضاء بالقضاء والقدر ،هو الايمان بعدل الله ورحمته التى لا تنضب !
رفع طارق يديه وصار يصفق على كلام نورا ،الذي اعجبه وجعله يحترمها كثيرا ،ويغير نظرته ﺇليها ، فهو كان دائما يظن بأنها تلتصق بمحمود مثل بعوضة ،ليل نهار فقط لكي يحبها ،ولكنه كان مخطئا و يبدو بأنها انسانة محترمة ،آخر همها هو الزواج وطبعا لم يكن ليخبرها بذلك ليقول بسخرية
_رائع لاتصل ﺇذا بحفار المقابر ،كي يحفر قبرا لأخي الاصغر في مقبرة العائلة ، لأنه سيلقى حتفه لا محالة ، ﺇن استمر بتصديق بأن توعية الفتيات حول مخاطر الزواج المبكر هي مسؤوليته !
تراجعت نورا ﺇلى الوراء مستهجنة كلام طارق ، ﺃهذ كل ما فهمه من خطابها ، ظن محمود بأن توعية الفتيات وعائلاتهن ،من مخاطر الزواج المبكر ،هي مسؤوليته
_انت لم تفهمني على الاغلب !
في ذلك الوقت رفع طارق اصبعه ،وطلب منها ﺃن تنتظر دقيقة ، ثم تمشى من ناحية الخزانة و فتح الباب وجذب بعض الملفات ،بعد ذلك استدار ثم تقدم بضع خطوات حتى وصل ﺃمام الطاولة الزجاجية ،ﺃين القى بتلك الملفات فوق سطحها الاملس الشفاف ،وأشار بإصبعه اليها وصار يتحدث في نفس الوقت
_هذه لائحة بأسماء كتاب قد لقوا حتفهم لأنهم ادخلوا انوفهم في ﺃمور لا تعنيهم ،وموضوع الزواج المبكر كان من بينهم ،وأنا لن اسمح ﺃن يتعرض اخي لنفس المصير ،اجل سينزعج ويتألم وسيظن بأنني لا اهتم بأمره ، سيكرهني ولكن لا يهمني ،المهم ﺃن يبقى بخير !
لم يكن هناك جدوى من التحدث معه ، وعلاوة على هذا محمود لم يكن يذكر اسماء عائلات ،ﺃو ﺃي شيء من هذا القبيل لكي ﹸيقتل ﺃو تتم ملاحقته ،كان يقوم بدراسات فقط فيها ﺃرقام ونسب لا ﺃكثر ولا ﺃقل ،لتقول نورا بتحدي
_ كما تريد طارق ولكنني سأساند صديقي حتى الاخير ، شكرا لك على وقتك وآسفة على ازعاجك !
امسكت نورا حقيبتها وغادرت المكتب ،وهي تغلي من شدة الغضب ،بينما طارق انتظرها حتى اختفت تماما ، ثم اعاد تلك الملفات التى تخص قضايا قديمة ﺇلى الخزانة وأغلقها ، بعد ذلك تمشى من اتجاه مكتبه ورمى بجسده فوق الكرسي ،وصار يدلك صدغيه للحظات ،فهو اليوم قد اكتشف العديد من الحقائق .
ﺃولها وأهمها ،هي ﺃن نورا وراء هوس محمود بهذه التفاهات ،و فوق كل هذا كانت تحسسه بأن من مسؤوليته توعية الفتيات من مخاطر التسرع والزواج ، ولهذا الاصغر يرمي بنفسه في المخاطر ،بدون تفكير ولكنه لن يسمح لها بالتأثير عليه اكثر ،حتى وﺇن اضطر ﺇلى ارسالها ﺇلى بلاد ﺃخرى سيفعل !