منة المنان ج 1 محمد محمدصادق...

Por tamr_hand

1.7K 5 2

Mais

منة المنان ج 1 محمد محمدصادق الصدر

1.7K 5 2
Por tamr_hand

<P>بسم الله الرحمن الرحيم<BR>المقدمة<BR>-1-</P>

<P>لا حاجة في البدء إلى الإلماع بتعريف القرآن الكريم, فإنه لدى البشر أجمعين أشهر من أن يُذكر, ولدى المُسلمين أقدس من أن يُكفر, كما قالت الخنساء في أخيها صخر: <BR>وإنَّ صخــراً لتأتَّم الهداة بــه<BR>  كــأنَّه عــلمٌ فـــي رأســـــه نــــارُ</P>

<P>أو كما قال الشاعر الآخر:<BR>وإذا أستطال الشيءُ قام بنفسه<BR>  ومديح ضوء الشمس يذهب باطلاً</P>

<P>ويكفينا من ذلك ما ذكره القرآن الكريم نفسه عن نفسه من المزايا. وما ذكره سيد البلغاء أمير المؤمنين ? في نهج البلاغة من أوصافه، فعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى ذلك إن شاء.<BR>والمهم ألآن, إن كلام الله سبحانه، وهو أصدق القائلين وأعدل الفاعلين وأحكم الحاكمين، كيف يمكن أن يناله السؤال والإشكال أو الوهم والاعتراض؟. حاشا لله سبحانه وتعالى عما يشركون.<BR>كلُّ ما في الأمر إنَّ ذلك مما قد يحصل نتيجة جهل الفرد أو قصوره أو تقصيره, أو نفسه الأمارة بالسوء. <BR>غير إنّه يمكن القول: بأنَّ ذلك مما يحصل لغالب الأفراد بل كلهم، مما قد يؤثر أحياناً  حتى على عقيدة الفرد وإخلاصه، أو يجعله في حيرة وتردد من أمره, أو يدفنه في نفسه, ويحاول عدم إظهاره للآخرين. لكي لا يكون مطعوناً في دينه. <BR>غير إنَّ القرآن الكريم يحتوي على كثير من موارد الإجمال وصعوبة الفهم بلا إشكال, وقد يكون الفرد معذوراً نسبياً في ما خطر في باله من السؤال, ومخلصاً في البحث عن الجواب. وقد لا يجد ضالته في التفاسير السائدة أو لا يجد نسخها بين يديه. <BR>فإنَّ التفاسير بالتأكيد لم تتعرض لكل المشاكل والأسئلة ألواردة حول آي القرآن الكريم. بل وجدنا ذلك أيضاً، حتى في الكتب المخصَّصة لذلك, ككتاب العكبري, وكتاب القاضي عبد الجبار. <BR>ويحصل ذلك من مناحٍ متعددة من المؤلفين: أما بإعتبار أنَّه إذا ذكر السؤال فإنَّه يفترض فيه القوَّة والدِّقة في الجواب، وإذا فقدهما أُعيب في بحثه. إذن، فخير له أن يترك الالتفاتٍ إلى السؤال رأساً، من أن يتورط في جواب ناقص.<BR>أو قد يكون متشرعاً، باعتبار إنَّ إثارة السؤال سيكون مضاداً للقرآن الكريم لا محالة، فيكون سبباً لإثارة الشُبهة لدى القارئ الإعتيادي، فقد يلزم الحال أنَّ هذا القارئ يكون قد فهم السؤال ولم يفهم الجواب، ويكون المؤلف سبباً لذلك، فيتورط في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم، لأنَّه يتحمل هذه المسؤوليَّة يوم القيامة،كما في الحديث: (كسرته وعليك جبره), فخير له أن لا يثير الشبهة، من أن يثيرها ولا يُوَفَّق في حلها.<BR>ومن هنا زادت الأسئلة المدفونة في النفوس، والشبهات المعقودة في الرؤوس، حتى أصبحت مدخلاً للضلال ولدعاة الكفر والإلحاد، لأجل ردِّ الناس عن دينهم وسحب يقينهم.<BR>ومن هنا احتاج الأمرُ إلى قلبٍ قويٍ والى عقلٍ سوي، من أجل التصدي إلى ذكر كل تلك الأسئلة, وعرض كل تلك الشبهات، مما يحتمل أن يثور في الذهن ضد أيّ آيَّة من آياتِ القرآن الكريم، والتصدي لجوابها بجدارةٍ وعمقٍ، لكي يتم إغناء المكتبة الإسلاميَّة العربيَّة بهذا الفكر الذي لم يسبق إليه مثيل. بعد التوكل على الله, والاستعانة به جلَّ جلاله.<BR>-2-<BR>لكن ينبغي الالتفات سلفاً، إلى أنِّي لم أكتب هذا الكتاب لكل المستويات، ولا يستطيع الفرد المُتدني الاستفادة الحقيقيَّة منه, وإنَّما أخذتُ بنظر الاعتبار مستوىً معيناً من الثقافة والتفكير لدى القارئ.<BR>وأهمُها أن يكون في الثقافة العامة على مستوى طلاب الكليات ونحوه. وأن يكون من الناحيَّة الدينيَّة قد حمل فكرة كافيَّة، وان كانت مختصرة عن العلوم الدينيَّة المتعارفة كالفقه, والأصول, والمنطق, وعلم الكلام, والنحو, والصرف, ونحوها، مما يُدرسُ في الحوزة العلميَّة الدينيَّة عندنا في النجف الأشراف.<BR>فإن أتصف الفرد بمثل هذه الثقافة، كان المتوقع منه أن يفهم كتابي هذا، وألاّ فمن الصعب له ذلك. ولكن لا ينبغي أن يأْنَفَ من عرض ما لا يفهمه من الكتاب على من يستطيع فهمه وإيضاحه. <BR>فإن لم يكن على أحد هذين المستويين, فلا يجوز له شرعاً أن يقرأ هذا الكتاب، لأنه يوجد احتمال راجح عندئذٍ أن يفهم السؤال ولا يفهم الجواب. فتعلق الشبهة في ذهنه ضد القرآن الكريم، مما قد يكون غافلاً عنه أساسا,ً فيكون هذا الكتاب أدى به إلى الضرر بدل أن يؤدي به إلى النفع، وبالتالي يكون قد ضحى بشيءٍ من دينه في سبيل قراءة الكتاب. وهذا ما لا يريده الفرد لنفسه, ولا أريده لأيِّ أحدٍ, بل لا يجوز حصوله لأيِّ أحد. <BR>وأعتقد أنَّ هذا التحذير كافٍ في الردع عن الإطلاع على هذا الكتاب من قبل الأفراد العاديين في الثقافة، فإن حاول أحدٌ منهم ذلك وحصلت لهُ أيَّةُ مضاعفات فكريَّة غير معهودة في دينه أو دنياه  فلا يلومَنَّ إلا نفسه، وقد برأت الذمة منه؛ لأنَّني ذكرت ذلك ألآن بوضوح وأقمت الدلالة عليه,فإنَّني وان حاولت الإيضاح والتبسيط في البيان، إلاّ أنَّهُ بقي الغموض النسبي موجوداً بلا إشكال؛ لوضوح أنَّ التبسيط الزائد المتوقع يقتضي التضحيَّة بالمعاني الدقيقة واللطيفة، وإنما تقومُ بذلك اللغة الاصطلاحية المتفق على دقتها و صحتها، وليست هي لغة الجرائد كما يعبرون.</P>

<P>-3-<BR>هذا، وقد يفهم القارئ اللبيب المتأمل إنَّ في بيان الأمور المعروضة في هذا الكتاب بعض الفجوات، وهي متعمدة بمعنى وآخر, لعدم إمكان الإستيعاب التام, وكونه تطويلاً بلا طائل. <BR>فحسبُ هذا الكتاب، كما في العديد من كتبي السابقة، أنها تفتح عين القارئ المتشرع على مجالاتٍ جديدةٍ وعلى طرقٍ من الفهم عديدةٌ, وتجعل الطريق ــ بعد ذلك ــ قابلاً للسير فيه لمن يرغبُ بذلك, ويبقى الأمر قابلا للتفلسف والزيادة ممن أوتي إلى ذلك سبيلا. <BR>وإنَّني لا أعتقد لنفسي الكمال ولا لعقلي الجلال، بل كلّه قيد الضعف والنقصان، لولا منَّةَ المنّان, ورحمةَ الرحمن, وفيضَ الديانْ. وفي الحكمة: إنَّ الله تعالى ينصر دينه على يد من لا خلاقَ له من خلقه.</P>

<P>-4-<BR>والأسئلة المعروضة في هذا الكتاب إنمَّا هي بالمباشرة والدلالة المُطابقيَّة، تعتبر ضد القرآن الكريم، وتحتاج إلى ذهنٍ صافٍ وبيانٍ كافٍ لرفعها ودفعها, ويجب على القارئ الكريم أن يواكب النَّص، وأن يعطي وقته ونفسه ليصل إلى النتائج الحاسمة، وإلاّ فخيرٌ له الأعراضُ عن هذا الكتاب بكل تأكيد.<BR>هذا، وقد اتخذت في جواب الأسئلة أسلوب الأُطروحات، على ما سوف أقول في معناه، الأمر الذي أستوجب في الأعم الأغلب انني لم أعطِ الرأي القطعي أو المختار، بل يبقى الأمرُ قيد التفلسف في الأُطروحات. <BR>والمفروض إن أياً منها كان صحيحا كان جواباً كافياً عن السؤال, ويبقى إختيار الأطروحة الواقعيَّة منها موكولاً ظاهراً إلى القارئ اللبيب، وواقعاً إلى المقاصد الواقعيَّة للقرآن الكريم.<BR>وعلى أيَّ حال، فلا ضرورة دائماً إلى البت بالأمر كأنَّك تُلقي محاضرةٍ في أمور قطعيَّة محددة أو رياضيَّة غير قابلة للنقاش، مادام أسلوبنا هذا كافياً في الدفاع ضد الشبهة, وللجواب على السؤال.<BR>بل إنَّ هذا الأسلوب[ ] له عدة مزايا، منها:<BR>أولاً: بقاءُ الباب مفتوحاً لزيادةٍ في التفلسف والتفكير كما سبق, فبدلاً من ذكر ثلاثة أطروحات مثلا يمكن - بعد ذلك - طرح خمسة أو عشرة، مما لم يتيسر فورياً الالتفات إليها أو الاعتماد عليها.<BR>ثانيا: الإلماع إلى أن الأسئلة المعروضة ضد القرآن الكريم ليس لها جواب واحد، بل يمكن أن يتحصل عليها عدة أجوبة، ومن جوانب متعددة، الأمر الذي لا يقتضي القناعة بمضمون القرآن وصحته، بل القناعة أيضاً بسقوط السؤال وذلته، وإنَّ السائل من التدني والإهمال بحيث لم يفهم شيئاً من هذه الأجوبة والأطروحات ولم يلتفت إليها.<BR>فيكون مجرد عرض السؤال مصداقاً لقول الشاعر:</P>

<P>إذا كنت لا تدري فتلك مُصيبةٌ<BR>  أو كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ</P>

<P><BR>وهذه نتيجة صحيحة ولطيفة ضد كل المتعصبين ضد الدين من كفارٍ وملحدين وفساقٍ ومعاندين.<BR>ثالثاً: إنَّنا بهذه الطريقة  لا نكون ممن فسر القرآن برأيِّه لكي نهلك، وإنَّما يكون ذلك لمن بتّ بالأمر وجزم بأَحد الوجوه, وأما إذا عُرض الأمر في عدة أطروحات ومحتملات, فقد أبرأ ذمته من الجواب وأرشد القارئ إلى الصواب بدون أن يكون قد تورط في المضاعفات.<BR>هذا، وأعتقد أن الأعم الأغلب من أساليب هذا الكتاب هو مما اصطلحنا عليه بالأطروحة، سواء سميناه فعلاً خلال حديثنا هنالك بالأُطروحة أم لا, فإذا قلنا مثلاً: إنَّ في جواب ذلك عدة وجوه أو محتملات أو مناقشات, ففي الحقيقة يصلح كل وجه منها أن يكون أطروحةً كافيَّة في بيان الجواب.</P>

<P>-5-<BR>بقي لدينا الآن ضرورة تعريف الأطروحة وإنَّها ليست مجرد احتمال مهما كان حاله, ولكنَّها ذات أهميَّة معينة وقد سبق في عددٍ من أبحاثي أن عرفتها بتعريفين منفصلين كلاهما صادق، إلاّ أنَّ الثاني أدق من الأول. <BR>فقد عرفتها أولاً: بأنَّها فكرة محتملة، تُعْرض عادة فيما يتعذر البت فيه من المطالب، ويحاول صاحبها أن يجمع حولها أكبر مقدار ممكن من القرائن والدلائل على صحتها لكي يرجح بالتدريج على أنَّها الجواب الصحيح.<BR>وعلى هذا، لا يتعين أن تقع الأطروحة في مجال الجواب على السؤال، بل يمكن أن يُبيِّن بها الفرد أيَّ شيء يخطر في البال.<BR>ولكن لا ينبغي أن ندعي ان كل المحتملات بالتالي تصلح أن تكون أطروحة بهذا المعنى، بل ما يصلح لها هو ما يمكن للفرد تكثير القرائن على صحته وتجميع الدلائل على رجحانه, وإلاّ لم تكن أطروحة، بل احتمالاً ومن الواضح جداً إنّه ليس كل المحتملات على هذا المستوى.<BR> وهذا هو معنى الأطروحة الذي سرتُ عليه في كتب موسوعة الإمام المهدي ?، في ما كان يعنُّ من المصاعب التاريخيَّة والعقائديَّة والحديثيَّة، وغيرها.<BR>إلاّ أنني عرفتها ثانياً: بأنَّها الإحتمال المسقط للإستدلال المضاد من باب القاعدة القائلة: إذا دخل الإحتمال بطل الإستدلال.<BR>من حيث أنَّ الإستدلال لابدَّ وأن يكون قائماً على الجزم ومنتجاً لليقين بالنتيجة. <BR>إذن, فأيَّة فكرةٍ طعنت في ذلك واستطاعت إزالة اليقين به، كافيَّة في الجواب على السؤال وإسقاط الإستدلال.<BR>فمثلاً: فيما يخص كتابنا هذا, فإنَّ كلَّ سؤالٍ سيكون بمنزلة الإستدلال ضد القرآن الكريم، من حيث فتح فجوة في مضمونه أو الاعتراض على أسلوبه, وحاشاه. ومن ثم تكون الأُطروحات كافيَّة لإسقاط ذلك الإستدلال وإماتة ذلك التفكير.<BR>وهذا هو المهم بغض النظر عن البتِّ بأيِّ وجهٍ من تلك الوجوه، والأخذِ بأيٍّ من الأُطروحات، إلاّ ما قد يحصل من ذلك صدفةً، مما يواجهُنا فيه ظهور معتبر ونحوه، وأيّ من تلك الأُطروحات تمت فقد تم الجواب وانتفى الإستدلال المضاد.<BR>هذا ولا ينبغي لنا هنا أن نقارن بين هذين التعريفين، فإنه تطويل بلا طائل، بل نوكله إلى فطنة القارئ اللبيب.<BR>وإنما نقتصر هنا على الإشارة إلى إمكان الجمع بين هذين التعريفين, من حيث أنَّ الإحتمال مهما كانت صفته وقيمته يكون مسقطاً للإستدلال لا محالة مادام مرتبطاً بموضوع السؤال كما هو منطوق التعريف الثاني، إلاّ أن هذا لا يعني تحول معنى الأطروحة إلى مجرد الإحتمال, بل تبقى الأطروحة هو ذلك الإحتمال المحترم الذي يمكن أن نجمع حوله أقصى مقدار متيسر من الدلائل والإثباتات, وبذلك يكون أشد إسقاطاً للإستدلال بطبيعة الحال. <BR>وهذا ما توخيناهُ فعلاً في المباحث الآتيَّة. <BR>- 6-<BR>هذا، وقد عبّر بعض فضلاء طلابي عني بأني قد أخذت خلال هذه المباحث بأسلوب (اللاتفريط) في القرآن الكريم، وهذا واضح من بعض المباحث الآتيَّة.<BR>ولعل أول تطبيق لهذا الأسلوب, هو ما ذكرته في كتابي ما وراء الفقه في الفصل الخاص بالقرآن الكريم من كتاب الصلاة[ ], حيث ذكرت ما محصله: إنَّ القرآن يمكن أن يكون محتوياً على اللحن بالقواعد العربيَّة ومخالفتها وعصيانها, كما هو المنساق من بعض آياته، وذلك لأنَّ مقتضى قوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ][ ], هو احتواء القرآن الكريم على كل علوم الكون ظاهراً وباطناً.<BR>ومن المعلوم, إنَّ هذا الكون الذي نعرفه يحتوي على النقص كما يحتوي على الكمال، وفيه الخير والشر، وفيه القليل والكثير.<BR> إذن، فيمكن التمسك بإطلاق تلك الآية الكريمة، لاحتواء القرآن على كل ما في الكون، بما فيه ما نحسبه من النقائص والحدود. <BR>ولا ضير في ذلك، ما دامت هذه الصفة تُعَدُّ كمالاً له، من حيث الاستيعاب والشمول اللاتفريط.<BR>فكما يحتوي القرآن الكريم، على الفصاحة والبلاغة، وهذه هي الصفة الأساسيَّة فيه، فقد يحتوي أيضاً، بل من الضروري أن يحتوي على ضدها، لأنَّه [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ].<BR>وكما يحتوي على اللغة العربيَّة، وهي سمته العامة، ينبغي أن يحتوي على لغات أخرى، وكما يحتوي على الظاهر العرفي، ينبغي أن يحتوي على الباطن الدّقّي, وهكذا. <BR>وبهذا يتبرهن أسلوب اللاتفريط المأخوذ لفظه من الآية المشار إليها. وهو باب واسع يمكن على أساسه صياغة كثير من الأُطروحات لكثير من المشاكل التي قد تثار في عدد من المواضع أو المواضيع, وينسد الإعتراض عليها بأنَّ فيها إعترافاً بنقص القرآن العظيم. </P>

<P><BR>-7-<BR>هذا، وسيجد القارئ بعض ما يمكن أن نسميه بالأُطروحات الشاذة أو الآراء النادرة, مع محاولة التأكيد عليها والتركيز فيها.<BR>فقد يحصل الاستغراب من ذلك وخاصةً بعد أن إلتفتنا إلى أنَّ أمثال هذه الأسئلة والبيانات تحتاج إلى أطروحات واضحةٍ وأجوبةٍ مقنعةٍ. <BR>والواقع انَّ هذه الأُطروحات الشاذة، لم اطرحها وحدها كجواب كافٍ، بلْ طرحتُ معها دائماً أطروحات كافيَّة في الجواب، بحيث لا تبقي في الذهن شبهة أو إشكال ولكن مع ذلك قلت: إنَّ هذه الأطروحة الشاذة أو تلك، هي كافيَّة أيضاً للجواب لمن يقتنع بها أو يستند إليها.<BR>والفائدة الرئيسية التي توخيناها من وراء عرض مثل هذه الأطروحات، هي فتح عين القارئ اللبيب وإلفاته إلى إمكان تجاوز الفكر التقليدي أو المتعارف في كثير من أبواب المعرفة لا في جميعها بطبيعة الحال, بل في تلك النظريات المشهورة التي تَعصَّبَ لها الناس وأخذ بها المفكرون بدون أن تكون ذات دليل متين أو ركن ركين, وإنَّ كثيراً من العلوم المتداولة تحتوي على شيءٍ من ذلك، وخاصة في مجال القواعد العربيَّة، كالنحو, والصرف, وعلوم البلاغة.<BR>فإنَّ أمثال هذه العلوم مشحونة بالنظريات التي أحترمها أصحابها وأخذوها وكأنَّها مسلمة الصحة، وبنوا عليها نتائج عديدة, في حين يبدو للمتأمل زيفها وبطلانها مع شيء من التدقيق. ويكفي في أطروحتنا هذه أن تكون صالحة لإسقاط الإستدلال بأمثال تلك النظريات والأفكار.<BR>وعلى أيِّ حال، فهذه الأُطروحات، بصفتها مخالفة للمشهور العظيم من المفكرين, ستكون شاذة ومثيرة للإستغراب, وأمّا إذا لوحظت بدقة وموضوعيَّة, فستكون كسائر الأُطروحات الصالحة للجواب عن السؤال التي هي بصدده.</P>

<P>-8-</P>

<P>ومما ينبغي أن نلتفت هنا إليه أيضاً: إنَّ الإتجاه الواضح لكل المؤلفين تقريبا, هو أن يعطي المؤلف للقارئ كل ما يعرف ويحاول أن يسجل في كتابه كل شاردة وواردة مما يرتبط بموضوعه.<BR>الأمر الذي ينتج أكيداً، إننا نستطيع أن نقيِّم المؤلف من خلال الإطلاع على كتابه, لا إننا نقيم الكتاب بغض النظر عن مؤلفه, لأنَّ المفروض إنَّ المؤلف ذكر كل ما يعرفه فيه. فلو كان يعرف أموراً أُخرى لذكرها, وحيث إنَّه لم يذكرها إذن, فهو لم يعرفها. ومن هنا تظهر الحدود الرئيسة لثقافة المؤلف لا محالة. <BR>ولعل هذا إلى حد ما، هو الاتجاه الذي كتبت به موسوعة الإمام المهدي ?، تأثراً بالاتجاه الواضح للمؤلفين كما أشرنا, ولأنَّ الحقائق المبينة كلما كانت أكثر وكلما كان الاطلاع عليها أوسع لدى الآخرين، كان ذلك أكثر فائدة وأوسع همة، وبالتالي فهو أرجح في الدين, وأرضى لربِّ العالمين.<BR>إلاّ أنَّ هذا الأسلوب, مما تمَّ رفضه من قِبَلي أكيداً بعد ذلك إنطلاقاً من الحكمة القائلة: إنَّ الحكمة ينبغي لها أن تُخفى عن غير أهلها. فإذا أصبح الكتاب مطروحاً في السوق، وبيد تناول الجميع، كانت النتيجة على خلاف ذلك بكل تأكيد. وقديماً قيل: إنَّ الكذب حرام، ولكن الصدق ليس بواجب, وقيل: إنَّ كان الكلام من فضَّةٍ فالسكوت من ذهب. <BR>وعلى أيِّ حالٍ، فلا يجوز للفرد أن يقول كل ما يمكن أن يُقال، بل من الضروريِّ أن يقتصر على ما ينبغي أن يُقال.<BR>فإذا عطفنا ذلك إلى المشاكل والأُطروحات التي سبق أن استقرأناها، عرفنا كيف كان تأليف هذا الكتاب صعباً ومعقداً على المؤلف، بحيث يكون المؤلف فيه بين حَدَّي السكين أو بين طابقي الرحى، أو بين المطرقة والسندان، كما يعبرون.<BR>وهذا المأزق مما لا مناص منه، كما لا خلاص منه إلا برحمةٍ من الله ولطف، إذْ من الواضحِ إنَّ عمق الكلام قد يستلزم وصول الحكمة إلى غير أهلها، وإنَّ قلة الكلام قد يستلزم ضمور الدليل وضحالة الفكرة. الأمر الذي يقتضي بقاء الشبهة وعدم حصول الجواب الوافي عن السؤال, وبالتالي عدم الدفاع الحقيقي والكامل عن القرآن الكريم, وكلا هذين الأمرين المتنافيين ظلمٌ حرام.<BR>فابتهل إلى الله بحق أوليائه الطاهرين أنْ يغفر لي ما<BR>قد يكون بدر مني في هذا الكتاب من أحد هذين الشكلين من الظلم أو من أشكال أخرى من الشطح في الكلام وكونه على غير المرام, وخاصةً انَّ المورد هو الدفاع عن الكتاب الكريم, وعقيدة ديننا الحنيف. إنَّ الله ولي كل توفيق، وهو أرحم الراحمين. <BR>فإذا علمنا أنَّ هذا الكتاب، قد تم تسطيره بناءًا على هذا المسلك، كما أنَّ الدرس والمحاضرات التي استخلص منها هذا الكتاب، قد إتَبَعْتُ فيها ذات الأسلوب, ومع ذلك فقد حذفت بعض الأمور التي قلتها في الدرس ولم أسجلها في هذا الكتاب زيادةً في الحذر وتركيزاً في الاحتياط. وأمريَّ وأمرُ القارئ بعدئذٍ إلى الله تعالى. بل دائماً إلى الله تعود الأمور.</P>

<P>-9-<BR>هذا,ولا ينبغي أن يلحق هذا الكتاب، بكتب التفسير العام, فإنَّه ليس كذلك إطلاقاً. وقد تجنبت فيه عن عمدٍ كل ما يرتبط بالتفسير المحض ــ لو صح التعبير ــ إلاّ ما نحتاج إليه أحيانا على سبيل الصدفة. وعلى القارئ الكريم أن يرجع في التفسير إلى مصادره وما أكثرها. إذْ لعل تفاسير القرآن في كل فرق الإسلام تزيد على المئة بمقدارٍ معتدٍ به. ولا حاجة إلى تكرار ما قالوه منها.<BR>وإنما يُلحق هذا الكتاب بحقل الكتب التي اختصت بمشاكل القرآن ــ لو صح التعبير ــ ومنها المصادر التي اعتمدتها في البحث، ككتب العكبري, والرازي, والقاضي عبد الجبار, والشريف الرضي, وغيرهم.<BR>ويفترض أن يكون المنهج هنا، هو التعرض إلى أيِّ سؤال أو مشكلة، قد تخطر في الذهن بغض النظر عن نوعيتها. وبخلاف المصادر الأُخرى التي حاولت الاختصاص ببعض الحقول، كالجانب اللغوي, أو الجانب العقلي، أو غيرهما.<BR>ومن هنا نجد في هذا الكتاب حديثاً من كل نوعٍ: من الفقه, والأُصول, وعلم الكلام, والنحو, والصرف, وعلوم البلاغة, وشيء من التفسير. <BR>مضافاً إلى بعض العلوم الطبيعيَّة، كالفيزياء, والفلك, والتأريخ, وغيرها.</P>

<P>-10-<BR>وسيجد القارئ الكريم أنني بدأتُ من المُصحف بنهايته، وجعلتُ التعرض إلى سور القرآن بالعكس.<BR>فإنَّ هذا مما ألتزمته في كتابي هذا نتيجة لعاملين, نفسي وعقلي:<BR>أما العامل النفسي: فهو تقديم الطرافة في الأسلوب, وترك التقليد للأمور التقليديَّة المشهورة، في ما يمكن ترك التقليد فيه.<BR>وأما العامل العقلي: فلأنَّ التفاسير العامة، كلَّها تبدأ من أولِّ القرآن الكريم، طبعاً. فتكون أكثر مطالبها وأفكارها قد سردته فعلاً في حوالي النصف الأول من القرآن الكريم. وأما في النصف الثاني, فلا يوجد غالباً إلاّ التحويل على ما سبقَ أن ذكره المؤلف.<BR>الأمرُ الذي ينتج أن يقع الكلام في النصف الثاني من القرآن مختصراً ومُقتضباً. مما يعطي انطباعا لطبقة من الناس، أنَّه أقلُّ أهميَّة أو أنَّه أقلُّ في المضمون والمعنى، ونحو ذلك. <BR>في حين إنَّنا لو عكسنا الأمر فبدأنا من الأخير، لاستطعنا إشباع البحث في السور القصيرة وتفصيل ما أختصره الآخرون، ورفع الاشتباه المشار إليه. فإن لم نكن بمنهجنا هذا قد استنتجنا أكثر من هذه الفائدة لكفى. <BR>إلا أنَّ هذا لا يعني بطبيعة الحال بدء السوّر من نهاياتها, بل أنَّ السير القهقري هذا، إنما هو باعتبار السور لا باعتبار الآيات, فنبدأ في كل سورةٍ من أولها وننتهي إلى آخرها, ثم نبدأ بالسورة التي قبلها وهكذا. وهذا لا يعني ألخدشه بترتيب المصحف المتداول، وخاصة بعد أن نلتفت إلى ما سيأتي من أطروحات أسماء السور، حيث سنعطي لكل سورة رقمها في المصحف. وسيكون له وجاهته وإحترامه، ولعله سيكون أفضل تلك الأُطروحات.<BR>غير أنَّني أعتقد إنَّنا لو أردنا النظر إلى ترتيب النزول بدقة، لم نحصل على طائل؛ لأنَّ أخباره كلها ضعيفة، وليس فيها من المعتبر إلاّ النادر جداً. <BR>إذن, فترتيب القرآن الكريم بطريقة النزول، مما لا يمكن إيجاده الآن بحجة شرعيَّة تامة.<BR>إلاّ أنَّ هذا مما لا ينبغي أن يهمنا كثيرا، مع اشتهار المصحف المتعارف، وإقراره جيلاً بعد جيل من قبل علماء المسلمين، وإنتهاءاً بالجيل المعاصر للأئمة المعصومين ?.</P>

<P>-11-<BR>هذا، ولا ينبغي إهمال أسماء السور في هذه المقدمة عن شيءٍ من الحديث، من حيث إنَّنا لا نعلم مَنْ الذي استعملها ووضعها لأول مرة, كما نعلم إنها مختلفة من حيث الأهميَّة والصحة.<BR>فإنَّ بعضه وإن كان جيداً في المعنى كسورة الحمد والتوحيد، إلاّ أنَّ بعضه ليس كذلك، كذكر الحيوانات: البقرة والفيل أو ذكر الكافرين والمنافقين، أو باسم غير موجود لفظه في السورة كالأنبياء والممتحنة, وغير ذلك, إلاّ أنَّه لا سبيل اليوم إلى إحداث بعض التغيير.<BR>ومن هنا أمكننا أن نعرض لأسماء السور عدة أطروحات لا تحتوي على ذلك التغير الكثير: <BR>الأطروحة الأولى: الاسم المشهور أو المتعارف في المصاحف المتداولة.<BR>الأطروحة الثانيَّة: إنَّه قد يوجد أحياناً أسمٌ آخر غير مشهور أو أكثر من اسم, قد أطلقته عليه بعض المصادر, فنسجله في هذه الأطروحة. <BR>الأطروحة الثالثة: أن نسير على غرار أسلوب السيد الشريف الرضي ? في تسميَّة السور في كتابه مجازات القرآن, حيث كان يقول: السورة التي ذكرت فيها البقرة, والسورة التي ذكر فيها النساء.<BR>وبالرغم من أنَّ كتابه كلَّه لم يصل إلينا، وإنمَّا وصلنا جزء بسيط منه، قد لا يتعدى السوّر الأربع الأولى من القرآن الكريم, ومن ثم لا نعلم ما الذي فعله في جميع السور, إلاّ أنَّه على أيِّ حالٍ فتح لنا باباً واسعاً من هذه الجهة، وأسس لنا قاعدة يمكن العمل عليها في أغلب السور.<BR>الأطروحة الرابعة: إنَّ نُسمي السورة باللفظ الوارد في أولها كما يسير عليه العرف الإجتماعي في بعض السور كـ [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] و[  إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ]و[إذا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ], وغيرها.<BR>الأطروحة الخامسة: أن نترك تسميَّة السور، ونستعيض عنه برقمها من المصحف كما يقترح البعض, من حيث أنَّه متكوِّن من [114سورة] فلكل سورة رقم معيَّن يصلح أن يكون عنواناً لها. وهو نحو من الفكر التجريدي الرياضي, اتجاه القرآن الكريم من حيث الميل إلى ترقيم آياته, وأجزائه, وأحزابه, وسوره, وكلماته, وحروفه, وغير ذلك.<BR>وعلى أيِّ حال، فبهذا النحوِّ لا تتساوى السوِّر في الأُطروحات, بل قد تزيد فيها وقد تنقص حسب ما هو متوفر في كل منها.<BR>فمثلاً: قد يكون ما ذكرناه في الأطروحة الثانيَّة متعدداً، بحيث يصلح أن يكون عدة أطروحات: اثنان أو أكثر، كما قد تكون أطروحة الشريف الرضي متعذرة. <BR>فمثلاً: لا يمكن القول: السورة التي ذكر فيها ألممتحنه، لأنَّ هذا اللفظ غير موجود في السورة.<BR>وكذلك قد يصعب تسميَّة السورة بألفاظها الأولى، بإعتبار اشتراك أكثر من سورة بنفس الألفاظ, كسورتي الملك والفرقان، وسورتي الكهف والأنعام، وسورتي الجمعة والتغابن.<BR>وعلى أيِّ حال، فقد أعطيت عنايَّة خاصة في أول كل سورة، للفحص عن التسميَّة بمثل هذه الأُطروحات, وهذا مما أغفله الكثير، بل الجميع.</P>

<P> </P>

<P><BR>-12-<BR>ومما ينبغي الالماع إليه, إنَّني بطبعي لا أميل إلى الأَخذ بروايات موارد النزول وأسبابه, فإنَّها جميعاً ضعيفة السند وغير مؤكدة الصحة بالرغم من إهتمام بعض المؤلفين بها كالسيوطي وغيره.<BR>وإنَّما المهم في نظري، كما ينبغي أن يكون هو المهم في نظر الجميع, إنَّ كل آيَّة من آيات الكتاب الكريم, تعَّد قاعدة عامة ومنهج حياة وأسلوب سلوك، قابل للإنطباق على جميع المستويات, وعلى جميع المجتمعات, بل على جميع الأجيال, بل على كل الخلق أجمعين.فإنَّ القرآن هو خلاصة القوانين والمعارف المطبَّقة فعلاً في الكون, و الموجودة في أذهان الأولياء والراسخين في العلم.<BR>وهذا واضحٌ من جميع القرآن، وظهور القرآن حجة، غير أنَّنا نستطيع بهذا الصدد, الإستدلال بالأخبار[ ] الدالة على أنَّ القرآن يجري في الناس مجرى الشمس والقمر, وإنَّه لو نزل بقوم ومات أولئك القوم لمات القرآن, ولكنَّه حيٌ لا يموت, لأنَّه نازلٌ من الحي الذي لا يموت.<BR>ومرادي: إنَّ أسباب النزول ونحوها لن تصلح في كتابنا هذا إلاّ كأطروحةٍ من عدة أطروحات يمكن أن تشكل جواباً على السؤال الرئيسي في أيِّ مورد. وأمّا أن تكون هي الجواب الرئيسي أو أن تكون سبباً لإختلاف ظهور القرآن, فلا ما لم تقم عليها بنفسها حجة شرعيَّة كافيَّة.</P>

<P>-13-<BR>لا شك إنَّنا في المصحف نقرأ القراءة المشهورة للقرآن الكريم، وهي قراءة حفص عن عاصم. ومن الواضح عند المسلمين إنَّها ليست القراءة الوحيدة، أو التي يمكننا أن نعدَّها هي الوحي المنزل نفسه, بل القراءات أكثر من ذلك بكثير.<BR> وقد أجاز مشهور علماءنا القراءة على طبق القراءات السبعة, بل العشرة، بل كل قراءة مشهورة في زمن ألائمة المعصومين ?.<BR>إلا أنَّ نقطة الضعف المهمة في هذا الصدد، هو إنَّنا لا نستطيع أن نقيم دليلاً معتبراً على أنتساب القراءة إلى صاحبها في الأغلب، فضلاً عن انتسابها إلى رسول الله?.<BR>غير أنَّ تعدد القراءات قد تُشكِّل نقطة قوة في بحثنا هذا، من حيث أنَّ جملةً منها تستلزم تغيُّر المعنى, الأمر الذي يُنتج إختلاف السياق القرآني, أو حلُّ مشكلةٍ فعليَّة ناتجة عن قراءة أخرى, أو عن القراءة المشهورة، وهكذا.<BR>غير أنَّ هذه الحلول إنّما تصلح كواحدة من أطروحات عديدة, ومن الصعب أن تكون هي الأطروحة الأهم على أيِّ حال، بإعتبار ضعف إسناد أكثرها كما أشرنا.<BR>مضافاً إلى نقطة أُخرى يقل الالتفات إليها عادةً، وهي: إنَّ مَنْ استقرأ القراءات, وطالع وجوهها واختلافاتها سيجد بوضوح إنَّ الأعمَّ والأغلب من القُرّاء كانوا يقرأون القرآن بآرائهم، حسب ما يخطر لهم من التطبيقات اللغويَّة, والنحويَّة, والصرفيَّة, والبلاغيَّة, ونحوها, وليست غالبها بروايَّة مسندة عن النبي ?, وخاصة القراءات القليلة والشاذة, إلى حدٍ يمكن التعرف على مستوى القارئ من قراءته, وفيها ما يدل على جهل القارئ وتدني ثقافته، كما أنَّ فيها ما يدل على علمه وتبحّره.<BR>وحسب فهمي: إنَّ ذلك الشخص الذي أختار قراءة حفص عن عاصم وجعلها مشهورة، وهو شخص مجهول على أيَّ حال، لم يقصِّر في أمره، بل كان دقيق النظر باعتبار إنَّ هذه القراءة بالرغم مما فيها من بعض النقاط، تعدُّ فعلاً أفضل القراءات وأفصحها، لو نظرنا بمنظارٍ عام.<BR>ومن هنا قلنا في عدة موارد في الفقه, إنَّ الأحوَّط فعلاً اختيار هذه القراءة في الصلاة. <BR>أولاً: لفصاحتها.<BR>ثانياً: لوجود دليل معتبر على انتسابها لصاحبها, وهو الإستفاضة المتحقِّقة جيلاً بعد جيل.<BR>ثالثاً: لوجود الدليل المعتبر على إمضائها من قبل المعصومين ? باعتبار حجيَّة الدليل القائم على وجودها في عصرهم سلام الله عليهم.<BR>ولكننا مع ذلك يمكننا الإستفادة من سائر القراءات كإطروحات محتملة، لدفع مشكلة أو لتغيير سياق أو لإيضاح معنى.</P>

<P>-14-<BR>وهنا يحسن بنا إن نلتفت إلى كلمة ولو مختصرة, عن أغراض السور وأهدافها، فإنَّه قد يثار السؤال عمّا إذا كان لكل سورة على الإطلاق غرض معين, أو إنَّ لبعضها ذلك أو لا يوجد لأيِّ منها أيَّ غرض, وإنمَّا هي مجموعة معاني لا تربطها رابطة معينة, إذ لاشك أنَّ هناك غرضاً عاماً لنزول القرآن الكريم ككل, وقد نطق به القرآن في عدد من آياته, كقوله تعالى: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ][ ], وقوله تعالى: [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا][ ] وقوله تعالى:[ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً][ ], وإنَّما الكلام هنا عمّا إذا كان لكل سورة غرضها الخاص بها كجزءٍ من الغرض العام للقرآن، أو كتطبيق من تطبيقاته، كما هي جزء منه أم لا؟.<BR>وهذا الغرض واضح في بعض السور بلا شك كما في سورة الحمد, والتوحيد, والكافرون, والواقعة،وغيره. إلا أنَّه تبقى كثير من السور الطوال وغيرها مما لا نفهم منها غرضا محدداً.<BR>فان قلت: إنَّ قوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء][ ], يدل على وجود أغراض للسور، إذْ بدونها يكون التفريط متحققاً.<BR>قلت: جوابه من جهتين:<BR>أولاً: إنَّ ذلك يكفي فيه وجود الهدف لبعض السور دون جميعها.<BR>ثانياً: إنَّ الهدف من السورة قد يكون مختصاً بأهله وغير مفهوم فهماً عرفياً عاماً، الأمر الذي يغلق أمامنا طريقة استنتاجه.<BR>فإن قلت: ألا يمكن أن تكون هدايَّة الناس هي الهدف من كل سورة.<BR>قلنا: نعم, فإنَّ هذا هو هدف القرآن ككل، وإنَّما السؤال عما إذا كانت هناك أهداف تفصيلية لكل سورة، زائداً عن ذلك.<BR>وعلى أيِّ حال، فلا يوجد دليل عقلي أو نقلي على وجود مثل هذه الأهداف لكل واحدة من السور, بل إنَّ بعض الآيات تعرضت إلى معانٍ متباينة وأهداف متعددة، كقوله تعالى:[ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ][ ] فإذا كان ذلك في الآية الواحدة، فوجوده في السورة أولى. <BR>والمهم في كتابنا هذا هو محاولة تصيُّد ذلك، مهما أمكن, فإن كان للسورة هدف معروف فعلاً ذكرناه، وألاّ أمكن التعرض له كأطروحة أو حصر عدّة أهداف لسورة واحدة, كل ما في الأمر إنَّها أهداف محددة وليست مجملة وهكذا.<BR>ولعل التدقيق في التعرف على معاني القرآن الكريم وتفاصيله يفتح لنا طريق الاهتداء فيما لم يكن معروفاً من أهداف بعض السور بتوفيقه سبحانه.</P>

<P>-15-<BR>وإذا سرنا في طريق فهم بحثنا هذا أمكننا التعرض إلى عدة أمور:<BR>منها: إنَّ فائدة الكلام إنَّما هو إيصال المعنى إلى السمع بأيِّ قالب كان وبأيِّ لفظ كان, فاختيار الألفاظ وصياغتها ستكون بطبيعة الحال اختيارية للمتكلم, فله أن يختار من الألفاظ ما يشاء من دون أن ينطبق قانون الترجيح بلا مرجح؛ لأنَّ هذا القانون منطبق على العلة القهريَّة لا على العلة الاختياريَّة, ومع وجود الاختيار فالترجيح بلا مرجح ممكن؛ لأنَّ الاختيار والإرادة هو الذي يكون مرجحاً كما ثبت في علم الكلام. <BR>ومعه فلا يمكن السؤال بأنَّ الله تعالى لماذا قال كذا ولم يقل كذا؛ لأنَّه سبحانه إنَّما يريد أن يوصل المعاني إلينا لا أكثر واختياره لهذه الألفاظ يوافق الحكمة والفصاحة والمصلحة التي هي في علمه.<BR>وبذلك يندفع كثير من الأسئلة التي يمكن إثارتها عن التعبير القرآني؛ لأنَّ جوابها: إنَّ الله تعالى أراد هذا التعبير اختياراً وليس لنا أن نناقش فيه فمثلاً: لمجرد الإيضاح ليس لنا أن نسأل إنَّه تعالى: لماذا جعل آيات سورة [البقرة] طوالاً وآيات سورة [ق] قصاراً؟ أو إنَّه لماذا جعل النسق في السورة الفلانية بالنون والأخرى بالقاف والأخرى بالميم؟ وهكذا. فإنَّها كلَّها أمور إختياريَّة غير قابلة للمناقشة .<BR>ومنها: إنَّ قصور اللغة يمكن أن يكون هو المسؤول عن كثير من الظواهر الكلاميَّة, في حين إنَّ التوسع في اللغة هو الحاجة الضروريَّة لكثير من الأمور كالقوافي الشعريَّة والسجع ولزوم ما لا يلزم، كما في لزوميات المعري ومقامات الحريري وغيرها. فإذا لم يوجد في صدد معين إلاّ ثلاث كلمات أو أربع, اضطر المتكلم إلى حصر حديثه في نطاق ضيق أو إلى تكرار العبارات نفسها لإتمام مقصوده, وهذا هو الذي اعنيه من قصور اللغة, وهو بابٌ واسع لا يقتصر على هذا المجال.<BR>ولعل هذا هو الذي يفسر لنا عدداً من ظهور النسق القرآني، أعني: نهايات الآيات أو الروي, وهو ما قبل النهاية, كتكرار لفظ الناس في سورة [الناس] والتكرار في سورة [ق] و[ص], وغيرهما, ومن ذلك تغيّر النسق في سورة [مريم] بمقدار ست آيات ونحو ذلك.<BR>فإن قلت: ولكن الله قادر على كل شيء فهو قادر على أن يوجد كلمات كثيرة غير مكررة لحفظ النسق.<BR>قلت: هذا وهم فإنَّ القدرة وإن كانت تامّة ولا نهائيَّة في ذات الله سبحانه، لكنَّها تتعلق بالممكن والمقدور, أما المستحيلات فلا تتعلق بها القدرة كما هو المبرهن عليه في محله من علم الكلام، لقصور الموضوع لا لقصور الفاعل.<BR>ومن جملة قصور الموضوع، قصور اللغة، فإنَّها ليس فيها من الكلمات ما يكفي لأجل سد الحاجة, ولا يمكن اختيار الكلمات إلاّ بالمقدار المناسب مع المجتمع وما يفهمه الناس، ولا يمكن أن نتكلم بكلام غير مفهوم بإعتبار إتمام السجع أو النسق أو الرويّ، بطبيعة الحال.</P>

<P>-16-<BR>إنَّنا لو تأملنا مخلوقات الله تعالى في هذا الكون, وجدناها مشحونة بالذوق الجمالي سواء من الناحيَّة البصريَّة أو السمعيَّة أو اللمس أو الناحيَّة العقليَّة أو النفسيَّة أو غيرها كشكل الورد وأجنحة الفراش وأصوات العصافير والجمال البشري أو تناسق أوراق النبات وغير ذلك كثير. <BR>ومن موارد وجود الذوق التكويني هو الذوق الفني والأدبي في القرآن الكريم, ولا ينبغي أن نقترح على الله أيَّ شيءٍ في هذا الصدد لأنَّ أي تغيير فيه سيخل بهذا الذوق وسيخرج السياق القرآني عن هذا الجمال والهيبة والرصانة, والتناسق بين نهايات الآيات له حصة من الذوق, فلو كان الكلام منثورا تماما لما اتخذ سياقا من هذا القبيل, فنهايات الآي لها معنى خاص بها لا يمكن أن نسميه سجعاً وإنَّما نسميه نسقاً؛ لأنَّ السجع فيه نقطتان للضعف لا تنطبقان على القرآن الكريم:<BR> أولهما: إنَّ سمعته غير جيدة بين الناس مثل قولهم: سجعٌ كسجعِ الكهان، ولا ينبغي أن ننسب إلى القرآن ما نكره.<BR>ثانيهما: إنَّ هناك فرقاً بين السجع والنسق القرآني, فإنَّ نهايات الآيات في كثير من الأحيان لا تنتهي بحرف واحد، بل بأكثر من حرف, كما قد يكون المتناسق فيها هو الروي, وهو الحرف الأسبق على الأخير, في حين أنَّ السجع مشروط فيه التماثل في الحرف الأخير ذاتاً وصفةً (أي حركة), كما في القوافي الشعريَّة تماماً.<BR>نعم, لا نعدم من بعض السور, ما يكون من قبيل السجع, أو إنَّه متصف بصفاته مصداقاً لقوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ][ ] كسورة الناس وعامة الآيات في سورة محمد وسورة ق. إلاّ أنَّنا مع ذلك يمكننا أن نسميه تناسقا أو نسقا لا أن نسميه سجعا, لأنَّ كل سجع فهو نسق وليس كل نسق فهو سجع, فقد يكون في مثل هذه السور سجع ونسق في عين الوقت.</P>

<P>-17-<BR>بقيت لنا كلمة في التعريف بالسياق ووحدة السياق, فإنَّه باب مهم من أبواب فهم اللغة عموما, والقرآن الكريم خصوصاً, وقد استخدمناه في كثير من أبحاثنا هذه, فينبغي أن نحمل فكرة كافيّة عن حقيقته وعن نتائجه.<BR>فإنَّ السياق على قسمين: سياق المعنى وسياق اللفظ:<BR>أمّا السياق المعنوي: فهو يمثل الاتصال والتماثل في مقاصد المتكلم, والمعاني الذي يريد بيانها والإعراب عنها, فإذا شككنا في أيِّ مقصود من مقاصده, أمكن جعل المقاصد الأخرى دليلاً عليه كقرينة متصلة عرفيَّة وصحيحة, وهذه هي قرينة وحدة السياق التي تستعمل عادة في الاستدلال الفقهي والأصولي.<BR>فلو وردتنا في السنة الشريفة عدة أوامر في سياق واحد, وكان بعضها أكيد الاستحباب، وبعضها مشكوك الوجوب, قلنا باستحبابه لأجل وحدة سياقه مع المستحب.<BR>وأما السياق اللفظي, فهو أمر أخر تماما, وإن كان كل لفظ فله معنى, ومن هنا فكل سياق لفظي له سياق معنوي, إلا أنَّ العمدة هنا اختلاف الجهة الملحوظة في السياق.<BR>ومرادنا من السياق اللفظي تناسقه العرفي في الذوق واللغة بحيث لو زاد شيئا أو نقص, لكان ذلك إخلال به, ومن ثم يكون ذلك قرينة كافيَّة على عدم وجوده وعدم قصده من قبل المتكلم.<BR>ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاس إِلَهِ النَّاسِ]( ), بدون وجود الواو بينها, فلو وجد الواو أختل السياق اللفظي بكل تأكيد, ولعل أوضح منه اختلال السياق لو وجد الواو, في البسملة وهكذا.<BR>بينما نجد أمورا أخرى غير مخلة بالسياق لو تبدلت, ومن أمثلة ذلك الفاء بالواو في قوله تعالى: [وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً.]( ). <BR>فإنَّ الجمال اللفظي يبقى مستمرا بحسب ما ندرك من الذوق اللغوي العرفي. وهكذا.<BR>وعلى أيِّ حال, فكلا الشكلين من السياق: اللفظي والمعنوي, يمكن استعماله في أبحاثنا هذه, وجعله قرينة على مختلف الأمور, إلا أنَّ السياق اللفظي فيها أهم وألزم, كما كان السياق المعنوي في تلك العلوم أعني: الفقه والأصول أهم وألزم. </P>

<P>-18-<BR>ولا ينبغي لنا في هذا الصدد، أن نهمل الحديث عن المصادر التي يمكن للقارئ الاعتماد عليها لو أراد التدقيق والتوسع أو الإضافات حول بحثنا هذا.<BR>فإنَّه على العموم نجد التفاسير العامة للقرآن مفيدة في هذا الصدد أكيدا, أياً كان مذهبها ومهما كان اتجاهها وهي فيما أعلم على ثلاثة اتجاهات:<BR>الاتجاه الأول: التفسير الباطني للقرآن الكريم, وهي صادرة عادة أو غالبا من مشايخ الصوفية كابن عربي وغيره.<BR>الاتجاه الثاني: التفسير بالحديث, بمعنى: تورع المؤلف عن إبداء رأيه والاقتصار في التفسير على سرد السنة الشريفة المختصة بإيضاح هذه الآية أو تلك, كتفسير البرهان للبحراني.<BR>الاتجاه الثالث: التفسير بالرأي المعتبر, أو محاولة الفهم من ظواهر وسياقات القرآن الكريم نفسه, وهي عامة التفاسير لدى الفريقين, ونعتمد منها على الخصوص تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي, وإن كانت كلها مفيدة. <BR>وكذلك يفيد في هذا الصدد: كتب إعراب القرآن الكريم وهي عديدة, يحضرني منها الآن اثنان: إملاء ما مَنَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن لأبي البقاء العكبري, والملحة في إعراب القرآن لمحمد جعفر الكرباسي.<BR>ومنها: الكتب المختصة بتعريف القراءات في القرآن, وهي عديدة, يحضرني منها اثنان: النشر في القراءات العشر لابن الجوزي, والمعجم الحديث للقراءات القرآنيَّة. <BR>وكذلك الكتب التي خَصصت فصولا منها للبحث في بعض الأمور القرآنية, أو الدفاع ضد إشكالات أوردت ضد الدين وضد القرآن وهي عديدة, لا تدخل تحت الحصر من كل مذاهب الإسلام يحضرني منها اثنان: كتاب الأمالي للسيد المرتضى وما وراء الفقه للمؤلف وخاصة ما ذكرناه في كتاب الصلاة حول القرآن الكريم.<BR>وكذلك الكتب المخصصة لبيان لغة القرآن الكريم نفسه, كمفردات القرآن للراغب الأصفهاني ومجمع البحرين في لغة الكتاب والسنة للطريحي, مضافا إلى كتب العامة كلسان العرب لابن منظور, والقاموس المحيط وتاج العروس, وغيرها كثير.<BR>وكذلك الكتب المخصصة لما يسمى بعلوم القرآن وهي التي تتحدث عن وجود الإعجاز فيه أو عن القراء والقراءات أو عن التجويد أو عن الحساب الرياضي للقرآن وغير ذلك. <BR>منها: كتاب عبد القاهر الجرجاني, والإتقان في علوم القرآن للسيوطي, والجزء الأول من البيان للخوئي, وفي اعتقادي إنَّ هذه العلوم تصلح كمقدمات لفهم التفسير لا أكثر.<BR>ومنها: الكتب المخصصة للفهم الطبيعي أو العلمي الحديث للقرآن الكريم, وهي عديدة أشهرها: تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري, والآيات الكونيَّة في القرآن لحنفي أحمد, والطبيعة في القرآن الكريم للدكتور كاصد ياسر الزيدي, وغيرها.<BR>وكذلك الكتب المختصة بالتاريخ الديني لو صح التعبير, كالكتب المختصة بقصص الأنبياء, والمتصلة بالحديث عن الأمم السابقة, أو الحديث عن الجنة والنار ويوم القيامة. <BR>سواء كانت كتب حديثيَّة تقتصر على نقل السنة الشريفة, أو كتب رأي وتحليل.<BR>وقد يفيدنا في هذا الصدد أيضاً من بعض الجهات, الكتب المختصة بالتربيَّة الأخلاقيَّة للفرد, هي كتب عديدة من الفريقين, يحضرني منها الآن: إحياء علوم الدين للغزالي, وجامع السعادات للنراقي, وفقه الأخلاق للمؤلف.<BR>هذا, مضافا إلى الكتب الواردة في حقل اختصاص هذا الكتاب نفسه, مما اعتمدناه ومما لم نعتمده, وهي المخصصة لدفع الشبهات عن القرآن الكريم, وهي أيضاً عديدة, نعتمد منها: كتاب الرازي المطبوع في هامش كتاب العكبري, وتنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار, وتلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي.</P>

<P>-19-<BR>هذا ولا يفوتنا, ونحن بصدد الحديث عن المصادر القول: بأنَّ الآراء المعروضة فيها تنقسم ــ بحسب فهمي ــ إلى قسمين رئيسين: آراء ثابتة في الرتبة السابقة, والآراء المتحققة في الرتبة المتأخرة عنه, وما هو المعتمد في فهم القرآن الكريم هو القسم الأول فقط.<BR>والمراد بالآراء الثابتة في الرتبة السابقة هي الآراء التي تحدثت عن اللغة وعن قواعد العربية أو الأنظمة العقائديَّة بغض النظر عن آيات القرآن يعني: الحديث عن تلك الأمور في أنفسها, ومن ذلك ما ثبت للمفكر من معاني لغويَة وغيرها عن الحقبة الجاهلية السابقة على الإسلام مباشرة, فإنَّها في الحقيقة تمثل عصر النص, والمجتمع الذي نزل فيه القرآن, فيكون هو المعتمد في فهمه, كمصدر رئيسي بلا إشكال.<BR>والمراد من الآراء المتحققة في المرتبة المتأخرة عن القرآن, كل الآراء المعروضة بعد أخذ القرآن بنظر الاعتبار ومحاولة الاستفادة والاستظهار منه, فإنَّ مثل هذه الآراء إنَّما تؤخذ كاجتهادات لأصحابها وتكون غالبا قابلة للمناقشة ومتعارضة ومتعددة ويمكن أن يكون لأيِّ مفكر رأيٌّ بإزائها وفي مقابلها.<BR>ومن أمثلة هذا الخلاف قوله تعالى: [قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ][ ], في إنَّ هذا المؤمن هل دخل الجنة حياً أم ميتا؟ من حيث أنَّ الآية لم تنص على موته, إذن فهو لابد أن يكون حياً, ومن حيث أنَّ دخول الجنة لا يكون إلاّ بالموت, فهو لابد أن يكون قد مات ودخل الجنة.<BR>ومحل الشاهد إنَّ كل ذلك وغير ذلك, إنّما هي إستفادات بعد أخذ المدلولات القرآنيَّة بنظر الإعتبار, فتكون آراء خاصة بالمؤلفين, وقابلة للمناقشة وقابلة لإفادات آراء أخرى بإزائها. <BR>فما هو المعتمد في الحقيقة في فهم القرآن الكريم, هو القسم الأول من الآراء والاتجاهات ويكون حجة في إثباته عادة وغالباً, دون القسم الثاني لا محالة. </P>

<P>-20-<BR>وستكون العناوين العامة في البحث الآتي, هي عناوين السور ذاتها, ثم نعرض في كل سورة أسئلة وأجوبة, نحاول أن تكون مرتبة بترتيب آيات السورة, حتى إذا ما انتهت السورة بدأنا بالسورة التي قبلها وهكذا أخذاً بالمنهج القهقري الذي التزمناه.<BR>وهذه الأسئلة إمّا بعنوان سؤال وجوابه كما هو الغالب, أو بعنوان الإشكال مع رده أو بعنوان: إن قلت: قلنا ونحو ذلك, وكلها على أيِّ حال تُعَدُّ من الناحيَّة النظريَّة طريقة واحدة أو متشابهة في المنهجيَّة العامة.<BR>هذا, وإنَّني لا أدعي الاستيعاب والشمول وخاصة بعد القيود التي سبق أن عرفناها, كما لا أدعي التناهي في العلم, وإنّما الأمر كما قاله سبحانه: [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ][ ], وإنّما هذا الذي تراه بين يديك هو بمقدار الميسور بحسن منة المنان سبحانه وتعالى. <BR>هذا وإنِّي أشكر كل مَنْ وازرني وشجعني وأعانني على هذا المشروع الطيب من فضلاء طلابي ومن المؤمنين الذين يحسنون بي الظن وجزاهم الله جميعا خير جزاء المحسنين.<BR>[الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ][ ]. أعاننا الله على أنفسنا وعلى جميع مشاكلنا وعلى كل وجودنا, إنَّه ولـي التوفيق, وهو على كل شي قـدير, وبالإجابة جدير وهو أرحم الراحمين. </P>

<P>حرّره بتأريخ السادس والعشرين<BR>من شهر رمضان المبارك عام  1416</P>

<P>                                                               محمّد الصّدر</P>

<P><BR>***</P>

<P><BR>?</P>

<P> </P>

<P>مبحث البسملة<BR>سؤال: ما معنى الباء في البسملة؟<BR>جوابه: يحتمل معناها وجوهاً:<BR>الوجه الأول: السببيَّة, وهي العليَّة والتسبيب, ومنه قوله تعالى: [إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْل][ ], أي: بسبب هذا الاتخاذ فيكون المعنى في البسملة أعمل أو أبدأ بسبب اسم الله تعالى وببركته.<BR>الوجه الثاني: الإلصاق: وهو في اللغة على قسمين:<BR>قسم مادي مباشر, من قبيل قولنا: عملت بيدي أو أمسكت بزيد.<BR>وقسم معنوي, نحو مررت بزيد فالمرور لم يلتصق بزيد ولكنَّهم اعتبروا ذلك مجازاً, فيكون المعنى في البسملة: إنَّ عملي مقترن وملتصق -مجازاً - ببسم الله الرحمن الرحيم.<BR>الوجه الثالث: الظرفيَّة, ومنه قوله تعالى: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْر][ ] وقوله تعالى: [نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ][ ], أي: في ذلك الزمن فيكون المعنى في البسملة أن نتصور إن العمل مظروف واسم الله ظرف, وان العمل مظروف ــ مجازاً ــ لأسم الله تعالى لكي تزيد بركته.<BR>الوجه الرابع: الاستعلاء, ومنه قوله تعالى: [مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ][ ] أي: على قنطار, وكذلك قوله تعالى: [وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ][ ] فيكون المعنى في البسملة إفادة التوكل على الله بمعنى: أبدأ على اسم الله أو توكلت على الله, والعامة تقول :توكلت بالله.<BR>وكل تلك المعاني ممكنة وصحيحة, وقد تكون كلها مرادة ولا يتعين واحد منها, ولا يوجد ظهور في أحدها كما روي: إنَّ للقرآن بطناً ولبطنه بطن[ ], وروي: إنَّ له سبع بطون, وان له سبعون بطناً, ونحو ذلك ولكن الإنسان المحدود لا يدركها كلها غير أن الله تعالى اللامتناهي يمكن أن يقصد معاني لا متناهية. <BR>سؤال: لماذا لم يستعمل غير الباء من حروف الجر؟.<BR>جوابه: لأنه لا يمكن لأي حرف غيرها أن يقوم مقامها وأن يؤدي مؤداها, وقد سمعنا المعاني الأربعة السابقة وليس في حروف الجر ما يؤديها جميعا غير الباء مع العلم إن مقتضى الحكمة تنبيه القارئ عليها أو إلى ما يتيسر له منها.<BR>سؤال: ما هو متعلق الباء في البسملة؟ فإن الجار والمجرور يحتاج إلى متعلق نحويا لا محالة.<BR>جوابه: إنَّ هذا المتعلق له نحوان من التصور:<BR>النحو الأول: وهو المشهور, يكون بتقدير فعل مناسب مع السياق، كقولنا ابتدئ أو استعين أو أعمل ونحوها.<BR>النحو الثاني: يكون بتقدير اسم يكون خبراً لمبتدأ محذوف كما لو قلنا: هذا الفعل متبرك ببسم الله الرحمن الرحيم أو كذلك أو كائن أو حاصل ونحوها.<BR>ويندرج في النحو الأول ما قيل من أن المتعلق: أقرأ أو أقول أو قل, باعتبار كون البسملة شروعاً بالقول أو بالقراءة.<BR>وما ذكروه في ردّه[ ], من أن مفعول القراءة أو القول يجب أن يكون هو الجملة بحالها من المعنى لا يتم لعدم المنافاة بين أن يكون مقول القول هو الجملة التامة, وبين أن يكون ظرف القراءة ككل أو جوّها العام, هو اسم الله سبحانه والتوكل عليه  .  <BR>كما يندرج في النحو الأول, ما ذكروه من أن المتعلق: استعين أو استعن باعتباره قصد الاستعانة والتوكل على الله سبحانه.<BR>ولا يرد عليه ما ذكروه[ ] في رده على استحالة الاستعانة من الله سبحانه باعتباره انه هو المتكلم في القران أصلا,  فيكون كأنه هو المستعين بالله وهذا مستحيل, فانه مستغنِ عن الاستعانة بأسمائه الكريمة.<BR>وجواب ذلك نقضاً وحلاً: أما النقض: فبكل ما ورد في القران الكريم بلسان غيره سبحانه من دون الإشارة إلى المتكلم, ومنه ما ورد في فاتحة الكتاب [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ][ ], فانه لو كان هو المتكلم لما جاز كل ذلك.<BR>وأما الحل: فباعتبار ظهور التعليم للآخرين والتلقين لهم بأن يعملوا ذلك, ليكون خيرا لهم في دنياهم وأخراهم بما فيها موارد النقض التي ذكرناها, وكل القرآن الكريم منزل لهدايَّة الناس وتعليمهم، ولعله من هنا قدروا فعل الأمر: قل أو أقرأ أو استعن بصفته تعليماً لرسول الله? بالمباشرة ولكل الناس بالتسبيب.<BR>هذا: وقد استنتج في المصدر المشار إليه[ ] انه يتعين أن يكون متعلق الجار والمجرور هو ابتدأ أقول: لو تم له كل ذلك وتنزلنا عن المناقشات السابقة, فغايته صلاحيَّة مادة الابتداء لكونها متعلقاً, وأما كونها بصيغة المضارع أو الأمر أو الاسم الذي يكون خبراً لمبتدأ محذوف, فهذا مما لا يتعين في حدود ما ذكره من الدليل, فقوله: إنَّه يتعين الابتداء بصيغة المضارع خاصة, جزاف من القول.<BR>سؤال: لماذا قال: [بسم الله], ولم يقل بالله, أليس الاعتماد على الله مباشرة أفضل من الاعتماد على اسمه؟.<BR>جوابه من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّنا لو قصدنا ذات الله سبحانه كواقع فلا معنى لذكره إلا بطريق الإشارة إليه عن طريق أسمائه فنشير إلى الله باسم الله, ولو قلنا بالله لكنا ــ أيضاً ــ قد وسّطنا الاسم, وذلك؛ لأن اللغة تقتضي ذلك ولا فرق بحسب النتيجة أن نقول بالله أو بسم الله.<BR>الوجه الثاني: إنَّنا لو قلنا: بالله الرحمن الرحيم لقصدنا ذات الله سبحانه وعندئذٍ تسقط المعاني التفصيليَّة الموجودة في هذه الأسماء: الله, الرحمن, الرحيم. <BR>في حين إن الحكمة تقتضي أن تلحظ هذه الأسماء لحاظاً واضحاً, وان تقصد بعناوينها التفصيلية, ولا تكون لمجرد الإشارة إلى الذّات المقدسة, فالتركيز على هذه الأسماء لمدى أهميتها لا على الذّات, ولو كان التركيز على الذّات لانمحت استقلالية وتفاصيل هذه الأسماء, وهذا على خلاف الحكمة. <BR>الوجه الثالث: إنَّ الأسماء الحسنى يمكن أن تكون الواسطة بين العبد وربّه. فهل هناك واسطة فعلا بين العبد وربّه؟.<BR>أجابت النصوص الشريفة بثلاثة أجوبة, وكلها صحيحة:<BR>الجواب الأول: إنَّه لا واسطة بين العبد وربه, قال تعالى:[وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ][ ], وقال:[أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه][ ], فهو اقرب إليه من ذاته فضلاً عن غيره.<BR>الجواب الثاني: إنَّ الأئمة المعصومين ? هم الواسطة, فهم الشفعاء والأولياء, وقال في الدعاء خطاباً لهم[ ]:إرادة الربِّ في مقادير أموره تهبط أليكم وتصدر من بيوتكم والصادر عمّا فُصِّلَ من أحكام العباد.<BR>ولكنَّهم سلام الله عليهم لا يتصرفون بذواتهم الاستقلاليَّة بل بحقائقهم الواقعيَّة الفانيَّة في ذات الله سبحانه والله هوّ المسبب الحقيقي, فالأمر نازل من الله والتوجه منحصر إلى الله وإن كان ذلك بواسطة المعصومين, فالمعصوم ? موجود بحسب الحقيقة الثانيَّة وغير موجود بحسب الحقيقة الأولى فالواسطة موجودة لكنَّها بمنزلة العدم.<BR>الجواب الثالث: إنَّ الواسطة هي الأسماء الحسنى والله تعالى فتح لنا هذه الرحمة قال سبحانه: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا][ ], فندعوه بها لكي لا نُحرَم من تلك الرحمات المترتبة على الاستعانة بالله سبحانه.<BR>ولا منافاة بين هذا الجواب والجواب السابق, وذلك لأنَّ الأسماء الحسنى مستبطنة في الأئمة المعصومين ?, وهذا المجموع مستبطن وفاني في الله سبحانه, فهو موجود -كما قلنا- بصورة فنائيَّة لا بصورة استقلاليَّة.<BR>وعليه فقد اقتضت الحكمة أن يختار الله سبحانه للبسملة أوسع أسمائه الحسنى وأكبرها وأهمها كما قال في الدعاء: اللهم أني أسالك بأوسع أسمائك وأكبرها يا الله يا رحمن.<BR>سؤال: لماذا تبدأ سور القرآن الكريم بالبسملة؟.<BR>جوابه: ما ورد في فضل البسملة [ ] من: إنَّ كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله فهو ابتر. <BR>ونستنتج منه إن البسملة تنتج عدة آثار معنويَّة: <BR>منها: إنَّها توجب تكامل النتيجة وصفائها وخلوصها.<BR>ومنها: إنَّها تنفي عنها النقص والمحدوديَّة والظلمانيَّة فمثلاً: عند الأكل تنفى بالبسملة أضرار الطعام الماديَّة والروحيَّة, وكذلك عند الابتداء بالسور, بل بالابتداء بكل عمل فان كل عمل ينبغي أن يتكامل ويندفع سوؤه ببسم الله الرحمن الرحيم.<BR>والمفروض إن الإنسان ينبغي أن يكون في ذكر دائم لله تعالى والله تعالى, علِمَ إننا نعجز عن ذلك ولأجله طرحت الشريعة المقدسة أمرا يعوّض عن ذلك, وهو استحباب الذكر في أول العمل وفي آخره. <BR>أما الذكر في أوله فبالبسملة وأما الذكر في آخره فبالحمد, وورد[ ]: اللهم صل على محمد وآل محمد واختم لي بخير, فإذا كان العمل بادئاً بالذكر ومنتهياً به فيكون بينهما الفرد بمنزلة الذاكر.<BR>سؤال: ما هو مضمون البسملة ومدلولها؟<BR>جوابه: نحن لا نستطيع أن نحيط بالبسملة علماً؛ لأنَّ علومها أوسع وأعمق من أن ننالها بعقولنا القاصرة وإنما نلم بها إلماما.<BR>والشاهد على عظمة البسملة, ما ورد عن أمير المؤمنين ?[ ]: إنَّ علوم الكون كلها في القرآن وعلوم القرآن في السبع المثاني, وعلوم السبع المثاني في البسملة, وعلوم البسملة في الباء, وعلوم الباء في النقطة وأنا تلك النقطة. <BR>وحسب فهمي فان المراد: إنَّ علوم القرآن في الفاتحة مع زيادة في الفاتحة, وعلوم الفاتحة في البسملة مع زيادة في البسملة, وعلوم البسملة في الباء مع زيادة في الباء, وعلوم الباء في النقطة مع زيادة في النقطة.<BR>وأما ما هي تلك الزيادة فذلك ما لا يعلمه إلا علاّم الغيوب؛ لأنها فوق إدراك عقولنا القاصرة وربما يكون علمها عند قائلها سلام الله عليه.<BR>فعلوم الكون بجميع مراتبه عند أمير المؤمنين ?, وعلومه أكثر من علوم البسملة وعلوم البسملة أكثر من علوم الفاتحة وعلوم الفاتحة أكثر من علوم الكتاب الكريم الذي لم يفرط بشيء.<BR>وهذه الروايَّة تدلنا على مزايا أمير المؤمنين ?  وهي:<BR>أولا: إنَّ روحه وحقيقته العليا بسيطة حيث يقول: وأنا النقطة وإنَّ النقطة بسيطة هندسيا من حيث إنها ليست جسماً ولا سطحاً ولا خطاً, فهي بسيطة من جميع الجهات فهي مجرد فرض عقلي وليست مادة وهذه البساطة المشار إليها في الروايَّة بساطة فلسفية والنقطة ذات بساطة هندسية والبساطة الفلسفية مستقاة مجازا من البساطة الهندسية وإلاّ فإنَّ بساطة الروح لا تماثل بساطة النقطة إلاّ بعنوان البساطة. <BR>ثانيا: إنَّه سلام الله عليه جامع لكل علوم الكون غير علم الله سبحانه وقد فاق علمه على الأولين والآخرين وجميع المعصومين سلام الله عليهم أجمعين عدا الرسول الأكرم ? الذي هو مدينة العلم وعليُّ بابها.<BR>ثالثا: إنَّه ? أعلى مراتب الوجود. <BR>فقد قال الفلاسفة بقاعدة صدور الواحد عن الواحد فبالضرورة يخلق الله تعالى واحدا في المرتبة الأولى التي تتنزل عن ذاته سبحانه ثم هذا المخلوق الواحد يخلق الكثرة أي يُوجِد المتعدد, فهو بسيط ولكنَّه بالتحليل يكون أمرين: محمد وعلي, لأنهما نفس واحدة. بدليل قوله تعالى:[وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ][ ] فهو ? نفسه ولكنَّه غيره والكثرة عين الوحدة كما قيل في الحكمة المتعاليَّة. <BR>وليس هذا غريبا فنفس الإنسان واحدة ولكنَّها في - نفس الوقت- كثيرة ففيها القوة الغضبيَّة والشهوة والرغبات والحاجات ولكنَّها مع ذلك نفس واحدة. والكثرة عين الوحدة. <BR>ونستنتج من ذلك: إنَّ هذه الحقيقة النورية العليا هي أول الموجودات وأشرفها واقدرها وأعلاها واعلمها, وهي مسيطرة على جميع الموجودات بإقدار من الله سبحانه.<BR>وينبغي الالماع إلى أن كون علوم الفاتحة في البسملة.. إلى آخره, إنما هو معنى روحيا وليس ماديا ولا لغويا, لتعذر ذلك.<BR>ولان استطعنا ذلك في البسملة, فلا يمكن ذلك في الباء والنقطة كما هو واضح, فيتعين المعنى الروحي. <BR>ويحسن هنا الالتفات إلى نكتة فلسفيَّة وذلك إننا قلنا في ما سبق: إنَّ الروح بسيطة وان العلم مركب, فكيف يتعلق المركب بالبسيط الذي هو زائد عن ذاتها لأنها ليست كالباري عين ذاتها. <BR>ولابد أن نشير إلى أن هذا الأمر قد يعرض بصفته متعلقا بأمير المؤمنين ?؛ لأنَّ روحه العليا متضمنة لكل علوم الكون طبقا لهذه الروايَّة: وأنا النقطة, ولكن قد يعرض فيما هو أوسع من ذلك بشكل يشمل كل فرد من حيث إن العلم مركب في حين أن أي فرد فان عقله وروحه بسيط. <BR>وهذا له عدة أجوبه:<BR>الجواب الأول: أن نقول :إن العلم بسيط وليس بمركب والذي ندعيه من الكثرة والترتيب إنما هو في متعلق العلم, أي: في المعلوم فمجموع العلوم تمثل علما واحدا بسيطا وهو الذي يتعلق بالعقل الكلي أو الروح العليا وإنما يكون التركيب في تفاصيله.<BR>الجواب الثاني: لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بسراية التركيب في العلم, فنستطيع القول بان هذا العلم الذي يحل بالبسيط ليس هو العلم المتكثر, بل يحل بها على شكل إجمالي واندماجي, وتكون كثرته تحليليَّة كانحلال الكتاب إلى أوراق.<BR> ويمكن أن نضرب لذلك مثالين:<BR>المثال الأول: إنَّ اللفظ الواحد مفهوم إفرادي يدل على كثرة كالحائط والشجرة والكتاب, وكلُّ لفظ متكوِّن من حروف, وكل هذه المعاني متكونة من أجزاء.<BR>المثال الثاني: إنَّنا قلنا: إن علوم الفاتحة في البسملة وبررنا ذلك بأنَّ البسملة متضمنة لأوسع الأسماء وأكبرها وأهمها, وهيّ: الله, الرحمن, الرحيم؛ لأن لها نحو هيمنة على سائر المخلوقات. إذن, فهذه العلوم الكثيرة مستبطنة في هذه الأسماء الثلاثة ويمكن إندراجها في لفظ واحد وهو لفظ الجلالة بعنوان كونه دالا على الذات باعتبار أن الخلق كله دائم وقائم بالله سبحانه.<BR>فحينئذٍ, ندرك إن كل علوم الكون في لفظ الجلالة وحده الذي قد يُفَسَّر باسم الله الأعظم, ومعه فلا بأس أن يرجع الكثير إلى الواحد أو إلى البسيط.<BR>الجواب الثالث: إنَّ كل مخلوق فهو متكون من ماهيَّة ووجود, وكل منها يؤثر أثره الخاص به, فهل العلم يتعلق بالماهيَّة أو بالوجود؟.<BR> فهنا نقول: إنَّه يتعلق بالوجود, فإنه من صفاته ومن صفات الباري سبحانه وتعالى, وقد قال الفلاسفة: إنَّ الوجود كلما كان اشرف كان أكثر تحملا من القوة والعلم والحياة والتأثير.<BR>الجواب الرابع: إنَّنا لو تنزلنا وقبلنا انطباع العلم بالماهيَّة لا بالوجود وهي ماهيَّة بسيطة, إلا أن معنى البساطة ليست التفاهة والصغر والضآلة كالنقطة الهندسيَّة وإنما هو بمعنى عدم تحقق التحليل العقلي إلى رتب وأجزاء, وهذا لا ينافي في ضخامتها المعنويَّة وأهميتها فتكون متحملة للكثير كالوجود نفسه الذي قال الفلاسفة ببساطته, وقالوا: إنَّ الله صرف الوجود وهو في نفس الوقت لا نهائي العلم.<BR>سؤال: لماذا خُصَّت البسملة بهذه الأسماء الحسنى دون غيرها؟[ ]. <BR>وجوابه: قد تحصل مما سبق وبحسب فهمي: فإنَّ المتعيَّن هو ذكرها دون غيرها, أما لفظ الجلالة فلأنه الإشارة الرئيسية للذات المقدسة تبارك وتعالى فبسم الله أي باسم الذات, فلابُدّ من ذكر الذات أولا ثم التنزل إلى عالم الأسماء.<BR>وأمّا الرحمن: فلأنَّ رحمته وسعت كل شيء, فهو اسم واسع بسعة الله, أي: إنه أوسع الأسماء على الإطلاق, وكل اسم آخر فهو أكثر محدوديَّة منه أو مثله, ولا يمكن أن يكون أوسع منه.<BR>فقد اختار الله سبحانه في البسملة بعد لفظ الجلالة أوسع الأسماء, مضافا إلى انه تعبير عن الرحمة لا عن النقمة ورحمته تقدمت على غضبه. <BR>وبعد هذين الاسمين العامين ذكر اسما محدودا وهو الرحيم لأنه لم يبقى إلا الأسماء المحدودة, فالرحيم لا يشمل جميع الخلق بل يشمل المحسنين فقط كما قال سبحانه:[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ][ ], واختيار اسم الرحيم من الأسماء المحدودة لمزيتين: <BR>المزيَّة الأولى: مزيَّة الرحمة لأهميتها وتقدمها على الغضب, بل على الخُلق كله؛ لأنَّ الخُلق كله بالرحمة.<BR>المزيَّة الثانيَّة: إنَّه أهم الأسماء في طريق التكامل, فلا تكامل إلا بالرحمة الخاصة. <BR>هذا مضافا إلى تشاكل المادة اللفظيَّة والبلاغيَّة بين الرحمن والرحيم. <BR>وبهذا يتضح الجواب على هذا السؤال: لماذا ذكرت هذه الأسماء بهذا الترتيب. <BR>فإنَّه سبحانه بدأ بالاسم الدال على الذات المقدسة, ثم بأوسع الأسماء الحسنى الذي يشابه العلم في السعة والأهميَّة, ثم بالاسم الأضيق منهما هو الرحيم, وإمّا أن يقدم الصفة على الذات, أو أن يقدم الاسم الضّيق على الواسع, فهذا واضح الرداءة.<BR>سؤال: لماذا تكررت مادة الرحمة في السورة مرتين؟.<BR>جوابه: قال في الميزان[ ], الرحمن: فعلان, صيغة مبالغة تدل على الكثرة. والرحيم فعيل, صفه مشبهة تدل على الثبات والبقاء, ولذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر, وهو الرحمة العامة... ولذلك أيضاً ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة, والرحمة الثابتة الباقيَّة, التي تُفاض على المؤمن.<BR>أقول: ينتج من ذلك عدة أمور, أهمها:<BR>أولاً: إنَّ رحمة الله تعالى تتصف بكلا الوصفين, فهي واسعة ومنتشرة من ناحية, وثابتة ومستقرة وغير قابله للتزلزل من ناحية أخرى. <BR>ثانيا: إنَّنا يمكن أن نلحظ هذين الاسمين مستقلين, فهو تعالى رحمن وهو أيضاً رحيم, كما هو المتبادر العرفي في سائر الأسماء الحسنى, كالغفار والشكور ونحوها.<BR>ويمكننا أيضاً أن نركب بينهما فيكون [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] اسما واحدا, فنفس الرحمة واسعة وهي ثابتة فكأنهما صفتان لشيء واحد وهي مادة الرحمة. <BR>ومعه تكون النتيجة هي تصورنا للرحمة الواسعة والثابتة وذلك على احد شكلين:<BR>الشكل الأول: إنَّنا أن رجحنا جانب [الرَّحْمنِ] فيكون المعنى: إنَّ الرحمَة الواسعَة ثابتة وهذا صحيح. <BR>الشكل الثاني: إنَّنا أن رجحنا [الرَّحِيمِ] فتكون الرحمة الخاصة واسعَة, وهي إن لم تكن واسعَة لكل الخلق, ولكنَّها واسعة لكل مستحقيها وطالبيها, ولكل من [سعى لها سَعيَها وهو مًؤمِنٌ][ ]. فانه تعالى كريم لا بخل في ساحته. <BR>فيتحصل: إنَّ الرحمة الخاصة واسعة وان الرحمة الواسعة ثابتة, وكلا الأمرين يتحصلان بعد التركيب.<BR>سؤال: لماذا خصت مادة (الرحمة) بالذكر في البسملة؟.<BR>جوابه: ظهر مما ذكرناه من حيث أن الله سبحانه اختار بعدَ لفظ الجلالة, مادة الرحمة التي هي أوسع الأسماء وأكبرها, ويكفينا هنا أن نتذكر إن الخلق كله موجود بالرحمة, وإن رحمته وسعت كل شيء, وإن الرحمة هي الأساس في الكثير من الأمور التشريعيَّة والتكوينيَّة. وإن رحمته تقدمت غضبه وان النبي ? نبي الرحمة [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ][ ] إلى غير ذلك من المزايا. <BR>فالرحمة أوسع الأسماء وأكبرها, وفي مقابلها توجد أسماء من سنخين, كلاهما لا يناسب وجودها في البسملة:<BR>الأول: أسماء الغضب كالمنتقم والقهار, ولا يناسب وجودها في البسملة مع أسماء الرحمة. <BR>الثاني: الأسماء المختصة بموارد معينة وليست بواسعة مثل الغفار, فانه لا يشمل جميع الخلق بل يشمل المذنبين فقط. وقد اختار الله سبحانه ترك أمثال ذلك في البسملة. <BR>مضافا إلى أن كل الأسماء متضمنة للرحمة لا محالة, وهذا من جملة تفسير قوله: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ][ ] يعني: حتى كل الأسماء الحسنى.<BR> إذن, فالتعرض إلى الرحمة, تعرض لكل الأسماء أو للسمة العامة لها. <BR>فان قلت: إنَّ الرحيم ليس من الأسماء العامة الواسعة كالاسمين السابقين عليه في البسملة: [الله, الرحمن] من حيث ان الرحيم لا يشمل كل الخلق بل يختص بمستحقي الرحمة الخاصة, فكيف ناسب ذكره في البسملة؟. <BR>قلت: جوابه: ذلك على احد مستويين:<BR>المستوى الأول: بما ذكرنا من التركيب بين الاسمين: [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ], فإنهما بالانضمام يكون معناها[ ] واسعا, وموضوعها غير محدد بحد. <BR>المستوى الثاني: إنَّ الرحمة النازلة على الخلق لها أهميَّة لا يمكن الأعراض عنها على عكس الأسماء الأخرى كالستّار والشافي والمعافي وغيرها, فان هذه لها أهميَّة دنيويَّة زائلة أما الرحيم فان له قدسيَّة زائدة على قدسيَّة الأسماء الأخرى فالرحمة الخاصة أعلى وأوسع وأنور واكبر من أن نتصورها ولا يعلمها إلا علاّم الغيوب, ومن هنا استحقت أن تكون في البسملة وتتبع الاسمين الواسعين فيها.<BR>سؤال: ما معنى الاسم؟.<BR>قال السيد الطباطبائي في الميزان [ ]: وأما الاسم فهو اللفظ الدال على المسمى, مشتق من السمة بمعنى العلامة, أو من السمو بمعنى الرفعة. وكيف كان فالذي يعرف من اللغة والعرف انه هو اللفظ الدال, ويستلزم ذلك أن يكون غير المسمى. <BR>أقول: وعلى ذلك يكون معنى البسملة بالدوال على الله تعالى التي هي الأسماء الحسنى إذا أخذنا الاسم بمعنى العلامة, وإذا أخذناه بمعنى الرفعة كانت البسملة تمسكاً بعلو الله وبعظمته وبسمو الله الرحمن الرحيم.<BR>ولكن - حسب فهمي- فإن الاحتمال الأول وهو السمة هو المُرجَّح والأكثر انفهاما في البسملة, على انه يمكن أن يراد كلا الأمرين؛ لأن للقرآن بطونا فليكن هذا منها. <BR>ويمكن ترجيح الاحتمال الأول بعدة أمور منها:<BR>أولا: إنَّ الاسم مفرد الأسماء وبسم الله يجتمع: بأسماء الله, فهو من السمة لا السمو؛ لأن السمو لا يجمع على الأسماء, ولذا اتبع الاسم بالله الرحمن الرحيم فلو ضُمّت إلى قوله تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا][ ], لظهر إن المراد بالاسم مفرد الأسماء, ويكون الله الرحمن الرحيم مصاديق منه, يعني: كونها مصاديق من الأسماء الحسنى المذكورة في الآية الأخرى. <BR>والسيد الطباطبائي- ? - يفسر القرآن بالقرآن[ ], ولكنَّه غفل عن ذلك. من حيث أن الآية: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] تدل على أن المراد من الاسم هو السمة لا السمو.<BR>ثانيا: إنَّ الاسم إذا كان بمعنى السمة كان لتفاصيل الأسماء الثلاثة مجال فالله يلحظ كاسم مستقل وكذلك [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ], فكل منها له أهميته وسعته.<BR>أما إذا كان بمعنى العظمة, أي: بعلو الذات سقطت تفاصيل هذه الأسماء الحسنى ولم يكن لها شأن, وإنما تشير إلى الذات فقط فكان الاقتصار على واحد أولى. <BR>ولكن يمكن القول(كأطروحة): <BR>إن الاسم بمعنى العظمة ومدخول العظمة ليست الذات بل الأسماء, أي: بعظمة هذه الأسماء وسموها بعظمة لفظ الجلالة والرحمن والرحيم, وهنا اكتسبت تفاصيل الأسماء الأهميَّة من جديد لكل منها عظمة بحياله, ولكن مع ذلك نقول: إنَّ ذلك مخالف لأذهان العرف والمتشرعة حيث يقال عادةً: إنَّ الاسم مسند إلى الذات وهذه الأسماء إنما هي دوال على الذات ولا يراد عظمة الأسماء بل عظمة الذات, فإذا كانت العَظمة عظمة الذات سقطت تفاصيل الأسماء كما قلنا.<BR>وبالتالي ينبغي أن يكون الاسم ملحوظا بمعنى السمة؛ لتحفظ تفاصيل هذه الأسماء, مضافا إلى أن ظاهر السياق هو انحفاض تفاصيل الأسماء لا سقوطها, وإلاّ كان التعبير عن الله بأي اسم كافيا.<BR>سؤال: لماذا ذكر الاسم مفرداً لا جمعاً؟ مع أن مدخوله ثلاثة أسماء.<BR>جوابه: إنَّ ذلك لعدة أمور:<BR>الأمر الأول: الذوق, فلو قال بأسماء الله الرحمن الرحيم, لانمسخ السياق القرآني.<BR>الأمر الثاني: إنَّ المراد بالاسم: الجنس, أو اسم الجنس, وهو بمنزلة الجمع, لأنه متضمن لإفراده فيكون بمعنى الأسماء, فيكون تعدادها تفصيلا بعد إجمال. <BR>الأمر الثالث: إنَّ المراد من الاسم مدخوله المباشر وهو لفظ الجلالة, أي: بالاسم الذي هو الله, فالاسم مفرد يراد به مدخول مفرد, وأما الرحمن الرحيم فهيَ صفتان للذات الإلهية لا ربط لهما بالاسم وإنما أضيفا بعد ورود لفظ الجلالة.</P>

<P><BR>الأمر الرابع: يعرض كأطروحة قلما يلتفت إليها: <BR>وحاصلها: إنَّ الاسم هو كل ما يدل على الشيء, وأسماء الله إنما سميت أسماء لأنها دالة عليه وعلامة عليه, ومن جملة الأمور التي لها دوال وكواشف عن وجودها نفس الأسماء الحسنى, فهيَ أسماء وهي أيضاً لها أسماء الله, أي: دوال وكواشف عن وجودها.<BR> فنقول في هذه الأطروحة: إنَّ بسم الله أي: باسم الاسم الذي هو الله, فمدخول الاسم ليس هو الذات المقدسة بل الاسم, واسمُ اسم الله هو الرحمة لما له من السعة والعمق كما سمعنا وعُطِفَ عليه الرحيم لمناسبته له فيكون الرحمن اسماً للفظ الجلالة ودالا عليه.<BR> أو نقول: إن اسم الله هو المجموع المركب من [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ].<BR>الأمر الخامس: إنَّ الجمع المقترح هل هو محلى باللام أو بدونها؟ .<BR>لا يقال: إن اللام لا تجتمع مع الإضافة؛ لأنه يقال: إنَّه عندئذٍ ليس مضافا إليه بل بدل, ولكنَّه على كلا التقديرين باطل.<BR>فالمحلى بالألف واللام باطل:<BR> أولاً: لردائته ذوقاً. <BR>وثانياً: إنَّه تنتفي الإشارة إلى الذات وتصبح مجهول غير مشار اليها في السياق. <BR>وان كان مع عدمها: أصبح لفظ الجلالة دالا على الذات وبقي اسمان بعده فكان الأنسب هو التثنيَّة, وهو كما ترى. أو إن المقصود اسم واحدا وهو لفظ الرحمن, أي: بسم الله الذي هو الرحمن الموصوف بالرحيم فلا موجب للجمع لأنه اسم واحد. <BR>فان قلت: إنَّ التثنيَّة جمع في المنطق والفلسفة, وان لم تكن كذلك في النحو والبلاغة. <BR>قلنا: إنَّ العرف لا يعتبرها جمعاً والقران إنما نُزَّل عرفياً لا دقيّاً أو فلسفياً إلاّ في وقت الحاجة فيكون التعبير عن الاثنين بالثلاثة خلاف الظاهر, مضافا إلى انه شديد الرداءة من الناحيَّة الذوقيَّة والبلاغيَّة وعلى أيِّ حال يتعين الإفراد:<BR>فإما أن نقصد بالاسم المفرد: الجنس كما سبق فنعد مصاديق ثلاثة كلها من جنس الاسم: الله الرحمن الرحيم. <BR>أو نقصد به الفرد, ونريد به لفظ الجلالة, أي: بسم الله الذي هو الرحمن الموصوف بالرحيم أو يراد به كلا الاسمين: [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ].</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P>***?<BR>سورة الناس</P>

<P>يقع الكلام في تسميتها, فان لها عدة أطروحات:<BR>الأولى في تسميتها المشهورة: النَّاسِ, من حيث أن المفروض تسمية السورة بأيِّ لفظ وارد فيها وهذا منها.<BR>الثانيَّة: ما سار عليه السيد الشريف الرضي في كتابه حقائق التأويل فنقول: السورة التي ذُكر فيها الناس.<BR>الثالثة: ما اقترحه بعضهم من تشخيص السورة بالترقيم ورقمها بحسب التسلسل القرآني الحالي 114.<BR> الرابعة: تسميَّة السورة بأول جملة فيها فنقول سورة: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ].<BR>وأما الكلام عن البسملة قد سبق وبه نستغني عن تكراره في صدر كل سورة.<BR>سؤال: [قُلْ], ما هو الموجب لذكرها هنا؟.<BR>جوابه: إنَّه ورد لفظ [قُلْ] في القرآن الكريم [332] مرة[ ]. وأعتقد أنها وردت لثلاث أغراض:<BR>* الغرض الأول: التبليغ إلى الناس, ومنه قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ][ ]و[قُلْ مَا يَعْبَؤ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ][ ].<BR>* الغرض الثاني: نفع المأمور بالقول, أي: القائل له حيث يأمرنا سبحانه أن نقول: الله أحد الله الصمد لنفعنا ولأجل أن نعرف التوحيد وأن نعرف نسبة الرب ونحو ذلك. <BR>* الغرض الثالث: عدم مناسبة نسبته إلى الله سبحانه, فالاستعاذة إنَّما هي للمخاطب دائماً وهي شيء أدنى من أن ينطق بها الله سبحانه عن نفسه؛ لأنَّه تعالى منيع لا يتضرر ولا يخاف.<BR>وهذا هو الفرق بين المعوذتين, وسورة التوحيد فإنَّ الله تعالى شهد لنفسه بالتوحيد في قوله: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ...][ ]؛ لأن التوحيد يناسب أن ينطقه الخالق والمخلوقات معاً فالله يقول: [اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ]( ) , بينما الاستعاذة خاصة بالمخلوق, فلا بُدَّ أن تكون لفظة قُل: موجودة.<BR>وعلى أيِّ حال, فكلا الغرضين الأخيرين متحققان لنا, في هذا المورد فلا يمكن حذف[قُلْ], بخلاف مثل قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ][ ] وقوله: [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ][ ].               <BR>ونحوها من فواتح السور فإنَّه يناسب صدورها من الباري نفسه.<BR>سؤال: قالوا في علم الأصول: إنَّ صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب, ومن المعلوم أن [قُل] هي من صيغة الأمر, فهل هي ظاهرة بالوجوب أو في مطلق المطلوبيَّة, أعني: الأعم من الوجوب والاستحباب؟.<BR>جوابه:أنه يمكن إقامة عدة أطروحات على أن[قُل] لا تدل على الوجوب. <BR>الأطروحة الأولى: إنَّ المراد منها الأثر الوضعي (الدنيوي أو الأخروي) وهو دفع الشر والاستعاذة بالله من حصوله وليس المراد منها الحكم ألتكليفي, والوجوب هو حكم تكليفي لا وضعي فلا تكون دالة عليه.<BR>الأطروحة الثانية: إنَّ صيغة الأمر أنَّما يراد بها الوجوب في ما لا يقع في مورد احتمال الحظر, وأمّا إذا كان في ذلك المورد فيراد بها الإباحة كما في قوله تعالى: [ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ][ ], أي: يجوز لكم الصيد, لا أنه يجب عليك, فإذا التفتنا: إن احتمال الحضر موجود في مورد الآية فانه قد يتصور الإنسان انه لا يجوز له أن يستعيذ من الشر أو الخطر، بل يجب عليه التسليم والرضا بقضاء الله سبحانه، أو قد يعتبر ذلك شكلاً من أشكال إساءة الأدب أمامه سبحانه, فجواباً على ذلك يُجيز لنا الله تعالى أن نستعيذ به عندما نقع في ضرر أو ضرورة.<BR>إذن, فالإستعاذة هنا في مورد احتمال الحظر, فيكون الأمر بها دالاً على الإباحة لا على الوجوب.<BR>الأطروحة الثالثة: إنَّ هذا بمنزلة الأمر التقديري أو التعليقي وليس صريحاً, كما لو قال: إذا أردت الاستعاذة فقل كذا, فيكون معلقاً على أمرٍ غير واجب فلا يكون للوجوب. كما لو قيل: إذا قمت للنافلة فتوضأ أو إذا أكلت فقل: بسم الله. وهنا: إذا وقع عليك الشر والضرر فقل أعوذ برب الناس فهو ليس ابتدائياً, بل هو منوط بشعور الفرد بالخوف والعجز والحاجة, والمفروض بالمؤمن أن يكون دائم الشعور بالحاجة إلى الله سبحانه.<BR>إن قُلتَ: إنَّ هذه التعليقيَّة لا تنافي الوجوب, بل تكون موضوعاً له كما في قولنا: إذا استطعت فحج.<BR>قلنا: إنَّ ذي المقدمة لما لم يكن واجباً, لم تكن المقدمة واجبة. وهنا ليست الاستعاذة إلزاميَّة في نفسهاولا يحتمل وجوبها في الارتكاز المتشرعي, فلا يكون النطق بها واجباً أيضاً, وهذا قرينة على أن [قُلْ] ليست للوجوب, وإنما هي للحكم الوضعي أو للاستحباب أو لجامع المطلوبيَّة بعنوان إظهار الضعف والخضوع أمام الله سبحانه. قال الله تعالى: [وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً] [ ] إذن, ففعل الأمر هذا لا يدل على الوجوب من الناحيَّة الفقهية وإن كان دالاً عليه من الناحيَّة الأخلاقيَّة.<BR>فإن قلت: إنَّ قراءة السورة والاستعاذة بها مقدمة لدفع الخطر فينبغي أن نحمل [ قُل] على الوجوب لا على الاستحباب. <BR>قُـلتُ: جواب ذلك من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ هذا يختص بالخطر الواجب الدفع وهو المتصف بأمرين: أن يكون داهماً وعظيماً وأن يكون ممكن الدفع, وليس كل خطر ممكن الدفع على أيِّ حال فإذا لم يكن الخطر كذلك لم يكن واجب الدفع, فلا تكون مقدمته وهي الاستعاذة واجبة.<BR>الوجه الثاني: يختص الوجوب ــ على تقدير ثبوته ــ بما إذا كانت قراءة السورة مؤثرة في دفع الخطر عنه.<BR>وذلك فيما إذا كان الإنسان بدرجة عاليَّة من درجات اليقين, وأما لو كانت قراءته لها غير مؤثرة كما هو الحال في أغلب الناس, فلا تكون مقدمة لدفع الخطر, فلا تكون قراءتها واجبة. <BR>الوجه الثالث: إنَّه بعد التنزل عن الوجهين السابقين, قلنا: إنَّ [قُـلْ] هي لجامع المطلوبية فإن استعملت للحصة الاستحبابية كانت مصداقاً للجامع, وإذا استعملت بالحصة الوجوبية كانت مصداقاً له أيضاً. وكلاهما إستعمال حقيقي بنحو الاشتراك المعنوي وليس بنحو الاشتراك اللفظي.<BR>ونظيره من القرآن قوله تعالى: [إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ][ ] لدى تطبيقه على الفريضة تارة وعلى النافلة أخرى. <BR>سؤال: لماذا نُسبت هذه الأسماء الُحسنى إلى الناس, وأختص بذكرهم دون غيرهم كالعالمين فقال تعالى: [إِلَهِ النَّاسِ], ولم يقل اله العالمين مثلاً, وكان التركيز على الناس ثلاثاً في السورة.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>أولا: عدم وجود كلمات لغويَّة عديدة تناسب التناسق السيني الموجود في السورة الكريمة إلا الناس والخناس.<BR>ثانياً: الاهتمام والتركيز على الناس؛ لأن الاستعاذة إنما هي لهم لا للملائكة ولا للحيوانات؛ لأن الملائكة أعلى من الشعور بالخوف والحيوانات أدنى من ذلك.<BR>ثالثاً: إنَّ كل رحمة أنما هي لموضوعها, والاستعاذة رحمة, وموضوعها الناس وذلك لأجل العموم والخصوص, فالعموم للناس كلهم والخصوص بهم دون سواهم.<BR>فالاستعاذة تكون معقولة من زاويتين: من زاويَّة العبد لكونه مستعيذا ومن زاويَّة الرب سبحانه؛ لأنه عائذ وراحم ومجيب الدعاء فيجيب دعاء العبد بصفته واحداً من الناس.<BR>رابعاً: إنَّ هناك مصلحة في تكرار كلمة الناس في زيادة التركيز والاهتمام بهذه الطبقة التي تدعي الكمال وليست كاملة, فالكاملون [لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاَّ اللَّهَ][ ] ولا تخطر في ذهنهم الأسباب والمخاوف الأخرى ليجدوا حاجة إلى الاستعاذة, وإنما الاستعاذة للمتدنين ثقافيا وإيمانيا وعمليا وهم من يشعر بالخوف من الأسباب وهذا هو من درجات الشرك الخفي.<BR>قال الله تعالى: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ][ ] وقد أشرنا في درس الأصول إلى نكتة يحسن ذكرها هنا:<BR>وهي إن لفظ الناس استعمله في القرآن الكريم وأراد به البشر المتدنين في الإيمان والثقافة والمقتربين إلى الذنب والرذيلة قال تعالى: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ][ ], وكلا الاستعمالين للناس هنا كذلك, والأعم الأغلب من الآيات القرآنيَّة التي ذكرت الناس كذلك, فإذا استطعنا القول إن الأعم الأغلب يكون قرينة على غيره, فيكون ذلك قرينة على أن المراد بهم في هذه السورة أيضاً ذلك. <BR>ولأنَّ الله سبحانه وان كان هو اله كل الناس, وملك كل الناس ورب كل الناس بمختلف مستوياتهم, إلاّ أنَّ الذي يقصد الاستعاذة هو الذي يشعر بالخوف, وهم طبقة غير عاليَّة في درجات اليقين.<BR>سؤال: لماذا كرر الناس عدة مرات ولم يعد الضمير لهم في المرتين الأخيرتين[ ]؟. <BR>جوابه: مضافاً إلى ما قلنا في أجوبة السؤال السابق من ضرورة حفظ النسق القرآني السيني أولاً, وبيان الاهتمام والتركيز على الناس ثانياً, وحفظ السياق القرآني في السورة ثالثاً, وحفظ الذوق العام اللطيف فيها رابعا ً.<BR>مضافاً إلى كل ذلك, قال صاحب الميزان[ ]: وبذلك يظهر تكرار الناس من غير أن يقال: ربهم وإلههم وملكهم فقد أشير إلى كلاً من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الآخرين لاستقلالها, أي: استقلاليتها في دفع الشر, فكل واحد منها له استقلاليَّة, وإنَّما اجتمعت كلَّها لمزيد الرحمة والعطاء, ولو ذُكر الضمير لكان المنظور جملة واحدة أو شيئاً مجملاً, فاقداً للإستقلاليَّة.<BR>هذا مضافاً إلى وجهين آخرين محتملين:<BR>الوجه الأول: إنَّ هذه الأسماء الحسنى إنَّما تكون مؤثرة في الإستعاذة إذا أسندت إلى الظاهر دون الضمير.<BR>الوجه الثاني: إنَّها لو أسندت إلى الضمير اقتضت التعاطف بالواو بأن يقول: رب الناس وإلههم وملكهم ونحو ذلك ولا معنى لحذف الواو عندئذٍ مع العلم إنَّ الحكمة اقتضت حذفه فلزم ذكر الظاهر من أجل ذلك.<BR>سؤال: لماذا ذكرت الأسماء الثلاثة, ولم يكتف بواحدٍ منها؟.<BR>جوابه: من عدة جهات, منها:<BR>أولاً: ما أشرنا إليّه من زيادة الرحمة في البشر المستعيذين من الشر.من حيث ان دفع الشر وإن كان يحدث في واحد من الأسماء, إلا أن دفعه ثلاث مرات أو بثلاث أسماء أوكد وأشد وأسرع.<BR>ثانياً: زيادة التركيز لذات الله سبحانه فهو اله ورب وملك, وقد يجمع هذه الصفات كلَّها لنفسه, وكان من الحكمة التنبيه على ذلك, قال تعالى: [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ][ ].                 <BR>ثالثاً: وهو ماندفعه كأُطروحة لدفع الاستدلال المقابل:<BR>إنَّ هذه الأسماء قد تكون مفردة, كما هو مشهور المفسرين, وقد تكون مركبة فإله أسمٌ مفرد. ولكن [إِلَهِ النَّاسِ] أسم آخر وكذلك [مَلِكِ النَّاسِ] و [رَبِّ النَّاسِ]. إذن, يوجد في السورة ثلاث أسماء مركبة.<BR>وهنا, لابدَّ من ضم فكرة أُخرى كأُطروحةٍ أيضاً,وهي:<BR>إنَّ الأثر لا يؤثر ولا يحصل إلاَّ بضم هذه الأسماء الثلاثة كلِّها فلا بد من الاستعاذة بهذا المجموع كمجموع لكي يندفع الشيطان الرجيم, في مقابل ما رجحه صاحب الميزان[ ] وأشرنا إليه قبلاً من استقلاليَّة هذه الأسماء وتأثير كل واحد منها بإ نفراده.<BR>سؤال: لماذا حذفت الواو  العاطفة بين هذه الأسماء الثلاثة؟.<BR>جوابه: من وجوه:<BR>أولاً: إنَّه هو الأنسب بالذوق والسياق القرآني ويكفينا في ذلك أن نلتفت إلى صورة ما إذا كانت الواو العاطفة موجودة فكم سيكون السياق مخالفاً للذوق؟.<BR>ثانيا: إنَّ المسألة اختياريَّة للمتكلم وقد أشرنا في المقدمات إننا ليس لنا أن نعترض على المتكلم فيما يقول أياً كان.<BR>ثالثاً: ابراز هيبة وهيمنة هذه الأسماء الحسنى, سواء قلنا أنها مفردة أم مركبة وهو جانب بلاغي, إذ مع وجود الواو يتضاءل هذا الجانب بلا شك.<BR>رابعاً: ما أشار أليه الطباطبائي في الميزان[ ]: إنَّه لأجل جعل كل من هذه الصفات هي سبب مستقل في التأثير بينما لو عطف بالواو لكان السياق مشعراً بأن المجموع هو المؤثر. <BR>قوله تعالى: [مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ], الوِسوَاس ِ بالكسر مصدر أو صفة مشبهة: حديث النفس كالصوت الخفي الذي يشعر به الفرد في داخله كالوسوسة, وأما بالفتح فلا يمكن أن يكون بنفس المعنى, وإلاَّ كان مخلاً بالاشتقاق على ما سيأتي.<BR>والخناس صفة مبالغة من الخُنُوس, بمعنى الإختفاء بعد الظهور, يعني: كثير الاختفاء بعد الظهور وهو ملازم لكثرة الظهور أيضاً؛ لأنَّه إذا قلَّ ظهوره عدداً قلَّ خنوسه أيضاً.<BR>سؤال: لماذا خُصَّ الشر بالذكر؟.<BR> جوابه: لأنَّ أصل وجود الشيطان لنفسه نعمة وخير ولا تكون الإستعاذة من ذات الشيطان, بل من تأثيراته السيئة على الإنسان.<BR>فإن قلت: فإنَّنا نقول كما ورد[ ]: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فيكون استعاذة من ذاته لا من شرِّه.<BR>قلنا: إذا لم يكن الشر مذكوراً فهو مقدَّر ومقصود لا محالة؛ لعدم الداعي إلى الإشارة إلى الشيطان بصفته أحد الموجودات فحسب.<BR>سؤال: الوسواس, مصدر ــ كما عرفنا ــ بمعنى حديث النفس فينبغي أن يكون بالكسر مع أنَّه ورد في القرآن بالفتح.<BR>جوابه: <BR>أولاً: إنَّ المصدر قد يفتح وقد يكسر في اللغة.<BR>ثانياً: إنَّ الوَسوَاسَ بالفتح ليس معناه المصدريَّة, بل هو صيغة مبالغة من أسم الفاعل, أي: الموسوس. وهذا أقرب إلى الحدس, فلذا لا نضطر إلى تقدير مضاف, أي: ذي الوسواس كما ذكروا, فمعنى الوسواس الخناس: الموسوس الخناس.<BR>وإذا قلنا: إنَّ الوسواسَ بالفتح بمعنى الوسواس بالكسر, وهو معنى مصدري فسيكون الألف واللام داخلاً على المضاف وهو باطل, وبالإيضاح: يكون بمعنى وسوسة الخناس ودخول الألف واللام على المضاف غير ممكن في اللغة.<BR>اللّهم إلاَّ إذا لم يكن بمعنى المصدر, أو يكون بتقدير (ذي), أي: ذا الوسوسة الخناس بينما يكون بناء على ما ذكرنا بمعنى الموسوس والخناس صفة أخرى وليس مضافاً إليه.<BR>في الروايَّة في مصادر الفريقين[ ]: إنَّ الشيطان جاثم على قلب كلِّ إنسان, فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس, والوسوسة كلام يشعر به الإنسان في ذاته, لذا يقول الشاعر:</P>

<P>إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنَّّما               جعل اللسان على الفؤاد دليلاً </P>

<P>فالإنسان يستطيع أن يتحدث مع نفسه ويشعر كأن أحداً في باطنه يتحدث معه. فإذا كان هذا الحديث باطلاً, فهو من الوسوسة. <BR>ومحل الشاهد: إنَّ عمل الشيطان ليس الوسوسة فقط, بل يعمل أعمالاً عديدة في باطن النفس ولذا كانت الاستعاذة من شرِّه مطلقاً, وليس الأمر خاصاً بالوسوسة.<BR>سؤال: إنَّه قد يشعر الفرد بأنَّ الإستعاذة من خصوص الوسوسة لا من مطلق أعمال الشيطان وذلك من قبيل قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ][ ], أي: أحمده بهذه الصفة ولأجل كونه فاعلاً لهذا الفعل, وإلاَّ فمن الناحيَّة اللغويَّة والعرفيَّة إن [الَّذِي] صفة والله موصوف ولا دخل له بهذه الجهة. <BR>إلاَّ أنَّ الإشعار العرفي هو أنَّ الحمد بهذا السبب وفي القرآن والأدعيَّة والسيرة اللغويَّة شواهد كثيرة على ذلك. <BR>فهل تنطبق مثل هذه الفكرة على قوله تعالى: [مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ], أي: من حيثيَّة الوسوسة دون غيرها؟<BR> جوابه: من وجوه:<BR>أولاً: إنَّه يمكن فهم الإطلاق من كلمة [شَرِّ] في الآية الكريمة وهي عامَّة لكل الشرور وغير خاصَّة بالوسوسة.<BR> ثانياً: إيجاد الفرق بين هذه الآية وتلك من حيث أنَّ قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِيَّ عَلَى الْكِبَرِ]( ), مشعر بالخصوصيَّة لوجود أسم الموصول الذي, وهو لا يوجد في الآية التي تتحدث عنها, إذن فهذا الاستشعار غير لازم.<BR> ثالثاً:إنَّ أهم وأوضح أعمال الشيطان هي الوسوسة بإعتبار أنَّها مما يسمع ويشعر بها الفرد دون باقي أعمال الشيطان, فليس من المستبعد أن تكون مقصودة وحدها بعد التنزل عن الوجهين السابقين.<BR>رابعاً: إنَّنا ينبغي أن نلتفت إنَّه ليس في الآية (مفهوم مخالفة) بحيث يقال: إنَّ الاستعاذة فقط من الوسوسة دون غيرها, ومعه لن يكون المعنى نفي الاستعاذة عن غيرها على أيِّ حال.<BR> خامساً: نعرضهُ كأطروحة باعتبار احتمال كون الاستعاذة من الوسوسة هي الأساس والسبب الرئيس لدفع الشرور الأخرى, فإذا اندفعت أنسدَّ الباب عن أعمال الشيطان الأخرى.<BR>قوله تعالى: [الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ], يوجد إشكال في هذه الآية الكريمة لعل المفسرين لا يجيدون الجواب عليه وهو ما إذا كان الشيطان يخدع الإنسان والجن معا حيث قالوا: إنَّه لا يوسوس إلا للإنس, فهل هذا صحيح؟.<BR> قال الطباطبائي في الميزان[ ]: [مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] بيان الوسواس الخناس. <BR>أقول: مع العلم إن بينهما فاصل آيَّة كاملة, فيكون المعنى على تقدير صحته: <BR>إن الشيطان الذي هو من الجنة والناس, يوسوس في صدور الناس, أي: البشر فقط.<BR>وقال[ ]: وفيه إشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين وفي زمرتهم, كما قال تعالى: [شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ][ ]. <BR>أقول: فكإنَّ الاستعاذة تكون من كلا هذين القسمين.<BR>وجواب ذلك, ولو كأطروحة احتماليَّة:<BR>إنَّنا قلنا: إنَّ الوسواس هو حديث النفس وهذا قرينة على أن من يقوم هو الشيطان بالمعنى المعروف, فإن شياطين الإنس لا يوسوسون وإنما يتحدثون بكلام مسموع فلا يكون وسواساً. مضافاً إلى أن الخناس هي صفة للشيطان وشياطين الإنس لا يخنسون إذن, فشياطين الإنس غير مقصودين من السورة بل لا بد بهذه القرائن المتصلة من حمل [الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ] على الجن؛ لان الشيطان [كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ][ ].<BR>وهذا يدلنا على ان السياق ينفي ما قالوه من أن الشيطان يؤثر على الإنسان فقط, بل انه يوسوس في صدور الناس الذين هم [مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] فالجنة والناس ليست صفة منقطعة للوسواس الخناس, كما قال صاحب الميزان[ ], بل هي صفة متصلة للناس.<BR>قال في هامش العكبري[ ]: إنَّ إطلاق [النَّاسِ] على الجن غير مناسب, وذلك لان الجن إنما سموا بذلك لإختفائهم وإنما يسمي الناس ناساً لظهورهم, وهذا تهافت. <BR>وجواب ذلك: إنَّنا لا نسمي الناس ناساً لظهورهم, بل لكونهم أفراد متعددين يشكلون طبقة أو مجتمع أو نحو ذلك, وهذا موجود في الجن والإنس معاً على ما ينقل من صفاتهم, هذا أولاً.<BR>وثانياً: إنَّ الاستعمال يمكن أن يكون مجازياً في إطلاق الناس على الجن, بعد وجود قرائن سياقيَّة عليه. <BR>فإن قلت: إنَّ الشيطان لا يوسوس في صدور الجن؛ لأنه لا يناسب معهم وذلك لأمرين:<BR>الأمر الأول: لأنه ليس عدوهم وإنما عدو أدم وذريته بنص القرآن[ ], ولم يذكر القرآن إنه عدو الجن.<BR>الأمر الثاني: إنَّ الجن يرونه, أعني: الشيطان, والإنس لا يرونه. قال تعالى: [إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ][ ].<BR>وإذا رآه الجن استطاعوا أن يهربوا منه لئلا يخدعهم بينما الإنسان لا يستطيع ذلك لأنه لا يراه, بل يسمع كلامه ويطيعه؛ لأنه مناسب لشهواته.<BR>قلت: أما أولاً: فصحيح إن الشيطان عدو لأدم وذريته, ولكن يمكن القول بأنه عدو لأهل الإيمان خاصة أيا كانوا من الملائكة أو من الجن أو من البشر أو من أيِّ خلق الله, إذن فهو عدو مؤمني الجن؛ لأنهم يؤمنون بعدوه وهو الله سبحانه وتعالى وكل مؤمن بعدو فهو عدو كما قيل في الحكمة[ ]: عدوك ثلاثة عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك.<BR>ويكون بين مؤمني الجن والشيطان عداوة؛ لأنهم مخلصون لله عز وجل وليس في القرآن (مفهوم مخالفة) من هذه الجهة, يدل على أنه عدو للبشر وليس عدوا للجِّنِ, إذن فعداوته للجن مما لا مانع منها كأطروحة.<BR>وأما ثانياً: فإن الأمر الثاني خطل من القول, فإن الإنسان لا يهرب ممن يخدعه من البشر بالرغم من انه يراه, بل يعتبره ناصحاً له وموجهاً؛ لأنه موافق لرغباته ونفسه الأمارة بالسوء.<BR>فإذا أعترف الطباطبائي بوجود شياطين من الإنس, وهم أعداء كشياطين الجِنّ, إذن فالهرب من كلا الجنسين قد لا يكون متحققاُ.<BR>بل ظاهر القرآن الكريم أن الشياطين من كلا الجنسين يخدعون كلا الجنسين. قال تعالى: [شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً][ ] وهذا يعني: إنَّ الصورة التي نعتبرها غريبة لها نحو من التحقق أيضاً, وهي مكر الإنس بالجن وخداعهم لهم وظاهر الآية الكريمة إن ذلك لا يقتصر على مؤمني الجن, بل على شياطينهم أيضاً!! <BR>الوجوه الإعرابيَّة للآيَّة الكريمة:<BR>قال أبو البقاء العكبري[ ] قوله تعالى: [مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] قيل: هو بدل من شرِّ أي: من شر الجُِنة.<BR>أقول: أعتبره بدلا لكون الواو العاطفة غير موجودة فلم يعتبره معطوفاً. وقوله: قيل, أي: إنه قابل للمناقشة وذلك: لأنَّ البدل هو لفظ فرادي, وأما كون الجار والمجرور بدلاً فهو على خلاف القاعدة.<BR>وإذا سقط ذلك فيمكن أن يكون معطوفاً بحذف حرف العطف, إذا فهمنا أنه مربوط بالشرّ, فيكون بتقدير أمرين: الواو العاطفة وتكرار الشر فيكون المعنى: ومن شر الجنة ومن شر الناس.<BR>وقال العكبري أيضاً[ ]: وقيل بدل من ذي الوسواس؛ لأن الموسوس من الجِّنة. <BR>أقول: هنا عنوان البدليَّة غير وارد؛ لأنه جار ومجرور كما ذكرنا, ويمكن أن يكون صفة أو حالاً أو معطوفاً بحذف حرف العطف.<BR>وقال[ ]: وقيل: هو حال من الضمير في يوسوس أي: يوسوس وهو من الجِّنة.<BR>أقول: أي حال كونه من الجِّنة والناس, فيكون المعنى: من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس وهو إمّا من الجِّنة وإمّا من الناس, أي الموَّسوِّس لا الموَّسوَّس له وهو ينطبق على أحد المعاني التي ذكرها.<BR>وقال[ ]: وقيل: هو بدل من الناس أي في صدور الجِّنة.. وقيل: [من الجِّنة] حالٌ من الناس.<BR>أقول: يكون المعنى إنَّه يوسوس في صدور الناس من الجِّنة والناس, أمّا بمعنى كون الناس موصوفين بكونهم من الجِّنة والناس,وأمّا أنَّه بدل من الجِّنة والناس أو حال كونهم من الجِّنة والناس, فذلك كله محتمل ومعناه: إنَّه سبحانه سمّى الجن ناساً كما سمىّ الناس ناساً أعني: البشر, وذلك لا ضير فيه و كما سماهم نفراً ورجالاً.<BR>وقال العكبري أيضاً[ ]: وأطلق على الجنِّ أسم الناس لأنَّهم يتحركون في مراداتهم, والجن والجِّنة بمعنى.<BR>أقول: وهذا يعني بلغتنا الحديثة أموراً منها:<BR>أولا: إنَّهم ذوات عاقلة ومختارة.<BR>وثانياً: إنَّهم أيضاً ينقسمون إلى ذكور وإناث بحسب النقل الأكيد, كما إنَّهم يعيشون بالتقريب لا بالتحديد مثل معيشتنا.<BR>فإذا كان الأمر كذلك فهم [رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ][ ] وليس النساء من الجنسين.<BR>والحق, إنَّ الإستعاذة ليست بشيء من الخلق, بل بالخالق جل شأنه؛ لأنَّ الإستعاذة بالخلق نتيجتها الفشل: [فَزَادُوهُمْ رَهَقاً][ ] وكذلك الإستعاذة بالجن, بل بأيِّ مخلوق فإنَّ من استعاذ بغير الله فإنَّه يوكل إلى من أستعاذ به ويفشل بطبيعة الحال؛ لأنَّه لا يملك لنفسه دفعاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وإنَّما: [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ] أي: بالله لا بأحد سواه.<BR>سؤال: إنَّه من الملاحظ انَّ النسق في سورة الناس فيه كلمتان: الناس والخناس, والناس مكررة أربع مرات.<BR>فلماذا حصل ذلك؟.<BR>جوابه: له عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: قصور اللغة أحياناً كما أشرنا في المقدمة فإنَّه لا توجد كلمة ثالثة تختم بالحروف الثلاثة (ناس), فتعينت الحاجة للتكرار.<BR>الوجه الثاني: التأكيد من حيث اقتضاء المصلحة له يعني: أن يكون المقصود في الجميع وأحداً, باعتبار ذكر الله سبحانه: [بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ].<BR>الوجه الثالث: إنَّ الكلمة وإن أريد بها معنىً وأحداً, إلاّ أنَّه بقيدها تصبح ذات معنى آخر؛ لأنَّهم قالوا في الأصول: إنَّه يتكون من النسبة الناقصة مفهوم جديد مقيد وهذا من موردها.</P>

<P><BR>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P>سورة الفلق</P>

<P>وفي تسميتها نفس الأُطروحات التي سبقت في سورة الناس, فراجع وطبق. <BR>وهي اقلُّ نسقاً من سورة الناس؛ لأنَّ فيها حرف القاف, والباء, والدال, في نهايات الآيات, ولكنَّها متحدة في الروي وهو فتح ما قبل الآخر مضافاً إلى الوقف بالسكون عند نهايات الآيات كما هو مستحب شرعاً. <BR>والفلق بالسكون مصدر يراد به التفريق بين جزئين من شيء واحد.<BR> قال الراغب[ ]: الفلق شق الشيء وابانة بعضه عن بعض, يقال فلقته فانفلق. <BR>قال تعالى:[ـ فَالِقُ الإِصْبَاحِ ـِ إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ـ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ].<BR>والفلق بالفتح: صفة مشبهة بمعنى اسم المفعول أي: مفلوق, كالقصص بمعنى المقصوص.<BR>أقول: ويمكن أن يتخذ معنى الفلق في السورة احد أمور ثلاثة:<BR>الأول: فلق الصبح, باعتبار إن ضوء الفجر يفلق ظلام الليل ويقسمه إلى قسمين.<BR>الثاني: الخلق أو الوجود؛ لأن الوجود يفلق العدم ويبدده. <BR>الثالث: جب في جهنم يتعوذ أهل النار من شدّة حرِّه على روايَّة ضعيفة ذكرها في مجمع البيان[ ].<BR>ونستفيد من المعنى الأول: إنَّ رب الفلق أي: رب الصبح أو الفجر وهذا الوقت لعله أفضل الأوقات من الناحييتين الدنيويَّة والأخرويَّة. <BR>أما من الناحيَّة الدنيويَّة فباعتبار أن انفلاق الفجر أمر عجيب إذ يحصل الضوء في ظلام دامس ثم يتدرج إلى أن يصبح نهارا, وتتكرر هذه الحالة في كل يوم ففي ذلك عبرة وفضل من الله تعالى.<BR>وأما من الناحيَّة الأخروية فلما هو معروف في الشريعة من إن مابين الطلوعين أفضل الأوقات للتوجه والذكر والدعاء. <BR>أما على المعنى الثاني فيكون المعنى: رب المخلوقات كلها أو رب كل شيء أو رب العالمين.<BR>والمعنى الأول وان كان اقرب إلى الذوق ولكن فيه نقطتا ضعف: <BR>النقطة الأولى: إنَّه أضيق من المعنى الثاني وعلى هذا يكون المعنى الثاني        ــ من الناحيَّة الاعتباريَّة ــ انسب بالله سبحانه. <BR>النقطة الثانيَّة: إنَّ محصل الآية في المعنى الأول يكون: أعوذ برب الصبح من شر الخلائق كلها فتكون هنا الإشارة إلى الذات بذكر مزيَّة لها وهي: انفلاق الفجر.<BR>بينما يكون التناسب بين الآيتين بناءا على المعنى الثاني, ألطف وأكثر انسجاماً أي: أعوذ بالخالق نفسه الذي هو اعلم بالمخلوقات كلها من شر المخلوقات كلها في الدنيا والآخرة, فتكون الاستعاذة انسب بالله سبحانه وتعالى.<BR>وهنا قد يقال: إنَّ الشر غير موجود في الخليقة, فهل يستعاذ من شيء غير موجود؟.<BR>وجواب ذلك: إنَّ للفلاسفة في تفسير الشر عدّة آراء نذكر أهمها: <BR>الرأي الأول: إنَّ الخير والشر موجودان والله تعالى خالق الخير والشر وقادر على كل شيء أي: على كل من الخير والشر. وفي بعض الأخبار[ ] في وصف الله سبحانه انه: (خالق الخير والشر).<BR>فإن قلت: إنَّهم قالوا في علم الكلام: إنَّ الله خير محض, والخير لا يصدر منه إلا الخير ولا يمكن أن يصدر منه الشر؛ لضرورة التناسب والسنخيَّة بين العلة والمعلول كما قرر الفلاسفة, فالشر سواء كان وجوديا أم عدميا لا يمكن صدوره من الخالق؛ لأنه خير محض. <BR>جوابه: إنَّ هذا قابل للمناقشة من أكثر من وجه: <BR>الوجه الأول: إنَّ الله سبحانه لا يمكن أن نسميه خيراً محضاً, والآية [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا][ ] لا تدل على ذلك, بل بمعنى انه سبحانه خير الحافظين.<BR>الوجه الثاني: إنَّ الفلاسفة لم يقولوا انه خير محض, بل قالوا: إنَّه وجود محض أي: وجود بلا ماهيَّة, وبسيط غير مركب.<BR>وأما كونه خيراً, فهذا مترتب على كون الوجود خير وليس بشر وهذا مترتب على أن الشر عدم وليس وجود, في حين أننا نتكلم في هذا الوجه الأول بناء على الخير والشر معا موجودان.<BR>الوجه الثالث: إنَّه اتضح التناسب بين العلة والمعلول وهو الاشتراك في الوجود للخير والشر معا. <BR>الوجه الرابع: إنَّ عنوان الخير وعنوان الشر كل منهما مفهوم انتزاعي ذهني وليس أمرا خارجياً كما سنذكر, وما هو موجود إنما هو الموجود الخارجي خاصة. <BR>الرأي الثاني: ما قرّبه الشيخ المظفر ? في محاضراته: من أن الخير وجود والشر عدم, والقدرة والإرادة والمشيئة إنما تتعلق بالوجود لا بالعدم, والعالم الخارجي إنما هو وجود وهو كله خير وليس بشر؛ لأنه تعالى لم يخلق إلا الخير.<BR>وكان يمثل لذلك: إنَّ شخصاً ضرب بسكين فسال الدم, فوجود الدم خير ووجود اللحم خير ووجود الليونة في اللحم بحيث أصبح قابلا للقطع خيرا أيضاً و وجود السكين خير, وقدرة الضارب على الحركة خير.<BR>أما الشيء العدمي الذي هو شرّ فهو انفصال احد الجزئين عن الآخر بالضربة, وكذلك الموت هو أمر عدمي؛ لأنه انفصال الروح عن البدن. <BR>وينتج من ذلك: إنَّ الشر مادام عدماً فانه لا تتعلق به القدرة والمشيئة, وإنما تتعلق بما هو موجود؛ لان العدم لا يمكن أن يوجد بما هو عدم وعالم الخارج ليس صقعا للعدم, وإنما هو صقع للوجود خاصة. <BR>وهذا لا ينافي ما قلناه من أن الله تعالى على كل شيء قدير؛ لان العدم هنا ليس عدماً محضاً بالمعنى الفلسفي بل هو بمعنى النقص, وإيجاد الناقص معقول من حيث كونه موجوداً, فالله تعالى قادر على العدم بقدرته على الموجودات.<BR>الرأي الثالث: إنَّ الخير والشر أمران انتزاعيان ذهنيان أو قل: انهما قيمتان أخلاقيتان مدركتان للذهن, وأما الخلقة الخارجيَّة فلا خير ولا شر وإنما هي وجود.<BR>والقيمة الأخلاقية الانتزاعية تختلف باختلاف الجانب الحاكم بتلك القيمة ويوجد في باطن الإنسان عدة ملاكات مقيمة للأشياء لا اقل من أمرين:<BR>الأول: العقل العملي, وهو حاكم عادل وكل قضاياه صادقة ركزه الله تعالى فينا لنفعنا وهدايتنا وليس فيه خطأ, وهو الذي يحكم بحسن العدل وبقبح الظلم. <BR>وكان الشيخ المظفر ? ينزله إلى معنى حكم العقلاء [ ], ولكنني أراه فوق ذلك بحيث لو زال العقلاء كلهم بقي ذلك الحكم صادقاً في نفسه.<BR>فالعدل يعود إلى الخير بهذا اللسان  الذي نتكلم عنه والظلم يعود إلى الشر بهذا اللسان أيضاً.<BR>الثاني: النفس الأمارة بالسوء, وهي حاكم باطل وكل قضاياه باطلة على العكس من العقل العملي فهي ظالمة ومظلمة وليس فيها حق إطلاقاً, وهي قد تصبح رباً لصاحبها إذا [اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ][ ] فهذا التقييم الضال والمضل هو الذي افسد البشريَّة من لدن ادم إلى يوم القيامة إلاّ على تقادير من رحمة الله تعالى.<BR>والفرق بين هذين المقيِّمين أمور: <BR>الأمر الأول: إنَّ أحكام العقل محدودة في الأمور القطعيَّة ولا أقل من  حصول الاطمئنان العرفي بشيء بأنه عدل أو ظلم, وأما في صورة الشك والتعارض والتزاحم ونحوها فلا حكم للعقل.<BR>ومن هنا قيل: إنَّ العقل غير صالح بمجموع أحكامه لقيادة المجتمع البشري لأنه قليل الأحكام, في حين أن الفرد يحتاج في كثير من خصائص حياته إلى البت والفتوى في كثير من الموارد. <BR>في حين أن النفس تتدخل في الصغيرة والكبيرة, وتحكم على أي شيء يطرأ عليها. فأحكام العقل اقل من أحكام النفس. <BR>الأمر الثاني: إنَّنا نجد نحو عداوة بين العقل والنفس وتنافياً في أحكامهما, فما ترغب النفس يمجّه العقل وما يمجه العقل ترغب به النفس. <BR>بل يمكن القول: إن كل ما هو عدل في العقل العملي هو على خلاف حكم النفس, وكل ما هو وفق الشهوة النفسيَّة بما فيها المحرمات والمكروهات, فهو ظلم بنظر العقل بطبيعة الحال.<BR>إذن, بينهما تعارض وتعادي في اغلب الأحكام بل كلها.<BR>الأمر الثالث: إنَّ هناك عداء بين النفس والله تعالى في حين إن العقل إلى جانب الأحكام الإلهية وأما النفس فهي ضدها وتمجها وتفضل الحريَّة عن مسؤولياتها في حين إن العقل ليس كذلك بل هو (عبد) لله عز وجل. <BR>وفي الحديث القدسي[ ]: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك ولا اكملتك إلا فيمن أحب, أما واني إياك آمر وإياك انهي وإياك أعاقب وإياك أثيب.<BR>والعقل يُمضي كل الأحكام الشرعيَّة وكلها موافقة للعقل حتى قيل بالملازمة بين أحكام العقل وأحكام الشرع, ولم يقل احد بالملازمة بين حكم النفس وحكم الشرع, بل الرشد بخلاف النفس وعصيانها؛ لأن الرشد في خلاف دائم مع أعداء الله أينما وجدوا.<BR>والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ــ وان لم تثبت عندي في علم الأصول ــ ولكننا خارجا لم نجد حكماً عقلياً إلا وعلى طبقه حكم شرعي إلزامي أو استحبابي, كما لم نجد حكماً شرعياً إلا على طبقه حكم عقلي بالرجحان وان تطبيقه موافق للعدل.<BR>هذا كله بمنزلة الكبرى, في قوله تعالى: [مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ].<BR>فالاستعاذة ليس مما خلقه الله تعالى بل من شرهم, فإن وجودهم وذاتهم نعمة وخير فلا يستعاذ منه وإنما يستعاذ مما قد يأتي منها من سوء ونقص. <BR>سؤال: هل الاستعاذة عامة لجميع الناس؟.<BR>جوابه: إنَّما هي لمن يجمع بين خوف الله وخوف الخلق وهم الأعم الأغلب من الناس, أما الذين يتمحضون في الخوف من الله فهم يخشون الله [وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ][ ] ولا يخافون من شر ما خلق الله سبحانه, فتكون هذه الاستعاذة بمنزلة السالبة بانتفاء الموضوع, ولكن مع ذلك نقول: إنَّ القرآن أُنزِّل لكي تستفيد منه كل الطبقات. <BR>سؤال: ما هو الفرق في الإستعاذة في المعوذتين؟. <BR>جوابه: الإستعاذة في سورة الناس من الشيطان فقط, بينما الاستعاذة هنا من سائر ما خلق الله فموضوع سورة الفلق اعم من موضوع سورة الناس.<BR>سؤال: ما هو شر ما خلق؟.<BR>جوابه: له عدة تفسيرات تختلف باختلاف المعاني السابقة: <BR>الأول: الشر الذي خلقه الله تعالى بناءا على اختيار الرأي الذي يقول: بأن الشر موجود. <BR>الثاني: النقص الذي خلق, بناء على ان الشر هو النقص والعدم, سواء كان هذا النقص اختياريا ًهو الذنب أو غير اختياري وهو الشامل لسائر الخلق العاقل وغيره.<BR>الثالث: الفعل الاختياري, ولعله الأقرب إلى المعنى العرفي.<BR>فإن الفعل الاختياري منسوب إلى فاعله كما حقق في محله, فتكون الإضافة في قوله تعالى: [مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ] إضافة منشأيَّة, وما خلق اعم من كل فاعل مختار على هذا الوجه, فهو يشمل كلاً من الجن والملائكة وغيرهم.<BR>وأما الله سبحانه وتعالى فلا يختار لنا إلاّ الخير, سواء قلنا بان الشر موجود أو غير موجود, أما إذا نفينا وجوده فواضح وأما إذا أثبتناه فلأن الرحمة سابقة, فالقدر الإلهي لكل فرد إنما هو في صالحه محضاً كما قال الفلاسفة: ليس في الإمكان خير مما كان, وهو يشمل الكل والبعض من الأفراد وان لم ندرك ذلك. <BR>وهذا لا يعني أن نقول: إنَّ التخطيط لمصلحته الدنيويَّة وإنما هو لمصلحة كيان الفرد في الدنيا والآخرة فإن حصل هناك تناف بين المصلحتين اختار الله الأهم في الحكمة وهو في الأغلب مصلحة الآخرة وان تخلفت مصالح الدنيا.<BR>فليس في أفعال الله سبحانه شر ولا يصح الاستعاذة منها؛ لان الخلاص منها يوقع الفرد على خلاف الحكمة بخلاف [شَرِّ مَا خَلَقَ] فانه موجود ويمكن الاستعاذة منه ولذا يدعو بعضنا: كفانا الله شر بني آدم. <BR>قوله تعالى: [وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذا وَقَبَ ].<BR>قال الراغب[ ]: غسق الليل شدة ظلمته, والغاسق الليل المظلم.<BR> أقول: حسب فهمي, فإن الغاسق أول الليل؛ لأنه الفاعل للظلمة الشديدة, وذلك فيما إذا ذهب الشفق أي الحمرة المغربيَّة وتم الظلام. <BR>وقال الراغب[ ]: الوقْب, كالنُّقْرَةِ في الشيء ووقب: إذا دخل في وقب. <BR>أقول: يعني: إذا دخل في النقرة أو الثقب ويستعمله الفقهاء في اللواط, وعن المرأة يعبرون بالدخول حتى لو كان دبراً.<BR>سؤال: إنَّ قوله تعالى: [مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ] استعاذة عامة: [وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ...الخ]  استعاذة خاصة, ألا تكفي الاستعاذة العامة عن الاستعاذة الخاصة؟.<BR>جوابه: إنَّ في عطف الخاص على العام حِكَماً عديدة نذكر منها: <BR>أولاً: ما ذكره صاحب الميزان[ ]: من انه لزيادة الاهتمام. <BR>وقد اهتم في السورة بثلاثة أنواع من الشر خاصة هي: شدة الليل إذا دخل, وشر سحر السحرة, وشر الحاسد إذا حسد, لغلبة الغفلة فيهن. <BR>ثانيا: لأن هذه الثلاثة اشد الشرور المتصوَّرة عادة. <BR>ثالثاُ: إنَّها اغلب من غيرها باعتبارها أكثر مصادفة للإنسان.<BR>رابعاً: إنَّها أسباب الشر فيكون سبب الشر شراً, وهذا أوفق بالسياق فتكون الاستعاذة من شر الخلق ومن شر سبب الشر وهي الليل والحسد والسحر, فتكون الاستعاذة من العلة والمعلول معاً.<BR>سؤال: ما هو الوجه في تقييد [غَاسِقٍ] بـ[إذا وَقَبَ]؟.<BR>جوابه: لأن الليل إذا لم يدخل فلا وجود له, ومن ثم لا وجود للشر الناتج عنه والاستعاذة ليست من ذات الليل, بل من الشر الحاصل فيه أي: بعد دخوله وبحسب التعبير الأدبي: هناك صورة متحركة ضوء ثم ظلام, نهار ثم ليل. <BR>سؤال: ما هو الوجه من استعمال غاسق ووقب, بالخصوص دون مظلم ودخل, اللذين هما بنفس المعنى؟.<BR>جوابه: إنَّ كلا اللفظين (يعني: غاسق ووقب), يدلان على الشدة, فالأول يدل على شدة الظلام, والثاني يدل على شدة الدخول. وفي الآية إشعار واضح بذلك كأن الليل يدخل على حين غفلة ويسيطر ولا يكون الفرد مستعداً للتلافي والدفع ومن الواضح أن الليل غالبا ليس كذلك, وهذا بنفسه يكون قرينة على احتمال أن يكون المراد أمراً آخر غير الليل فأنه ذكر الظلمة والغاسق ولم يذكر الليل, ومشهور المفسرين اخذوا الجانب المادي أو الدنيوي في الآية والذي ينبغي أن يفهم إنَّ الظلام قد يكون مهماً ومن الدخول ما يكون مؤلماً, ومن هنا تكون عدة أطروحات لفهم الغاسق ودخوله بشكل ينحفظ فيه سياق الآية:<BR>الأطروحة الأولى: أن نفهم من الغسق الليل وما فيه من وحوش ووحشة ولصوص وأمراض وحوادث مع قلة إمكانية الفرد في الدفع وانقطاعه عن الناس, أو كونه نائما لا يعي أصلاً.<BR>الأطروحة الثانية: ظلام النفس والقلب, فإنه منتج لكثير من البلايا كالعصيان والأنانية وعدم سماع الموعظة والأمر بالمعروف. وهذا الظلام اشد على الإنسان من ظلام الدنيا, ولذا ورد عن الأئمة الهداة سلام الله عليهم[ ]: اجعل نفسك عدواً تجاهده. <BR>وورد: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه.<BR>إن قلت: إنَّ ظاهر العبارة: إنَّه وقب حيث لم يكن كذلك مع أن ظلام النفس والقلب دائم, فلا يكون مناسباً معه.<BR>قلت: هذا له جوابان:<BR>الأول: النظر إلى الفطرة الأصلية للإنسان فإنها خاليَّة عن الظلمة, قال الله تعالى: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ][ ].<BR> وورد[ ] أيضاً: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه.<BR> أي: يجعلانه غافلاً, ومن أهل الدنيا فقد وقب فيها الظلام عندما تسببت أسبابه أي: دخل على حين غرة بعد أن لم يكن فيها. <BR>الثاني: قد يفرض إن الفرد طيِّب ونيِّر القلب إلا أنه قد يناله الظلام من أسباب عديدة باطنيَّة وظاهريَّة كالطعام والمعاشرة, فينتج شروراً وضيقاً يستعاذ منه.<BR>الأطروحة الثالثة: بلاء الدنيا من حوادث ومرض وفقر وموت حبيب وغيرها, فإنها بالنسبة إلى طبقة من الناس بنفسها شر وبالنسبة إلى طبقة أخرى منتجة للشر والمضاعفات النفسيَّة والخارجيَّة, ولا أقل من أن يكون رد فعل الإنسان تجاهها غير مرض لله عزَّ وجلَّ كالإعتراض عليه, فيكون المعنى: الدعاء بأن يعيذه الله من شر هذا البلاء. <BR>الأطروحة الرابعة: الغفلة, قال تعالى: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ][ ] وهي بيت الداء واصل خسرانَ الآخرة فيستعاذ منه, وهذا البلاء الباطني مرفوع عن المعصومين ?.<BR> قال أمير المؤمنين: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً ), وقال: (ما رأيت شيئاً إلاَّ ورأيت الله قبلَّه وبعدَّه)[ ].<BR>       قوله تعالى:[وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ].<BR>النفث: هو النفخ, وكانت الساحرات يقرأن طلاسم ويعقدن شيئاً وينفخن على العقدة حتى تؤثر التأثير المعيَّن الذي يُردْنَّه.<BR>سؤال: لماذا خصت النساء بالذكر مع انه ممكن للرجال أيضاً؟.<BR>جوابه: ما قاله صاحب الميزان ?[ ]:  لأن السحر فيهن ومنهن أكثر من الرجال. <BR>أقول: ويمكن أن تكون هذه الحصة من السحر مما يتبناه النساء أكثر من الرجال. <BR>الاّ أنَّ هذا الجواب يصلح (أطروحة) وان كانت إجماعيَّة بين المفسرين, إلاّ أنَّه يمكن تقديم أطروحات أخرى؛ لأنَّ الله تعالى استعمل معنىً قابلاً للإنطباق على حصص متعددة ولم يذكر العقد ما هي ولا انَّ النافث مَْن هو ولا انَّ العقد شر, بل قد تكون خيراً, بل قد يكون النفث خيراً, لكنَّه لا يخلو من شر كما سيأتي. <BR>ومن هنا يمكن أن نعرض عدة أطروحات في معنى العقد والنفث منها: <BR>الأطروحة الأولى: العقد هي ملكات السوء التي في الإنسان بإعتبار أنَّ الملكة هي الصفة الراسخة غير القابلة للإنفكاك فتشبه العقدة.<BR>والنفث فيها هو التسبب إلى بقائها وزيادتها, كالنفخ في النار لأجل زيادتها.<BR>الأطروحة الثانية: أن تكون العقد ملكات الخير للإنسان والنفث فيها هو التسبب لإضعافها وإزالتها.<BR>الأطروحة الثالثة: العقد, هو السلوك الصالح للإنسان وهو الاعتياد على طاعة الله سبحانه, والنفث فيه هو محاولة إفساد ذلك وتبديله.<BR>الأطروحة الرابعة: العقد, هو السلوك الطالح للإنسان أو الحال السيء له دنيوياً وأُخروياً, والنفث فيه هو معاونته ومحاولة زيادته[ ].<BR>فإن قلت: فإنك قلت في جانب الخير إن النفث هو التسبيب إلى نقصانه, وفي جانب السوء إن النفث هو التسبيب إلى زيادته.<BR>قلت: أولاً: إنَّ هذا هو معنى الشر المنصوص عليه في الآية؛ إذ من الواضح ان النفث الذي يزيد في الخير وينقص من الشر ليس شراً بل هو خير. <BR>ثانياً: إنَّنا وإن سلمنا شموله لمثل ذلك وهو خير, إلا أنه قد تحصل منه مضاعفات باطنيَّة أو دنيويَّة أو أخروية قليلة أو كثيرة كتحميلنا قوة الطاعة من الأمر بالمعروف ونحوه فسيعاذ من شره.<BR>الأطروحة الخامسة: العقد, هو عقد الصداقة والعهود بين الأشخاص أو المجتمعات والنفث فيه هو التسبب إلى إزالته, وقد لا يكون في زواله مصلحه كما هو الغالب. <BR>فإن قلت: العقد جمع عقدة ولا يشمل العقد المعاملي. <BR>قلت: أولا: إنَّهما من مادة واحدة, غايَّة الفرق في التأنيث والتذكير وهو غير مهم. <BR>ثانياً: إنَّه ورد في التعبير في القرآن الكريم عن المعاملة بالعقد في قوله تعالى: [الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ][ ].<BR> سؤال: لماذا أنّث النفاثات مع إن التذكير اسم جنس يشمل الذكر والأنثى؟.<BR>جوابه: إنَّنا إذا فهمنا من النفاثات الساحرات كما عليه المشهور, إذن يتعين التأنيث في التعبير ولا يكون في هذه القضيَّة مفهوم مخالفة من حيث إن الاستعاذة من النفاثات يعني: عدم الاستعاذة من النفاثين, بل يقتضي ذلك بصفتهم شراً أيضاً. <BR> وان كان المراد منها الملكات والسلوك فيكون المعنى: التسبب إلى إنجاحها أو إبطالها فيعود الإشكال مرة أخرى يعني أن نقول: إنَّه ينبغي التذكير. <BR>وتوضيح جوابه أن نقول: إنَّ العلل في الكون كله ذات صفتين: الخير والشر, والفرق بينهما ــ نعرضه كأطروحة ــ إنَّ قوى الخير أقوى وأوسع في الكون بمجموعه من قوى الشر ونريد به مجموع الكون المادي والروحي. <BR>فلو نظرنا إلى الكون المادي فقد نجد أن التسبيب إلى الشر أقوى كقوله تعالى: [وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ][ ] فهم على قلّتهم مفسدون في المدينة, ولكن لو نظرنا إلى الكون الروحي والمادي معاً لقلنا إن الخير أقوى بكثير. <BR>والكون الروحي وان احتوى جزئياً على الشر إلا انه ضعيف وقليل.<BR> قال الله سبحانه : [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا][ ]. وقال: [وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي][ ].<BR>فالتسبب إلى الخير في مجموع الكون أضعاف أضعاف التسبيب إلى الشر, والتسبيب إلى الشر قليل وضعيف فيعبر عنها مجازاً بالأنثى؛ لأن الرجل أقوى من المرأة, فيكون المراد الاستعاذة من التسبيبات الضعيفة الموجودة في الكون للشر. وفي الآية إشعار واضح للقلة النسبيَّة للنفاثات وهو صحيح لضآلة أسباب الشر بإزاء أسباب الخير كما قلنا. <BR>فإن قلت: لكن في الآية إشعاراً بقوة النفث وعمق أثره فكيف قلنا: انه ضعيف بإزاء قوى الخير؟. <BR>قلت: إنَّ ما قلناه في قوى الخير يشمل الكون المادي والروحي معاً, أما تأثيره على وجه الأرض فليس ضعيفا ولا قليلا مضافاً إلى أن قلّته لا تعني ضعفه وعدم تأثيره فهو قليل لكنَّه شديد.<BR>وهذا هو الذي يشير إليه سياق الآية, أما دنيويا فلأنه يوجب شدة الضيق وأما أخرويا فلأنه طريق جهنم.<BR>وبتعبير آخر: إنَّ سياق الآية يدل على قوة النفث وعمق تأثيره باعتبار أن الشر علِّي غالباً والخير اقتضائيّ غالباً.<BR>سؤال: لماذا عرّف الله سبحانه النفاثات ونكَّر ما قبلها وما بعدها وهما: الغاسق والحاسد؟.<BR>جوابه من وجهين: <BR>الأول: ما ذكره الرازي في هامش العكبري, حيث قال[ ]: لأن كل نفاثة لها شر وليس كل غاسق - وهو الليل - له شر وكذا ليس كل حاسد له شر, بل رب حسد محمود وهو الحسد في الخيرات. <BR>أقول: فيراد بالنكرة وهما: غاسق وحاسد ذلك الفرد منهما القليل المتصف بالشر. <BR>الثاني: إنَّنا هل نريد اشتراك الجميع في التعريف أو اشتراكها في التنكير وكلاهما باطل؛ لأنهما معا مغيّران للسياق والذوق القرآني.<BR>أما تنكير المعرّف وهو النفاثات: فهو باطل بان نقول: ومن شر نفاثات ما في العقد, وهو لا يعطي العموم المطلوب؛ لان القضيَّة المهملة بمنزلة الجزئيَّة وعندما تكون القضيَّة جزئيَّة يعني: أعوذ من بعض النفاثات لا من الجميع!! <BR>وأما أن نقول: نفاثات العقد فهو يوحي مضافاً إلى الإشكال السابق بإضافة المفعول إلى اسم الفاعل, وان العقد هي النافثة في حين إنها هي المنفوث فيها.<BR> وأما احتمال تعريف المنكَّر وهو الغاسق والحاسد كما لو قلنا: من شر الحاسد إذا حسد, فهذا كله ليس بصحيح بان (الألف واللام) لها معنيان: إما جنسيَّة وإما عهديَّة ونحن لا نريد كليهما.<BR>فالجنسيَّة غير مرادة؛ لأنني لا استعيذ من الحاسد بل من شره أي: ذلك الحاسد الذي يترتب عليه الشر وليس من كل حاسد, وهذا لا يكون بحسب السياق البلاغي إلاّ عن طريق التنكير.<BR>والعهديَّة أيضا غير مرادة؛ لأن المعنى يكون: الحاسد المعيّن أي: فلان ابن فلان في حين المراد الاستعاذة من أي حاسد.<BR>هذا بالنسبة إلى تعريف[حَاسِدٍ]. ونفس الشيء ينطبق على [غَاسِقٍ]ونوكله إلى فطنة القارئ اللبيب.<BR>سؤال: لماذا قال: [إِذَا حَسَدَ] فان مادة الحسد مأخوذة من لفظ الحاسد فيكون تكرارها بلا موجب!.<BR>جوابه: إنَّ المراد الاستعاذة من شر الحسد وهذا الشر إنما يترتب على الحسد بعد وجوده لا قبله, فقوله: [إِذَا حَسَدَ] يعني: إذا تحقق بحيث يترتب عليه الشر. <BR>فإن قلت: إنَّ هذا المعنى مفهوم من مادة الحاسد يعني: بصفته حاسداً فعلاً. <BR>قلت: كلاّ بل يراد بالحاسد ذات الحاسد لا بصفته حاسداً, كأنه قال: ومن شر إنسان إذا حسد ولا يصدق على الفرد انه حاسد مطلقاً إلا إذا كان من عادته أو طبعه كثرة الحسد وهو نادر, في حين أن المراد الاستعاذة من الجميع.<BR>وكذلك فإن المراد من قوله: إذا حسد, الحسد المؤثر يعني: إذا اثر حسده أو إذا حسد حسداً مؤثراً وأما غيره فلا شّر فيه فلا موجب للاستعاذة منه, ومن الواضح أن ذات الحاسد وإن لوحظ بصفته حاسداً لم يؤخذ فيه كون حسده مؤثراً, في حين أن السياق واضح بالاستعاذة من خصوص الحسد المؤثرة.</P>

<P> </P>

<P><BR>***</P>

<P> <BR>سورة التوحيد</P>

<P>ينبغي الحديث عن الاسم وهو طبقاً لما يشبه الأطروحات السابقة يمكن أن يكون على عدة أشكال محتملة:<BR>الشكل الأول: الاسم المشهور وهي سورة التوحيد؛ لأنها تحمل فعلاً معنى التوحيد وقد ورد إنها تتضمن أو تتكفل نسبة الرب[ ]. <BR>الشكل الثاني: تسميتها باللفظ الذي تبدأ به وهو [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] أو [قُلْ هُوَ..] كما يعبِّر بعضهم.<BR>الشكل الثالث: تسميتها أو الإشارة إليها برقمها في المصحف وهو السورة 112.<BR>سؤال: تكاثرت الروايات من طريق الفريقين في أن هذه السورة تعدل ثلثي القرآن فما هو تفسير ذلك؟.<BR>جوابه: إنَّ له عَّدة تفاسير محتملة:<BR>التفسير الأول: إنَّها تحمل ثلث الثواب أي: إنَّ لقارئها ثلث الثواب بالنسبة إلى من قرأ القرآن كله.<BR>التفسير الثاني: إنَّها تحتوي على ثلث علوم القرآن الكريم الذي يحوي علوم الكون كله, وبذلك تكون الفاتحة أعلى منها؛ لأنها تحتوي على كل علوم القرآن كما سبق وليس على ثلثها.<BR>التفسير الثالث: إنَّ علوم القرآن فيما نفهمه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقائد وتشريع وتاريخ والباقي كله يندرج ضمن هذه الثلاثة,أو قل: إنَّ علوم القرآن هي أصول الدين وفروع الدين وأخبار ويراد بالأخبار ما يشمل أخبار الماضي والحاضر والمستقبل, وكله من قبيل التاريخ بالمعنى العام وهو بهذا المعنى يشمل أخبار الدنيا والآخرة.<BR>إذن, فالسورة المباركة تتعرض إلى واحد من هذه العناوين الثلاثة: وهو التوحيد ومن هنا صدق كونها ثلث القرآن.<BR>فإن قلت: إنَّ أصول الدين خمسة والتوحيد أصل واحد منها, فلا يكون التعرض إلى التوحيد تعرضاً لأصول الدين كلها ليكون ثلث القرآن؟.<BR>قلت: ما دل على التوحيد دل على كل العقائد, فان الأصول الأربعة مندرجة فيه؛ لأن التوحيد أساسها والله هو الذي أرادها وشرعها وأوجدها, وقد ورد عن الإمام الكاظم ?[ ]:  اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما.<BR>سؤال: لماذا بدأت السورة بفعل الأمر: [قُلْ]؟.<BR>جوابه: المراد من السورة ليس هو الإخبار بأن [الله أَحَدٌ], وإنما المراد الأمر بالإقرار بذلك لكي يتبع الفرد الهدى ويشهد بالتوحيد, وهو ــ بالطبع ــ يدل ضمناً على صدق ما قاله وإلا كان الأمر به أمراً بالباطل, فهو أمر وإخبار في نفس الوقت.<BR>وقلنا في كتابنا[ ] فقه الخلاق: إنَّ امتثال هذا الأمر يكون بأحد أسلوبين: <BR>الأسلوب الأول: ما ورد عن الإمام الرضا[ ] من أنه حين يقرأ آية: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] فإنه كان يقول بصوت خافت: [اللَّهُ أَحَدٌ] يعني: يكون ذلك امتثالاً لقوله: [قُلْ] والتزماً بمضمونه.</P>

<P>الأسلوب الثاني: ما ورد في أخبار أخرى[ ] من أنه يقول بعد الانتهاء من السورة: كذلك الله ربي.<BR>وبحسب فهمي فإن أحد الأسلوبين مجزئ ومغني عن الأخر بل لا معنى للجمع بينهما ــ كما لا يخفى ــ وان كان لا يخلو من وجه ضعيف. <BR>وعلى أي حال فمع ترك هذين الأسلوبين معا وذلك بقراءة السورة كما هي, فإنه سيكون السياق بلسان الله لا بلسان العبد وهو لا ينفع العبد ما لم يوافق على صحته ويذعن بصدقه, وهو إنما يعلن عن ذلك بأحد الأسلوبين السابقين.<BR>سؤال: إنَّ [قُلْ] فعل أمر ظاهر بالوجوب وحمله على الاستحباب خلاف الظاهر فقد يقال: إنَّ علماء الكلام قالوا: إنَّ الإيمان بالعقائد لا معنى للتشريع فيه وإنما هي واجبة بحكم العقل, والأوامر الواردة إنما هي إرشاد إلى حكم العقل والله تعالى ينبه هنا على حكم العقل فلا يجب علينا طاعة هذا الأمر؛ لأنه ليس تشريعاً فلا يجب علينا اتخاذ أحد الأسلوبين السابقين.<BR>قلنا: هذا قابل للمناقشة: <BR>أولاً: إنَّ ما طرق سمعك من إن الأوامر إرشاديَّة, إنما هو لخصوص وجود الله سبحانه فهو سبحانه يُدرَك بالعقل, فإذا ورد عن الله بمضمون: اعترف بوجودي فإنما هو إرشاد إلى حكم العقل وهذا صحيح, ولكن سائر أصول الدين ليست كذلك حتى التوحيد نفسه فقد شهد الله سبحانه نفسه بتوحيده قال تعالى: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ][ ]. <BR>فالله الذي ثبت بالعقل وجوده هو يخبرنا عن توحيده وهذا - في الحقيقة - من أدلة التوحيد.<BR>إذن, فالعبد في هذه السورة مأمورٌ تعبدا من قبل الله سبحانه بان يذعن بتوحيده فلا يكون الأمر إرشاديا بل تشريعياً. <BR>ثانياً: إنَّنا لو تنزلنا عما قلناه أولاً وسلمنا أن الأمر بالتوحيد أيضاً إرشادي كالاعتراف بوجود الله سبحانه, عندئذ يكون أصل الدخول في الإسلام عقلي إرشادي.<BR>إلا أن غرض السورة لا يكون هو الدخول إلى الإسلام, وإنما هو لأجل أغراض أخرى كالصلاة والتبرك ونحوها فيكون: [قُلْ] تشريعياً, حيث يقرؤها الفرد بألفاظها من أجل الاستفادة منها: فرجع الحال إلى كون الأمر تشريعياً لا إرشاديا.<BR>سؤال: من هو المخاطب بـ[قُلْ]؟.<BR>جوابه: هناك عدة أطروحات لذلك, نذكرها من الأضيق إلى الأوسع.<BR>أولا: إنَّ المخاطَب هو النبي ? بصفته المخاطَب المباشر.<BR>ثانياً: إنَّ المخاطب هو كل المسلمين ولا خصوصيَّة للنبي ?.<BR>ثالثاً: إنَّ المخاطب هم كل البشر فإن دين الله إنما هو لإصلاح البشر جميعاً والقرآن لهدايتهم, حتى لو كانوا كفاراً.<BR>رابعاً: إنَّ المخاطب كل الخلق أي: كل أجزاء الكون من بشر وملائكة وجن وأي خلق آخر, فأن التوحيد غير مختص بطائفة؛ لأنه متعلق بالخالق الأزلي الحقيقي وهذه الصفة الحقيقيَّة ينبغي فرضها وتوزيعها وسيطرتها على كل الخلق وكل من عصى فقد ظل عن سواء السبيل.<BR>سؤال: هل يجوز حذف: [قُلْ] بمعنى جعل قراءة السورة ابتداء امتثالا لهذا الأمر.<BR>جوابه: هذا على مقتضى القاعدة جائز لكنَّها تخرج عن كونها قرأناً؛ لأن [ قُلْ] جزؤها القرآني والقرآن إنما هو بلسان الله لا بلسان العبد. <BR>سؤال: لماذا أختار الله سبحانه الضمير هو ولم يقل: قل الله أحد؟.<BR>الجواب: إنَّه يمكن تفسير هذا الضمير بحسب معناه أولاً, وبحسب إعرابه ثانياً: أما الكلام في معناه, فانه يحتمل أمرين:<BR>الأمر الأول: ما ذكره صاحب الميزان ? حين قال[ ]: هو ضمير الشأن والقصة, يفيد الاهتمام بمضمون الجملة التاليَّة أي: إنَّ الحال والشأن هو الله أحد. <BR>الأمر الثاني: إنَّ [هُوَ] ضمير عائد على ذات الله سبحانه أي: ذات الله هو أحد. <BR>وأما إعرابه فيحتمل وجهين: <BR>الوجه الأول: أن يكون [هُوَ] ضمير لا محل له من الأعراب كالذي يقع بين المبتدأ والخبر كقولنا: زيد هو عالم ولا يفيد إلا التأكيد. <BR>ففي الآية الكريمة يكون لفظ الجلالة مبتدأ وأحد خبر سواء قلنا: إن معناه ضمير الشأن أو إنه عائد على الذات. <BR>الوجه الثاني: نذكره بنحو الأطروحة: وهو أن يكون [هُوَ] مبتدأ سواء فهمنا منه ضمير الشأن أو كونه عائداً إلى الذات وأما خبره فله عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: إنَّ   هذا الضمير مبتدأ ولفظ الجلالة مبتدأ ثاني و أحدٌ خبر المبتدأ الثاني.<BR>والجملة خبر المبتدأ الأول مثل قولنا: زيد أبوه عالم غايَّة الفرق أن الابتدأ هناك بالظاهر وهنا بالضمير.<BR>وهذا ممكن سواء كان هو ضمير شأن أو راجعاً إلى الذات ولكنَّه أوضح وأوكد مع رجوعه إلى الذات.<BR>يعني: إنَّ الذات المقدسة التي لا يشار إليها ولا يعبر عنها ولا تحد, يصدق عليها هذان الاسمان.<BR>الأطروحة الثانية: أن يكون الضمير: [هُوَ], مبتدأ ولفظ الجلالة خبره. و[أحَدٌ] بدل أو عطف بيان أو معطوف بحذف حرف العطف. فتكون الذات المعبر عنها بـ[هُوَ], مبتدأ واسمها, و هو لفظ الجلالة الخبر.<BR>الأطروحة الثالثة: أن يكون [هُوَ] مبتدأ ولفظ الجلالة خبر أول و [أحَدٌ] خبر ثانٍ للمبتدأ الأول. كقولنا: زيد عالم حاذق. أو زيد عالم في الدار. <BR>الأطروحة الرابعة: أن يكون قوله: [هُوَ الله] مبتدأ وخبر. ويكون [أحَدٌ] خبراً لمبتدأ محذوف دل عليه ما سبق. يعني: هو أحد.<BR>الأطروحة الخامسة: ما ذكره العكبري حين قال[ ]: ويجوز أن يكون الله بدلاً, و [أحَدٌ] الخبر. <BR>أقول: يعني: خبر [هُوَ].<BR>سؤال: لماذا وجد الضمير [هُوَ] في هذا المحل من الآية الكريمة؟.<BR>جوابه: متفرع على ما قلناه في معناه وإعرابه. وهو أربع صور:<BR>الصورة الأولى: أن يكون معناه ضمير شأن وإعرابه ضمير فصل فهو للتأكيد لأجل الترسيخ الإيماني.<BR>الصورة الثانية: أن يكون معناه ضمير الشأن وإعرابه: مبتدأ وخبره الجملة التي بعده, فعندئذ لا يفيد التأكيد بل مجرد الإخبار بأن الشأن والحال: إنَّ الله أحد ويكون الاستغناء عنه أولى, ومن هنا فسد هذا الوجه وإن كان مستفاداً من مطاوي كلمات الميزان.<BR>الصورة الثالثة: أن يكون معناه كونه دالاً على الذات وإعرابه كونه ضمير فصل فهو غير محتمل, لوجود التنافي بين هذين الاحتمالين, مضافاً إلى لزوم كون الدال على الذات متكرراً في الآية وهو الضمير ولفظ الجلالة.<BR>الصورة الرابعة: أن يكون معناه دالا على الذات وإعرابه أنه مبتدأ. وهو المتعين على معنى أن الذات تتصف بهاتين الصفتين أو الاسمين.<BR>إن قلت: إن أسم الجلالة دال على الذات أيضاً فكيف يستقيم ذلك؟ <BR>والظاهر ان هذا هو السبب الذي حدى بصاحب الميزان ? إلى اعتباره ضمير شأن, لكي لا يكون الدال على الذات مكرراً.<BR>قلت: أولاً: إن لفظ الجلالة من الأسماء الحسنى فإن توخينا مطلق الدلالة على الذات كانت كل الأسماء الحسنى دالة عليها. <BR>كـ: [الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ][ ], وان توخينا الأخص من ذلك كالعلميَّة لذاته سبحانه كما في لفظ الجلالة, فهذا لا يخرجه من كونه من الأسماء الحسنى.<BR>ولذا لم يقل الفلاسفة إنه عين ذاته كما قالوا: في العالم والرحمن, إنه عين ذاته بل قالوا إنه علم خارج عن الذات, فكونه علماً لا يخرجه عن كونه أحد الأسماء الحسنى أو قل هو أهم الأسماء الحسنى.<BR>إذن, يكون المقصود إن الذات يصدق عليها هذان الاسمان: الله والأحد.<BR>ثانيا: إنَّ دلالة [هو] على الذات أعمق من دلالة لفظ الجلالة عليه, لبساطة الضمير وإحاطته فيكون من هذه الناحيَّة شبيهاً ببساطة الذات وأحاطتها. بخلاف لفظ الجلالة فإنه لا يخلو من تعقيد بالتشديد وتكرار اللامات.<BR>بل يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر بأن نقول بنحو الأطروحة: إنَّ لفظ الجلالة الله هو تعريف للضمير بإدخال الألف واللام على الهاء مع انه غني عن التعريف ولا يتعرف بمخلوقاته بل بذاته, وهنا يكون وجود الضمير بدون التعريف أولي.<BR>سؤال: قال الرازي في هامش [العكبري ][ ]: المشهور في كلام العرب أن الأحد يستعمل بعد النفي, والواحد يستعمل بعد الإثبات يقال: في الدار واحد وما في الدار أحد وجاءني واحد وما جاءني أحد ومنه قوله تعالى: [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ][ ], وقوله تعالى: [الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ][ ], [وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ][ ],[لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ][ ], [فَمَا مِنُكمْ مِنْ أحدٍ][ ], فكيف جاء [أحدٌ] هنا في الإثبات؟.<BR>جوابه:<BR>أولا: ما قاله الرازي أيضاً[ ]: قال: ابن عباس رضي الله عنهما لا فرق بين الواحد والأحد في المعنى, واختاره أبو عبيدة ويؤيده قوله تعالى: [ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ][ ], وقولهم: أحد وعشرون وما أشبهه, وإذا كانا بمعنى واحد لا يختص احدهما بمكان دون مكان وإن غلب استعمال احدهما في النفي والآخر في الإثبات.<BR>ثانياً: ما أشار إليه الرازي أيضاً بقوله[ ]: ويجوز أن يكون العدول عن الغالب, رعايَّة لمقابلة الصمد.<BR> أقول: يعني: لحفظ النسق في نهايات هذه الآيات.<BR>ثالثاً: ويعرض كأطروحة:<BR>إن [أحَدٌ] من الأسماء الحسنى والواحد ليس منها,  وإنما هو صفة إعلاميَّة فقط تتضمن الإخبار عن كونه تعالى واحد لا شريك له, وحيث ان المراد في السياق ذكر الأسماء الحسنى: [اللهُ أحَدٌ, الصَّمَدُ] وصدقها على الذات ناسب ذلك ترك الواحد .<BR>سؤال: لماذا كرر لفظ الجلالة في قوله تعالى: [اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ]؟.<BR>جوابه: أولا: إنَّه لإفادة التأكيد بتقدير تكرار العامل وهو الأمر السابق أي: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] وقل هو [اللَّهُ الصَّمَدُ]. وإفادة تكرار العامل أوضح لدى تكرار لفظ الجلالة, ولو اكتفى بالصمد لما أفاد هذه الفائدة.<BR>ثانياً: لسماجة عدمه لو قال: الله أحد الصمد فالصفة البلاغيَّة تقتضي تكرار لفظ الجلالة.<BR>سؤال: لماذا قدم [يَلِدْ] وهو من حقه التأخير؛ لأنه بعده في الزمن عادة ؟. <BR>جوابه: من وجوه:<BR>أولاً: إنَّنا إن نظرنا إلى الزمان العرفي, كان السؤال وارداً إلاّ انَّه ملغى بحق ذات الله سبحانه فلم يبق فرق في التقديم والتأخير, وهو فوق الزمان والمكان, وقد ورد عنهم ?: لا تحده الأزمنة ولا تحيط به الأمكنة ولا يأخذه نوم ولا سنة.<BR>هذا إذا كان الفعلان منفيين كما هما في السورة.<BR>ثانياً: إنَّهما لو كانا مثبتين لأيِّ ذات كان من حق الآخر التقديم؛ لأنَّه إن حدث كان متقدماً في الزمان ولحاظ الزمان عرفي, إلا أن لحاظهُ في ذات الله عز وجل مسند, مضافاً إلى أنهما في السورة في سياق النفي لا الإثبات.<BR>ثالثاً: نعرضه كأطروحة: وهو كون النظر إلى الصفة الحاليَّة أو الفعليَّة ثم الصعود منها إلى الصفة الأخرى: (الصفة التاريخية أو الماضية), أي إنَّه ليس فقط لم يلد بل لم يولد أيضاً.<BR>رابعاً: لحاظ المشكلة المثارة اجتماعيا بين الأديان من أن الله سبحانه له ولد تعالى عما يقولون علواً كبيراً, فمن هنا أكتسب الأهميَّة فيكون الأهم مقدماً وهو نفي الولد بإعتبار ما قيل: من انَّ عُزيرّ أبن الله وإنَّ المسيح أبن الله ونحو ذلك, كما نطق به القرآن الكريم[ ], فقد قدم الأهم وقام بتأخير ما دونه في الأهميَّة الاجتماعيَّة.<BR>خامساً: إنَّ [لَمْ يَلِدْ] مُساقة للشأنيَّة لا الفعليَّة, فالمراد نفي الشأنيَّة ومَنْ لم يكن من شأنه أن يلد ليس من شأنه أن يولد, ولو كان من شأنه أن يلد لكان من شأنه أن يولد كما في الخلق, فقدم [يَلِدْ] لكونها حاصلة بالفعل في حاله جل جلاله لتكون بمنزلة البرهان إثباتاً على صحة الأخرى التي بعدها بنحو الدليل: الإنّى, الذي يستدل به من المعلول على العلة. <BR>قال تعالى: [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ].<BR> فقوله تعالى: أحدٌ أسم كان مؤخر, وهنا يحصل سؤال وحاصله: ما هو خبر كان؟.<BR>جوابه: إنَّ في خبرها وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّ خبرها كفواً وعلى هذا يجوز أن يكون [لَهُ] حالاً من كفواً أو صفة له؛ لأنَّ التقدير: ولم يكن أحد كفواً له وان يتعلق بَـ[يكُنْ].<BR>الوجه الثاني: أن يكون الخبر: [لَهُ] وكفواً حال من أحد أي: ولم يكن له أحد كفواً, أو لم يكن أحد له كفواً, فلما قدم النكرة نصبها على الحاليَّة. <BR>سؤال: لماذا قدم سبحانه: [لَهُ كُفُواً] على [أَحَدٌ]؟.<BR>جوابه: أولاً: لإختلال نسق الآيات بتقديم [أَحَدٌ] وهذا واضح كما لو قال: لم يكن له أحد كفوءاً.<BR>ثانياً: قالوا في اللغة الحديثة: إنَّ التقديم يفيد الالتفات والتركيز, والأمر هنا كذلك في النفي والمنفي أعني نفي الكفوء, فإنه لا يحتمل أن نتصور له كفوءاً, وكلُّ شيء فهو حقير بالنسبة إليه. فينبغي أن يؤخر تجاه عظمة الله سبحانه, قال تعالى: [وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً][ ].</P>

<P>سؤال: ما هي أرجح القراءات في [كُفُوَا ]؟.<BR>جوابه: هي سكون الفاء مع الهمزة [ كفْؤاً]؛ لأنه يعني في اللغة المساوي والنظير فيكون هو الأحوط لإعتبار دوران الأمر بين الأفصح وغيره, فيتعين الأفصح. غير إننا نعرف أن القراءات الأربعة الأخرى لهذه الكلمة هي وجوه منسوبة إلى بعض القراء السبعة, وهي ممضاة كلها من قبل الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين وخاصة في المصحف, بقراءة حفص بن عاصم وذلك بضم الفاء وترك الهمزة, وقد استشكل بعض المتأخرين[ ] من قراءتها بسكون الفاء وترك الهمزة؛ لضعف نسبتها إلى القراء السبعة.<BR>أقول: ولكنَّها محرزة بالنسبة إلى أحد القراء العشرة, فيكفي في جواز القراءة بها على ذلك كما ذكرنا ذلك في منهج الصالحين[ ], وأعترف به هؤلاء المتأخرين في رسائلهم[ ].</P>

<P> </P>

<P><BR>سورة اللهب </P>

<P>في اسمها عدة أطروحات:<BR>أولاً: اللهب, بصفته لفظاً موجوداً خلالها.<BR>ثانياً: المسد, بنفس تلك الصفة.<BR>ثالثاً: السورة التي ذكر فيها اللهب أو التي ذكر فيها المسد على طريقة ما فعله الشريف الرضي في كتابه.<BR>رابعاً: [تَبّتْ], بإطلاق الاسم من أول لفظ فيها.<BR>خامساً: أن نطلق عليها رقمها بالقرآن الكريم وهو: 111.<BR>سؤال: كيف أو لماذا ذكر الله أبا لهب بكنيته دون اسمه مع أن ذلك إكرام واحترام, مع أن السياق سياق اللعنة والغضب؟.<BR>جوابه: عدة أمور:<BR>الأمر الأول: ما ذكره الرازي في هامش العكبري[ ] من: انه يجوز انه لم يعرف له اسم ولم يشتهر إلا بكنيته كأبي جهل وأبي لبابة, أو ان اسمه موجود إلاّ انَّ كنيته هي السائدة بين الناس بحيث لا يعُرف إلاّ بها.<BR>الأمر الثاني: إنَّه نقل[ ]: إن اسمه عبد العزى في حين أنه في الواقع عبد الله وليس عبداً للعزى, فلو ذكر أسمه كان على خلاف الواقع.<BR>وبتعبير أخر: إنَّ القرآن لم يذكر اسمه عبد العزى لأمرين:<BR>1- لمانعٍ ثبوتي, وهو مخالفته للواقع من حيث كونه عبداً لله حقيقة.<BR>2- لمانع إثباتي أو إعلامي, وهو تعمد حذف أمثال هذه الأسماء من السياق القرآني؛ لأنَّ في ذكرها شهادةً حاليَّة بصحتها وتخليداً لذكرها مع أنها فاسدةً اساساً وليس حذفها فاسداً؛ لأنَّه اسم شخص رديء وقد ذكر الله سبحانه عددا من الأشخاص بالكنيَّة بصفتها أسماء سوء, وإن لم تكن أعلامهم الشخصيَّة كالشيطان وفرعون.<BR>الأمر الثالث: ما ذكره الرازي في هامش العكبري[ ]:من انَّه ذكره بكنيته لموافقته حاله لكنيته فإنَّ مصيره إلى النار ذات لهب, فيكون أبو لهب يعني الحاصل على لهب جهنم وإنّما كنيَّ بتلك لتلَّهب وجنتيه وإشراقهما.<BR>أقول: إنَّ لفظة أبي لهب مناسبة مع حاله الأخروي فمن اللطيف أن يسبّ بكنيته باعتباره من المعاقبين في الآخرة.<BR>الأمر الرابع: إنَّ اسمه الشخصي أبو لهب فهو علم له وليس بكنيته؛ لأنه لا يوجد له علم سواه كما نسمي: أبو الحسن وأبو الخير.<BR>الأمر الخامس: وهو يشبه الأمر الثالث إلا أنه بتبريرٍ آخر وذلك إنَّنا لو غضضنا النظر عن اسمه ولقبه الدنيويين فانه تعالى أراد أن يعلمنا بأنه معاقب على أيِّ حال فهو ذو لهب في الآخرة, وهو تعبير عرفي شائع تقول: أبو البيت وأبو المسجد.<BR>فإن قلت: فإنه تعالى كنّاه ولم يكنّ أنبياءه ورسله فهل هو أكثر احتراماً منهم؟.<BR>أقول: من حيث انه كنّاه فان كل الأجوبة السابقة ترد فيه.<BR>وأما لماذا سمى أنبياءه فنقول: كفى بالمرء ذاته مضافا إلى أن المسمِي أعظم من المسمَّى, فكل الخلق أذلاء تجاه عظمته ومدحهم ليس مقترنا بأسمائهم بل بمدى عطائهم واستحقاقهم.<BR>ومن الواضح انه ليس في الآية الكريمة أيُّ إشعار إلى انه أكثر احتراما من الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين.<BR>مضافا, إلى إمكان الطعن بالكبرى التي أخذتها المصادر مسلمةً كما سبق, وهي إن ذكر الكنيَّة تعني الاحترام دائماً فقد لا يكون الأمر كذلك دائماً, إذ أن هذا مسلك عرفي حاصل بعد عصر الإسلام ولم يكن له وجود في عصر نزول القرآن مهما كان الآن في أذهاننا واضحا.<BR>سؤال: ما الوجه في تخصيص اليد بالتّب وهو الهلاك والخسران, وقد عزلها من السياق عن ذاته ولم يقل: وجهه أو رقبته أو أخلاقه, ونحو ذلك.<BR>جوابه: لأكثر من وجه:<BR>الأمر الأول: ما ذكره صاحب الميزان[ ]من أن يدُ الإنسان هي عضوه التي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب اليه جُلَّ أعماله, وتباب يديه فسادهما فيما يكتسبانه من عمل.<BR>أقول: إنَّ يديه كانتا فعلاً تؤذي النبي? فخصصت بالذكر باعتبارها العضو الرئيسي الذي صدرت منه المظالم والاعتداءات.<BR>ولكن لو اقتصرنا على ما ذكره الميزان كان معناه إن اليدين هي سبب الذنوب كلها وليست كذلك فان العين والبطن وغيرهما سبب للذنوب أيضاً. نعم ذكرت اليدان لأهميتهما في مورد التنزيل.<BR>الأمر الثاني: انه ذكر الجزء وأراد به الكل كما عبر عن الإنسان بالرقبة في قوله تعالى: [فَكَّ رّقَبَةٍ][ ], فيكون معنى: [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ] إنه تَبَّ كله.<BR>وينبغي بحسب الحكمة الإلهية أن يخص الأول للبعض والثاني للكل؛ لأنه قال: [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] وبهذا نجيب على السؤال الآتي:<BR>سؤال: ما الحاجة إلى [تبْ] الثانية؟.<BR>جوابه: لأمرين:<BR>الأمر الأول: تغير نسق الآيات فإنه وان كان حرف الباء موجوداً في نهايات الآيات إلا ان حذفها ــ اعني [وَتَبَّ] الثانية ــ  يؤدي إلى تكرار لفظ اللهب مرتين, وهو على خلاف الحكمة والبلاغة.<BR>وهذا هو الفرق بين (القافيَة) و (النسق) ففي القافيَّة قد يستعمل نفس اللفظ بمعنيين بخلافه في النسق فقد ذكرت (وَتَبَّ) الثانية لمنع ذلك, وهو ما حصل فعلا.<BR>الأمر الثاني: إنَّه من عطف الكل على الجزء أي تبت يداه بل تب كله. لعدم الملازمة بين تباب اليد وتباب الكل فان المقصود بتباب اليد هو أعمالها الفاسدة فيكون المعنى: تب عمل أبي لهب ولا ملازمة بين عمله وذاته كما قلنا, فان العمل قد يغفر وتناله الرحمة والشفاعة وعندئذ لا يكون التباب لذاته, الاّ انه إذا تب كله تعينت عليه النار باعتباره غير مستحق للتوبة.<BR>أو نقولك: إن عمله يستحق عقابا أقل من ذاته؛ لأن أصل ذاته ليست فقط لأذية النبي? بل لعبادة الأصنام وشرب الخمر وغير ذلك فتكون [وَتَبَّ] الثانية لمجموع أعماله, فتتعين الإشارة إليها والتصريح بها.<BR>سؤال: في قوله تعالى: [ما أغنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ]. <BR>ما الفرق بين ماله وما كسب, فان الذي يكسبه هو المال فلماذا التكرار؟.<BR>جوابه:<BR>أولا: ليس هناك من محذور من التكرار ولا مانع من عطف التفسير على معنى: ماله الذي كسب.<BR>ثانياً: إنَّ [كَسَبَ] بمعنى الفعل الاختياري ونتائجه لا بمعنى المال.<BR>فان الفعل ونتائجه يصدق عليها المال والكسب وإنما يكون مالا باعتبار القدرة والسلطنة عليه والحيازة له, ومن ذلك ما روي عن النبي هود ?[ ]حين سئل عن زوجته قال: تلك زوجتي وهي عدوي وأنا أدعو الله لها بطول البقاء, لأن عدواً أملكه خير من عدو يملكني, فقد عبر عن السيطرة والقدرة بالملك. <BR>ومنه قوله تعالى: [بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ][ ] أي: تحت سلطنته وقدرته.<BR>فالفعل الاختياري نحو من الكسب ونحو من المال حين يكون الفرد قادرا عليه ومتسلطا عليه, وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم قال تعالى: [فمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ][ ], وقال: [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ][ ], وقال: [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ][ ] إلى غير ذلك من الآيات.<BR>فمن الواضح من تلك الآيات: إنَّ [كَسَبَ] بمعنى الفعل الاختياري ونتائجه وليس بمعنى المال ولم يرد الكسب بمعنى المال في القرآن الا في مورد واحد وهو قوله تعالى: [ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ][ ] أي: من المال الحلال.<BR> أما بقيَّة الآيات الكريمة فهي غير ظاهرة بالمال, بل الظاهر منها ما هو الأعم من فعل اختياري من طاعة وعصيان.<BR>ومن هنا قال المعتزلة باصطلاح الكسب في علم الكلام, يريدون الفعل الإختياري أو نتائجه الدنيويَّة أو الأخرويَّة, ولم يوافقهم على إصطلاحهم هذا الإماميَّة والأشاعرة. <BR>أما الأشاعرة فلأنهم مجبرة, وأما الإماميَّة فلأنهم نفوا الجبر والتفويض في حين يكون الكسب أقرب إلى معنى الجبر؛ لأن إسناده إلى الله سبحانه ويصبح كأنه لصيق بالعبد لا يمكن فكاكه عنه, والكلام عنه في محله.</P>

<P><BR> فإن قيل: فإن الكسب في القرآن الكريم مسند إلى الفاعل البشري.<BR>قلنا: نعم, وهو فعله الاختياري إلا انه استعمال مجازي فلا يصلح أن يكون إصطلاحاً؛ لأنه يجب أن يقوم على معنى حقيقي.<BR>أما المال فمستعمل في القرآن كله بالمعنى العرفي وهو الثروة قال تعالى: [وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ][ ], وقال سبحانه: [وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً][ ], وقال: [الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى][ ], وقال: [مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ][ ] إلى غير ذلك.<BR>إلا في هذا المورد من سورة اللّهب فانه قابل للوجهين: المال والكسب, ومثله قوله تعالى: [يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ][ ]. <BR>وعلى أي حال فكل منهما أطروحة قابلة للتصور والفهم غير ان الظاهر القرآني هو ان المال هو الثراء والكسب هو العمل.<BR>سؤال: لماذا وصفت النار بذات لهب مع أن كل نار هي ذات لهب؟.<BR>جوابه من وجوه:<BR>أولا: لأجل النسق القرآني لنهايات الآيات لوضوح انه بدونه لا يستقيم.<BR>ثانياً: وصف النار بذلك وصفا توضيحيا لأجل زيادة الإهانة والتنقيص لأبى لهب.  <BR>ثالثا: إنَّ اللهب وان كان ملازما من النار العرفيَّة كبرت أو صغرت, ومن هنا يغني ذكر أحدهما عن ذكر  الآخر كما هو المفروض في هذا السؤال. <BR>إلا ان الواقع إن النار أعم من ذلك وأوسع مفهوما فهي تعني الحرارة العاليَّة أياً كان مصدرها, وجهنم مصداق مهم من ذلك.<BR>وقد ورد[ ]: إن في كل درك من دركات جهنم ثلاثين ألف من أنواع العذاب. <BR>وورد[ ]: إن أشد الناس عذابا في جهنم سبعة: خمسة قبل الإسلام واثنان بعده في توابيت مقفلة.<BR>فالمهم الآن انه لا يمكن أن يكون اللّهب موجوداً في هذه التوابيت.<BR>إذن, فالنار ذات اللهب حصة من جهنم أو بعض منها, وهي التي يصلاها هذا المشرك, وقد ورد وصفها في آية أخرى [إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ][ ].<BR> إذن, فاللهب والشرر قد يكون ضخما جدا كالقصر أو كالجمل: [كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ][ ], مع انفجارات تقتضي رمي مثل هذا الحجم الضخم من النار إلى مسافة بعيدة.<BR>سؤال: إنَّ [حَمَّاَلَةَ] صيغة مبالغة وليست أسم فاعل فلماذا أعرض عن ذكر اسم الفاعل وقال: حاملة الحطب؟.<BR>جوابه: من الناحيَّة الكبروية والصغروية:<BR>أما من الناحيَّة الكبرويَّة, فان استعمال صيغة المبالغة لأجل الدلالة على الكثرة والشدة. <BR>وأما اسم الفاعل, فيصدق على المرة الواحدة فيكون على خلاف المقصود.<BR>وأما صغروياً: فإنه من الواضح أن المراد إن تلك المرأة كانت كثيرة حمل الحطب دائماً أو في كثير من الأحيان وهذا يعني:<BR>أولا: إنَّها كانت تحمل الحطب لإيذاء رسول الله ? وهي تكثر من ذلك لأجل الإكثار من أذيته.<BR>ثانيا: إنَّها كانت تحمل الحطب كمهنة أي لتأخذ الأجر عليه, لا إنها تبيعه وإلا سمّيت حطابة, ولم يرد ذلك في القرآن الكريم.<BR>ويمكن ضم احد هذين الوجهين إلى الآخر, فقد يكون كسبها من حمل الحطب ولأجل إيذاء الرسول ? فهي حطابة من كلتا الجهتين.<BR>سؤال: ما هو مؤدى حمل الحطب؟.<BR>جوابه: إن حمل الحطب في الآية يعطي إشعاراً بأمرين:<BR>الأمر الأول: إنَّه يد ل على حمل الذنوب والطغيان والعصيان, قال تعالى: [وَقَدْ آتَيْنَاكُن منْ لَُدنا ذِكْرّا. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً. خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً][ ], وقال سبحانه: [وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ][ ], وقال: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ][ ].<BR>الأمر الثاني: إنَّ فيه إشعارا أيضاً على أن حمل الحطب يؤلم الظهر؛ لأنه ثقيل ــ أولاً ــ وفيه وخز  ــ ثانيا ًــ بل لعله يؤدي إلى الدماء والمضاعفات الصحيَّة.<BR>وحسب النقل التاريخي إنها ــ قاتلها الله ــ كانت تتعمد أن تأتي بالحطب الذي فيه سُلائة لكي يكون أشد إيذاء للرسول ?. وهي بهذا العمل كانت تؤذي نفسها وتظلمها بإرادة الشر لها ماديا ومعنويا, وبالعنوان الأولي وهو الوخز والعنوان الثانوي وهو الظلم.<BR>سؤال: ما هو موطن هذه الصفات المسندة إلى تلك المرأة وهي كونها [حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ]؟.<BR>جوابه: إنَّ هاتين الصفتين إما أن يكونا معاً في الدنيا وإمّا أن يكونا معا في الآخرة وإمّا أن يكون إحداهما في الدنيا والأخرى في الآخرة وإمّا أن يكون كلاهما معاً في الدنيا والآخرة معاً.<BR>فتكون الاحتمالات أربعة. فما هو منها الموافق للظهور القرآني بالمقدار الذي يُعدُّ حجة فيه وما هو المخالف له؟ <BR>الاحتمال الأول: إنَّ كلا الأمرين يتحقق في الدنيا فهي تحمل الحطب في الدنيا وفي جيدها ــ أي رقبتها ـ حبل من مسد يتعلق به الحطب.<BR>وهذا هو سبب نزول السورة وهو لا ينافي شيئاً من السياق.<BR>الاحتمال الثاني: أن يكون الوصف الأول في الدنيا والثاني في الآخرة, فهي حمالة الحطب لإيذاء الرسول ? وفي الآخرة يكون في جيدها حبل تجرها الملائكة بوساطته إلى النار.<BR>ولكن يرد على هذا الاحتمال إشكالان:<BR>الإشكال الأول: إنَّ [فِي جِيدِهَا] جار ومجرور ينبغي أن يتعلق بفعل أو شبهه وليس هناك فعل إلا قوله: [سَيَصْلَى] وفاعله مذكر والمراد به: أبو لهب, ولا يمكن أن يتعلق الجار والمجرور به؛ لأنه مؤنث فيكون تعلقه به مفسداً للسياق القرآني.<BR>فإن قلت: يمكن تقديره مؤنثاَ ليصلح متعلقاً للجار والمجرور كأنه قال: وستصلى امرأته حمالة الحطب.<BR>قلت: لا يمكن أن يتعلق الجار والمجرور بفعل محذوف ولم يقل به أحد النحويين فالمتعين أن يتعلق الجار والمجرور بـ[حَمَّالَةَ] أي: بهذه الصفة. <BR>ولكن يرد عليه: إنَّنا افترضنا إن في جيدها حبل من مسد في الآخرة, وهي حمالة الحطب في الدنيا فيكون هذا تنافي في المعنى والسياق.<BR>الإشكال الثاني: إنَّ الحبل الذي يكون من مسد في الآخرة أضعف من أن يؤثر أو يمكن أن تجر به الملائكة تلك المرأة الشريرة, فإن الحبل من المسد يتقطع بسرعة.<BR>فإن قلت: إن حبل الآخرة غير حبل الدنيا, بل هو مناسب مع وجودها الأخروي فلا يكون قابلا للانقطاع.<BR>قلت: نعم, ولكنَّه عندئذٍ لا يكون من مسد, بل من شيء آخر.<BR>فإن قلت: إنَّ القرآن سمّاه مسداً.<BR>قلت: إن المسد هو الحبل المفتول من الليف. فان أخذناه بمعناه الحقيقي أو المادي فانه لا ينسجم مع الآخرة كما أوضحنا. وان أخذناه بالمعنى المجازي, فهو ينسجم مع الآخرة. <BR>ويمكن أن نعطي لذلك أطروحة, كما يلي:<BR>إنَّ المسد هو الليف, لكن الذي أفهمه: إنَّ مسد أي: فرك, والحبل يصنع بالمَسْد والفرك, فحبل من مَسَد أي: حبل ممسود ومفتول .وحينئذ يمكن أن يناسب وجوده في الآخرة؛ لأنه لن تتعين مادته فقد يكون حبلا مفتولا شديد القوة.<BR>الاحتمال الثالث: إنَّ كلتا الصفتين في الآخرة فلا يكون دليل على وجودهما في الدنيا.<BR>وقد يُدَّعى وجود الدليل اللفظي على صحة هذا الاحتمال, وهو إن حمالة الحطب حال من [تصْلَى] التقديريَّة, ولا مرجع لها غيرها.<BR>إلاّ أن الصحيح: إنَّ الحال يكون من الاسم لا من الفعل وليس كالظرف والجار والمجرور فهو حال من امرأته. وان حالها الدنيوي على ذلك ومعه ينفي هذا الاحتمال, مضافاً إلى حال إيذائها للنبي ? الثابت تاريخيا.<BR>الاحتمال الرابع: أن يكون كلامها موجودا في الدنيا والآخرة. <BR>وهو الذي ذهب إليه المشهور, وصاحب الميزان ? حين قال[ ]: والظاهر ان المراد بالآيتين: إنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا.. فتُعذب بالنار وهي تحمل الحطب وفي جيدها حبل من مسد.<BR>أقول: وهو معنى له درجة من الوجاهة والإشعار به قائم, خاصة إذا ضممنا الفكرتين السابقتين وهما: إنَّ المراد بالحمّالة هو حمل مسؤوليَّة الذنوب, وان المراد بالليف ما يناسب وجوده مع وجود الآخرة.<BR> لكنَّه من التفسير الباطني, وليس هناك دليل لفظي عليه وذلك لأن الحطب هو الخشب المتكسر, وأما التعبير عنه بالذنوب فهو مجازي.<BR> والمسد هو الليف أو الحبل المفتول, فانه ينصرف عرفاً إلى الحبل الدنيوي لا الأخروي. ومعه نحتاج إلى ذوق معنوي في الفهم على أنها, اعني: هذه المرأة, تحشر على نفس تلك الهيئة في الآخر. ولا يتعين ذلك بحسب الحكمة الإلهية,ولا قرينة عليه.<BR>إلاّ انه نفهم أنهما معا في الدنيا ويكون السياق دالا على وجودهما هناك. بلسان الحال, أو باعتبار أن الحبل من مسد, إنما يكون في جهنم لتجر به تلك المرأة إليها. <BR>وهذا بعيد, إلا أن يراد بالمسد شيء آخر مجازاً وهو أيضاً خلاف الظاهر.<BR>وإذا تمَّ, فستكون وحدة السياق على أن كليهما هناك, وهذا لا دليل عليه بل الدليل على خلافه كما سبق. مضافاً إلى صيرورة وجود حبلين في الآخرة في عنقها: حبل الحطب وحبل المسد وهو بعيد؛ لأنه في الدنيا واحد وان حبل المسد هو حبل الحطب, ولكنها تجر في الآخرة بحبل آخر لا محالة.<BR>فإن مقتضى التشابه التام بين حالها في الدنيا وحالها في الآخرة, هو أن يكون في جيدها حبل واحد تحمل به الحطب وتجر به إلى جهنم, وهو ممكن تصوراً عقلاً إلاّ أنه غير عملي, بل حبل المسد للحطب وهناك حبل آخر تجر به وهو ما لا يستفاد من الآية بل السياق يعطي وجود حبل واحد.<BR>إذن, يرجع القول بأنها تعذب في الآخرة كغيرها من المجرمات, وليس تماماً كحالها في الدنيا, كما هو عليه مشهور المفسرين.</P>

<P> الوجوه الإعرابيَّة في السورة:<BR>[ تَبًَّ]: بكلا وجوديها في السورة يمكن أن تكون إنشاء بمعنى الدعاء, ويمكن أن تكون إخباراً.<BR>أما الإنشاء بمعنى الدعاء, فتفسيره من الله سبحانه وتعالى عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: إنَّه نحو من أساليب البلاغة, فانه كما يستعمله المخلوق يمكن أن يستعمله الخالق.<BR>الأطروحة الثانية: إنَّه دعاء لنفسه بأن يفعل, فكل فاعل اختياري يمكن أن يأمر نفسه اختيارا أو حقيقة, أو باعتبار تنزيل الشخص الواحد منزلة شخصين.<BR>الأطروحة الثالثة: إنَّ بعض الأسماء الحسنى تدعو بعضاً فكما ان رحمته تقدمت على غضبه أي انها تذهب بالغضب, إمّا تكميلا أو تنقيصا, فكذا الحكمة تدعو (ذو الانتقام) لأن مقتضى الحكمة الانتقام منه وهكذا.<BR>الأطروحة الرابعة: إنَّه إنشاء بمنزلة التنبؤ.<BR>فان قلت: إنَّ التنبؤ يكون للمستقبل فيدل عليه الفعل المضارع, فلماذا عبر عنه بالماضي؟<BR>قلت: هذا الأسلوب متكرر كثيراً في الأسلوب القرآني وهو تنزيل ما هو مستقبل منزلة ما هو ماضٍ لعدة أهداف:<BR>أولا: لأهميته. <BR>ثانياً: للتأكيد على وقوعه.<BR>ثالثاً: للتأكد من حدوثه والفراغ منه.<BR>وأمّا إذا أريد بها الإخبار كما هو الأقرب, فهنا وجوه:<BR>أولاً: إنَّها اخبار عن الآخرة, فيكون بمعنى المضارع كما سبق.<BR>ثانياً: إنَّها اخبار عن الدنيا, يعني: إنه قد هلك في نفس فعله باعتبار كونه قد فعل القبيح. <BR>ثالثاً: إنَّ الأظهر هو النظر إلى نتائج الفعل, وهو الرسوب في الامتحان الإلهي, وهو الهلاك المعنوي الحاصل فعلا, وهو على معنى الفعل الماضي.<BR> وهذه الاحتمالات تأتي في كلا الفعلين: [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]. وهي في الثاني أوضح.<BR> وفرقه عن السابق: إنَّ في الآخرة عقابه, وأما في الدنيا فيراد به أحد أمرين:<BR>الأمر الأول: نفس عصيانه فتبت, أي: عصت يدا أبي لهب وعصى هو أيضاً, فنفس العصيان هو الهلاك. أو يلحظ بصفته علة تامة للهلاك.<BR>الأمر الثاني: أن يراد بالهلاك الأثر الوضعي لإيذاء الرسول?, وهو يحصل في الدنيا. وهو تعبير آخر عن الفشل في الامتحان الإلهي.<BR>سؤال: ما المقصود من حرف [مَا] في قوله تعالى: [مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ]؟ <BR>الجواب: قال أبو البقاء العكبري[ ]: [مَا أَغْنَى] يجوز أن يكون نفيا أي: لم يغني عنه ماله وكسبه في نجاته من العقاب, وان يكون استفهاما أي: استفهاماً استنكاريا للاستهزاء. <BR>بمعنى هل أغنى عنه ماله وما كسب, ولا يكون بمعنى الذي فيكون المعنى: الذي أغنى ماله وما كسب فيتحول النفي إلى إثبات فيفسد السياق ويكون قطعي البطلان.<BR>سؤال: لماذا استعمل [مَا] بدلا عن [مَنْ]؟.<BR>فان قلت: إن في ذلك احتقاراً له باعتباره كالحيوانات.<BR>قلت: إنَّ هذا مطعون كبرى وصغرى:<BR>أمّا كبرى: فلعدم إمكان إعادة الضمير أو اسم الموصول مجازاً, فإنَّ هذا غير مقبول لغوياً. <BR>وأما الصغرى: فلأننا لو تنزلنا عن ذلك وقبلنا به مجازاً فالقرائن المتحققة بخلافه؛ لأنه سيصبح اسم الموصول إثباتا كما ذكرنا فصونا لكلام الحكيم عن اللغويَّة, يتعين أن لا تكون [مَا ] موصولة, ومعه لا معنى لاستعمال [مَنْ] بدلا عنها.<BR>وقوله تعالى: [وَامْرَأَتُهُ] أما عطف مفرد على مفرد, فتكون لفظاً إفرادياً معطوفاً على الضمير في سيصلى أي: هو سيصلى, وأما عطف جملة على جملة, كما سيأتي بيانه.<BR>وقوله تعالى: [حَمَّاَلَةَ] فيها قراءتان: بالنصب وهو الأشهر وبالرفع.<BR>فعلى الرفع تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هي, وبالنصب تكون حالاً من[امْرَأَتُهُ] والمعنى: إن وصفها وحالها في الدنيا أو في الآخرة على هذا الشكل أي: حمالة الحطب.<BR> أمّا في الدنيا فواضح وأما في الآخرة فله وجهان:<BR>الأول: ما ذكره العكبري بقوله[ ]: ويقرأ بالنصب على الحال أي: تصلى النار مقولا لها ذلك.<BR>أقول: الظاهر إن مراده ليس النطق بل الصدق. <BR>الثاني: إنها تحشر إلى جهنم وقد كانت في الدنيا حمالة الحطب.<BR>وقوله تعالى:[فِي جِيدِهَا] جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم.<BR> و[حَبْلٌ] مبتدأ مؤخر, وهي جملة مستقلة بتقدير حرف العطف أي: إنها حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد. وهذا الواو إما أن يكون للعطف أو للحاليَّة. <BR>فإن قلت: إنَّ الجار والمجرور سيتعلق بفعل محذوف تقديره (ستصلى) وهو غير مقبول نحوياً مع العلم أن الجار والمجرور في قولنا: زيد في الدار أيضاً يتعلق بمحذوف بإجماع النحويين فلماذا لا نقبل ذاك المحذوف؟<BR>قلت: إنَّ هذا قابل للمناقشة صغرويا وكبرويا:<BR>أما صغرويا: فإنَّ هناك فرقا بين الجملتين من ناحية التقدير فإن التقدير في قولنا: زيد في الدار هو كائن أو مستقر وهو اسم إفرادي. بينما في هذه الجملة من السورة الشريفة هو جملة: لأنها (ستصلى) مقدرة فإذا جاز التقدير في اللفظ الإفرادي, فإنه لا يعني الجواز في المعنى التركيبي.<BR>وأما كبرويا: فنقول: إنه بالإمكان الاستغناء عن التقدير حتى في الخبر, كزيد في الدار, فإن الكون والاستقرار مأخوذ  بالدلالة الإلتزاميَّة من الجار والمجرور فزيد لا يكون في الدار إلاّ إذا كان كائنا أو مستقراً فيه.<BR>إذن, يمكن اعتبار الجار والمجرور بنفسه خبراً بدون تقدير.<BR>فان قلت: هذا بالنسبة إلى الجملة الإسميَّة, ولكنَّه ينقض بالجملة الفعليَّة كما في قولنا: صعدت على السطح, فإن الجار والمجرور لا بد أن يتعلق بالفعل المنطوق, وهو صعدت. <BR>وهذا قابل للمناقشة من وجهين:<BR>أولاً: إنَّه إذا كان الفعل منطوقا فلا باس أن يتعلق به الجار والمجرور, وأما إذا كان مقدرا فلا حاجة إلى التعلق به؛ لأنَّ التقدير على خلاف الأصل وعلى خلاف الفهم العرفي.<BR>ثانيا: إنَّه لا حاجة حتى إلى التعلق بالفعل المنطوق فإن (صعدت) لها معنى  والسياق يدلنا على أن الصعود كان على السطح, وكون الجار والمجرور متعلقا بهذا الفعل بالمعنى الميكانيكي النحوي ليس ضروريا البتة. <BR>هذا كله في الحديث على تقدير عطف المفرد على المفرد في قوله تعالى: [وَامْرَأَتُهُ].<BR>وأما إذا كان عطف جملة على جملة فما هو مدخول الواو؟<BR>أما[حَمَّالَةَ]بالنصب فـ[امْرَأَتُهُ] مبتدأ و[فِي جِيدِهَا]الخبر, أو ان الخبر هو[حَبْلٌ] أو هو جملة: [حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ]. <BR>وأما [حَمَّالَةَ] بالرفع فتكون هي الخبر, ويكون [فِي جِيدِهَا] إما نعت أو حال.<BR>سؤال: ما الحاجة إلى ذكر قوله تعالى: [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ] مع أن الناس كانوا يعلمون ذلك؟.<BR>جوابه من وجوه:<BR> أولا: إنَّ المراد بهذا الخبر هو زيادة الازدراء بابي لهب بأنه يصلى ناراً ذات لهب وهو أيضاً متزوج من امرأة حقيرة وحطابة.<BR>ثانيا: إنَّه هالك في الآخرة ومتزوج من امرأة مؤذية للرسول ?؛ لأنه كان راضيا بفعلها.<BR>ثالثاً: إنَّه سيصلى ناراً ذات لهب في الآخرة, وامرأته تحشر إلى جهنم على هذه الحال الموصوفة, أو هي في كلا الدارين كذلك.<BR>وكل هذه المعاني يمكن أن تكون صحيحة.<BR>سؤال: لماذا قال: [حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] ولم يقل: حبل مسد مع انه كافٍ في بيان المعنى؟.<BR>جوابه: إنَّ كلا الأمرين جائز في اللغة ولكنَّه متعين في السياق القرآني؛ لأن فيه حفظا له وبدونه يكون السياق فاسدا كما هو واضح.<BR>هذا إذا كان المسد بمعنى الليف.<BR> أما إذا كان بمعنى الفتل فانه يجوز كلا الأمرين: وجود [مِّن] وعدمها, <BR>نقول: حبل فتل أو حبل من فتل. <BR>وتقول: حبل مفتول, وفي حالة اسم المفعول هذا يتعين حذف من وحيث أنها مستعملة في الآية الكريمة إذن, نعرف بالقياس الاستثنائي إنَّ مسد ليست بمعنى المفتول.<BR> نعود إلى فكرة عطف الجملة على الجملة في قوله: [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ].<BR>أي: و[فِي جِيدِهَا] الواو عاطفة بين الجملتين وهي الاستئنافيَّة في إصطلاحهم, فتكون [امْرَأَتُهُ] مبتدأ و[حَمَّالَةَ] ــ بالرفع ــ خبره وفي جيدها حبل من مسد نعت أو حال.<BR>أما إذا نصبنا [حَمَّالَةَ]كما هو المشهور فتكون حالاً, ويكون الخبر هو الجار والمجرور. وقوله: حبل من مسد أي: هو حبل من مسد ولكن ذلك مرجوح, والأفضل أن يكون حبل من مسد جملة ابتدائيَّة: مبتدأ وخبر تقع خبراً لامرأته فيكون الخبر جملة بدل أن يكون مفرداً.</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>سورة النصر</P>

<P>        في اسمها عدّة أطروحات اتضحت أسبابها مما سبق:<BR>أولاً: النصر.<BR>ثانياً: الفتح.<BR>ثالثاً: السورة التي ذكر فيها النصر أو التي ذكر فيها [الفَتْحُ].<BR>رابعاً: [إِذَا جَاءَ].<BR>خامساً: رقمها في الترتيب الموجود للقرآن الكريم وهو: [110].<BR>سؤال/ما معنى [جَاءَ] في قوله تعالى: [إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]؟<BR>جوابه: معناه حصل الفتح وحدث، والمراد إما المجيء في الزمان أو بتقدير الزمان..<BR> يعني إذا جاء يوم الفتح أو زمانه, أو يراد به المجيء المعنوي وهو الحصول والتحقيق نفسه.<BR>وهو تعبير أخر عن الخلق في قوله تعالى:[ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شديد]( ), فسمى عمليَّة الخلق بالتنزيل أي: من العالم الأعلى إلى العالم الأدنى وكلمة جاء هنا متضمنة لنفس هذا المعنى.<BR>سؤال: ما الفرق بين النصر والفتح؟.<BR>جوابه:لاشك أنهما مختلفان لغة ومفهوما وأراد تعالى التنبيه على كلا المفهومين و يمكن تصورهما على عدة مستويات:<BR>الأول:أن يكونا معا في الدنيا، وهذا هو المنحى التفسيري ألمشهوري أو المادي, فيكون النصر مقدمة ً للفتح وربما خَصْوهُ بفتح مكّة.<BR>الثاني: أن يكونا معاً في الآخرة أي: النصر المعنوي والفتح المعنوي, ويكون النصر على النفس الأمارة بالسوء, ويكون الفتح بمعنى فتح العقل وإمكانية الفهم وتلقي العلوم سواء كان ذلك من الظاهر أو من الباطن قال تعالى: [أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ][ ] أي: بما فتح الله علماً من المعارف والعلوم لا بمعنى فتح مكة, وإذا كان الفتح متزايدا وعميقاً في العقل فهو الفتح المبين, قال الله تعالى: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً]( ).<BR>الثالث: أن يكون أحدهما دنيويا والآخر معنوياً أو أخروياً وعلى هذا المستوى يكون المعنى: إن تنتصروا انتصاراً دنيوياً نفتح لكم فتحاً معنوياً, إلا أنَّ وحدة السياق تأبى هذا الوجه وتدعم أحد الوجهين السابقين.<BR>والفرق بين النصر والفتح هو: إنَّ النصر يتضمن المقدمات بينما الفتح يتضمن النتائج ولذا قيل: الهدم قبل البناء كما في هدم العقائد الفاسدة, فإنه ليس بالأمر اليسير بل يتم بالتسديد الإلهي والرحمة الإلهيَّة.<BR>وعلى أي حال, فكل فتح يحتاج إلى مقدمات، وأهم مقدماته: النصر وأزاله العوائق، وهذا معنى سار في كل فتح ونصر, سواءٌ كان ماديا أو عسكرياً أو عقلياً أو نفسياً أو في أيِّ عالم خلقه الله تعالى.<BR>سؤال: هل المراد فتح ونصر معين أو كلي؟.<BR>جوابه: إنَّ في ذلك عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: إنَّ المراد به فتح مكة وفي ذلك نقطة ضعف ونقطة قوة:<BR> أما نقطة ضعفه فهي مخالفته للروايَّة ( ) على أنَّ هذه السورة نزلت قبل وفاة النبي ? بسنتين, في حين أن فتح مكة وقع قبل ذلك بعدة سنوات ومن المستبعد أن يكون البعد ألزماني كبيراً بين فتح مكة ونزول السورة إذا كانت قاصدةً له, ومعه تكون تلك الروايَّة مخالفة لظاهر القرآن الكريم فتسقط عن الحجيَّة؛ لان ذاك البعد ألزماني يكون كالقرينة على أن المقصود معنىً أخر بالقياس الاستثنائي.<BR>ونقطة القوة فيه: استعمال لفظة [الفتح] الدالة على أن مكة المكرمة كانت محصنةً بالسور أو بالقوة الكامنة فيها ولم يحصل مثل هذا الفتح في عصر النبي ? إلا لمكة, وتكون الألف واللام عهدية أي: إشارة إلى ذلك الفتح الرئيسي, وأما فتح المدينة المنورة فلم يحصل بالقوة بل بالصلح.<BR>وبذلك تندفع تلك الروايَّة المشار إليها باعتبارها مخالفةً لظاهر القرآن الكريم, ويتعين كون السورة بناءاً على هذه الأطروحة نازلة بعد فتح مكة مباشرةً.<BR>الأطروحة الثانية: أن يراد الإشارة إلى واقعة مهمة ولكنَّها مجهولة, تصحيحاً للروايات المرويَّة في المصادر العامة( ): بأنها نزلت قبل وفاة النبي ? بسنتين. <BR>وهذا في نفسه مستبعد؛ لأن تلك الحادثة إذا كانت مهمة حقيقيَّة كانت مرويَّة ومعلومة تاريخياً ولا يمكن لها عادة أن تكون مجهولة.<BR>الأطروحة الثالثة: أن يراد بالنصر والفتح معناهما الكلي القابل للانطباق على كل نصر وفتح وهذا معنى جيد, وان أستبعده الطباطبائي( ).<BR>إن قلتَ: إنَّ فهم المعنى الكلي مترتب على كليَّة اللفظ كما في الفتح إن كانت الألف واللام فيها للجنس, ولكن ذلك مفقود في [نصر] فإنها نكرة لا تفيد الشمول.<BR>قلتُ: إنَّ كلمة [نصر] مضافة إلى معرفة فتكون قابلة للشمول والإطلاق, ولعل اوكد من إطلاق الألف واللام؛ لأن الألف واللام يحتمل فيه العهديَّة, ولكن ينعقد سياق واحد من اللفظيين على كون [الفتح] أيضاً يراد به المعنى العام. فيكون ذلك قرينة على أن الألف واللام جنسيَّة لا عهديَّة بجعل ما هو متيقن قرينة على ما هو مشكوك كما هو مقرر في علم الأصول. <BR>وبعد ضم ذلك إلى ما قلنا من شمول الانتصارات الدنيويَّة على مراتبها والفتوحات الأخرويَّة على مراتبها أيضاً, يثبت الشمول لكل ذلك.<BR>وقوله تعالى: [رَأَيْتَ النَّاسَ] يراد به الثبوت لا الإثبات بالخصوص, أو يراد به كلتا المرتبتين معاً, يعني الإثبات المطابق للواقع والموافق للثبوت. ومفهوم الإثبات هو ظهوره المُطابقي, أما مفهوم الثبوت فهو دخول الناس في دين الله سواء حصلت الرؤيَّة لهم والتعرف عليهم أم لا.<BR>أو يكون المراد المعنى الشامل للإثبات والثبوت يعني:[إذا رأيت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] وكانت رؤيتك صادقة [فسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ].<BR> وهذا نظير قوله تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ), يعني الجمع في شهود الهلال بين الإثبات والثبوت يعني الرؤيَّة المطابقة للواقع.<BR>سؤال: ما هو محصل قوله تعالى: [ إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]؟.<BR>جوابه: إنَّ جملة: [إذا جَاءَ] جملة شرطيَّة يراد بها جعل أمر في طرف جواب الشرط بذكر الله سبحانه بالتسبيح والحمد والاستغفار.<BR>ولكن يمكن أن نعقد لها دلالة التزاميه على كونها إخبارا عن حصول النصر وذلك على مستويين:<BR>المستوى الأول: أن يكون إخبارا عن الماضي أي: ان فتح مكة قد حصل, وقد رأيت الناس يدخلون فعلاً في دين أفواجا, فسبح ــ إذن ــ بحمد ربك.<BR>المستوى الثاني: أن يكون إخباراً عن المستقبل أي: سوف يحصل ذلك, وعند ذلك سبح بحمد ربك واستغفره. ونظيره قوله تعالى: [غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الاّرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّه]( ). <BR>ولكن هذا إذا فهمنا من النصر والفتح المعنى الجزئي سواء كان حاصلاً في الماضي أو يحصل في المستقبل, غير ان الأمر ليس ينبغي أن يكون على ذلك, ومن أهم القرائن على نفي ذلك ما يسمى بأخبار الجري وهو ما ورد( ) عن المعصومين ?: إنَّ القرآن حي لم يمت وانه يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر ويجري على أولنا كما يجري على آخرنا.<BR>فمن هنا لا ينبغي لنا أن نفهم من القرآن الكريم في أي موضوع معنى جزئياً, بل يتعين فهم المعنى الأوسع والاهم.<BR>فإذا فهمنا المعنى الكلي يعني: أيُّ نصر وأيُّ فتح فكل نصر وفتح حصل في الماضي أو يحصل في المستقبل فهو سبب لانطباق جواب الشرط بذكر الله وحمده واستغفاره.<BR>وهذا من قبيل التنبؤ ولكن ليس تنبؤاً جزئياً, ومن أوضح مصاديقها وأعظمها ظهور الإمام صاحب الأمر (عجل الله فرجه), وإنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجورا فهو نصرٌ من الله وفتح. <BR>سؤال: ما المراد بدين الله؟.<BR>فإنه قد يقال: إنَّ المجتمع المعاصر لنبي ? لم يدخلوا في دين الله الواحد أي: الواقعي؛ لأنهم كانوا غير ممحصين وجهلة بدليل قوله تعالى: [أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ) ومن يُحتمل فيه الظلال لا يمكن أن يكون متكاملا في الإيمان.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ المراد من دين الله: إظهار الشهادتين وهو ما حصل فعلا عند فتح مكة وبعده ودخل الناس أفواجا في دين الله بهذا المستوى.<BR>الوجه الثاني: المراد منه الدين الذي يوصف بأوصاف محدودة من دون حاجة إلى التقيد بقيود كثيرة, ونريد به إظهار الشهادتين مع شيء من الالتزام بطاعة الله وطاعة رسوله وهذا أيضاً قد حصل.<BR>فإن قلت: لكنَّهم انقلبوا على أعقابهم بعد ذلك.<BR>قُلتُ: إنَّ هذا من الإيمان المستودع يزيله الإنسان من سوء أفعاله باختياره, وهذا لا ينافي أنهم قد دخلوا في دين الله بشكل معتد به وليس بمجرد إظهار الشهادتين.<BR>الوجه الثالث: إنَّ المراد من دين الله: الدين الخالص أو الواقعي, وهؤلاء الذين دخلوا به هم القلة من البشر.<BR>ولكن إذا فهمنا ان المراد هو الأجيال المتعاقبة من أول الإسلام إلى يوم القيامة فسوف يدخل في دين الله أفواج من المؤمنين, فيكون ذلك مصداقاً كافياً للآية الكريمة.<BR>فإن قلتَ: إنَّ قوله: [وَرَأَيْتَ] ظاهر في كونه في حياة النبي ?.<BR>وجوابه: أولاً: إنَّنا إذا قلنا انَّ [وَرَأَيْتَ] مخصوص بالنبي ? فتكون بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد بدين الله هو الدين الظاهري الذي يتناسب مع عامة الناس.<BR>ثانيا: أن يكون المراد به غير الرسول ? وان كان هو المخاطب بالمباشرة بنحو قول الشاعر: إياك اعني وأسمعي يا جاره, أو أن المراد هو الرسول وغيره.<BR>ثالثا: إنَّه ? يرى الأمور في كل زمان ومكان باعتبار حقيقته الواقعيَّة وروحه العليا التي هي خير الخلق وأشرفه, إذ توجد حيث لا يوجد مكان ولا زمان فيكون هو المخصوص بالخطاب.<BR>قوله تعالى: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ].<BR>ويمكن أن يعرض السؤال عن المناسبة بين النصر والفتح من جهة, والتسبيح والاستغفار من جهة أخرى على شكلين:<BR>الشكل الأول: إن التسبيح والحمد والاستغفار مطلوب على كل حال, فما هي علاقته بالنصر خاصة؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّ الآيات الكونيَّة والحوادث المهمة ينبغي زيادة ذكر الله تعالى فيها؛ لأنها دوالٌّ على قدرته وعظمته إذ من المحتمل إنها جاءت للتمحيص أو للعقوبة أو البلاء, ولذا كرر سبحانه وتعالى كثيراً في كتابه الكريم: [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ), و[ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ) وغير ذلك. <BR>وكمصداق لذلك صلاة الآيات وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنائز, فإن هذه الأمور تُذكِّر بوجود الله وبعظمته, قال تعالى: [حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ][ ]. <BR>وهكذا حال النفس الأمارة بالسوء لا تذكر الله إلا في البلاء وأما في الرخاء فهي لا تعرفه, والنصر والفتح نحو من البلاء فلا بد من التسبيح والحمد والذكر دفعاً لسوء النفس الأمّارة ولأنها عطاء مباشر من الله سبحانه وفضل منه ونعمة.<BR>الوجه الثاني: ليس المراد أيجاد أصل التسبيح والاستغفار لكونه موجوداً حتماً لدى المؤمن, وإنما المراد زيادته وإنما عبّر بذلك؛ لأنه ينبغي الزيادة في ذلك بحيث يكون السابق عليها ملحقا بالعدم فكأنه لم يكن يستغفر أصلاً.<BR>الشكل الثاني: لماذا التسبيح والاستغفار مع العلم أن المحل محل الشكر على النعمة؟.<BR>جوابه: لأكثر من وجه واحد:<BR>أولاً: ما ذكره الرازي( ) في هامش العكبري: قال: قال أبن عباس ?: لما نزلت هذه الصورة علم النبي ? إنه نُعيت إليه نفسه, وقال الحسن: أُعْلِّم النبي ? إنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والاستغفار والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح وكان يكثر من قوله: سبحانك اللهم اغفر لي انك أنت التواب الرحيم, وعن أبن مسعود ?: إنَّ هذه السورة تسمى: سورة التوديع, وروي أن النبي ? عاش بعد نزولها سنتين.<BR>أقول: إنَّ هذا لا يتم لعدة أمور:<BR>أولاً: عدم ثبوت هذه الروايَّة سنداً.<BR>ثانياً: إنَّه لا يفسر الارتباط بين النصر والاستغفار, فيبقى جواب الشرط غير مرتبط بفعل الشرط. وما خالف ظاهر القرآن الكريم فهو باطل.<BR>ثالثاً: إذا كان المراد فتح مكة كما عليه مشهور المفسرين, فهو قد حصل قبل وفاة النبي ? بأربع أو خمس سنين لا بسنتين ظاهراً.<BR>رابعاً: يحتمل أنها نزلت قبل فتح مكة, فتزداد بعداً عن سنة وفاته?.<BR>وذلك لقرينتين:<BR>أولهما: نقل ذلك في روايَّة أخرى( ).<BR>ثانيهما: إنَّ[إذا] إستقباليَّة تقلب معنى الفعل الماضي ــ وهو جاء ــ  إلى الاستقبال, فيكون ظاهره التنبؤ بحصول النصر في المستقبل.<BR>خامساً: إنَّه ليس فرداً عادياً لينسى الموت, كي يكون من الحكمة تذكيره به وحثه على زيادة العمل قبله ُ. <BR>سادساً: إنَّ النبي ? معصوم, فلا تحتاج وفاته ــ لو صح التعبير ــ  إلى مزيد من الاستغفار والتسبيح, ويكفي أن نتذكر إنه قد نص القرآن الكريم على غفران ذنوبه أكثر من مرة: <BR>منها قوله تعالى: [ليغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]( ).<BR> وقوله سبحانه : [وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ]( ).<BR>ثانياً: من الجواب على الشكل الثاني من الإشكال: ان الفصل بين التسبيح والاستغفار فلكل منهما مبرراته.<BR>أما التسبيح فله أكثر من وجه:<BR>أولاً: إنَّه مصداق للشكر، فإن للشكر مصاديق كثيرة منها: التسبيح, وكذلك للحمد مصاديق كثيرة منها التسبيح، كما نقول في ذكر الركوع والسجود: سبحان ربي العظيم وبحمده.<BR>ثانياً: إنَّ النعم المذكورة في السورة آيات عظيمة لله سبحانه. ويكفي في تصور عظمتها ان فيها تطويعاً لهذا المقدار الضخم من الناس مع ما فيهم من نفوس أمارة وأهداف دنيويَّة وجهل ديني, وهذا التطويع يدل على عظمته. فإن النفس مهما كانت صعبة المراس, إلا أنها خاضعة لتطويعه سبحانه من حيث لا تعلم. فناسب ذلك وجود التسبيح.<BR>ثالثاً: أن يكون المراد بالتسبيح, فهم معناه من حيث إدراك عظمة تلك النعم وأهميتها والتفكير بها. فإنه مصداق من التذكير في خلق الله سبحانه, المطلوب في القرآن الكريم قال تعالى: [ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ). <BR>أما الاستغفار, فله أيضاً أكثر من وجه:<BR>أولاً: الاستغفار لأمته, كما قال تعالى: [لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً]( ).<BR>ثانياً: الاستغفار للتائبين والداخلين جديداً في الإسلام, وهو مورد الكلام في السورة.<BR>ثالثاً: الاستغفار مما قد حصل في مقدمات هذا الفتح من تقصيرات ونحوها.<BR>فإن قلتَ: إنَّ النبي ? معصوم, والمعصوم لا ذنب له.<BR>قلنا: نعم, ولكنَّه كان يشعر بينه وبين ربه بذنوب (دقّيَّة) وبعض أشكال التقصير المنظور إليه من أعلى, فلا بد من الاستغفار منها.<BR>قوله تعالى: [إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً].<BR>[كَانَ] هنا للشأنيَّة لا للماضويَّة, كما ذكرنا في علم الأصول, والقرينة على ذلك أمران:<BR>الأمر الأول: قرينة عامة, وهو انه سبحانه لا يحتمل تبدل شأنه من حالة إلى أخرى, فنعلم أنه ثابت في الماضي وفي الحال والمستقبل, يعني أنه توجد قرينة عقليَّة قطعيَّة على استمرار صفاته أزلياً، فلا يصدق في حقه [كَانَ] إذا كان المراد منها الماضي.<BR>الأمر الثاني: وهي أوضح عرفاً وعقلائياً, فإن قوله: [إذا جَاءَ], وقوله: [رَأَيْتَ النَّاسَ], وقوله: [فَسَبِّحْ]. كلها تدل على الاستقبال, فلا يمكن أن يكون قوله: إنَّه كان توابا للماضي.<BR> مضافاً إلى أن اطاعة الأمر لا يمكن أن تكون إلا استقباليَّة, ولا تكون حاليَّة أي: في حال الأمر، ولا يمكن اجتماعه مع ما هو ماضي بطبيعة الحال, فحتى مع فرض التنزل عن القرينة العامة, فإن السياق الاستقبالي للسورة يعيِّن بالقرينة المتصلة ان المراد بـ [كَانَ] الشأنيَّة.<BR>وقوله: َ[توَّاباً] صيغة مبالغة, ويمكن ملاحظتها من جهتين:<BR>الجهة الأولى: من ناحيَّة مادتها وهي التوبة, وتحصل من الطرفين: من العبد وربه. <BR> كقوله ( ): من تاب تاب الله عليه, فتوبة العبد هي التنصل من الذنوب. والتوبة من الله هنا الستر على الذنوب واعتبارها كما ورد( ): التائب عن الذنب كمن لا ذنب عليه.<BR> قال الراغب ( ): والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة فالعبد تائب إلى الله, والله تائب على عبده, والتواب: العبد الكثير التوبة وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركاً للجميع. وقد يقال لله تعالى ذلك؛ لكثرة قبوله توبة العباد حالاً بعد حال. <BR>أقول: ومنه قوله تعالى: [إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً].<BR> الجهة الثانية: من ناحيَّة هيئة الكلمة من حيث كونها صيغة مبالغة. <BR>وهنا يمكن طرح سؤال: لماذا أستعمل صيغة المبالغة ولم يستعمل صيغة أسم الفاعل أعني: تائب؟. <BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول:اختلال السياق اللفظي والنسق القرآني كما هو واضح.<BR>الوجه الثاني: إن فعل المضارع (يتوب) وان أمكن انطباقه على الجهتين: باذل التوبة وقابلها, إلاّ أن أسم الفاعل (تائب) أقل ظهوراً في ذلك, بل هو ظاهر بباذل التوبة وهو العبد, إلا أن يقيد بقرينة, مثل أن يقال: إنَّ الله تائب على عبده. وإلا فظهوره في العبد مما لا ينكر, في حين أن مقصود المتكلم في القرآن كون الله سبحانه هو التائب وهذا لا يكون إلاّ بصيغة المبالغة.<BR>الوجه الثالث: إنَّ صيغة المبالغة تفيد أمرين:<BR> أحدهما: إنَّه سبحانه سريع التوبة وكثيرها, والمراد أنه يتوب ويغفر وإن كانت الذنوب كثيرة, وإنه لا يأس من رحمة الله فليس الله تائباً عن عبده مرة أو مرتين, بل كثير التوبة عنه والرحمة له.<BR> ثانيهما: الاستقباليَّة, فلو قال: تائباً لم يكفِ؛ لأن المراد وقوع الاستغفار لا في الماضي والسياق كلّه للأستقبال كما عرفنا, فتكون الأنسب صيغة المبالغة. <BR>فإن قلت: إنَّ هذه العبارة مربوطة بالاستغفار فقط دون ما قبله.<BR>قلت:<BR>1 ــ نعم لا بأس بذلك.<BR>2 ــ يمكن أن يكون ما قبله كله نحواً من الاستغفار ومصداقاً له وهو: التسبيح بالحمد. فيكون التواب مربوطاً بالجميع.</P>

<P>الوجوه الأعرابيَّة للسورة.<BR>قال أبو البقاء العكبري ( ): قوله تعالى: [يَدْخُلُونَ] حال من الناس, و[أَفْوَاجًا] حال من الفاعل في يدخلون.<BR>أقول: يكون المعنى: ورأيت الناس حال كونهم يدخلون حال كونهم أفواجا.<BR> ونعرض فيما يلي أطروحة في أعراب [يَدْخُلُونَ], بعد الالتفات إلى أن (رأى) تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر, فلو حذفت(رأيت) كان الناس مبتدأ ويدخلون خبره, فلماذا لا تعرب الآن على أنها في محل نصب, مفعولاً ثانياً؟. <BR>إن قلت: هذا مختص بـ(رأى) القلبيَّة لا الحسيَّة فأنها تنصب مفعولاً واحداً, فتعيين الجملة في كونها حالاً.<BR>قلت: نعم, هذا الإشكال وارد إذا كان المراد بالدخول: الدخول (الحسي). ولكن من خطل القول اعتبار دخولهم في دين الله دخولاً مادياً أو حسياً وإن كانت رؤيتهم كذلك, فتكون هذه صغرى للدخول المعنوي, وتكون (رأيت) صغرى للرؤيَّة القلبيَّة, ومن ثم يتعين أن تنصب مفعولين, فتكون جملة: [يَدْخُلُونَ] مفعولها الثاني.<BR>أما الكبرى, وهو الحديث عما ذكره النحويون من أن (رأى) القلبيَّة تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر, و(رأى) الحسيَّة تنصب مفعولاً واحداً إذا كان بعده منصوب تعين كونه حالاً, وإن كان في الأصل خبراً. <BR>فهذه الكبرى قابلة للمناقشة ضمن أمور:<BR>الأمر الأول: ما المانع من القول: بأن (رأى) القلبيَّة تنصب مفعولاً واحداً؟ <BR>المانع عن ذلك في نظرهم المادي: إنَّ الرؤيَّة القلبيَّة متعذرة لشيء معين أو قل: لمفعول واحد, فلا يمكن القول: رأيت زيداً ونريد به الرؤيَّة القلبيَّة, في حين أن القرآن قد أستعمل ذلك, قال تعالى: [وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ]( ) فينظرون بالحس المادي ولا يبصرون بالحس المعنوي. يعني أنهم لا يفقهون مستوى النبي ? وعقله وحكمته وكونه مدينة العلم, فهم يرونه ولكنَّهم لا يعرفونه. <BR>وعليه فإن (رأى) القلبيَّة يمكن أن تنصب مفعولاً واحداً كالحسيَّة تماماً.<BR>الأمر الثاني: ما المانع من التخيير بين المفعول الواحد والمفعولين وكلاهما ممكن؟.<BR>فإذا قصد المتكلم منصوباً وأحداً, أمكنه الاقتصار عليه سواء كانت الرؤيَّة ماديَّة أو معنويَّة, وإذا قصد المتكلم وجود مفعولين, يعني إدراك الصفة جاء بمفعولين, سواء كان ذلك الإدراك مادياً أو معنوياً, فيكون المنصوب الثاني في قولنا: رأيت زيدا طويلاً مفعولاً ثانياً, كما في قولنا: رأيت زيدا عالماً.<BR>الأمر الثالث: إننا وجدنا أن (رأى) الحسيَّة تأخذ منصوبين, والعرب قد أستعملوها هكذا, ولم يفسِّروها, فالمنصوب الثاني يمكن أن يكون مفعولاً كما يمكن أن يكون حالاً أو نحوه. وهذا كله معقول بعد ملاحظة هذه المُقدمات, فيكون المنصوب الثاني في قولنا: رأيت زيداً عالماً حالاً. كما في قولنا: رأيت زيداً طويلاً.<BR>فإن قلت: إنَّنا حتى لو سلمنا بذلك, فإن الآية ظاهرة بالحاليَّة.<BR>قلنا: إنَّنا بعد ان رجحنا أن (رأيت) في الآية الكريمة قلبيَّة, وهي صغرى سبق ذكرها, يتعين أن تكون جملة [يَدْخُلُونَ] مفعولاً ثانياً, فإن أعربناها حالاً فقدت (رأى) القلبيَّة مفعولها الثاني.<BR>وعلى أي حال, فمقتضى القاعدة أن جملة [يَدْخُلُونَ] مفعول ثانٍ, ومقتضى الظهور أنها حال, فأيٍّ من الظهورين نقدم؟. <BR>وجوابه: إنَّنا إن كنا متمسكين بالقواعد النحويَّة, فتقديم المفعوليَّة أولى, وإلا فالظهور أولى؛ لأن ظهور القرآن حجة فيتعين أن تكون حالاً, وهذا هو أقرب إلى الوجدان.<BR>هذا بعد ضم جانب الكبرى: وهو إمكان أن تنصب (رأى) القلبيَّة مفعولا وأحداً, كما قلنا إلى جانب الصغرى: وهو ظهور الجملة بالحاليَّة.</P>

<P> </P>

<P><BR>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P>سورة[ الْكَافِرُونَ]</P>

<P>في تسميتها عدة أطروحات:<BR>الأولى: [الْكَافِرُونَ],وبذلك تكون ذات اسم متدني؛ لأنه منسوب إلى قوم متدنين.<BR> ولا يجوز أن نقول سورة الكافرين؛ لأن المراد اللفظ لا المعنى على أن ذلك يفسد المعنى؛ لأن السورة ضد الكافرين وليست معهم.<BR>وبتعبير آخر: إنَّ انتساب شيء إلى آخر يتحقق بكونه ملكاً له أو معلولاً له, ولا يمكن القول بذلك تجاه هذه السورة, فإذا قلنا سورة الكافرين فقد نسبناها إليهم بوجه ما وهو واضح الفساد.<BR>الأطروحة الثانية: ما فعله الشريف الرضي في كتابه حقائق التأويل, من القول أنها: السورة التي ذكر فيها [الْكَافِرُونَ], وبذلك يندفع الإشكال المسجل على الأطروحة الأولى.<BR>الأطروحة الثالثة: أن يشار إلى السورة برقمها من المصحف الشريف, وهو: 109.<BR>سؤال:ما هو سبب تكرار الآية: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]؟, وبذلك نكون قد بدأنا بأوضح واهم الاستفسارات في هذه السورة المباركة.<BR>جوابه: من أكثر من وجه واحد:<BR>الوجه الأول: التأكيد, وهو ما ذكرته مصادر المفسرين وأكدت عليه, ومع ذلك فيمكن أن نقول: إنَّ التكرار يحتاج إلى سبب فما هو؟ ولماذا بهذا الأسلوب من التأكيد دون غيره؟<BR>ولتوضيح الجواب نحتاج إلى مقدمات:<BR>المقدمة الأولى: إنَّنا قلنا في المقدمة: إنَّ الأعم الأغلب من سور القرآن الكريم ليس لها هدف معين, أو لا يمكن التعرف على هدفها على الأقل. لكن قلنا: إنَّ بعض السور وخاصة القصار منها تكون واضحة الهدف. وسورة [الْكَافِرُونَ] منها فإنَّ سياقها واحد وبيانها وغرضها واحد .<BR>المقدمة الثانية: في بيان صغرى هذه الكبرى, وهو السؤال عن هدف هذه السورة.<BR> فنقول: هو المزايلة والمباينة بين أهل الحق وأهل الباطل كما ورد في بعض الأخبار: (فسطاط إيمان لا كفر فيه, وفسطاط كفر لا إيمان فيه), فهما منفصلان ومتباينان لا يمكن اجتماعهما بحال, بل بينهما غاية التنافر والخصومة.<BR>فهدف السورة لبيان الانفصال التام واللانهائي بين الحق والباطل.<BR>إن قلت: إن قصدنا من المعبود(الله) فهو معبود الجميع, بل هو معبود عبدة الأصنام أيضاً كما قال سبحانه: [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى][ ].<BR> وإن قصدنا الهوى والنفس والشيطان, فهو معبود الجميع أيضاً كقوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ][ ], وهو معنى شامل حتى للمسلمين. <BR>فليس هناك مباينة ومفارقة بين الطائفتين, فيكون قوله سبحانه: [لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ.وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] مجملاً غير واضح المعالم.<BR>قلت: جواب ذلك على مستويين: <BR>المستوى الأول: إنَّ الملحوظ بالدقة القرآنيَّة هما الجانبان المستقطبان, وهما الكفر الخالص والإيمان الخالص. <BR>وما لدى الأعم الأغلب من المسلمين إيمان مشوب بكفر, وما لدى الكافرين كفر مشوب بإيمان, فهنا يعطي القرآن النموذج المثالي وهو: الكفر الذي لا إيمان معه والإيمان الذي لا كفر فيه, وهذان لا يجتمعان أبداً.<BR>المستوى الثاني: أن ننظر إلى الجانب المختلط بين الكفر والإيمان على إختلاف درجاته, ومع ذلك فهؤلاء مؤمنون وإن عبدوا الهوى والشيطان؛ لأن هدفهم عبادة الرحمن. وأولئك كفار وإن عبدوا الله تعالى؛ لأن هدفهم الحقيقي هو العصيان والشيطان. فهنا يكون القرآن قد نظر إلى الهدف الأساسي لكلا الفريقين, فالمباينة والمفارقة موجودة وهدف السور بيان ذلك.<BR>المقدمة الثالثة: إنَّ التأكيد قد يحصل بالتكرار مرتين, إلاّ انَّ أقصى التأكيد هو التكرار ثلاث مرات وبذلك يدهم المخاطب به. وأما التكرار أكثر من ثلاث مرات فسيكون سمجاً عرفاً وذوقا بخلاف المرات الثلاث فإنها تفيد التركيز الشديد مع الموافقة للفصاحة والبلاغة. <BR>والتأكيد في القرآن الكريم قد يكون بالتكرار, وقد يكون بغيره. وهنا قد اختار الله سبحانه التكرار؛ لأجل زيادة التوضيح وقد ورد ذلك في مواضع أخرى من القرآن, كقوله سبحانه: [كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ][ ], وقوله: [كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ.ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ][ ], وقوله: [فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ][ ]. <BR>والتكرار في هذه السورة ثلاث مرات لا مرة واحدة, كما قد يخطر بالبال,فقوله: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] كرر مرتين بنفس اللفظ.<BR>قوله: [لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ], مكرر مع مغايرة اللفظ في قوله تعالى: [ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ].<BR>وقوله: [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ], هو بمنزلة التكرار لكل منهما فيكون كل وجه مكرراً ثلاث مرات.<BR>وبعد اجتماع هذه المقدمات الثلاث نقول: هذه التكرارات الثلاث هي أقصى مقدار من التأكيد والتركيز للمفارقة بين معبود المؤمنين ومعبود الكافرين, أو قل: هدف المؤمنين وهدف الكافرين, وهو أمر مهم بدرجة عاليَّة جداً لا يمكن التقصير فيه أو التغافل عنه.<BR>فإنه لا يوجد هدف أعلى من عبادة الله الواحد الأحد وأكثر مضادة من الشرك الكامل والصريح. <BR>وبما إنَّ هذه المباينة موجودة فهي تستحق التأكيد والتكرار, فيكون هذا الوجه صحيحاً وإن لم تتم الوجوه الأخرى الآتيَّة. <BR>الوجه الثاني: ما ذكره القاضي عبد الجبار حيث قال [ ] : إنَّه لا تكرار في ذلك؛ لأنَّ قوله تعالى: [لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ] المراد به المستقبل, وقوله تعالى: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] المراد بها الحال, وقوله تعالى: [وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ] المراد به المستقبل وفي الحال, أي لا أعبد ما تقدمت عبادتكم له. ومن يعد ذلك تكراراً فمن قلة معرفته وتدبره؛ لأنه ينظر إلى اللفظ ويعدل عن تأمل المعنى. <BR>أقول يرد عليه عدة إشكالات:<BR>أولاً: إنَّ هذه القيود التي ذكرها غير ظاهرة من العبارة القرآنيَّة, بل لعل الظاهر خلافه. فكلامه مجرد اقتراح بلا قرينة, وإنّما ينبغي أن يكون ما ذكره مطابقاً لظاهر القرآن وهذا ليس كذلك. <BR>ثانياً: إنَّه لم يعين رجوع الحال والاستقبال إلى أيٍّ من المجموعتين, من حيث انه هل يعود إلى عبادة واحدة أو العبادتين, أو إن أحدهما للحال والآخر للاستقبال, أو إن كليهما للحال, أو كليهما للاستقبال.<BR>ثالثاً: إنَّه لم يُجب عن التكرار الآخر في قوله تعالى: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]. وهو عين الآية الثانية. فإنه تكرار باللفظ نفسه. فلا يحتمل أن يراد به شيئاً آخر غير ما قُصد بالسابق من الزمان والمكان. ولم يتعرض لها بشيءٍ, بالرغم من قوله: "ومَنْ يَعُّدُ ذلك تكراراً, فمن قلة معرفته وتدبره. لأنه ينظر إلى اللفظ ويعدل عن تأمل المعنى". <BR>وجوابنا: إنَّ المعنى يستفاد من اللفظ. فإذا تكرر اللفظ تكرر المعنى, لأنَّ اللفظ دالٌ على المعنى وليس مهملاً. فإذا تكررت الدوال تكررت المدلولات, وهي المعاني.<BR>الوجه الثالث: أن ننظر إلى العبادة والمعبود, كمعنى مصدري. فهناك عبادتان ومعبودان: الله وعبادته والأصنام وعبادتها. وفي السورة أربعُ آياتٍ, خصَّ كل واحدة منها بواحدة. وبيان ذلك يتوقف على مقدمة, وحاصلها:  إنَّ (ما) إمّا موصولة أو مصدريَّة. فإنْ كانت موصولة كانت بمعنى المعبود, أي: المعبود الذي تعبدونه. وإن كانت مصدريَّة كانت بمعنى العبادة, أي: لا أعبدُ عبادتكم ولا انتم تعبدون عبادتي.<BR>فتوزع المطالب الأربعة على الآيات الأربعة, ولا يحصل تكرار أصلاً:<BR>[ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ], وهذه مصدريَّة, أي:  لا أعبد عبادتكم [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] وهي مصدريَّة أي: عبادتي,[وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ] وهنا موصولة بمعنى معبودكم, [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] وهي موصولة بمعنى معبودي.<BR>ويمكن فهم المعنى بالعكس بالنسبة إلى المصدريَّة والموصولة, فنجعل(ما) موصولة في الآية الأولى والثانيَّة, ومصدريَّة في الثالثة والرابعة.<BR>ويكون قوله: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] مكرراً لفظاً لا معنى, فيندفع ما ذكرناه من الإشكال على القاضي عبد الجبار.<BR>إلا أنَّ هذا الوجه قابل للمناقشة: فلأنَّ توزيع (ما) المصدريَّة والموصولة, بهذا الترتيب أو ذاك, أمرٌ اقتراحي لأجل تصحيح السياق ليس إلاّ ولا توجد قرائن متصلة عليه.<BR>مضافاً إلى أنَّ السياق يدل على وحدة المدلول, ووحدة السياق قرينة ظهوريَّة صحيحة في علم الأصول. فإمّا أن نحمل (ما) على الموصوليَّة في جميع الآيات, أو نحملها على المصدريَّة, فيرجع التكرار في كلتا الحالتين.<BR>فإن قلت: إنَّ التكرار لغوٌ ولا يصدر منه سبحانه.<BR>قلت: إنَّ اللغويَّة إنّما تعين هذا الوجه مع الانحصار به, وليس الأمر كذلك لصحة بعض الوجوه الأخرى غير هذا الوجه كما سبق.<BR>الوجه الرابع: إنَّ الاشتقاق يختلف, فإذا أختلف اختلف معنى المادة.<BR> فإن احدهما فعل مضارع وهو:[لاَ أَعْبُدُ], والآخر اسم فاعل وهو قوله: [وَلا أَنَا عَابِدٌ], وبإختلاف الإشتقاق نحصل على عدة نتائج في مصلحة تغيُّر المعنى وعدم التكرار:<BR>الأولى: الفرق اللغوي واختلاف الانطباع العرفي, بينهما.<BR>الثانية: إنَّ الفعل المضارع يفيد الاستقبال, واسم الفاعل يفيد الحال.<BR>الثالثة: إنَّ الفعل المضارع يفيد التأبيد بإطلاقه, يعني لا أعبد إلى الأبد أو الأزل, وهذا ما لا يفيده أسم الفاعل.<BR>فأيّ من هذه النتائج أخذنا به, كان في مصلحة عدم التكرار, لولا وجود التكرار اللفظي الكامل في قوله تعالى: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ], وهو ما لا يشمله هذا الوجه فلا يكون تاماً في نفسه.<BR>الوجه الخامس: إنَّ الاشتقاق هنا يلاحظ بشكل آخر, فـ[تَعْبُدُونَ] فعل مضارع يفيد الحال, و[ عَبَدْتُم] فعل ماضي ومعناه وانطباعه اللغوي يختلف بطبيعة الحال, فلا يوجد تكرار من هذه الناحيَّة.<BR>ويرد عليه نفس الإشكال السابق, من أنَّ قوله: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] مكررة بنفس اللفظ والمعنى, فلا يصلح أن يكون وجهاً مستقلاً.<BR>وهناك بعض الأُطروحات للتركيب بين هذه الوجوه السابقة:<BR>الأطروحة الأولى: أن يكون التركيب المقترح كما يلي: [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لا أَعْبُدُ (في المستقبل) مَا تَعْبُدُونَ(الآن) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ (الآن) مَا أَعْبُدُ(في المستقبل) وَلا أَنَا عَابِدٌ(الآن) مَا عَبَدْتُمْ (في الماضي) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ (الآن) مَا أَعْبُدُ (في المستقبل)].<BR>إلاّ أنَّ هذا بمجرده غير كافٍ؛ لأنه تفصيل اقتراحي غير منضبط, بل قد يشوه السياق. ولا اعتقد أنَّ هذه المضامين مقصودة للحكيم تعالى.<BR>الأطروحة الثانية: إنَّه لا يراد من شيء من ذلك الماضي والمستقبل, وإنما يراد بها مطلق الشأنيَّة المنسلخة عن الزمان والمكان.<BR>فهذه الألفاظ: عبد, عابد, تعبدون, عبدتم, ألفاظ لُغويَّة وبيانات تدل على معنى أعمق من سطحها وتفاصيلها العرفيَّة, وهو معنى الشانيَّة. ويكون المعنى:إنَّه ليس من شأنهم أن يعبدوا الله كما ليس من شأن النبي ? أن يعبد الأصنام.<BR>وأمّا التعبير بالماضي أو الحال أو اسم الفاعل ونحو ذلك, فلا أهميَّة له, بل المهم المفارقة والمزايلة بين فسطاطين من القلوب, وليس من شأن أيَّ واحد منهما أن يدخل في الآخر.<BR>فإن أخذنا بنظر الاعتبار ان التكرار كان لأجل التأكيد الشديد كما قلنا في الوجه الأول, صح ذلك تماما. وإلا لم يتم؛ لأنَّ التكرار بالشأنيَّة سيكون بلا موجب, واختلاف الزمان لا اعتبار به كما مال اليه القاضي عبد الجبار [ ].<BR> وهنا يمكن أن نلاحظ أمرين:<BR>الأمر الأول: إنَّ قوله:[و َلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] فيه دلالة على أن ما يعبده النبي ? واحد, لذا تم تكراره باللفظ لعدم وجود دال آخر عليه. بخلاف الطرف الآخر أي: الكفار فإنَّ ما يعبده الكفار متعدد, كالأصنام والنفس, قال تعالى:[أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ][ ], والشياطين قال تعالى: [وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ][ ] وغيرها.<BR> ولذا ورد بصيغة المضارع تارة, وبصيغة الماضي تارة أخرى. فان عبادة كهذه تكون بحسب الشهوة والمصلحة الدنيويَّة فيعبد شيئاً في الماضي, ثم يعبد شيئا آخر في المستقبل, وهكذا.<BR> الأمر الثاني: إنَّ قوله تعالى: [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ], يُعَدُّ تكراراً بحسب المعنى العام للسورة, ويفيد التأكيد تأكيداً. وبحسب البلاغة ينبغي تغير العبارة بتغير اللفظ فهو بمنزلة النتيجة للمقدمات التي سبقته يعني: بما إنكم لا تعبدون ما أعبد وبما أني لا أعبد ما تعبدون, إذن لكم دينكم ولي دين.<BR>وهنا يرد سؤال: إنَّه قد يستشعر من ذلك إمضاء أديان الكافرين. وسيأتي جوابه عند الحديث عن هذه الآية الكريمة.<BR> هذا كله, بالنسبة للمضمون العام للسورة وهو التكرار. <BR>وندخل الآن في تفاصيل السورة ضمن الأسئلة الآتيَّة:<BR>سؤال: لماذا قال: يا أيُّها, ولم يقتصر على حرف النداء, أو على أحد هذين اللفظين؟.<BR>جوابه: حسب فهمي: إنَّ (يا) للنداء, أما (أيها) فهي ليس للنداء بل هي وصلة وتسبيب لدخول حرف النداء, فلا تصلح للنداء وحدها. وإن حصلت وحدها كانت بتقدير الحرف قبلها لا محالة.<BR>فمدخول (يا) هو كل كلمة خاليَّة من الألف واللام, أما المعرَّف بها فلا يمكن أن يكون مدخولاً لها, فتأتي (أيها) لأجل التوصل إلى ذلك. وهذا بحسب الذوق العربي واضح. وبحسب استقراء الاستعمالات القرآنيَّة إن (أيها) لم تأتِ مفردة, وإنما جاءت مدخولاً لحرف النداء. <BR>إذن, فلا بد من وجود الاثنين, ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر.<BR>سؤال: هل أن ظهور القرآن في هذه السورة يدل على الجبر؟.<BR>هذه الشبهة مأخوذة من بعض ما قلناه وما قاله صاحب الميزان ?, فلا بد من ذكر المقدمات لفهم هذه الشبهة, ومن ثم الإجابة عليها.<BR>المقدمة الأولى: الظهور بالشأنيَّة, وهذا ما قلناه من أن شأن الكافرين أن لا يؤمنوا وأن لا يعبدوا ما يعبد الرسول ?, وهو التوحيد, وليس المراد الفعليَّة والعمل والسلوك بل المراد من شأنهم وحالهم وديدنهم, فإن الحال والديدن من قبيل اللازم الذي يصعب تغيره وهذا يعطي إشماماً بالجبر. <BR>وأوضح منه:<BR>المقدمة الثانية: وهو ما ذكره صاحب الميزان, وهو من غرائبه ? حيث قال[ ] : [لاَ أَعْبُدُ] نفي استقبالي, فإن [لاّ] لنفي الاستقبال, كما انَع [مّا] لنفي الحال. والمعنى لا أعبد أبداً ما تعبدون اليوم من الأصنام.<BR>أقول: فيكون المعنى على هذا التقدير: إنَّ النبي ? سوف لن يعبد ما يعبد الكفار وهو صحيح. ولكن العكس لا يصح أي: إنَّ الكفار سوف لن يعبدوا الله تعالى. فظهور [لاّ] للتأبيد والاستقباليَّة المؤبدة مشعر بالجبر, فهل هذا صحيح؟.<BR>جوابه: إن القرآن غير ظاهر بالجبر, وذلك على عدة مستويات:<BR>المستوى الأول: إنَّ المراد بالكافرين إما الكلي أو الجزئي؛ لأن الألف وللام إما جنسيَّة أو عهديَّة. فإن أريد الجنس دل على امتناع دخول كل كافر في الإسلام وهو غير محتمل, بل دخولهم حاصل وكل ما هو حاصل ممكن, كما قيل: أدل دليل على إمكان وقوع الشيء حصوله, فمنشؤه باطل بالقياس الاستثنائي؛ لأنه لو كان ممتنعاً لما حصل وقد حصل, إذن فهو ليس بممتنع.<BR> وإن أريد العهد أي: مَنْ كان في ذلك الحين, فهو أيضاً غير محتمل بنفس التقريب؛ لدخول كثير منهم في الإسلام.<BR>وإن أريد الجنس المقيد كأبي لهب, فهذا الاختصاص يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة. <BR>المستوى الثاني: يعرض كأطروحة, وهو فهم القضيَّة الحيثيَّة وإنها ليست قضيَّة جزميَّة, أو قل: إنَّها قضيَّة إقتضائيَّة لا عليَِّة.<BR>يعني أن الكافر من حيث هو كافر وبصفته كافراً لا يعبد الله.<BR>فالكفر مقتضى لعدم عبادة الله وليس علة تامة لذلك. ويشابهه في القضايا الموجهات قولهم: الإنسان متحرك الأصابع مادام كاتباً أي: بصفته كاتباً.<BR>فإن قلت: إنَّها تكون عندئذ بمنزلة القضيَّة بشرط المحمول كما لو قلنا: يا أيها الكافرون انتم لا تعبدون الله بصفتكم كافرين, فتصبح الجملة منحلة إلى عدة قضايا بشرط المحمول مثل قولنا: يا أيها الكافرون انتم كافرون, يا من لا تعبدون الله انتم لا تعبدون الله وهكذا.<BR>قلت: إنَّ المحمول يختلف عن الموضوع؛ لأن الكفر ليس مجرد عدم الإيمان بالله تعالى بذاته, بل هو عقائد مستقلة وهو معنى قائم بذاته له نواحٍ اثباتيَّة كالإيمان بموسى وعيسى ?, ونواحٍ سلبيَّة (أو نفي) كعدم الإيمان بالتوحيد وبالرسالة المحمديَّة وبالقرآن وهكذا.<BR>وهذا ما تؤكده السورة ويدل عليه سياقها والهدف الذي قلنا انه أنزلت السورة من اجله, وهو المفارقة والمزايلة بين الحق والباطل.<BR>والسياق مع القرائن المتصلة تدعم تأييد هذا الهدف, وهو أنَّ الكفار من حيث كونهم كفاراً لا يؤمنون بالله, والمؤمنون من حيث كونهم مؤمنون لا يعبدون الأصنام كائناً ما كان ذاك الصنم وهو يؤيد ما روي: ( فسطاط إيمان لا كفر فيه وفسطاط كفر لا إيمان فيه).<BR> أما قوله تعالى: [لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ...الآية][ ]<BR>فهو صحيح سواء قصد الكلي أو الجزئي؛ لأنَّ عدم الهدايَّة يكون بمنزلة المعلول أو بمنزلة العقوبة لأفعالهم السابقة, ومن المعلوم: أنَّ الأكثر هنا لا يراد به ظاهراً أناس معنيون.<BR>وأما قوله تعالى: [ َسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ][ ] , فيراد به المتعصبون وهو صادق سواء كان المراد الجزئي أو الكلي.<BR>فإن قلت: إنَّه في هذه السورة يراد المتعصبون أيضاً.<BR>قلت: يحتاج ذلك إلى قرينة وهي مفقودة.<BR>فإن قلت: إنَّ القرينة هناك أيضاً مفقودة.<BR>قلت: إنَّ قوله: [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ] قرينة عليه.<BR>فإن قيل: إنَّ ظهور (لا) بالاستقبال دالٌ عليه.<BR>قلنا: هذا لا يكفي؛ لأن ظهورها بالاستقبال يكفي فيه يوم واحد, وأمّا استفادة التأبيد فهو غير محرز إلاّ بالإطلاق, فنفهم من الإطلاق أمراً عقائدياً مهماً مخالفاً للواقع فهذا غير ممكن, بخلاف الآيتين اللتين فيهما قرائن لفظيَّة.<BR>سؤال: لماذا قال الله تعالى: [وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] ولم يقل (مَنْ)مع أنَّه القياس؟.<BR>جوابه لعدة وجوه:<BR>الوجه الأول: ما اختاره الرازي في هامش العكبري [ ], وصاحب الميزان[ ], بما مضمونه: إنَّ ذلك لأجل حفظ السياق اللفظي فلو أبدلها بـ(مَنْ) لاختل السياق.<BR>الوجه الثاني: ما ذكره الرازي[ ]  أيضاً في أن (ما) مصدريَّة أي: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي.<BR>الوجه الثالث: إنَّ قوله: ما اعبد وما تعبدون, لا يتعين فيها شيء واحد وأمر فارد, بل هو أشياء كثيرة. فنحمل العبادة هنا على معنى الطاعة فيكون المطاع عدة أمور من كلا الجانبين.<BR>ففي جانب الكفر يكون المطاع: الشيطان والشهوات والأصنام وحب الدنيا والطواغيت وغيرها.<BR>أمّا من جانب الحق فالمطاع القرآن والوحي والتشريع والمعصومون ونحوها.<BR>ففي كلا الجانبين هناك من يعقل ومن لا يعقل, والمركب ممن يعقل ومالا يعقل لا يعقل؛ لأنَّ النتيجة تتبعُ أخس المقدمتين ولذا عبر بـ(ما) التي هي لمن لا يعقل.<BR>الوجه الرابع: إرجاع الموصول إلى المعبود بصفته معبوداً لا بصفته شخصاً,والسؤال إنما يتوجه باعتبار أن الموصولة يراد بها الله تعالى أي: (عابدون لله) وفي هذا الوجه تعود إلى عنوان المعبود.<BR>وهذا هو الموافق مع ظاهر مادة (أعبد) ومفادها كلِّي العبادة, فيكون المراد من الموصول كلياً والكلي لا يعقل, ويكون المعنى: أنتم لا تعبدون معبودي, وأنا لا أعبد معبودكم.<BR>الوجه الخامس: إنَّ لـ (مَنْ) الموصولة حدين: حد أدنى وهو المشهور حيث قالوا: إنَّها لمن يعقل ولغير العاقل, وحداً أعلى وهو ما نعبر عنه بعالم الخلق أو عالم الإمكان أو عالم المحدوديَّة.<BR>أمّا ما كان أعلى من هذه العوالم الثلاث وهي: الإمكان والخلق والمحدوديَّة, فهو خارج عن حد (مَنْ) الموصولة وهو الله تعالى, فإنَّه أعلى من عالم الإمكان؛ لأنه واجب الوجود, وأعلى من عالم الخلق؛ لأنه الخالق, وأعلى من عالم المحدوديَّة؛ لأنه متناهي بذاته وصفاته. إذن فهو أعلى من أن نعبر عنه بـ(مَنْ)؛ لأنه أعظم من كل من ( يعقل).<BR>إذن فـ (مَنْ) حدها الأدنى البهائم, وحدها الأعلى مَنْ كانت حكمته وعقله غير محدود. فلا نعبِّر عن كلا الحدين بـ (مَنْ) التي هي للعاقل, فيتعين التعبير عنه بأسماء موصولة أخرى.<BR>فهذه أيضاً أطروحة صالحة للجواب.<BR>سؤال: هل إن (ما) موصولة أم مصدريَّة؟ حيث قال العكبري[ ] :  يجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي والعائد محذوف, وأن تكون مصدريَّة ولا حذف, والتقدير: لا أعبد مثل عبادتكم.<BR>جوابه: إنَّنا نلاحظ هنا أن (ما) دخلت على الفعل المضارع ثلاث مرات, وعلى الماضي مرة واحدة, فنحن بين أمرين:<BR>فإمّا أن نقول: إنَّ المصدريَّة كما تدخل على الفعل المضارع فإنها تدخل أيضاً على الفعل الماضي, أو إنها لا تدخل على الفعل الماضي لأنها لا تسبك مع الماضي بمصدر.<BR>إذن فقوله: [مَّا عَبَدتُّمْ], لا يمكن أن تكون مصدريَّة.<BR>فمن اجل وحدة السياق إما أن تكون كلَّها مصدريَّة أو أن تكون كلها موصولة ولا يمكن التغاير بينهما. ومادام احدها متعيناً بالموصوليَّة, وهي الداخلة على الفعل الماضي, فنحمل الباقي الذي هو مشكوك على ما هو متيقن, فتكون كلها موصولة وليس فيها مصدريَّة.<BR>سؤال: قوله تعالى:[ َلكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] قد يقال: إنَّه يعطي إشعاراً بإقرار الدين الذي هم عليه. بل أكثر من ذلك وهو عدم الأمر بالخروج منه وعدم المنازعة فيه. فهل هذا هو المقصود أم لا؟<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ ذلك على خلاف الحال القطعي للرسول ?  وعقيدته ودعوته وحروبه وتكسيره الأصنام, مثل قوله تعالى: [أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ][ ] .<BR>وهذا ما التفت اليه صاحب الميزان حيث قال[ ] : فالدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن تدفع ذلك أساساً.<BR>الوجه الثاني: قال في الميزان[ ] : وقيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء, والمعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي.<BR>أقول: يعني لكم وليَّ يومٌ للإدانة وتحمل المسؤوليَّة, ويومٌ للثواب والعقاب. وهذا معنى جيد ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.<BR>فإنَّ هؤلاء الكفار المخاطبين بهذه السورة لا دين لهم أي: ليس لهم مبدأٌ وعقيدةٌ وكل فكرهم خراب لا أهميَّة له. وذلك بأحد تقريبين:<BR>التقريب الأول: إنَّ الدين هو الدين السماوي, وأمّا المخترعات الأرضيَّة الدنيويَّة, كالماركسيَّة وغيرها فليست بدين. بل تكون كقوله تعالى: [إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ][ ], فيكون الدين بالنسبة إليهم سالبة بانتفاء الموضوع.<BR>وهذا يقرب أنَّ المقصود في الآية التي هي محل الكلام من الدين ليس العقيدة بل الجزاء.<BR>التقريب الثاني: إنَّ الدين أصول وفروع أو عقيدة وتشريع أو فقه, وأما الآراء التي لا تقابل الأصول والفروع فهي بمنزلة التسيِّب عملياً وفقهياً وسلوكاً, فهم لا دين لهم. بل يكون أيضاً بمنزلة السالبة بانتفاء الموضوع, فيتعين معنى الجزاء.<BR>الوجه الثالث: إنَّ اللام في قوله تعالى: [لَكُمْ دِينُكُمْ] ليس للإقرار بل للاختصاص. وهناك قرينتان على ذلك:<BR>الأولى: قرينة عامة, وهو هدف السورة كما عرفناه, وهو الفرقة والانعزال بين الحق والباطل, والسياق العام للسورة دالٌ على ذلك.<BR> مضافاً إلى الظهور اللغوي, فأهل الباطل مختصون بكفرهم لا أنهم مقِّرون عليه. <BR>الثانية: قرينة خاصة, وهي ظهور اللام بالاختصاص لغةً, وهذا مما يدم القرينة العامة. وليس في العبارة ما هو زائدٌ على ذلك ليدل على الإقرار بأيِّ حالٍ.</P>

<P>***</P>

<P>سورة الكوثر<BR>وهي اصغر السوَّر لا بعدد الآيات, بل بعدد الكلمات والحروف وقد أشار المفسرون إلى ذلك. كما أنَّ لها هدفا واضحاً على بعض التقادير, كما سيأتي بيانه.<BR>وأما عن تسميتها ففيها الأطروحات الآتيَّة:<BR>الأولى: [الْكَوْثَرَ], وهو الاسم المشهور.<BR>الثانية: السورة التي ذكر فيها [الْكَوْثَرَ] وذلك على طريقة الشريف الرضي ?.  <BR>الثالثة: إعطاؤها رقمها في ترتيبها من المصحف الموجود وهو: 108. <BR>وأهم الأسئلة التي قد ترد في هذه السورة المباركة هي عن معنى: الكَوْثَرَ والنحر والأْبتَرُ.<BR>سؤال: ما معنى الْكَوْثَر؟.<BR>جوابه: قال الرازي[ ]  في هامش العكبري: إنَّه الخير الكثير, فوْعَل من الكثرة كقولهم: رجل نوْفَل أي: كثير النوافل ومنه قول الشاعر:<BR>     وأنت كثير يا ابن مروان طيب                  وكان أبوك ابن العقائل كوثرا أقول: ينبغي أن نسلم بان الكوثر الخير الكثير أو كثرة الخير, لا بمعنى ذو الخير الكثير وإن صح ذلك مجازاً, وإلاّ سوف يسقط تفسير الآية. إذ يكون المعنى: إنَّا أعطيناك ذا الخير الكثير, وهو مما لا محصِّل له إلاّ على بعض التفاسير الشاذة. بل يراد من الكوثر المصدر, ويسند إلى الرجل تجوزاً كما يقال: زيدٌ عدلٌ, أي: ذو عدل أو متصف بالعدل فنحتاج إلى التقدير. وهذا هو الاشتباه الذي وقع به الرازي.<BR>والكوثر يمكن أن يكون بمعنى المصدر, وأن يكون بمعنى اسم المصدر. والفرق بينهما ــ كما أشرنا في درس الأصول ــ إن المصدر عبارة عن المعنى حال كونه ملحوظاً متحركاً ومستمراً, واسم المصدر عبارة عن المعنى حال كونه ثابتاً قائماً بنفسه. فالخير الكثير يمكن أن يلحظ ثابتاً مفهوماً فيكون اسم مصدر, ويمكن أن نتصور له معنىً مستمراً فيكون مصدراً.<BR>وعلى ذلك فالكوثر الخير الكثير أو كثرة الخير, وعليه تحمل سائر المعاني التي ذكرت للكوثر حتى أنهاها بعضهم إلى ستة وعشرين معنى كما في الميزان[ ], وكلها مصاديق بالحمل الشائع منه.<BR>ومن هنا يتضح ما ذكره في الميزان حيث قال[ ] :  وقد اختلفت أقوالهم في نفس الكوثر اختلافا عجيبا فقيل: هو الخير الكثير, وقيل: نهر في الجنة, وقيل: حوض النبي ? في الجنة أو في المحشر, وقيل: أولاده, وقيل: أصحابه وأشياعه إلى يوم القيامة,وقيل: علماء أمته, وقيل: القرآن وفضائله كثيرة, وقيل: النبوة, وقيل: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع, وقيل: الإسلام, وقيل: التوحيد, وقيل: العلم والحكمة, وقيل: فضائله ?, وقيل: المقام المحمود, وقيل: هو نور قلبه ?, إلى غير ذلك مما قيل.<BR>أقول: فكل ذلك مصاديق من الكوثر ولا تنافي بينها, وكلها ليست كوثراً بالمفهوم أو بالحمل الأولي. بل هي منه بالحمل الشايع, ومعه يمكن القول بصدق الأقوال كلها من هذه الجهة, مع وجود حصص أخرى للخير الكثير لم يلتفت إليها المفسرون.<BR>وخاصة إن علمنا أن الكوثر من مختصات النبي ? وكل مختصاته خير كثير, بل هي غير متناهيَّة, بل ان كل صفاته كوثر من مصاديق الكوثر. وقد عرفنا إنها معانٍ غير متنافيَّة.<BR>ولكن على تقدير التنافي كما هو ظاهر قائليها وظاهر المفسرين, كما هو ظاهر الميزان أيضاً, لابد من الرجوع في التعيين إلى حجة. وإلاّ كان من تفسير القرآن بالرأي وهو محرم. والحجة هنا هي أمّا ظاهر القرآن أو هي السنة الشريفة, فإن أقمناها لم يبقى أمامنا معنيان أو ثلاثة على ما سيأتي.<BR>والمعاني المهمة المتصورة ثلاثة:<BR>المعنى الأول: الذريَّة, بدليل قوله تعالى: [إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ]. إذا فسرناه بما فسره مشهور المفسرين وأيده صاحب الميزان حين قال[ ] : الأبتر مَنْ لا عقب له, فيكون ذلك بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد هو الذريَّة.<BR>وبه يتحد مضمون السورة كلها وهدفها, وقد وردت في ذلك روايات نقلها صاحب الميزان[ ] , فراجع.<BR>المعنى الثاني: الحكمة, بدليل قوله تعالى: [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً][ ]. فهي إذن خير كثير بالحمل الشائع بنص القرآن, فيكون بمعنى الكوثر.<BR>المعنى الثالث: حوض الكوثر, أو نقول: ماء في الدار الآخرة اما بشكل حوض أو نهر في القيامة أو في الجنة. فان شكله الحقيقي عند الله, وهو مما لا نفهمه الآن بطبيعة الحال. <BR>على أيِّ حال, فهذا المعنى ما استفاضت به الروايات, وأشهر حديث روي[ ] عن الفريقين: علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. وهو حوض الكوثر لا غير.<BR>وقلنا: انه لا تنافي بين هذه المعاني؛ لورود روايات بوجود بواطن للقرآن الكريم, فليكن هذا منها.<BR>ولكن مع التنزل عن ذلك يمكن القول: بان هدف السورة بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد من الكوثر هو الذريَّة, ويدعمه أيضاً النقل التاريخي[ ]  بان السورة إنما نزلت فيمن عابه ? بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله.<BR>هذا مضافا إلى المعنى اللغوي للأبتر, قال الراغب في المفردات[ ] : البتر, يستعمل في قطع الذنب, ثم اجري قطع العقب مجراه فقيل: فلان ابتر إذا لم يكن له عقب يخلفه.<BR>وإذا تخلينا عن ذلك لم يبقى لقوله تعالى: [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ] فائدة, بل سيكون للسورة هدفان لا هدف واحد احدهما: إعطاء الكوثر, والآخر: إن شانئك هو الأبتر. في حين ان وحدة الهدف مطلب جيد, فينبغي أن نحمل السورة على ما هو جيد. فيكون بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد بالكوثر: الذريَّة كما قال صاحب الميزان: إنَّ كثرة ذريته ? هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبي ?.<BR>إلاّ ان ذلك قابل للمناقشة من أكثر من وجه:<BR>الوجه الأول: قبول أن للسورة هدفين وليس بالضرورة أن يكون واحدا, فإن الهدف المتعدد موجود في كثير من السور, ووحدة الهدف في هذه السورة ليست قطعيَّة. بل هي الأفضل كما ذكرنا.<BR>الوجه الثاني: إنَّ وجود القرائن الثلاث, على أن المراد من الكوثر هو الذريَّة ينافي الروايات المستفيضة الدالة على كون المراد منه حوض الكوثر, ومعه فيمكن اعتباره تقيداً أو تفسيراً للكوثر, فمن حق السنة أن تقيد ظاهر القرآن الكريم.<BR>الوجه الثالث: عدم المنافات بين كثرة الذريَّة وغيره من المعاني كما سبق أن بيّناه, غايَّة الأمر أن الآية الأخيرة تكون خاصة بهذا المعنى فقط.<BR>الوجه الرابع: إنَّ كل ذلك مبني على ان الأبتر هو من لا ذريَّة له. وأما إذا فهمنا منه معنى أوسع من ذلك صح؛ لان الأبتر هو مبتور الذنب فيصلح ان يكون مجازا لأيِّ حرمان أو نقصان. ومعه فأيِّ معنى قصدناه من الكوثر يمكن أن نقصد عدمه من الأبتر. ومنه الحرمان من الخير الكثير فإنه معطى للنبي ? ومحروم منه عدوه, فيتحد بذلك هدف السورة ويكون بعضها قرينة على بعض.<BR>ويمكن أن نفهم العموم من ثلاثة ألفاظ في السورة:<BR>* الكوثر: وهو الخير بالمعنى الكلي.<BR>* الأبتر: منقطع الخير أيُّ خير.<BR>* شانئك: مطلق المنتقد والعدو, وكل عدو للنبي ? يصدق عليه ذلك. ولا ينبغي أن نحمله على ما ورد في الروايات[ ]  من أن المراد به (العاصي بن وائل )؛ لأن ذلك على خلاف مضامين أخبار الجري, كالذي ورد عن الإمام الصادق ?[ ] : إن القرآن حي لم يمت وانه يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر. ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا. فمثل هذه الأخبار تكون قرينة على التجريد عن الخصوصيَّة ليس هنا فحسب بل في كل القرآن.<BR>كما انه لا وجه لأن نفهم من [شَانِئَكَ] خصوص هذا الرجل لأنها خاليَّة من الألف واللام ليمكن حملها على العهد وان كان ذلك هو سبب النزول إلا ان المورد لا يخصص الوارد, كما هو القاعدة المتفق عليها.<BR>وتكون النتيجة: إنَّ النبي ? له الكوثر أي: الخير الكثير من جميع الجهات, وهو أهل لذلك لأنه أعلى الخلق واعلم الخلق وعدوه خالٍ من ذلك. وبيان ذلك هو هدف السورة. وكل من كان له بالنبي ? أسوة حسنة, وبالمعصومين ? فانه ينال من خيره ? بمقدار استحقاقه. <BR>إن قلت: إنَّنا إن فهمنا من الشانيء: العدو بالمعنى العام لم يكن أبتر ؛ لأنه قد أوتي خيراً كثيراً كما نراه اليوم للكافرين. فإن الدنيا لهم متسقة ومستوسقة, وليس لأهل الحق منها شيء. بل (أيديهم من فيئهم صفرات)[ ]  فكيف وصف الشانيء بأنه ابتر بهذا المعنى؟.<BR>قلت: إنَّه خير مادي خال من الخير المعنوي فإن قلوبهم خراب من الهدى. وهذا هو الجانب الأهم في نظر الشريعة إلى حد يبقى الظاهر ناقصاً جداً, بل ملحقا بالعدم بالرغم من أهميته.<BR>مضافاً إلى أننا لو لاحظنا هذا الخير الدنيوي بالقياس إلى خير الآخرة, لرأيناه أيضاً ملحقا بالعدم, كما روي عن الإمام الحسن السبط ? [ ]: ــ ما مضمونه ــ إنك لو رأيت ثوابي في الجنة لقلت إني الآن في سجن. هذا بالرغم من حسن لباسه وكثرة ماله.<BR>إذن فابن الدنيا(ابتر)من الناحيَّة العقليَّة والمعنويَّة والأخلاقيَّة وإن لم يكن كذلك من الناحيَّة الدنيويَّة .<BR>قال في الميزان [ ]: وقيل: المراد بالأبتر المنقطع عن الخير.. وقد عرفت إن روايات نزول السورة لا تلائمه.. الخ .<BR>أقول: إنَّ القرينة المتصلة في السورة إنّما هي على ذلك, ووحدة هدف السورة منه كما تقدم.<BR>سؤال:ما هو وجه تعلق الكوثر والأبتر بالنحر والصلاة في قوله تعالى:[فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ]؟.<BR>جوابه: المراد به إعطاء التوجيه والتعليم وبأسلوب الشكر على هذه النعمة بالكوثر. فإنَّ أسلوب الشكر هو بالصلاة والنحر.<BR>وهذا المعنى يوافق المعنى(الكلامي) بوجوب عبادة المنعم.<BR>سؤال: ما المراد بالنحر؟.<BR>جوابه: فسروا النحر بعدة معانٍ تعرض الميزان للمهم منها حيث قال[ ]: والمراد بالنحر على ما رواه الفريقان..هو رفع اليدين في تكبيرة الصلاة إلى النحر, وقيل: صلِّ صلاة العيد وأنحر البُدْن, وقيل: صلِّ لربك واستو قائماً عند رفع رأسك من الركوع, وقيل غير ذلك.<BR>أقول: والذي أفهمه أمران:<BR>الأمر الأول: وهو الأمر الظاهر: فالمطلوب هو الصلاة والنحر وذلك لا يختص بالعيد بل هو ممكن في سبيل الله في سائر أيام السنة, كما إنه لا يختص بالبُدْن وان أختص بالنحر (والنحر لا يكون إلاّ للجمال) ولكن يمكن التجريد عن الخصوصيَّة لكل ذبح وجريان دمٍ, أو لكل صدقة على المحتاجين. والصدقات له سبحانه وهو يقبضها [ ] .<BR>  الأمر الثاني: وهو الأمر الباطن: فالصلاة هو التوجه الى الله سبحانه بالتكامل الحقيقي, والنحر هو نحر النفس الأمارة بالسوء وكبت الشهوات. وعلى ذلك ستكون عدة افتراضات منها:<BR>أولاً: إنَّ قلنا إنَّ الكوثر هو حوض الكوثر ونحوه, والأبتر هو مقطوع الذريَّة, كان للسورة هدفان: احدهما: في الآيتين الأوليتين؛ لأنهما متكفلتان لذكر النعمة وكيفيَّة شكرهما كما سبق. والثاني: في الآية الأخيرة.<BR>ثانياً: إنَّنا إن قلنا أنَّ الكوثر كثرة الذريَّة والأبتر عدمها, اتحد هدف السورة وتعين هدف الشانيء بواحد.<BR>ثالثا: إنَّنا إن فهمنا العموم اتحد الهدف أيضاً, إلا ان العموم ينبغي ان يكون شاملا لكل ألفاظ السورة, وأن الخير المعطى للنبي ? غبر معطى لعدوه طبعاً.<BR>ولكن يبقى الأقرب إلى الوجدان: الهدف الواحد لعدة أسباب:<BR>الأول: ما قلناه من أننا نفهم العموم أي: بيان خصائص النبي ? الخاصة به وبأتباعه ولا تشمل الفسقة والفجرة, وان طريقة الشكر لهذه العطاءات تكون بالنحر والصلاة.<BR>الثاني: أن نفهم من الكوثر والأبتر معنىً متقابلا خاصا, ولكنَّه متناسق إلى حد يحفظ تناسق السياق. وأوضح أشكاله هو أنَّ الكوثر هو كوثر الذريَّة, والأبتر عدم الذريَّة. وهذا هو الموافق مع سبب النزول.<BR>وان فهمنا من قوله: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرٍْ], رفع اليد في الصلاة أو رفع الجسم بعد الركوع, فهذا وان كان موافقا مع الصلاة, إلا أن فيه اخذ الآية مستقلة عن السورة وهو باطل جزماً إذ لا يكون لذكرها وجه معتد به؛ لأن شكر النعمة لا يكون بذلك أي: (بحركة اليد أو رفع الجسم) أو انه اقل من أن يكون بمنزلة الشكر. بخلاف ما إذا كان يراد بالنحر: نحر البُدْن أو نحوها, أو يراد به نحر الباطل في النفس أو في الغير. <BR>والله سبحانه يرشدنا إلى الشكل الأمثل من الشكر على إعطاء الكوثر بطبيعة الحال, لا إلى صورة ضئيلة منه.<BR>إن قلت: فان الصلاة تكفي شكرا ًفإنها عمود الدين. ويكون [انْحَرْ] جزءاً للصلاة استحبابيا أو وجوبيا مثل: (انحر القبلة) أي: توجه إليها بنحرك فلا حاجة إلى فهم نحر البُدْن ونحوها.<BR>قلت: هذا لا يتم لعدة وجوه منها:<BR>أولا ً: إنَّه يكون اقل شكراً؛ لأنه من الواضح ان إضافة نحر البُدْن إلى الصلاة أكثر شكراً.<BR>ثانياً: التساؤل عن ذكر هذا الجزء بالتعيين من الصلاة دون غيره. إلا أن يراد به كون اختياره من اجل الحفاظ على قافيَّة الراء وهو وجه, إلا ان ما سبق أقوى بلا شك.</P>

<P><BR>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P>سورة الماعون</P>

<P>في تسميتها عدة أطروحات:<BR>الأولى:[المَاعُونَ], وهي التسميَّة المشهور. <BR>الثانية: [الَيتِيمَ], كما سماها أبو البقاء العكبري[ ].<BR>الثالثة: السورة التي ذكر فيها الماعون أو التي ذكر فيها اليتيم, سيراً على طريقة الشريف الرضي ?.<BR>الرابعة: الإشارة لها برقمها في المصحف المتداول وهو 107.<BR>قوله تعالى: [أَرَأيْتَ], الاستفهام هنا على معنى الاستنكار وليس استفهاما حقيقياً؛ لأن المراد الاستنكار من العمل لا الرؤيَّة الحقيقة.<BR>سؤال: ما المراد بالرؤيَّة؟.<BR>جوابه عدة وجوه:<BR>الأول: ما قاله في الميزان[ ]: وهو الرؤيَّة البصريَّة.<BR>الثاني: ما ذكره أيضاً[ ]: من احتمال ان تكون بمعنى المعرفة.<BR>الثالث: أن يكون المراد بالرؤيَّة: البصيرة, وهي الرؤيَّة القلبيَّة التي تنصب مفعولين, ويكون التقدير: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ] فاعلاً لكذا وكذا, أو رأيته مكذباً بالدين.<BR>سؤال: ما المراد بـ [الَّذِي]؟.<BR>جوابه من وجهين:<BR>الأول: أن يكون المراد به الجزئي إن فهمنا المعنى المادي وهو الفهم الضيق؛ لأنه خلاف أخبار الجري. وعلى هذا التقدير يكون المرئي جزئياً.<BR>الثاني: أن يكون المراد به الكلي أو اسم الجنس, ومعه لا يحتمل ان تكون الرؤيَّة حسيَّة؛ لأن الكلي لا نراه حقيقة بل مجازاً, فان أسندت إلى الكلي فإنما المراد مصاديقه وأفراده. فتتعين عندئذ الرؤيَّة العقليَّة أو القلبيَّة؛ لأن العقل (هو النفس الناطقة) يدرك الكليات إدراكاً ابتدائياً كاملاً أي: بغض النظر عن أفراده.<BR>سؤال: ما المراد بـ [بِالدِّينِ]؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>الأول: الإدانة أي: يوم القيامة أو مطلق الإدانة والمسؤوليَّة أمام الله سبحانه وتعالى.<BR>الثاني: الملة أو العقيدة. <BR>وكلا المعنيين متلازمان؛ لأن الذي يكذب بأحدهما يكذب بالآخر,فيكونان متساويين مصداقا. وإن كان الاحتمال الأول أرجح؛ لأن الذنوب المذكورة في السورة فيها إدانة ومسؤوليَّة أمام الله سبحانه.<BR>سؤال: ما هو الوجه في ذكر الفاء في قوله تعالى: [فَذَلِكَ]؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الأول: إنها فاء تفريعيَّة؛ لأن من يكذب بالدين يفعل ذلك, فيكون من قبيل التعبير عن المعلول الموجود في الرتبة المتأخرة.<BR>الثاني: إنَّها بمنزلة التعليل إثباتا أي: بالدليل الإنِّي أي: الاستدلال بالمعلول على العلة, فإننا حين نرى عمله السيئ نعرف كونه مكذباً بالدين. فتكونا بمنزلة التعليل للاستفهام الاستنكاري في أول السورة.<BR>الثالث: إنَّها بمنزلة جزاء الشرط, قال في الميزان[ ]: والفاء في [فَذَلِكَ] لتوهم معنى الشرط. أقول: أي ان أداة الشرط وفعل الشرط مقدّران على معنى: إن عرفته فهو المطلوب وان لم تعرفه فاعرفه بصفاته فإنه كذا وكذا.<BR>والوجوه التي لا تحتاج إلى تقدير هي الأفضل بطبيعة الحال, فان التقدير خلاف الأصل وخلاف الظاهر.<BR>سؤال: ما هو معنى: [يَدُعُّ]؟.<BR>قرئَ بالتخفيف: يَدَعُ اليتيم أي: يهمله وينساه, وقرئَ بالتشديد وهو المشهور.<BR>قال الراغب[ ] : الدع, الدفع الشديد, واصله: أن يقال للعاثر: دع دع, كما يقال له: لعا. <BR>وقال في الميزان[ ] : الدع, هو الرد بعنف وجفاء.<BR>أقول: فيكون في الدع عناصر ثلاثة:<BR>الأول: إنَّ الدع يكون دفعا من جهة الظهر.<BR>الثاني: إنَّه دفع على حين غرة وغفلة, وهو المناسب مع احتقار المجرم.<BR>الثالث: ما قاله سيد قطب في بعض كتبه[ ], من أن الإنسان حين يُدْفَع بعنف يخرج منه صوت (أع) فأخذ منه الدع.<BR>أقول: إنَّ القرآن يستعمله كلفظ لغوي ولم يجد مناسباً إلا ذلك, فان اللغة قائمة أساساً على الأصوات وهي منشؤها الطبيعي كالتألم والضحك وأصوات الحيوانات وغيرها. إذن فالدع والدفع من الألفاظ الصوتيَّة, وفيه صوتان: احدهما: فع, وهو يمثل الصوت الذي عبر عنه سيد قطب. ثانيهما: الدال, وهو صوت الضربة, وهي التي أنتجت سقوطاً أو تقيؤاً ــ لو صح التعبير ــ  وقد تقدم الدال على الصوت الآخر كما هو كذلك تكوينياً.<BR>وكثير من الألفاظ من هذا القبيل, كالتنفس فصوته: تن فس للشهيق والزفير, والتنخم والطقطقة والفأفأة وغيرها. <BR>سؤال: كيف يتم دع اليتيم؟.<BR>جوابه: يكون الدع على شكلين:<BR>الشكل الأول: فعلي, وهو متوقف على حضور اليتيم وطلبه للمساعدة. <BR>الشكل الثاني: تشريعي, وهو مناسب أيضاً, بل هو الأنسب. وطلب اليتيم يكون بلسان التشريع, وبحرمانه يكون الإنسان قد عصى المشرَّّع له والمشِّرِع. فكما هو دع لليتيم هو دع الله عز وجل. وظلمه هذا إنما هو ظلم لنفسه, قال سبحانه: [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ][ ].<BR>وقد فسرت هذه الآية بأهل البيت[ ] ؛ لأنهم هم الشارع المقدس, والتشريع بيدهم, فقد ظلموا أهل البيت ? بعصيانهم. وأما الله سبحانه فهو امنع من أن يظلم.<BR>سؤال: ما معنى (الحضّ) في قوله تعالى: [وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ] قال في الميزان[ ]: الحضّ الترغيب, وقال الراغب[ ]: الحض التحريض كالحث إلا أن الحث يكون بسوق وسير والحض لا يكون بذلك. <BR>أقول: الحث والحض بمعنى واحد, إلا ان الأخير يزيد عليه بالأهميَّة والهمة. ومعه يكون المعنى: إنَّ اليتيم يحض الآخرين على إكرامه والعتب إنما يكون على من لا يحض على إكرامه.<BR>وهذا الفعل يحتاج إلى مفعول وهو محذوف, قال في الميزان[ ]: والكلام على تقدير مضاف أي: لا يرغِّب الناس... الخ. <BR>وهذا التقدير إن كان بالمعنى المادي فنحن في غنى عنه عرفاً؛ لأن المفعول أحيانا يكون من الوضوح بمكان بحيث لا نحتاج إلى التصريح به كما في الأفعال التاليَّة: يرغب ويرهب ويخوف ويطعم ويخلق, كله بمعنى: الغير,وكذلك يزرع ويأكل ويشرب. لا حاجة عرفاً إلى التصريح بالمفعول كما قلنا.<BR>سؤال: لماذا عدل عن الإطعام إلى الطعام, مع أنها المناسبة في المقام؟.<BR>هذا السؤال له جوابان: <BR>الأول: إنَّ الطعام مصدر ثلاثي يستعمل بدل المصدر الرباعي (أو المزيد) وهو الإطعام.<BR>وهو وارد في اللغة كجرى وأجرى, تقول: جرى الميزاب وأجرى الميزاب الماء, فيكون المعنى: إنَّه لا يحض على إعطاء طعام المسكين.<BR>الثاني: الطعام بمعنى الذات, وهنا نحتاج إلى تقدير أي: إطعام الطعام أو إعطاؤه ونحو ذلك ولا معنى له بدون تقدير. بينما لا نحتاج في الجواب الأول إلى تقدير.<BR>قال في الميزان[ ] : قيل: إنَّ التعبير بالطعام دون الإطعام للإشعار بان المسكين كأنه مالك لما يعطى له, كما قال تعالى: [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ][ ] . </P>

<P>أقول: اللام هنا للملك. كما نفهم الملكيَّة من قوله ?[ ] : الأرض لمن أحياها.<BR>سؤال: لماذا قال تعالى: [وَلا َيَحُضُّ], ولم يقل: ولا يطعم؟.<BR>جوابه: أولاً: واضح من السياق عدم الأمرين فهو لا يطعم المسكين, ولا يحض على إطعامه, ومن هنا كان الانتقاد شديداً. ولو كان يطعم ولا يحض غيره, لما كان شديداً.<BR>ثانيا: إنَّ عدم الحض له حصتان: أما مع ترك العمل نفسه وأما مع وجوده. فلو تنزلنا عن الوجه الأول وقلنا بشمول الآية لهما معا, فتكون كلتا الحصتين مرجوحة. فانه إذا كان ترك الحض مرجوحاً حتى مع عمل نفسه, فكيف إذا كان ذلك مع تركه.<BR>سؤال: ما معنى المسكين؟.<BR>جوابه: قالوا: إنَّ معناه الفقير. ورجح أكثر الفقهاء انه أسوأ حالاً من الفقير. وهذا - حسب فهمي - ليس بصحيح, فالفقير من لا مال له أو قل: انه لا يستطيع ان يصرف على حوائجه. وأما المسكين فهو لا يشبهه البتة؛ لأن المسكنة تعني الذلة فالمسكين هو الذليل, سواء كان غنياً أو فقيراً أو عالما أو جاهلا ذكرا أو أنثى, فتكون بينهما نسبة العموم من وجه تطبيقياً بالحمل الشايع. إلا انه غلب استعماله في الذليل الناشئة ذلته من الفقر؛ لأن الفقر هو السبب الغالب للذلة.<BR>وهذا هو المراد بالآيَة, بدلالة القرائن المتصلة أي: الفقير الذي نشأت مسكنته من فقره.<BR>وهذان اللفظان من الكلمات التي إذا اجتمعتا افترقتا, وإذا افترقتا اجتمعتا يعني: إذا افترقنا لفظا اجتمعتا في المعنى, وإذا اجتمعتا باللفظ افترقتا في المعنى وإلا فهما ــ على كلا التقديرين ــ متباينان في اللغة مفهوماً, وان كانا مجتمعين بنحو العموم من وجه تطبيقاً ومصداقاً.<BR>سؤال: لماذا يقال [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ] مع ان الصلاة عمود الدين, وهل يكون ذلك إلا مثل قول الشاعر:<BR>دع المساجد للعباد تسكنها<BR>ما قال ربك ويل للذين شربوا  وقف على دكة الخمار واسقينا<BR>بل قال ربك: ويل للمصليـــــنا<BR>جوابه: نقضاً وحلاً: <BR>الأول: وجود قرائن متصلة على تحديده, إذ ليس المراد مطلق المصلين قطعاً, وإلا لوصل الذم إلى رسول لله ? والمعصومين ?, مع ان مدحهم في القرآن أشهر من أن يذكر.<BR>الثاني: إنَّ المراد بهم حصة خاصة من المصلين بتقيد سابق وتقيد لاحق.<BR>اما التقيد السابق: فهو ما أشار إليه صاحب الميزان ?حين قال[ ]: وفي الآية تطبيق من يكذب بالدين على هؤلاء المصلين لمكان فاء التفريع.<BR>فإن قلت: إنَّ ترك الفاء يخل بالسياق اللفظي,  إذن فلا بد منها وان لم تفد التفريغ.<BR>قلت: نعم تخل بالسياق عندئذ غير انه كان يمكنه أن يستعمل الواو التي لا تفيد التفريغ إذا لم يكن التفريغ مقصوداً, إذن فهو مقصود.<BR>وأما التقييد اللاحق فهو قوله تعالى: [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ]. فهنا مطلق وهو مقيد بقرينه متصلة, فيتكون من القيد والمقيد مفهوم تصوري ضيق هو المنتقد في الآية دون غيره.<BR>وينبغي هنا ان نلتفت إلى انه يمكن التقييد بما بعده أيضاً وهو قوله: [الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ.وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ].<BR>قوله تعالى: [سَاهُونَ]. <BR>الظاهر من الساهي هنا هو الذي يحصل منه السهو مرات عديدة, أو هو مستمر على سهوه.<BR>سؤال: ما معنى السهو؟.<BR>جوابه: له عدة معانٍ:<BR>المعنى الأول: ترك الصلاة.<BR>فان قلت: إنَّه قد فرضهم مصلين.<BR>قلنا: إنَّ المصلين هنا بمعنى المسلمين ــ ظاهراً ــ أو هم من أهل القبلة لكي ينسجم المعنى, فهم مصلون؛ لاقتضاء الصلاة لهم بالاقتضاء التشريعي, يعني من تجب عليهم الصلاة. في مقابل الأديان الأخرى التي لا تؤمن بالصلاة.<BR>المعنى الثاني: الشك والسهو الواقع في الصلاة, قال الشهيد الثاني[ ]: إن كلاً منهما يطلق على الآخر استعمالاً شرعياً أو تجوزاً لتقارب المعنيين.<BR>ولكن هذا المعنى غير مقصود لأكثر من وجه واحد:<BR>الأول: إنَّ هؤلاء الساهين معاتبون بقوله: [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ], ولم يقل: للساهين.<BR>الثاني: إنَّ الشك والسهو غير اختياري عادة, فلا يكون الفرد معاتباً عليهما؛ لأن العتاب والعقاب خاص بما هو اختياري.<BR>فنستنتج من ذلك ان هذه الوجه غير محتمل.<BR>إلا  ان نقول: إنَّ الشك والسهو وان لم يكن اختياريا, إلا ان أسبابه قد تكون اختياريَّة, فالعتاب يتوجه على عدم ترك أسبابه ورفعها, ولكن ما هي هذه الأسباب أعني: المنتجة لزوال الشك والسهو؟.<BR>هي على نحوين:<BR>الأول: الراحة الدنيويَّة, يقال: أرح ذهنك لكي لا يكثر سهوك.<BR>الثاني: التكامل في درجات اليقين, فان حصول ذلك هناك يكون متعذراً ونادراً.<BR>المعنى الثالث: ما فهمه صاحب الميزان ? حيث قال[ ] : غافلون لا يهتمون بها ولا يبالون ان تفوتهم بالكليَّة أو في بعض الأوقات أو تتأخر من وقت فضيلتها وهكذا.<BR>أقول: أي يكون حال المكلف الاقتصار على الواجبات وترك المستحبات.<BR>وفيه نقطة قوة: وهي إن ما ورد من السؤال عن الوجه الأول لا يأتي هنا؛ لأن معناه إنهم مصلّون ولكنَّهم متسامحون في صلواتهم وهذا التسامح لا يكون إلا من أجل الاهتمام ببعض أمور الدنيا, قال في الدعاء[ ] : لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.<BR>سؤال: إنَّه تعالى قال: [الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ], فكررت [الَّذِينَ هُمْ] مرتين, فما هي الحاجة إلى[الَّذِينَ هُمْ] الثانية؟.<BR>وهنا ينبغي التعرف على إعراب الجملة قبل الشروع في الجواب.<BR>[وَيْلٌ] مبتدأ خبره محذوف, والجار والمجرور متعلق به و[هُمْ] مبتدأ و[سَاهُونَ] خبره و[عَنْ صَلاَتِهِمْ] جار ومجرور متعلق باسم الفاعل, ويكون التقدير: الذين هم الساهون عن صلاتهم.<BR>فالضمير [هُمْ] ليس ضمير فصل, بل مبتدأ نحتاج إليه ليكون عائداً على الموصول, بل حتى لو لم يذكر الضمير لاحتجنا إلى تقديره.<BR>و[الَّذِينَ] مبتدأ و[هُمْ] مبتدأ ثانِ خبره [يُرَاءُونَ], والجملة خبر للمبتدأ الأول.<BR>أو [هُمْ] ضمير فصل يفيد التأكيد, وبالتالي لا تحتاج الجملة إلى وجوده لكون العائد صالحا في أن يكون هو فاعل [يُرَاءُونَ]. فهنا يتأكد السؤال: لماذا وجد الضمير؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول كأطروحة: لعل هناك قراءة بترك [هُمْ], وهذا لا ينافي السياق اللفظي القرآني. والاحتمال مبطل للاستدلال المقابل.<BR>الوجه الثاني: ما عليه المفسرون من انه وضع لأجل إيجاد التماثل بين الآيتين وإحراز وحدة السياق اللفظي بينهما. ولو تركت لما حصل ذلك.<BR>الوجه الثالث: إنَّ [هُمْ] تفيد التأكيد. والحاجة إلى التأكيد متحققة وهي التركيز على عصيانهم وفسقهم وسوء تصرفهم, فهم مضافاً إلى كونهم(ساهون عن صلاتهم), فإنهم أيضاً يراءون ويمنعون الماعون.<BR>الوجه الرابع: إنَّ فيه إشعاراً بالتقيد والتحديد دون إرادة الكلي المفهوم بدون الضمير. فهذه الصفات خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم, وهم الجماعة المعينة التي تُفهم على المستوى المعنوي من التفكير. وهي جماعة كليَّة لا جزئيَّة. لهم ثلاث صفات: السهو في الصلاة والرياء والمنع عن الصدقات.<BR>وقوله تعالى: [يُرَاءُونَ] يمكن أن يقع الكلام في مادته وهي الرياء تارة, وفي هيئته أخرى. أما مادة الرياء ومعناها فقد عرضناها تفصيلاً في كتابنا فقه الأخلاق[ ], فراجع.<BR>وأما من حيث الهيئة فيمكن الالتفات إلى ان فيه سياقاً ونسقاً قرآنيين:<BR>أما النسق, فقد قلنا انه على معنى نهايات الآيات, ولا نسميه سجعاً ولا قافيَّة؛ لأنه يختلف عنهما عرفاً. <BR>و[يُرَاءُونَ] وان لم تكن نهايَّة الآية إلا ان لها نسقاً مع ساهون وماعون وهو نحو من النسق القرآني إذا قُرأت بالوقف عليها.<BR>وأما السياق فهو على قسمين:<BR>القسم الأول: السياق المعنوي, وهو ما يسمى بوحدة السياق في علم الأصول, ويستدل بها بصفتها من القرائن المتصلة على المعنى.<BR>القسم الثاني: السياق اللفظي, أي جمال اللفظ القرآني وترتيبه بحيث نحرز كونه مصداقاً للَّهجة القرآنيَّة, فلو اختل واختلف خرج عن كونه قرآناً كما لو حذفت الواو من قوله: [وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ], أو جعلت في قوله: [الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ], أو حذف الضمير المنفصل منها وهكذا. <BR>سؤال: ما معنى الماعون؟.<BR>جوابه: إن فيه أطروحتين: <BR>الأولى: ما قاله في الميزان[ ]: كل ما يعين الغير في دفع حاجة من حوائج الحياة, كالقرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعيره. أقول: فيكون بمعنى المعين.<BR>الثانية: الظرف من ظروف الطعام, وهو معنى نفهمه الآن بالتأكيد. ويمكن استصحابه بالاستصحاب القهقري إلى العصر اللغوي الأول.<BR>إلا أن هذا الاستصحاب إلى صدر الإسلام لا يتم؛ لانقطاعه بتفسير أهل اللغة فلا يمكن حمل الآية عليه. ولعل استعمالنا لهذا المعنى كان مجازاً, ولو باعتبار كثرة الإعارة له, ثم أصبح حقيقة كما هو الآن وجداناً.<BR>إن قلت: إنَّ قضاء الحاجات سيكون: بما في الماعون لا الماعون نفسه. <BR>قلنا: أولاً: هذا فرع أن يراد بالماعون الظرف وقد نفيناه.<BR>ثانياً: إنَّه تلطيف في المجاز كقوله تعالى: [وَاسْأَلِ الْقَرْيَّة][ ] يعني أهلها. فكذلك تكون قضاء الحاجة بالماعون أي, بما فيه.<BR>سؤال: ما هو أصل كلمة الماعون؛ لأن الظاهر أنها كلمة أجنبيَّة أو دخيلة أو (ملمعة) بين العربي والأجنبي.<BR>جوابه: على عدة أطروحات:<BR>الأولى: (ما) موصولة و(عون) مصدر أو صفة مشبهة, بمعنى ما أعين به الآخرون أو مَنْ يكون عوناً للآخرين.<BR>الثانية: (ما) المصدريَّة ويكون المحصل نفسه.<BR>الثالثة: إنَّه ملمع من لغتين فتكون (ما) فارسيَّة بمعنى نحن, فتكون بمعنى إعانتنا للآخرين.</P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>سورة الإيلاف<BR>وفي تسميتها عدة أطروحات:<BR>الأولى: الإيلاف, وهو المشهور.<BR>الثانية: قٌرَيَْشٍ, كما في بعض المصادر.<BR>الثالثة:السورة التي ذكر فيها الإيلاف أو التي ذكر فيها قٌرَيَْشٍ.<BR>الرابعة:أن نسميها بما تبدأ به وهو قوله: [لإيلاَفِ قٌرَيَْشٍ].<BR>الخامسة: أن نشير إليها برقمها في المصحف وهو: 106.<BR>سؤال: ما هو متعلق: [لإِيلاَفِ]؟.<BR>جوابه: إنَّ فيه عدة وجوه:<BR>الأول: إنَّه فعل مقدر قبله مثل نزلت السورة, أو أقول أو يكون أو يحصل ونحوه لأجل أن يناسب إسناد الجار والمجرور.<BR>الثاني: إنَّه فعل مقدر بعده, فيكون المعنى انه تحصل رحلة الشتاء والصيف لإيلاف قريش.<BR>الثالث: ما ذكره الرازي في هامش العكبري حيث قال[ ] : إنَّها متعلقة بما بعدها وهو قوله تعالى:[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف.<BR>أقول: إلا انه بعيد؛ لأنه بمنزلة المعلول والأثر فلا يكون بمنزلة المؤثر. ويجاب: إنَّه أثر للنعمة ومؤثر في الإيلاف, وبالرغم من بعده اللفظي فإننا قد نقبل به ولكن مع الانحصار بهذا الوجه.<BR>       الرابع: إنَّنا إنما نحتاج إلى فعل يرجع إليه الجار والمجرور مع وجوده, أما عدمه فلا حاجة إلى ذلك كبروياً ولا يتوقف عليه المعنى بل هو مفهوم بدونه.<BR>الخامس:ما ذكره الرازي ــ أيضا ــ  حيث قال[ ] :  إنها متعلقة بآخر السورة التي قبلها أي: جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش.<BR>أقول: هذا على أساس أمرين: احدهما: عدم الفصل بالبسملة, وثانيهما: إنهما سورة واحدة.<BR>وهناك من القرائن ما يدل على وحدة السورتين, مضافاً إلى الروايات من الفريقين.<BR>وروايات العامة مصرحة بترك البسملة بينهما[ ] , فيكون ذلك أوضح في الوحدة ويدفعه بأنه لا أشكال من وجود البسملة هنا, مع العلم أنه لا توجد بسملة في وسط السورة إلا في سورة النمل, ووجود البسملة دال على التعدد. وكذلك فأنه مع حصول وجوه أخرى لمتعلق الجار والمجرور تنتفي هذه القرينة على الوحدة أيضاً.<BR>وأما قرائن التعدد فمتعددة: <BR>أولاً: وجود البسملة بين السورتين.<BR>ثانياً: ارتكاز المتشرعة.<BR>ثالثاً: إنَّه لا دليل على تتابعها في النزول, بل قد يكون الأمر بالعكس.<BR>رابعاً: اختلاف السياق اللفظي, فسورة الفيل آياتها باللام, والإيلاف بالنون.<BR>خامساً: تعدد الهدف أو السياق المعنوي.<BR>سادساً: إنَّ الروايات وان دلت على الوحدة, فإن هناك روايات أخرى تدل على التعدد ذكرها صاحب الميزان[ ] أيضاً, ولكنَّه يمكن القول بأنَّ سند الروايات ضعيف, كما ان سند روايات الوحدة ضعيف أيضاً.<BR>ومعه تسقط كلتا الطائفتين عن الحجيَّة, أما للضعف أو للتعارض. ونرجع إلى ظاهر القرآن الكريم بالتعدد. وذلك باعتبار الوجوه السابقة التي قلناها.<BR>كما يمكن القول: ان روايات الوحدة تعارض هذا الظاهر القرآني, فتسقط عن الحجيَّة لقولهم ?[ ] : ما خالف قول ربنا باطل, إضرب به عرض الجدار. وروايات الوحدة توافق هذا الظاهر, فتكون معتبرة. وعلى أي حال يكون ظاهر القرآن معتبراً.<BR>ثم إن كون الجار والمجرور: [لإيلاَفِ] متعلقاً بما قبله من سورة الفيل ينتج أمراً, وهو ان حادثة الفيل حصلت لأجل إيلاف قريش, وانسها بولادة النبي ?, وهو معنى لطيف إلا انه قابل للمناقشة. وعلى هذا تكون وحدة السورتين قرينة ــ ولو كانت ناقصة ــ على ان هذه السورة نزلت بعد سورة الفيل كجزء منها. <BR>وهذا قابل للمناقشة من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ تعلق الجار والمجرور يكون بعيداً لفظاً مع وجود فاصل آية أو أكثر من آية لا أقل من البسملة, وهذا خلاف الظهور الفعلي.<BR>الوجه الثاني: إنَّ في سورة الفيل ستة أفعال, ترى وفعل ويجعل وأرسل وترميهم وجعلهم, فلأي منها يعود الجار والمجرور, نذكر عدة أطروحات كلها باطلة:<BR>أولاً: أن يعود إلى الجامع بينهما, أي إلى احدهما على نحو الإجمال. وهذا باطل نحوياً ومعنوياً, وإن كان متصوراً أصولياً.<BR>ثانياً: أن يعود على (فعل) وفيه نقطة قوة ونقطة ضعف:<BR>أما نقطة قوته: فهي انسجام المعنى من حيث ان الله تعالى ينتقم من أصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش.<BR>ونقطة ضعفه: بعده اللفظي عن الجار والمجرور وهو أمر مهم. <BR>ثالثاً: إنَّه يعود على قوله: [فَجَعَلَهُمْ] ونقطة قوته قربه النسبي من الجار والمجرور, إلا انه لا يناسب المعنى الذي اقترحوه, فيكون على خلاف الظاهر.<BR>الوجه الثالث: ان السبب الذي تدل عليه سورة الإيلاف, هو إلف قريش لرحلة الشتاء والصيف واستيناسهم بها, ولا ذكر للنبي ?. فالذي ينبغي أن يقال: انَّ الله تعالى فعل وانتقم من أصحاب الفيل لأجل إيلاف وأنس قريش برحلاتهم, وهذا هو الأقرب إلى السياق القرآني.<BR>فإن قلت: إنَّ النبي ? ولد في عام الفيل فيكون مناسباً مع حادثة الفيل.<BR>قلت: إنَّ مئات الحوادث حصلت في عام الفيل, ولكن أهمها ولادة النبي ?, فينبغي ان تكون هناك قرينة على أنسهم بولادة النبي ? أو إشارة إلى ذلك في السياق وهو منتفِ.<BR>الوجه الرابع: إنَّ تعلق الجار والمجرور بسورة الفيل, إنما يصح مع وحدة السورتين, إذ لا يمكن تعلق الجار والمجرور بسورة مستقلة. وهذا فرع أن تكون سورة الإيلاف نازلة بعد سورة الفيل مباشرة, لا بعد سورتين أو أكثر أو كانت نازلة قبلها.<BR>إذن, فجميع هذه الوجوه غير صحيحة. بل يتعلق الجار والمجرور بما ذكرناه من الوجوه السابقة.<BR>سؤال: ما معنى الإيلاف؟.<BR>جوابه: الإيلاف هو الأنس والاعتياد, من الثلاثي (أَلِفَ) وهو متعدٍ إلى مفعول واحد, أو الرباعي (أَلَّفَ) وهو معتد إلى مفعولين, وقيل: لواحد.<BR> والمراد من السورة: الألف, أي مادة الثلاثي. والمعنى: أُلف قريش للرحلة, ولكنَّه أستعمل الرباعي وذلك لأكثر من وجه واحد:<BR>الأول: إنَّه من قبيل استعمال الرباعي في معنى الثلاثي مجازاً, ومن هنا أحتاج إلى مفعول واحد كالثلاثي. خلافاً للميزان الذي ذكر[ ]: إن المفعول الثاني موجود أو مقدر يعرف مما بعده وهو رحلة.<BR>الثاني: إنَّ المراد الرباعي, ويكون المفعول الأول مقدراً, يعني يؤلّفون غيرهم أو يؤلّف بعضهم البعض على الرحلة, وهي المفعول الثاني.<BR>سؤال: ما هو محل[قُرَيْشٍ] من الإعراب؟.<BR>جوابه: هي مضاف إليه للمصدر, ولكن هل هي من إضافة المصدر إلى الفاعل أو إلى المفعول؟.<BR>قال في الميزان[ ] : وفاعل الإيلاف هو الله سبحانه وقريش مفعوله الأول, ومفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده.<BR>أقول: أي إنه رجح كون الإضافة إلى المفعول, وفيما سبق رجحنا أن الإضافة إلى الفاعل, أي ان قريش تؤلف غيرها على الرحلة.<BR>وكما يمكن أن يكون فاعل الإيلاف هو الله سبحانه ــ كما قال ــ يمكن أن يكون أيضاً الأسباب الطبيعيَّة أو التجارة أو الإسترباح أو الضرورة, باعتبار أن أرضهم كانت ممحلة لا تنبت زرعاً [بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ][ ].<BR>و[رِحْلَةَ]: مفعول به للرباعي إن قلنا أنه يأخذ مفعولا واحداً. ولا بد من تقدير مفعول ثانٍ إن قلنا انه يأخذ مفعولين,أي إن قريش تؤلف الآخرين رحلة الشتاء والصيف.<BR>وهناك أطروحة أخرى وهي: إنَّه ليس بالضرورة ان كل فعل متعدِ إلى مفعولين يأخذ مفعولين فعلاً. بل يجوز أن يأخذ مفعولا واحداً وهنا كذلك.<BR>وبتقريب آخر: إنَّنا قلنا: إنَّ الرباعي استعمل بدل الثلاثي مجازاً. ويمكن القول إنه أكتسب نفس صورته النحويَّة واللغويَّة, بأن يأخذ مفعولا واحداً.<BR>سؤال: لماذا التكرار في [إِيلافِهِمْ]؟.<BR>جوابه: أولا: ما عليه مشهور المفسرين, وهو التأكيد وفيه: إنَّ التأكيد ليس مطلوباً دائماً؛ لأنه ينبغي أن يكون مطابقا لمقتضى الحال. <BR>جوابه: إنَّ المراد بيان كثرة الألفة والهمة نحو الرحلة, فانه لولا  هذه التجارة لماتوا جوعاً, فالأهميَّة موجودة وتستحق التأكيد بالتكرار.<BR>ثانياً: تغيير المتعلق, فإننا عندما نقول: آلف زيد عمراً المكان, فإنه يطوّل الكلام نسبياً. فيمكن أن نقول بدلا عنه: آلف زيد عمراً الف المكان. فقد دخل الأول على المفعول الأول والثاني على المفعول الثاني. أو نقول: دخل الفعل الأول على الفاعل والثاني على المفعول إذا كان متعديا إلى مفعول واحد.<BR>وبهذه الأطروحة نكون قد حصلنا على مبرر للتكرار.<BR>ثالثا ً: اختلال السياق اللفظي بحذف إيلافهم الثانية. وهو ما يدرك حساً وذوقاً.<BR>رابعاً: وهي أطروحة لم تخطر على بال أحد وهي انه من المحتمل حصول بطء وتلكوء في الوحي نسبياً كما لو قال: لإيلاف قريش وسكت, لوجود مانع أو مصلحة. وحين أراد تجديد الكلام كان لابد من تجديد الارتباط بدون تكرار كامل فقال: إيلافهم, والله تعالى يعلم بعلمه الأزلي البطء والتكرار. فأصبحت جزءاً حقيقياً من القرآن؛ لأن النبي ? قرأها هكذا. والاحتمال مبطل للاستدلال. <BR>إن قلت: إنَّ انقطاع الوحي لمانع خلاف عصمة النبي ? لما فيه من إشعار عدم الإصغاء للوحي.<BR>قلت: أما من ناحيَّة الكبرى وهو لزوم الإصغاء للوحي, فلا إشكال في كونه مسلما به؛ لأن الوحي من الله سبحانه. ولكنَّه قابل للمناقشة صغروياً لعدة أسباب:<BR>أولاً: إنَّ المتكلم المباشر للوحي ليس هو الله سبحانه بل جبرائيل. يقول سبحانه: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ][ ], فخرجت<BR>الصغرى عن تلك الكبرى. وهو ? أعظم وأهم من حبرائيل, فليس وجوب الإصغاء متحققاً إليه.<BR>ثانياً: إنَّ الخواطر غير اختياريَّة حتى للنبي ? والوحي يعلم بذلك؛ فيسكت حتى تنجلي.<BR>ثالثاً: إنَّه يمكن حصول شغل للنبي ? كدخول شخص عليه أو غير ذلك من عوارض الدنيا فيتحول ذهنه إضطراراً عن الوحي فسكت الوحي حينئذ, فلا بد من التكرار للارتباط.<BR>سؤال: ما المراد من العبادة في قوله: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]. <BR>جوابه: لمادة العبادة هنا عدة مستويات:<BR>الأول: الدخول في الإسلام؛ لأن المخاطب قريش وهم عبدة الأصنام, فخوطبوا للتحول إلى عبادة الله, أو قل: للدخول إلى الإسلام.<BR>الثاني: تقديم الشكر لله عز وجل على النعم العظيمة المذكورة في السورة الكريمة على اعتبار أن المخاطَب هو كل الناس في كل القرآن, وهو سبحانه قد أمنهم من خوف وأطعمهم من جوع.<BR>الثالث: الحج, أخذاً بالقرينة المتصلة,أي فليعرضوا من هذه الرحلة إلى الرحلة إلى الحج والعبادة. والبيت هو محل الحج على أي حال. <BR>وكل هذه المستويات محتملة وقائمة ولكن بحسب الظاهر الأولي, فإن المستوى الأول هو أرجح المحتملات. <BR>أما ذكر البيت فقد لا يكون قرينة على الحج. وإنما خص بالذكر لوضوحه في أذهانهم وقربه منهم, مع إدراكهم بكونه مربوطاً بالله تعالى.<BR>ومنه يتضح معنى الفاء في قوله: [فَلْيَعْبُدُوا], فإن فائدتها التفريع على السابق, أي نتيجة لدوام النعم في رحلة الشتاء والصيف.<BR>سؤال: ما المقصود بـ[الَّذِي] في قوله تعالى: [الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ]؟.<BR>جوابه: أمران: <BR>أحدهما: وهو الأرجح أن يراد به الله سبحانه, وهو مذكور في السياق بعنوان: رب هذا البيت.<BR>ثانيهما: البيت وهو جزء العلة والسبب الأهم للرزق والأمان. أما الرزق فباعتبار كثرة السواح, وأما الأمن فباعتبار حرمة دخول الحرم المكي والقتال فيه. <BR>غير أن الأرجح ــ كما قلنا ــ هو ان المراد هو الله سبحانه؛ لأنه هو السبب الحقيقي. <BR>سؤال: كيف آمنهم من خوف؟.<BR>جوابه: لعدة اعتبارات:<BR>أولاً: إنَّ تلك الرحلة التجارية كانت خطرة من عدة جهات للوحوش واللصوص وغير ذلك, ولكنَّهم كانوا في كل عام يذهبون سالمين ويرجعون سالمين. <BR>ثانياً: إنَّ القوى الكبرى في العالم يومئذ ككسرى وقيصر, لم يتعرضوا لهم بالشر بالرغم من إمكان ذلك, وقلة إمكانيات الدفاع لديهم. <BR>ثالثا ً: إنَّهم لم يتعرضوا إلى الغزو والغارات التي كان يقوم بها بعض القبائل تجاه بعض, فقد كان هذا معتاداً إلا أنه غير موجود إطلاقاً على أهل مكة, لقدسيَّة الكعبة والحرم المكي الذي كانت فكرته موجودة أجمالاً في الجاهليَّة, وأشير أليه في القرآن الكريم كقوله تعالى: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ][ ] , وقال تعالى: [أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ][ ] .<BR>هذا ويمكن أن نقول: إنَّ قوله: [الَّذِي أَطْعَمَهُمْ] يعني لأجل هذا السبب, بالرغم من كونه نعتاً, وهو لا يفيد هذه الجهة لا نحوياً ولا أصولياً, إلا أن الحدس العرفي يقرر ذلك. وله شواهد في القرآن الكريم كقوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ......][ ] , وقوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لهذا....][ ] وغير ذلك كثير.<BR>سؤال: ما معنى [أَطْعَمَهُمْ]؟.<BR>جوابه: إنَّه على معنى قدم لهم الطعام ومكنهم منه. وهو أما حقيقة أو مجاز. والمراد ليس هو الطعام الحقيقي, بل مطلق سبل العيش والرزق. كل ما في الأمر: إن إطعامهم إيجابي, وأمنهم سلبي يعني دفع عنهم أسباب الخوف والبلاء. ومن هنا كان استناده إلى الله أوضح؛ لأنه ليس باختيار احد وإنما هو المدبر.<BR>وفي الإمكان حمل هذه النعم على النعم المعنويَّة؛ لأن كيان الإنسان على مستويات متعددة, الجسم والنفس والعقل والروح. وقد جعل الله سبحانه لكل منها لذة وألماً وخوفاً وأمناً.<BR>كما يمكن أن نحمل ذلك على المستوى الأخروي. [أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ] يعني: أثابهم في وقت حاجتهم إلى الثواب, وأمنهم من خوف, أي من عقاب جهنم.<BR>فإن قلت: هل هذا الكلام مما تستحقه قريش عبدة الأصنام؟.<BR>قلت: أولاً: إنَّنا حملنا كلا الأمرين (الطعام والأمن) على المعنى المعنوي. فيمكن أن نفهم من قريش المعنى المعنوي أيضاً. وذلك أن يكون المراد كل فئة متدنيَّة بالنسبة إلى الكمال الذي لم يصلوه. وان الوصول إليه منوط بالتوفيق الإلهي الذي أطعمهم وأمنهم وسيرهم في طريق التكامل الذي مشوا فيه.<BR>ثانياً: إنَّه تعالى أعطى قريشاً نفسها وأطعمهم وآمنهم ببزوغ نور الإسلام الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور.<BR>غير ان إنزال الإسلام وتبليغه, إنما هو سبباً اقتضائياً للهدايَّة وليس عِلَّياً, وإنما تنفع حقيقته حينما تتم أجزاء العلة بالدخول إلى الإسلام, وإطاعة أحكامه.<BR>وعلى هذا يمكن القول بإمكان عموم الإطلاق (للإطعام والأمان والنعم الإلهيَّة) إلى كل من المعاني الماديَّة والمعنويَّة والدنيويَّة<BR>والأخرويَّة وعدم الانحصار ببعضها دون بعض.</P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P>سورة الفيل<BR>في تسميتها ثلاث أطروحات فقط:<BR>أولا: سورة الفيل.<BR>ثانياً: السورة التي ذكر فيها الفيل.<BR>ثالثاً: إعطاؤها رقمها في تسلسلها من المصحف وهو [105].<BR>سؤال: ما هو محتوى الاستفهام في قوله تعالى: [أَلَمْ]؟.<BR>جوابه: إنَّ له شكلين من المحتوى:<BR>الشكل الأول: أن يكون اعتيادياً, وليس استفهاماً استنكارياً, وذلك إذا كان متعلقاً بحادثة الفيل؛ لأن الحادثة أخذت في السورة مسلمة الصحة, كما هي كذلك, غايَّة الأمر انه استفهام عن العدم الذي لم يتحقق لا عن الوجود الذي حصل. <BR>الشكل الثاني: أن يكون استفهاماً استنكارياً فيما إذا كان متعلقة الرؤيَّة, وليست أصل الحادثة, كما هو الأوفق بالوجدان.<BR>فإنه قد يتوهم أن المتعلق هو الحادثة الرئيسيَّة كما قلنا, إلا أنه ليس بصحيح لأكثر من وجه واحد:<BR>أولا: إنَّ مدخوله الرؤيَّة في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ].<BR>ثانياً: إنَّه خصص حرفاً استفهاميا آخر لحادثة الفيل هو: كيف, فقال: [كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ], فخص القرآن لكل منهما أداة استفهام. فالأول: استفهام عن الرؤيَّة, والآخر عن شكل الحادثة.<BR>سؤال: ما المراد بالرؤيَّة في قوله: [أَلَمْ تَرَ]؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: ما ذكره في الميزان[ ]: من أن المراد بالرؤيَّة العلم الظاهر ظهور الحس. <BR>أقول: فيكون المعنى, ألم تعلم علماً قريباً من الإحساس, فكأنه مشاهد للحادثة وإن لم يكن كذلك فعلا؛ لأنها قريبة في تاريخهم ومتواترةٌ ومهمة, ولم يكن العرب قد شاهدوا الفيل قبل ذلك الحين. <BR>الوجه الثاني: إنَّ المخاطب ليس هو النبي ? بل غيره, من قبيل إياك أعني فأسمعي يا جارة؛ لأن الفاصل بين نزول الوحي والحادثة أربعون سنة. ولم يكن النبي ? قد شاهدها, إلا أن هناك الكثير من كبار السن الموجودين في ذلك المجتمع ممن شاهدها فعلاً, وهم المخاطبون بالآيَّة الكريمة.<BR>الوجه الثالث: انَّ يراد به رؤيَّة النبي ? بالعلم الباطن, يكشفها الله تعالى له, والسياق دال على حصول الرؤية فعلاً؛ لأن مؤدى الاستفهام عن الرؤيَّة استنكاري, فيؤدي إلى الجزم بالإثبات عن حصول الرؤيَّة والعلم.<BR>سؤال: من هم أصحاب الفيل؟.<BR>جوابه: إبرهة, وهو صاحب الفيل وقد عبر عن الجيش كله بأصحاب الفيل مع انه صاحبه واحد.<BR>فان قلت: فانه لماذا عبر عن الجيش بأصحاب الفيل؟.<BR>قلت: لعدة وجوه: <BR>أولاً: لأنهم أتباع أبرهة صاحب الفيل, وهو الذي خطط لهم بان يكون سيرهم حيث سار الفيل ووقوفهم حيث وقف.<BR>ثانيا: إنَّ الفيل متقدم على الجيش كالقائد, فيكون أبرهة نفسه مسيَّراً من قبل الفيل وهم مسيَّرون من قبل إبرهة, فيكون المجموع مسيَّراً من قبل الفيل فصحة النسبة إلى الفيل.<BR> <BR>ثالثا: إن المكيين لو نظروا إلى الجيش المعادي لقالوا: جاء الفيل مع جيشه المواكب له, ولعل أفراد الجيش نفسه لا يلتفتون دائما انهم في معيَّة الفيل, ولكن هذا الشعور يكون واضحا لدى المشاهدين في مكة, والقرآن نزل من زاويَّة فهم أهل مكة لا من زاويَّة فهم الجيش المعادي.<BR>سؤال: لماذا قال: [فِي تَضْلِيلٍ], ولم يقل في إضلال؟.<BR>جوابه: ما قاله في الميزان[ ]: من أن التضليل والإضلال واحد. أقول: فالثلاثي: ضل ضلالاً وهو لازم. والرباعي منه يكون بالتضعيف: ضلل تضليلاً والتهميز: أضل إضلالا, ويكون متعديا على النحوين. وكلتا المادتين موجودتان في القرآن, غير انه لم يرد بالتضعيف إلا في هذا المورد. وذلك لأجل حفظ النسق القرآني في السورة: الفيل, تضليل, أبابيل, سجيل.<BR>سؤال: كيف جعل الله تعالى كيدهم في تضليل؟ مع ان المفهوم منه هو التيه في الصحراء ولم يحصل.<BR>جوابه: لعدة وجوه:<BR>الوجه الأول: الإشارة إلى ضلال هدفهم أساسا وبطلانه, وهو هدم الكعبة المشرفة. وإنما جعل الله تعالى كذلك لاستحقاقهم بخباثة أنفسهم.<BR>فان قلت: إنَّ جعلهم ضالين بهذا النحو يلزم منه القول بالجبر.<BR>قلت: أولاً: إنَّنا يمكن أن نتنازل عن هذا الوجه إلى الوجوه الأخرى, فلا يلزم القول بالجبر.<BR>ثانياً: ليس كل إضلال يلزم منه الجبر, وان كان الإضلال الابتدائي كذلك, إلاّ أن هناك أنواعا من الإضلال إنما يحصل كعقوبة على ذنوب سابقة, وهي من العقوبة المعجلة في الدنيا, سواء كانت ظاهريَّةً أو معنويَّةً.<BR>فمن العقوبات الظاهريَّة قوله تعالى: [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ][ ] .<BR>ومن العقوبات المعنويَّة المعجلة قوله تعالى: [فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون( ).<BR>وقوله سبحانه: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ]( ). <BR>الوجه الثاني: إنَّ المراد إفشالهم في حملتهم تلك. والضلال هو الفشل أما مجازاً أو باعتباره حصة منه بنحو المشترك المعنوي.<BR>وهذا هو الأظهر, بل إن هدف السورة هو الحديث عن تلك المعجزة الإلهيَّة التي أوجبت النعمة بفشل الجيش المعادي. <BR>الوجه الثالث: إنَّ الضلال لا ينحصر في التيه, بل هو التخطيط القاصر وعدم توقع الحوادث. فإنهم مهما كانوا قد اخذوا الأمور بنظر الاعتبار, لم يكونوا يتوقعون حصول المعجزة بردهم عن الكعبة. فعدم التوقع هذا ضلال وقصور. مع انه المناسب لقدسيَّة البيت من ناحيَّة ولقدرة الله سبحانه من ناحية أخرى. <BR>فيكون تخطيطهم قاصراً وضالاً؛ لأنهم لم يحسبوا كل الاحتمالات. ولو حسبوها ما فعلوا ولا جاءوا.<BR>بل نرى ان إبرهة بعد أن سمع من عبد المطلب رضوان الله عليه قوله( ): للبيت رب يحميه لم يتعظ, واستمر على عزمه على هدم الكعبة, وجدد الحملة في اليوم الثاني.<BR>سؤال: ما هو الوجه في تكرار الاستفهام في الآيتين ثلاث مرات, قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]<BR>[أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ]. <BR>جوابه: ذلك لأجل التركيز على هدف السورة، وأهميَّة المعنى والتنبيه المتزايد للمخاطب المباشر وهو النبي?, والمخاطب غير المباشر وهم المسلمون, بل الخلق أجمعين. وتكرار الاستفهام من الجوانب البلاغيَّة المهمة, أي انتبهوا إن لم تكونوا منتبهين.<BR>قوله تعالى: [وَأَرْسَلَ].<BR>الواو هنا - حسب مشهور المفسرين - عاطفة, وقال في الميزان( ): والآيَّة التي تتلوها عطف تفسير على قوله: [أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل]. <BR>أقول: ويمكن أن يكون تفصيلاً بعد إجمال,كأنه يريد ذكر تفاصيل الحادثة أو أسلوب التضليل والإفشال لجيش الفيل وذلك بعد الإشارة الإجماليَّة له. ويكون المعنى: إنَّه جعل كيدهم في تضليل عن طريق إرسال الأبابيل.<BR>فالواو, وقعت بعد الأجمال وقبل التفصيل. وإذا كانت وظيفتها هكذا أمكن أن نجعل عدة أدوات محلها: إذ أرسل أو حين أرسل أو كما أرسل. فتكون كلها بمعنى واحد.<BR>على إنَّ قوله عن الواو إنها عاطفة لا يخلو من تسامح, فإنها على أيِّ حال من عطف جملة على جملة لا من عطف المفرد. وفي مثلها تسمى الواو استئنافيَّة ولا يقال لها عاطفة. <BR>سؤال: من أيِّ مادة صيغة لفظة: [أَبَابِيلَ]؟.<BR>جوابه: قال في الميزان[1]: الأبابيل ــ كما قيل ــ جماعة في تفرقة, زمرة زمرة. <BR>وقال الراغب( ): متفرقة كقطعان الإبل.<BR>أقول: أي إن العرب اشتقوا اسمها من الإبل لشبهها بقطعانه المتفرقة. ولكن هذا قابل للمناقشة لأكثر من وجه:<BR>الوجه الأول: إذا كان المطلب هكذا أمكن الاشتقاق منه: تأبل يتأبل, أي أصبح مثل الإبل. ولم يشتق منه العرب, إذن لا توجد صلة اشتقاقيَّة بين الإبل والأبابيل, وإنما المشابهة من أجل الصدفة لا غير. <BR>الوجه الثاني: إنَّه لفظ خماسي أو سداسي, ولا يمكن الاشتقاق منه.<BR>وعلى ضوء ذلك يمكن القول: إنَّ العرب لم يكونوا مسبوقين بهذه اللفظة, بل لعلها نازلة لأول مرة في القرآن الكريم. ويكون استعماله على أحد الوجوه التاليَّة:<BR>الأول: أن تكون معرَّبة, أو منقولة من لغة أخرى. <BR>الثاني:أن تكون الكلمة نحتاً فورياً أو شخصياً, غير مستند إلى اللغة. وهذا وان كان في نفسه محتملاً, إلا أن الكلمة عندئذ تكون غير موضوعة في اللغة وغير مفهومة عرفاً. <BR>الثالث: إنَّه اسم عرفي لنوع من الطير (العصافير) مسمى بذلك كأنه كنيَّة كأبي بريص وأبي قردان.<BR>الرابع: إنَّ اسمها مأخوذ من صوتها الممدود: بيل, فيكون أبابيل تعبيراً عن مقطعين من صوتها. أو بمعنى ذو الصوت المشابه لكلمه بيل.<BR>الخامس: ما احتمله بعضهم من أن المراد بكلمة: بيل: المسحاة وقد كان منقار هذا الطير عريضاً كالمسحات. فسميت أبابيل, أي ذات المسحاة.<BR>السادس: أنَّ يكون تشبيها بالمسحاة من ناحيَّة عرض ذيلها لا منقارها.<BR>إن قلت: إنه على هذا يكون الأبابيل: أسم جنس يعبر عن نوع من الطيور فينبغي دخول الألف واللام عليه: الطير الأبابيل مع انه ورد في الآية منكراً.<BR>قلت: لأنه إن عرِّف لكان مفاده إرسال كل أفراد هذا النوع إلى الجيش المعادي, مع أن الذي حصل انه سبحانه أرسل بعض أفراد النوع, أو قل: أفراداً قليلة منه, ومع ذلك حصل به هلاك الجيش كله. وهذا بحد ذاته معجزة.<BR>سؤال: كيف أن طيراً مفرد وأبابيل جمع  مع أن القياس خلافه؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ (طيراً) اسم جنس بمنزلة الجمع, وهو أدل على الجمع من طيور؛ لأن الأخير محدد بالكثرة والقلة, بينما أسم الجنس غير محدد, بل يصدق على أفراد لا متناهيَّة, ومعه يكون اسم الجنس أقوى دلالة.<BR>ومنه قوله تعالى: [ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ]( ), أي ضيوفه.<BR>الوجه الثاني: إنهما متماثلان في الأفراد؛ لأن أبابيل أسم لكل فرد من هذه الطيور. وكلاهما ــ أي طير وأبابيل ــ أسم جنس, لذا قال: [تَرْمِيهِمْ ] ولم يقل: يرمونهم.<BR>فان قلت: لماذا قال ترميهم؟.<BR>قلت: لوجهين:<BR>أولا: إنَّ الجمع بمنزلة المؤنث في الذوق العربي, فيتعين التأنيث.<BR>ثانيا: إنَّنا لو تنزلنا عن تعين التأنيث كان المتكلم مخيراً بينهما. ومن المعلوم أن ترميهم فاعله لا يعقل ويرمونهم لمن يعقل؛ لوجود واو الجماعة فيتعين الأول أيضاً ولا اقل من انه أختار الأولى أكيدا.<BR>ولكن هذا الوجه (وهو كونهما متماثلين في الأفراد) قابل للمنقاشة بنص أهل اللغة( )على انه جمع. وقيل: لا واحد له. وقيل أن مفرده: بال أو أبول أو بيل.<BR>ولكن يمكن الإيراد عليه: إنَّه يمكن القول: إنَّنا نسمي الواحد منها أبابيل, كما نسمي فرداً من الملائكة: ملائكة ولا نقول: ملك. وهو مطلب عرفي؛ لأن العرف يختار ما هو الأسهل له, فهذا لا يدل على أن المراد بالأبابيل في الآية الجمع, وان كان جمعاً لغةً.<BR>الوجه الثالث: إنَّ محل[أَبَابِيلَ] من الإعراب, لا يخلو من أربعة احتمالات تصوراً: وهي أن تكون خبراً أو صفة أو حالاً أو بدلاً. وما قيل من لزوم التجانس في الأفراد والجمع, إنما يصدق على المبتدأ والخبر وعلى الصفة والموصوف وليس المورد منهما.<BR>ولكنَّه: إما أن يكون حالاً بمعنى: جماعات متفرقين, وليس التطابق بالإفراد والجمع ضرورياً بين الحال وصاحبه.<BR>وأما أن يكون بدلاً إذا كان (علم جنس), ولا بأس أيضاً بعدم التطابق بين البدل والمبدل منه.<BR>وهنا نكتة لا ينبغي الإعراض عنها وهي: إنَّ هذه السورة رغم صغرها, استعملت ألفاظاً غير عربيَّة عديدة وهي: الفيل والأبابيل والسجيل, ونسبتها إلى السورة ككل كبيرة. بل هي أكبر نسبة من أيٍّ من سور القرآن الكريم.<BR>وهذا الاستعمال وأمثاله لا ينافي عربيَّة القرآن الكريم؛ لأن هذه الألفاظ كانت سائدة ومستعملة بين العرب. فاتصفت بكونها عربيَّة, فاستعملها القرآن بهذه الصفة.<BR>مضافاً إلى انه يمكن القول: بان استعمالها تطبيق من تطبيقات قوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ]( ), أي استعمال عدة لغات في القرآن الكريم.<BR>سؤال: كيف يمكن لهذه الحيوانات غير المدركة أن تهلك هذا الجيش العظيم؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّها يمكن أن لا تكون حيوانات فعلاً, بل هي خلق آخر على شكل طير أبابيل. وهي مدركة وليست قاصرة كأن تكون جناً أو ملائكة. كما روي( ): إنَّ كل طير في منقاره حجر وفي رجليه حجران. وإذا رمت بذلك مضت وطلعت أخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك  على بطن إلا خرقه ولا عظم إلاّ أوهاه وثقبه. وفي روايَّة أخرى( ): إنَّها كانت تحاذي رأس الرجل ثم ترميها على رأسه فيخرج من دبره, حتى لم يبق منهم أحد.<BR>فهذا التسديد في العمل, ليس من وظيفة الطير المعروف حقيقة.<BR>الوجه الثاني: إنَّهم ــ بالرغم من كونهم حيوانات ــ فإنهم موجهون بالمعجزة والتسديد الإلهي حفظا للبيت العتيق, حيث أمرو بحسب غرائزهم بذلك, فأنتجت فشل جيش الفيل.<BR>الوجه الثالث: وهو ما يمكن أن يجاب به الماديون وأضرابهم بأن نقول: إنَّه ثبت إن بعض الحيوانات كالطير الزاجل يمكن أن ترسل إلى مسافات بعيدة حاملة معها رسائل ونحوها, وان كثيراً من أنواع الحيوانات الداجنة كالقطط والدجاج والماعز تهتدي لبيوت أصحابها. فليكن هذا الطير شيئاً من هذا القبيل.<BR>سؤال: إنَّ فاعل ترميهم هو الأبابيل. وفاعل: جعلهم هو الله سبحانه, والسياق ينبغي أن يكون واحداً, فلماذا قال: فجعلهم ولم يقل: فجعلتهم؟.<BR>جوابه: أولا: إنَّ الأفعال في السورة كلها منسوبة إلى الله: فعل ويجعل وأرسل وجعلهم إلا ترميهم فانه يعود إلى الأبابيل؛ لأن الله بهذا السبب جعلهم كعصف مأكول, وهذا هو هدف هذه السورة, وهو بيان الإنتقام الكبير بإرسال الأبابيل.<BR>ثانيا: إنَّ القرآن قد نسب الكثير من معلولات الأسباب إلى نفسه. قال تعالى: [وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ]( ). وقال: [فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً]( ). وقال: [أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ]( ). وقال: [أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ]( ) وقال: [أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ]( ). <BR>الفاعل الحقيقي في كل هذه الآيات هو الله سبحانه. <BR>والقرآن في هذه الآيات يعترف بالأسباب ويعترف بفعل الله تعالى, أي ان كلها نتيجة لفعل الأسباب, وهي ــ في نفس الوقت ــ كلها نتيجة لفعل الله سبحانه. وهذا ما ثبتت صحته منطقيا وفلسفيا وعرفانيا, وليس الآن مجال شرحه.<BR>والنتيجة: هي انه مرة نسب الفعل إلى السبب وهو الأبابيل فقال: ترميهم. وأخرى نسبه إلى نفسه فقال: فجعلهم. وكان بالإمكان نظرياً أن يجعل كلتا النسبتين إليه سبحانه أو كلتيهما إلى الأبابيل, إلا انه اختار ما هو ألطف بلاغيا وعرفانيا.<BR>وبتعبير آخر: إنَّ الفعل فعل الله أصلاً, وهو الذي أوجد النتيجة إلا أن الوسط أو الخريطة أو السبب هو ما أشير إليه في صدر السورة وهو الأبابيل. <BR>قوله تعالى: [تَرْمِيهِمْ]. <BR>قال العكبري( ): وترميهم نعت لطيراً, والكاف مفعول ثانٍ.<BR>أقول: لأن الجمل بعد النكرات صفات, و(جعل) تأخذ مفعولين, أي جعل الله إياهم كعصف مأكول.<BR>وقوله: والكاف مفعول ثانٍ, يعني في قوله: كعصف. وهو لا يخلو من تسامح؛ لأن حرف الجر لا يكون مفعولاً. بل الاسم هو المفعول الثاني. وهو العصف المجرور بالكاف. <BR>وهنا يمكن أن نضم إلى ذلك عدة أفكار:<BR>أولا: إنَّ الجار والمجرور ليس بنفسه مفعولا به. بل يحتاج إلى متعلق, وهو محذوف أو مقدر, وهو المفعول الثاني.<BR>ثانيا: إنَّ وجود الجار والمجرور وعدمه يتبادلان وذلك: في المنصوب بدل المجرور, ويسمى المنصوب بنزع الخافض, أي بتقدير حرف الجر ويمكن أن يكون العكس, أي الاستغناء عن النصب عن طريق وجود حرف الجر المناسب له والآية من هذا القبيل.<BR>فبالرغم من دخول الكاف الجارة عليه, ولم يخرج عن كونه مفعولاً ثانياً, فيكون منصوباً محلاً. ويكون وجود الكاف كعدمها, فكأنه قال: فجعلهم عصفاً مأكولاً.<BR>ثالثا: إنَّ نواصب المفعولين ليس بالضرورة ان تنصب مفعولين, بل قد تنصب مفعولاً واحداً إن أراد المتكلم ذلك, والله تعالى اختار مفعولاً واحداً. وأما الثاني: فهو جار ومجرور. وبتعبير آخر: إنَّنا إنما نحتاج إلى المفعولين عند عدم الدلالة على المعنى, وأما إذا صح المعنى وتم فلا حاجة إلى وجود المفعول الثاني, فقد حذف للدلالة عليه. بل إن وجوده يجعل اللفظ سمجاً, فيكون القرآن قد اختار في التعبير أفضل الفردين؛ لأنه تشبيه بلاغي لطيف.<BR>رابعا: إنَّ الجار والمجرور سد مسد المفعول الثاني. أو نقول: إنَّه قد أوضح معناه ودل عليه.<BR>خامسا: قالوا: إنَّ الكاف يأتي اسما بمعنى مثل, فيصح ما قاله العكبري من كونها مفعولا ثانيا.<BR>إلا أن هذا غير تام لأكثر من وجه واحد:<BR>أولا: إنَّه يحتاج إلى شاهد لغوي سابق من شعر أو نثر.<BR>ثانياً: إنَّ الكاف حرف, فما هو محل أعراب مدخوله؟, إن قلت: إنَّه مضاف إليه فهذا مما لا يمكن أن يقبله مدعى هذا القول, فأنه لا يوجد مثل ذلك في الأسماء الحرفيَّة ــ لو صح التعبير ــ كالضمائر وأسماء الإشارة, أي أن يكون لها مضاف إليه. <BR>وان قلنا: إنَّ مدخوله مجرور بالحرف, فله لازم باطل؛ لأنه يكون بالنسبة إلى ما قبله اسماً وبالنسبة إلى ما بعده حرفاً, وهذا جزاف من الكلام. <BR>وعلى ذلك فمن الصعب أن نعتبر الكاف أسماً بمعنى مثل. فيكون تصحيح كلام العكبري من هذه الناحيَّة متعذراً.<BR>سؤال: ما هو السجيل؟.<BR>جوابه: قال الراغب في المفردات( ): السَّجْل الدلو العظيمة, وسجلت الماء فانسجل أي صببته فانصب, واسجلته أعطيته سجلاً.<BR>أقول: إنَّه ــ حسب فهمي ــ فأن سَدَلَ وسّجَلَ مؤداهما واحد في اللغة. وحاصله: تسليط جاذبيَّة الأرض على الجسم, فسدل تستعمل للجمادات, مثل: سدل الستار. وسجل تستعمل للمائع, كسجل الماء أي صبه. <BR>وأضاف الراغب( ) والسجل, قيل: حجر كان يكتب فيه, ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا.<BR>قال تعالى: [كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).<BR>أقول: أي محل التسجيل, كما نسمي الدفاتر سجلا. وقوله تعالى: [كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ] فيه أطروحتان للفهم: <BR>الأولى: السجل: مكان المكتوب أو ظرفه مثل الجرارة تطوى في داخلها الكتب, وهذا هو الفهم المشهوري.<BR>الثانية: الكتب هي نفس الكتابة, والجمع منها بمعنى الكتابات. والسجل أيُّ شيء من ورق أو طين يطوي الكتابات في داخله, والكتاب بمعنى الكتابة موجود في اللغة, ومنه قول النبي ? فيما ورد أنه أمر أحد أصحابه فقال: تعلّم كتاب يهود, أي لغتهم وكتابتهم, قال: فتعلمتها في ثلاثة أيام. <BR>هذا وقد وردت لفظة (السجيل) في القرآن الكريم في ثلاث مواضع: أحدها في هذه السورة, والأخريات في سورة هود الآيَّة (82) وفي سورة الحجر الآية[ 74], لوصف الانتقام من قوم لوط, قال تعالى: [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ] ( ).  <BR>وفي هذه الآية عقوبتان, الأولى: [جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا]. والثانيَّة: [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ], فقد يقال: إنَّ العقوبة الأولى تكفي للقضاء عليهم, فلا معنى للأمطار بالحجارة بعد أن يجعل عاليها سافلها.<BR>وجوابه: من وجهين كلاهما نسوقهما كأطروحة محتملة: <BR>الوجه الأول: إنَّه ليس المراد من جعل عاليها سافلها المعنى المادي على ما رويَّ في روايَّة ضعيفة السند ( ), بل المراد المعنى المعنوي وهو: إذلال   أعزائها وسلب السلطنة عن متوليها. فالمعجزة الماديَّة هي الرجم بالحجارة, وليس الانقلاب الحقيقي للأرض.<BR>الوجه الثاني: إنَّ الله تعالى جمع بين العقوبتين زيادة في النكايَّة عليهم؛ لأنهم كانوا شديدي الفسق, ومتجاهرين باللواط, فقلب الأرض ورجمها, ليس حقداً, بل تسجيلا إعلاميا لأجل إفهام الآخرين من الناس, بأنهم يستحقون ذلك, وبالتالي يؤدي إلى هدايَّة الأخريين وتفقههم. <BR>وقال تعالى: في سورة الحجر:[لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ]( ). <BR>فأشار سبحانه إلى نفس القصة ولكن بألفاظ أخرى. وعاليها سافلها بالمعنى المادي أو المعنوي على ما مر.<BR>والمراد من مشرقين: وقت إشراق الشمس, ولا معنى لان يكون المراد به المكان, لأن كل مكان فهو شرق لغيره.<BR>سؤال: ذكر في سورة هود عقوبتين, وفي سورة الحجر ثلاث عقوبات. فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.<BR>جوابه: لعدة وجوه:<BR>أولا: إنَّه ليس في الآية التي في سورة هود مفهوم مخالفة, بحيث ينفي حصول شيء آخر فما لم يذكر فيها لا يعني عدم وجوده.<BR>ثانيا: إنَّ الصيحة المذكورة في سورة الحجر, هي نفس انقلاب الأرض,لا عقوبة ثالثة. ويدعمه الترتيب بالفاء, كأن الصيحة هو صوت انقلاب الأرض, فهي معلول وليس علة. <BR>ثالثا: إنَّ نحمل (عاليها سافلها) في سورة الحجر, على المعنى المعنوي, ومعه لا يكون هناك دليل على أنهم ماتوا جميعاً من الصيحة. بل يمكن أنهم أغمي عليهم, ثم قضي عليهم بالرجم.<BR>هذا وقد ورد لفظ مشابه للسجيل نطقاً ومعنىً في القرآن الكريم وهو السجين. وكلاهما من أصل غير عربي, قال تعالى: [كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ.وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ.كِتَابٌ مَرْقُومٌ]( ).  <BR>سؤال: فما هو معنى سجين؟.<BR>جوابه: قال الراغب( ): السجين: اسم لجهنم بإزاء عليين, وزيد لفظه تنبيهاً على زيادة معناه. وقال الرازي( )في هامش العكبري: إنَّ سجينا اسم للأرض السابعة, وهو فعيل من السجن. <BR> أقول كأطروحة: إن سجين مبالغة من (سجن), فالسجن بالكسر هو المكان والسجين بالتخفيف مكينه, أي المسجون. والسجين بالتشديد صيغة مبالغة, بإعتبار إن السجن له مراتب تختلف شدة وضعفاً والصعب منه سجين, أي شديد السجن.<BR>   إن قلت: إنَّه اسم لجهنم نفسها, وليس لمن يسجن فيها ويعذب.<BR>قلت: هو من تسميَّة المكان بالمكين, فالمكان هو جهنم, والمكين هو مَنْ يعذب فيها؛ لأنها سبب عذابهم.<BR>وهذه اللفظة, اعني سجين, وردت في القرآن مرتين, كلتاهما في سورة المطففين, قال تعالى: [كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ.وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ.كِتَابٌ مَرْقُومٌ]( ).<BR>وهي تقابل عليين, كما قال الراغب ( ), لقوله في نفس السورة: [كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ.وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ]( ).  <BR>وفي قوله: [فِي سِجِّينٍ], إشارة إلى المكان المدلول عليه بفي, ومحل إعراب الجملة: [كِتَابٌ مَرْقُومٌ], هو كونه خبراً لمبتدأ محذوف تقديره سجين.<BR>ومن هنا ينشأ إشكال, وحاصله: إنَّ [سِجِّينٍ] في الآية السابقة بمعنى المكان وهي بمعنى الكتاب؛ لأنه يقول بعد التقدير: سجين كتاب مرقوم, فما جوابه؟.<BR>أقول: إنَّه نشأ الأشكال على ضوء التقدير باعتبار كونه هو المبتدأ المحذوف: [سِجِّينٍ]. إما لو كان التقدير هو كتاب مرقوم, فهو استفهام لتعظيم شأنه وبيان حرمته, فينتهي السياق بقوله: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ]. ثم يقول بعد ذلك: إنَّ كتاب الفجار هو كتاب مرقوم, ولا حاجه إلى رجوعه إلى سجين, وان كان سجين اقرب لعوده إليه, ولكن ينشأ الأشكال معه وما يقال في سجين يقال في عليين.<BR>ولكن مع ذلك نقول: إنَّ هذا الكلام من قبيل المجاز؛ لأنه ليس في جهنم كتاب مرقوم, أي مكتوب. وإنما: إما أن نفهم من كتاب مرقوم: أيَّ كتابة مكتوبة. كأنهما لفظان مترادفان, أو أن نفهم من الكتاب المجلد الذي فيه اقتضاء الكتابة أو أوراق الكتابة. <BR>وما ذكر في الآية رمز للكتاب التكويني, وهو قد رُقِمَ وسُجِلَ بالإرادة التكوينيَّة ما هو؟ هو نفس علمنا: عمل الفجار, وعمل الأبرار.<BR>وعلى ضوء كل ما تقدم نقدم السؤال الآتي: <BR>سؤال: ما هي المقارنة بين السجيل والسجين؟.<BR>جوابه: إنَّه يوجد بينهما نحو تشابه, ونحو اختلاف.<BR>فوجه التشابه إن كليهما سبب للعذاب, ومن ناحيَّة اثباتيَّة: (كلاميَّة أو بلاغيَّة) فقد استعمله القرآن الكريم من أجل إرهاب القارئ وتخويفه, مضافاً إلى إظهار عظمة الله سبحانه, وإبراز أهميَّة البيت الذي حصل الدفاع عنه.<BR>ووجه الاختلاف في المعنى: إنَّ السجيل عبارة عن حجر, والسجين عبارة عن جهنم وما يحصل فيها. وكلاهما سبب للعذاب. وتعبير عن غضب الله سبحانه.<BR>ويتحصل من ذلك عدة نتائج:<BR>فأننا قد نزعم أن أحدهما عين الأخر, هو هو كأنه قال: ترميهم بحجارة من سجين وقد استعمل اللام اختياراً.<BR>ويترتب على ذلك بعض النتائج المحددة منها: إنَّ الحجارة إذا كانت من سجين, فهي قاتلة بالضرورة؛ لأنها ليست طيناً لعدة احتمالات:<BR>أولا: ان نقول: إنَّها حجارة من جهنم, مع افتراض ان الطير قد أخذها من جهنم ورمى بها الجيش المعادي, لكن هذا لا يتم إلا بافتراض أنهم لم يكونوا طيراً بل خلقاً أخر على صورة الطير وهم متسلطون على الدنيا والآخرة, فأن جهنم في الآخرة فقد أخذوا الحجر من الآخرة ورموه في الدنيا, باعتبار كونهم مخولين من قبل الله سبحانه بذلك. وحجر جهنم قاتل بلا شك, كما يروي في قوله تعالى: [فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ] ( ). عن الصادق ? ( ): لو إنَّ حلقة واحدة من السلسلة وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرِّها.<BR>ثانيا: ان نقول: إنَّ سجيل لم يرد بها جهنم وإنما هي حارة إلى حد تشبه حرارة جهنم, فتلقى على جسد الإنسان فتقتله.<BR>ثالثا: أن تكون هذه الحجارة سريعة جداً, والسرعة هي المؤثرة في القتل. كما لو تصورنا ان سرعتها أكثر من سرعة الضوء. والقدرة هذه, اما انها أتت من نفس هذا الحيوان, أو إنها حدثت بعد انفصالها من منقاره بقدرة الله سبحانه, فتدخل في سرعتها من أحد الجانبين وتخرج من الجانب الأخر. <BR>رابعاً: أن تكون قنبلة تحملها الطير تسقط على الفرد وتقتله, أو نقول: إنَّها لا تحملها الطير بل الأجهزة الخاصة المناسبة لها. والأبابيل ليس طيراً بل جيشاً مضاداً يقف أمام جيش إبرهة.<BR>ولكن مثل هذا الوجه مخالف لظاهر القرآن, فلا يكون حجة. لما ورد عنهم ? ( ) :  من أنَّ ما خالف قول ربنا زخرف باطل, اضرب به عرض الجدار. مضافاً إلى اليقين التاريخي, بعدم وجود مثل هذا الجيش المحارب في الجزيرة العربيَّة, وعدم وجود مثل هذا السلاح أيضاً.<BR>وهذا, وقد ذكر القاضي عبد الجبار ( ) في هذا الصدد سؤالين:<BR>سؤال: كيف يصح في الطير الصغير أن يرسل الحجر, فيؤثر في الناس التأثير الذي ذكره تعالى في هذه السورة؟.<BR>جوابه: من وجوه:<BR>الوجه الأول: بأن يزيد الله تعالى في قوة الطيور بحيث يؤثر ذلك الحجر ذلك التأثير العظيم.<BR>الوجه الثاني: أن يكون الله تعالى عند رمي الطير جعل فيه الانحدار الشديد بحيث يؤثر هذا التأثير.<BR>أقول: الوجه الأول لا يكفي وذلك؛ لأنَّ قدرة الطير لا يعني قدرة الحجارة من الطين بحيث تكون قاتلة, والوجه الثاني غير تام بمجردة أيضاً.<BR>إلا أن نذكر له وجهين آخرين وهما: <BR>الأول: ما ذكرناه سابقاً من السرعة الشديدة للحجر وفي الطائر, كأن تكون كسرعة الضوء وبالتالي تخترق الجسم البشري.<BR>الثاني: وجود الحرارة العاليَّة جداً في الحجارة, باعتبارها من [سِجِّينٌ], فلا تكون قابلة للانطفاء فتبقى متوقدة إلى حال خروجها, ولا تنالها رطوبة جسم الإنسان.<BR>ويمكن الجمع بين هذين الوجهين أعني السرعة والحرارة. ولولا ذلك لما كان لما قاله القاضي عبد الجبار أي اثر.<BR>سؤال: ما هو العصف في قوله تعالى: [ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ].<BR>جوابه: قال الراغب في المفردات( ): العصف والعصفة الذي يعصف من الزرع, ويقال لحطام النبت المتكسر عصف قال: والحب ذو العصف والريحان, كعصف مأكول, ريح عاصف. وعاصفة ومعصفة تكسر الشيء فتجعله: كعصف. وعصفة به الريح تشبيها بذلك.<BR>أقول: يتحصل من ذلك: إنَّ عاصفة بمعنى كاسرة لما تمر عليه من النبات, وذلك في الريح الشديدة.<BR>وقال في الميزان( ): العصف ورق الزرع والعصف المأكول ورق الزرع الذي أكل حبه, أو قشر الحب الذي أكل لبه.<BR>أقول: أي إن العصف هو ورق الزرع كورق الحنطة والشعير, وقوله: قشر الحب الذي أكل لبه... فيه تسامح. وحقه أن يقال: هو الحب الذي أكل لبه, يعني ما بداخل قشره.<BR>هذا ويمكن الجمع بين الوجهين التكسر والحب بالحب المتكسر؛ لأن الحب يتكسر بعدة أمور طبيعيَّة وعرفيَّة أهمها: حين ينبت منها النبات, مضافا إلى تقشيره من أجل طحنه وأكله, وكذلك النوى غير المأكول، فإنها كلها تتعصف بنباتاتها.<BR>سؤال: لماذا لم يقل: فجعلهم عصفاً مأكولا؟.<BR>جوابه: في هذا الوجه نقطتا ضعف:<BR>الأولى: إنَّه لم يجعلهم كذلك بنحو الحقيقة, بل جعلهم كعصف مأكول, أي مثل العصف. والجثث المتناثرة ليست عصفاً مأكولاً, بل كالعصف.<BR>الثانية: إنَّنا مع التنزل عن الوجه الأول, يمكن أن نقول: فجعلهم عصفاً مأكولاً مجازاً, ولكن تأتي مسألة حفظ النسق ووحدة السياق اللفظي. وهو مقتضى الحكمة والفصاحة. <BR>سؤال: كيف نتصور العصف المأكول؟.<BR>جوابه: ما فهمه المفسرون بما فيهم صاحب الميزان, من أنها جثث ساقطة على الأرض, ويؤيده النقل الخارجي التاريخي. <BR>أقول: ولكن بذلك لم يحصل تقطع وعصف, ويجيب المشهور بأن التقطع حصل في الجيش باعتبار فشله وتقطع أفراده وهو نحو من التقطع المعنوي.<BR>والذي أفهمه أكثر من ذلك: إنَّ الجسد الواحد منها كأنه أصبح قطعاً قطعاً, كالشجرة الواحدة المتكسرة, ويؤيده وصفه بالمأكول.<BR>مضافا: إلى أننا لو فهمنا من العصف الأغصان المتكسرة, كفى أن يكون كل واحد منهم قد انقطع إلى قطعتين أو أكثر, ولكن إذا فهمنا من العصف, الحب والنوى وهي صغيرة بطبيعة الحال. فلا بد أن نتصورهم صاروا قطعاً صغيرة, وان لم تكن بحجم الحنطة نفسها, فإن التعبير مجازي على أي حال, والمهم ان الجسم أصبح عشرات القطع فلا يرى هنالك جيش وجثث, بل لحم متناثر.<BR>هذا وللمأكول تقسيمان: <BR>التقسيم الأول: المأكول حقيقةً كما في حب الحنطة, والمأكول مجازاً, أي على شكل ما كان مأكولاً.<BR>التقسيم الثاني: المأكول فعلاً وهو المطبوخ في ما يحتاج إلى الطبخ والمأكول اقتضاء, أي كونه قابلاً للأكل, وبضرب أثنين في أثنين تصبح الأقسام أربعة: <BR>القسم الأول: القطع المأكولة مجازاً, فأن العصف هو القطع الصلبة, كالحجر والخشب إلا أن هذا قطع لينه؛ لأنها أجساد بشريَّة.<BR>القسم الثاني: القطع المأكولة حقيقة, كاللحم المقطع المأكول, وهذا تشبيه مباشر. وفيه إشعار بالتشبيه بالحيوانات.<BR>القسم الثالث: الحب المأكول مجازاً, فأن لحومهم متناثرة وغير مأكولة. وانما عبر بذلك لكون منظرها كأنها لحوم مطبوخة.<BR>القسم الرابع: الحب المأكول حقيقة.<BR>وقد ظهر وجه الشبه في المأكول فعلاً. وفيه منظر شديد لم يفهمه المفسرون؛ لأنهم فهموا إن الجثث سليمة, مع إنها لا تبدو كذلك باعتبار قوله: [كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ], فأن هذا لا يتم عادة في حجر واحد في كل إنسان واحد.<BR>إن قلت: إنَّكم رجحتم في معنى العصف بأنه الأجزاء المتكسرة والنبات المتقطع, والحب مصداق منها باعتباره أجزاء صغيرة من النبات, بينما قال تعالى في سورة الرحمن: [وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ]( ), فوصف الحب بأنه ذو العصف, فيكون من وصف الشيء بنفسه وهو باطل. <BR>قلت: جوابه من عدة وجوه:<BR>أولا: نحن لم نقل أن العصف هو الحب بشرط لا عن الزيادة. بل هو مطلق الأجزاء المتكسرة من النبات, فيرجع المعنى ــ ولو مجازاً ــ إلى المصدري, وهو التكسر. <BR>ثانيا: أن نقول: إنَّ الحب هو كل قطعة مستقلة من الثمار, كالتفاح والرقي وغيرهما, وليس معناه منحصراً بالحب الصغير كالعنب والتمر والحنطة والشعير. ومعه يكون الحب - بهذا المعنى- ذو العصف, أي ذو حب في داخله, فنحمل معنى الحب على إحدى الحصتين ونحمل معنى العصف على الحصة الأخرى.<BR>ثالثا: إنَّه بعد التنزل عن الوجه الثاني باختيار القول بأن الحب هو خصوص الحب الصغير, كالحنطة والشعير ولا يوجد في داخلها حب أخر ولكننا مع ذلك يمكن إن نفهم منه الحب ذو التكسر.<BR>وإذا تكسر الحب ظهر لبه, أي نفهم من الحب لبه والعصف قشره, كما يمكن العكس, وان كان الأول أرجح على أي حال. <BR>السؤال الآخر: الذي ذكره القاضي عبد الجبار في كتابه( ): <BR>كيف يصح ذلك ولم يكن في الزمان نبي, وهذا من المعجزات العظام؟.<BR>جوابه: إنَّه لابد من نبي في الزمان يكون هذا الأمر معجزة له, وقد كان قبل نبينا أنبياء بعثوا إلى قوم مخصوصين, فلا يمتنع إن يكون هذا الأمر ظهر على بعضهم, كما روي انه ? قال في خالد بن سنان: ذلك نبي ضيعه قومه, وقال في قس بن ساعدة: إنَّه يبعث يوم القيامة أمة واحدة لقلة من قبل عنه. فهذه طريقة الكلام في هذا الباب. <BR>أقول: يمكن أن نقبل نبوة هؤلاء كأطروحة, ولكن ذلك لا يكون جواباً على سؤاله الرئيسي لكبرى معينة, وحاصلها: إنَّ النبي يجب أن يكون صاحب معجزة بحيث يصدق, بحسب التسبيب انه أوجدها بدعاء ونحوه, وكلاهما لم يتسببا إلى وجود تلك المعجزة, اعني القضاء على الجيش المعادي, فتكون الصغرى مخدوشة, وان صحة الكبرى. <BR>إلا أن الصحيح هو الطعن بالكبرى التي أخذها القاضي عبد الجبار مسلمة, وهي انحصار حصول المعجزة بوجود النبي, وإنما نحتاج إلى المعجزة لنصرة الحق وهو الذي حصل فعلاً, انتصاراً للبيت الحرام والكعبة المشرفة. </P>

<P> </P>

<P><BR>سورة الهُمَزَة</P>

<P>في تسميتها أطروحات:<BR>الأولى: الهُمَزَة, وهو المشهور.<BR>الثانية: الحطمة, كما في بعض المصادر. <BR>الثالثة: السورة التي ذكرت فيها الهمزة أو الحطمة. <BR>الرابعة: رقمها في تسلسل المصحف وهو: [104].<BR>سؤال: قال الله سبحانه: [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ], فما هو الويل؟.<BR>قال الراغب[ ]: قال الأصمعي: ويل قبح, وقد يستعمل على التحسر, وويس استصغار, وويح ترحم. ومن قال: ويل واد في جهنم, فإنه لم يُرد إن ويلاً في اللغة هو موضوع لهذا, وانما أراد من قال الله تعالى ذلك فيه, وقد استحق مقراً في النار وثبت ذلك له. <BR>أقول: مرجع ذلك إلى ان هذه الكلمات غير موضوعة لمعان محددة في  اللغة, وانما تستعمل لدى وجود عواطف نفسيَّة معينة, فويل له... يستعمل لدى التقبيح, وهو التهديد بالقبح أو الشهادة بالشين.<BR>وقد تستعمل للتحسر لما فات من أمر, وويس وهو صوت آخر يستخدم لدى الاستصغار وهو الاحتقار والاهانة, وويح وهو صوت آخر يستعمل للترحم وهو الشفقة والرأفة. وهذا مضمون كلام الأصمعي. <BR>غير ان هذا الأخير قابل للمناقشة؛ لان ويح للتهديد مثل ويل, كلما في الأمر إننا قد نستعملها قبل حصول الحادث المفروض، فيكون تهديداً لحصوله. وقد نستعملها بعده فيكون إشعارا على انه كان مستحقاً لحصوله. كما قد يكون مقصود المتكلم إظهار التألم عليه من الحادث الحاصل وان كان مستحقاً له, أو بغض النظر عن استحقاقه له.<BR>وعلى أي حال فالاستحقاق القرآني هنا للدلالة على التنبوء والتهديد بحادث استقبالي وهو العقاب الأخروي, أو للدلالة على استحقاق العقاب.<BR>قال تعالى: [لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ].<BR>في هذين اللفظين عدة أسئلة: <BR>سؤال: في صيغتهما من حيث كونهما مفرداً أو جمعاً.<BR>جوابه: إنَّ كليهما محتمل, فأن كانت جمعاً, فعلامة التأنيث التي فيه باعتبار إن الجمع مناسب للتأنيث في اللغة العربيَّة, إلا انه يدل على إفراده اسم الموصول الذي بعده ويجعله كالنص في ذلك. <BR>وأما الهاء فباعتبار كونها صيغة مبالغة بمعنى اسم فاعل, والهاء زيادة في التأكيد كعلامة وفهامة. <BR>سؤال: ما هو الوجه في تأنيث الهمزة واللمزة, مع انه ليس المقصود بهما عودهما إلى مؤنث؟. <BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: عودهما إلى مرجع كلي, والكلي بمنزلة الجمع, والجمع يناسب التأنيث.<BR>الوجه الثاني: ما قلناه قبل قليل من أن المراد زيادة التأكيد. <BR>الوجه الثالث: ما قاله العكبري[ ]: الهاء في الهمزة واللمزة للمبالغة. <BR>أقول: والتأكيد والمبالغة, يرجع محصلهما إلى معنى عرفي واحد. <BR>إن قلت: ولكن الله تعالى وصف نفسه بأنه: [عَلاَّمُ الْغُيُوبِ][ ], فكيف صح وصف المخلوق بما هو أكثر تأكيداً من ذلك؟.<BR>قلت: إن علمه تعالى لا يقاس بالخلق ولا يحتاج إلى تأكيد, ولذا اكتفى بصفة (العلام) بينما يحتاج المخلوق إلى زيادة التأكيد, لكي يعرف بأنه وصل إلى غايَّة العلم المتصور له. <BR>وعلى هذا فإن التأنيث في الهمزة واللمزة, يراد بها انه وصل إلى غايَّة ما هو متصور من هاتين الصفتين. <BR>الوجه الرابع: إنَّه تعالى لو ذكر اللفظين لكان على خلاف السياق القرآني، والنسق القرآني. <BR>سؤال: ما هو وجه الحاجة إلى الجمع بين الهمزة واللمزة؟ ولماذا لم يكتف بواحد منهما؟. <BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: إنَّهما ليسا بمعنى واحد, بل لكل منهما معناه المستقل, وكل منهما مراد في الآية, ولا تكرار فيها كما سيأتي في تفسيرهما. <BR>الوجه الثاني: إنَّه إن تنزلنا عن الوجه الأول, فستكونان بمعنى واحد, فيكون المراد باللمزة تشديد النكير على الهمزة واللمزة واستقباحهما. فإنه حتى لو فعل  ذلك مرة واحدة, فهو عمل في غايَّة الشناعة, فضلاً عما إذا كان فعله مكرراً. وهذا اقرب إلى الفهم العرفي للقرآن.<BR>الوجه الثالث: أن نقول ان اللمزة تابع للهمزة. <BR>والإتباع مستعمل في اللغات  غير العربيَّة بكثرة, ولكنَّه في العربيَّة نادر. وهو ان يتكلم المتكلم بكلمة ثانية مشابهة لفظاً للأولى, وليس لها معنى إلا معنى الكلمة الأولى, وذلك بقصد الاستهزاء أو الاستظراف أو التهديد أو التأكيد أو غير ذلك, وهي كلمة يستفاد معناها من مدخولها. <BR>واللمزة في الآية الكريمة يمكن أن تكون صغرى لهذه الكبرى, والاحتمال مبطل للاستدلال. ولا تكون لغواً بل ذكرت بقصد الاستهزاء أو التأكيد أو نحو ذلك. <BR>إن قلت: اللمزة لا يحتمل أن تكون للإتباع؛ لأن لازمه أنها لا معنى لها؛ لأن الكلمة التابعة لا معنى لها, ولا يمكن أن تكون في القرآن الكريم كلمة لا معنى لها. <BR>قلت: جوابه من أكثر من وجوه: <BR>أولاً: الطعن في الكبرى, وهي ضرورة خلو القرآن الكريم من أيَّة كلمة لا معنى لها. بل يمكن القول  بإمكان ذلك, وذلك لقوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ][ ]. وهو يشمل حتى الكلمات الخاليَّة من المعنى. <BR>ثانياً: إنَّها وان كانت لا معنى لها, إلا أنها صحيحة لغة وفصيحة في الاستعمال, فجاز وجودها في القرآن؛ لوضوح إن كل إتباع فهو لا معنى له , فليكن هذا منه. وهذا لا يعنى نفي المعنى إطلاقاً؛  لأننا قلنا انه يعرف معناه من معنى تابعه, وهو الكلمة السابقة عليه, إذن فمحصل المعنى موجود دائماً. <BR>ثالثاً: إنَّ نذكر بنحو الأطروحة فكرة الجمع بين كونه ذا معنى  وكونه إتباعاً, إذ قد تكون الكلمة ذات معنى في نفسها بغض النظر عن الإتباع, وقد وقعت إتباعاً فتفيد كلا الأمرين, إذ لا يتعين في الإتباع سلب المعنى مطلقاً بل سلبه من حيث كونه إتباعاً, وهو لا ينافي وجود معنى آخر لنفس اللفظة في اللغة. <BR>سؤال: عن معناهما وعن الفرق بينهما. <BR>جوابه: إنَّنا ننفي ــ أولاً ــ الأطروحة التي تقول بترادفهما. بل لهما معنيان مختلفان, وهما من الالفاظ التي يقال فيها: إنَّهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا, كالفقير والمسكين. يعنى إذا اجتمعا في اللفظ افترقا في المعنى, وإذا افترقا في اللفظ اجتمعا في المعنى, أي كان من الممكن المراد منهما شيئاً واحداًَ. <BR>وهذه القاعدة ارتكازيَّة ظهوريَّة, لا يمكن التنازل عنها عرفاً. وكل من فسرها بالترادف فقد فسرها بخلاف الظاهر. <BR>وأما تفاصيل معنى هاتين الكلمتين, اعني الهمزة واللمزة فكما يلي:<BR>قال الراغب في المفردات[ ]: الهمز كالعصر, يقال: همزت الشيء في كفي, ومنه الهمز في الحرف وهمز الإنسان اغتيابه, قال تعالى: [هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ], يقال: رجل هامز وهماز وهمزة, قال تعالى: [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ].<BR> وقال الشاعر: وان اغتبي فأنت الهامز اللمزة.... . <BR>وقال تعالى: [وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ]. <BR>أقول: فهم الراغب من الهماز المغتاب. ونحن لو قارنا بين الصيغ الثلاث: هماز, هامز, همزة, لوجدنا ان أشدها همزة؛ لأنه يكون كثير الهمز ومبتلى به الناس, وقوله تعالى: [هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ][ ], لا يدل على الغيبة فقط؛ لأن الشياطين لا يغتابون الناس. بل المراد مطلق الأذى.     <BR>وقال الراغب أيضاً في المفردات[ ]: اللمز الاغتياب وتتبع المعاب, أي (المعايب), يقال: لمزه يلمزُه ويلمزَه. قال تعالى: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ], [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ] , [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ]. <BR>أقول: وقوله تعالى: [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ][ ] , لها تفسيران: <BR>الأول: ما ذكره الراغب[ ] : أي لا تلمزوا الناس فيلمزونكم, فتكونوا في حكم من لمز نفسه. <BR>الثاني: لا يلمز بعضكم بعضاً, والمراد جميع المجتمع والضمير للجمع في الموضعين: [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ], وهو القرينة المتصلة على كونه كذلك. وهذا الوجه أكثر وضوحاً مما قاله الراغب. <BR>وأضاف الراغب: ورجل لماز ولمُزة كثير اللمز. قال تعالى: [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]. <BR>أقول: إنَّنا بعد أن اطلعنا على المعاني اللغويَّة لكل منهما, يظهر أن كليهما بمعنى الاغتياب, أو قل: مطلق الأذية فيكونان كالمترادفين, وربما يرجح أن اللُمَزَة إتباع, ولا يراد بها معنى مستقل عن الهُمَزَة. <BR>ولكن - مع ذلك - يمكن تقديم عدة أطروحات محتملة للاختلاف, وخاصة إذا قلنا أن الظهور بالاختلاف ثابت فيهما حسب قاعدة: إذا اجتمعا افترقا. <BR>الأطروحة الأولى: إنَّ الهُمَز في الغياب واللُمَز في الحضور. كما تدل عليه بعض الآيات, قال تعالى: [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ][ ] . <BR>وقال:[وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ][ ] ,  وكلاهما واضح الحضور. <BR>الأطروحة الثانية: إنَّ الهُمَزَ مطلق الأذيَّة والاختيار بأيِّ سبب كان. واللُمَز الأذيَّة في محل معين والطلب غير المناسب وعلى خلاف الحكمة, كما أشارت إليه الآيتان الأخيرتان بحيث يكون نوعاً من الإزعاج. <BR>ونلاحظ إن اللُمَز لم ينسب إلى الشياطين, بخلاف الهُمَز فإنه نسب اليهم. وهو دليل الاختلاف. <BR>ولا يقال: إنَّه تعالى اختار ذلك, فلا يكون دليلاً على الاختلاف. <BR>فإنه يقال: إنَّ الارتكاز المتشرعي والعرفي على صحة الاختلاف. <BR>الأطروحة الثالثة: إنَّ المعنى الإجمالي لهما يذهب فيه الذهن كل مذهب, من حيث لا يحتمل الترادف. <BR>وذكر الرازي في هامش العكبري[ ] , احتمالات ستة أخرى: <BR>1. إنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما, وإنما الثاني تأكيد للأول. <BR>2. إنهما مختلفان, فقيل: الهُمَزَة: لمغتاب, واللُمَزَة: العياب. <BR>3. وقيل: الهُمَزَة: العياب في الوجه, واللُمَزَة: في القفا. <BR>4. وقيل: الهُمَزَة: الطعان في الناس, واللُمَزَة: الطعان في انساب الناس. <BR>5. وقيل: الهُمَزَة: يكون بالعين, واللُمَزَة: باللسان. <BR>6. وقيل: عكسه.<BR>       فهذه ستة أقوال. <BR>سؤال: هل هما للجمع أم للمفرد؟.<BR>جوابه: صيغة هذين اللفظين تناسب المفرد كما تناسب الجمع, بدليل وجود ضمير في آخر السورة يعود إلى الجمع: [إنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ]. وهذا لا ينافي دخول (كل) عليها حين قال سبحانه: [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ], فإنه يراد بـ(كل) هنا كل مجموعة أو كل حصة, وليس كل هماز ولماز. ومعه فيراد بها اقل الجمع على اقل تقدير. ولا يكون وجود (كل) دالاً على عدمه. <BR>وأما قوله تعالى: [الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ], فيراد بالموصول المفرد فيدل على ان الهمزة واللمزة يراد بهما المفرد. <BR>إن قلت: إنَّ الضمير عائد إلى الجمع كما عرفنا, في حين أن اسم الموصول دال على المفرد, فيحصل تهافت في القرائن المتصلة. <BR>قلت: كلا فإن الضمير في الحقيقة, لا يدل على إن الهمزة واللمزة للجمع, وإنما يراد بهما الجنس, أي الجميع وليس همازاً معيناً, فناسب إرجاعه جمعاً. ولا ينافي كون اللفظ مفرداً لغوياً ونحوياً. ومن المعلوم أن اسم الموصول العائد إلى اسم الجنس دال على معنى اسم الجنس. <BR>سؤال: إنَّ الموضوع في الآية الكريمة هو مجموع الصفات المذكورة. والمحمول [لَيُنْبَذَنَّ], فهل الموضوع هو مجموع الصفات أو جميعها؟.<BR>جوابه: إنَّنا لو نظرنا من زاويَّة أصولية, كان لابد من تقييد بعضها ببعض, فهذا الناتج من مجموع هذه القيود هو الذي ينبذ في الحطمة, أو قل: إنَّه الشخص الجامع لهذه المفاسد كلها. <BR>وهنا نخسر معنىً معتداً به, وهو استحقاق الهماز فقط أو اللماز فقط للنبذ في الحطمة. فهذا مما لا يبقى عليه دليل في الآية الكريمة. <BR>ولكن -حسب فهمي- فإن كل موضوع واحد, يراد بحيالة واستقلاله. فالهمزة عليه نار موصدة, واللمزة عليه نار موصدة، وان لم يتصف بالصفات الأخرى. <BR>سؤال: حول قوله تعالى:[الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ]. وجمع المال ليس بحرام دائماً, فقد يكون حلالاً. فلماذا يكون الويل له؟. <BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الأول: إنَّنا نجعل تهديده بالعقوبة, بمنزلة القرينة المتصلة على كون المال المجموع بغير حقه, وبشكل غير مشروع. <BR>الثاني: أن نفهم إن التهديد منوط بالمجموع, أي المتصف بمجموع هذه الأوصاف وليس بواحد منها فقط, وهي الهمزة واللمزة وجمع المال. <BR>الثالث: من جهة أخلاقية, يكون جمع المال شيئاً من حب الدنيا, فجمع المال وان كان غير محرم في نفسه, لكنَّه يؤدي إلى المحرم اقتضاءا أو عليَّةً. فإن الشهوة إن أطيعت مرة أطيعت مرات, فيستحق صاحبها الويل والحطمة. <BR>الرابع: ان نجعل ما بعدها قيداً لجامع المال, وهو قوله[يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ]. فيكون المتصف بالقيد والمقيد هو المقصود. <BR>وفرقه عن الوجه السابق, انه هناك اعتبرنا كل القيود الأربعة مقيد بعضها ببعض, وأما هنا فيدخل النار بهذا القيد فقط.<BR>ومعه يكون محصل الآيتين أنها ذكرت أمرين, وليس أربعة: <BR>الأمر الأول: الهُمَزَة واللُمَزَة, فإنهما وإن كانا يختلفان, ولكنَّهما يرجعان إلى محصل عرفي واحد, ويكون احدهما مقيداً بالآخر.<BR>الأمر الثاني: مجموع ما بقي, وهو قوله: [الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ.يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ], أيضاً يكون بعضها مقيداً ببعض. <BR>ثم يأتي المحمول: [كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ]؟! <BR>ولكن هل تكون الصفات أربعة, أو أنهما صفتان مستقلتان أو هي صفة واحدة, بعد تقييد الجميع ببعضها البعض؟.<BR>جوابه: حسب فهمي وذوقي انه يقتضي الاستقلاليَّة, وكلها تقتضي النبذ في الحطمة. وبحسب القاعدة ان هذه الأمور متعاطفة بعضها على بعض, بتقدير تكرار العامل, فيكون المعنى: ويل لكل همزة وويل لكل لمزة وويل لكل مَنْ جمع مالاً وعدده, وهكذا فلكل منها تهديد مستقل عن الآخر. وهده أطروحة محتملة, وان كان بحسب الظاهر غير ذلك, لعدم وجود تعاطف ظاهر بل مقدر. <BR>سؤال: إن قوله تعالى: [جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ] ظاهره البدوي على التقليل؛ لأنه مقتضى التنكير, ومقتضى إمكان العد في [عَدَّدَهُ]؛ لان المال الكثير لا يمكن عده عادة, فهل الذي يخرج ماله عن امكانيَّة العد يكون ناجياً؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: إنَّ [عَدَّدَهُ] ليس بمعنى العد والاحتساب, وإنما بمعنى اعد من الأعداد. وقد أشار إلى ذلك العكبري في كتابه[ ] بمعنى أعده لمستقبله ولمصاعب حياته أو لشهواته, فلا يتعين أن يكون  المال قليلاً من هذه الناحيَّة. <BR>ولكن يبقى الإشكال عليه من ناحيَّة اختلاف اشتقاق المادتين اعدّ وعدّد, فعده أحصاه والاسم العدد والعديد, واعده لأمر كذا هيأه له من الإعداد. <BR>الثاني: إنَّه ليس ظاهراً بالقلة من ناحيَّة التنوين, بل هو ظاهر بالكثرة؛ لأن حال اسم الجنس دال على التعدد.<BR>إن قلت: إنَّ الكثير لا يكون قابلاً للعد عادة, والآية نص بالعد بعد التنزل عن الوجه السابق, فتكون هنا قرينة متصلة دالة على القلة. <BR>قلت: العد إما عد فعلي وخارجي, وإما عد اقتضائي وذهني, فهو يحافظ على المعدودات الذهنيَّة كما يحافظ على المعدودات الخارجيَّة. وينبغي الالتفات إلى أن المال غير منحصر بالدراهم والدنانير ليعدها أو بالغنم والبقر كذلك, بل قد يكون أرضاً أو نباتاً أو عقاراً. <BR>الثالث: إنَّ الآية خاطبت الناس على قدر عقولهم في ذلك الحين. <BR>فالله تعالى ناظر إلى طبقة غنيَّة ليست عاليَّة جداً في الثراء كما كان المعهود في ذلك الحين, وأمثالهم يكون مالهم قليلاً ويمكن عدّه, مهما كان في نفسه كثيرا. وأما الطبقة الأعلى من ذلك اقتصادياً, فهي تُفهم من الآية بالأولوية لا بالنص. <BR>الرابع: إنَّنا يمكن ان لا نفهم من التنكير التقليل بل مجرد كونه حصة من المال باصطلاح علم المنطق وعلم الأصول. <BR>الخامس: إنَّ مال الغني إذا نسب إلى مجموع أموال المجتمع أو إلى الدخل القومي الكامل كان قليلاً. </P>

<P>السادس: إنَّ التنكير للاحتقار ــ كما في الميزان[ ] ــ وليس للتقليل. <BR>سؤال: ما هو إعراب [الَّذِي] في قوله تعالى: [الَّذِي جَمَعَ مَالاً]؟. <BR>جوابه: قال العكبري[ ]: [الَّذِي] يحتمل الجر على البدل, والنصب على إضمارا أعني, والرفع على هو.<BR>أقول: جوابه لوجهين: أولاً: إنَّ التقدير خلاف الأصل, وكلا الأخيرين فيه تقدير, فالمصير إلى الأول وهو البدلية. <BR>ثانياً: إنَّنا نضيف احتمالاً آخر, وهو أن يكون نعتاً باعتبار ان الفرد موصوف بكونه همزة ولمزة وهو الذي جمع مالاً وعدّده. <BR>ومجموع الموصول وصلته يكون مركباً ناقصاً لا تنطبق عليه قاعدة الجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال. غير ان الموصوف هنا وهو كل لا ينطبق عليه عنوان النكرة, فيمكن أن يكون نعتاً بدل أن يكون بدلاً. <BR>وقلنا فيما سبق: إنَّ [الَّذِي] مفرد ولكنَّه كلي ينطبق على كثيرين, فهو بمنزلة اسم الجنس؛ لأنه يعود على اسم جنس. <BR>ثم انه قد ذكر القاضي عبد الجبار سؤالاً[ ] مع جوابه كما يلي: <BR>سؤال: هل يدخل في قوله تعالى: [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ] غير الكافر, أو لا يدخل فيه إلا الكافر؟.<BR>جوابه: ذلك محتمل لأجل قوله تعالى: [يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ]. وذلك لا يليق إلا بالكفار  الذين لا يعتقدون في أموالهم إنها من قبل الله تعالى, فلذلك رجحنا قول من صرف ذلك إلى الكفار. <BR>أقول: وهذا من غرائبه؛ لأنه لا يوجد احد من البشر  يحسب أن ماله أخلده, لوضوح ان المال لا يدفع الموت الذي لابد منه. والمتكلم لا يقصده والسامع ينبغي أن لا يفهم ذلك, إذن فلا توجد قرينة على الاختصاص بالكفار. <BR>وعلى أي حال ينبغي ان نؤول الآية بعد سقوط الدلالة المطابقيَّة, وستكون هذه الوجوه عامة للمسلمين  والكفار. ونقول: إنَّه يمكن أن يراد بها احد أمور: <BR>الأول: الغفلة عن الموت وترتيب الأثر على الخلود, وهذا حاصل للكفار وغيرهم. قال الإمام الصادق ?[ ]: لم يخلق الله عز وجل يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت. فالناس غافلون عن الموت, حتى كأنه لا يذوقونه. وكل ما زاد المال والسيطرة والشهرة, زاد ابتعاد ذكر الموت عن ذهن الفرد. <BR>الثاني: إنَّه يحسب أن ماله يطيل عمره, كما يقال عادة بالتداوي والتقوي. وهذا أيضاً حاصل لكل أهل الدنيا.<BR>الثالث: إنَّه يحسب أن ماله يكون سببا لخلود ذكره في الدنيا بعد موته بعمل معين أو كتاب أو مؤسسة  أو تجارة, وهذا الشعور أيضاً شامل للمسلمين والكفار معا. <BR>فالاختصاص بالكفار بلا موجب. والجمع بين الوجوه الثلاثة لا بأس به. <BR>سؤال: لماذا قال: أخلده بصيغة الماضي, ولم يقل: يخلده بصيغة المستقبل, مع انه القياس؟.<BR>جوابه: لأن صيغة الماضي تدل على شدة التأكيد بأن ذلك حاصل, فإنه قد حصل فعلا. فأن وجود المعلول بوجود علته, فكأن الفرد قد خلد فعلاً من حين حصوله على المال, وطبقة الأثرياء كأنهم يضمنون الخلود بحصولهم على المال. <BR>سؤال: قال تعالى: [كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ]. فما المراد من كلا؟ ولماذا لم يقل لا أو غيرها من حروف النفي؟. <BR>جوابه: إنَّ [كَلاَّ] يراد بها فائدتان: إحداهما: التهويل. وثانيهما: النفي الشديد. وفي السياق يراد به نفي الخلود. <BR>وظاهر عبارة صاحب الميزان[ ] ان كلا المعنيين في رتبة واحدة وهما التهويل والتشديد في النفي. ولكن ــ حسب فهمي ــ ان تشديد النفي في المرتبة الأسبق, ويستفاد منه التهويل في المرتبة أللاحقة. فيكون احدهما بالدلالة المطابقية, والآخر بالدلالة الالتزاميَّة. <BR>قوله تعالى: [لَيُنْبَذَنَّ].<BR>قال صاحب الميزان[ ]: اللام للقسم.<BR>أقول: إنَّما تكون اللام للقسم إذا كان القسم موجوداً, كقولنا: والله لتفعلن. وأما إذا كان السياق خاليا منه فلا تكون كذلك, بل هي للتأكيد. وهي لام  تدخل على الأسماء فتسمى لام الابتداء. وتدخل على الأفعال فتسمى لام القسم مجازاً لا حقيقة؛ لعدم الإشعار بالقسم كما قلنا. <BR>ونون التوكيد في: [لَيُنْبَذَنَّ] لزيادة التأكيد. بل يمكن القول: إنَّ دخول اللام على الفعل يصحبه دخول النون عليه, فهما متلازمان في القرآن الكريم: [لَتَسمَعُنَّ][ ], [لَيَخرُجُنَّ][ ], [لَتُبلَوُنَّ][ ]، [لَتُبَيّنُنَّهُ][ ].<BR>وهذا من الجهة النحويَّة. <BR>وإما الجهة اللغويَّة: قال الراغب[ ] : النبذ, إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به. ولذلك يقال: نبذته نبذ النعل الخلق. وقال صاحب الميزان[ ] : النبذ القذف والطرح. <BR>أقول: فيكون المعنى: ليقذفن في الحطمة. وفيه إشعار بالذلة والصِّغار. وهذا إنما يستفاد من التأكيدات في [لَيُنبَذَنَّ], أو من السياق العام؛ لأنه تعالى قال: [يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ] , إذن فهذا الوهم وهو الخلود بالمال باطل وضلال رديء جداً, وإنما أبدله المال بدل المعيشة المرفهة بالمعيشة الضنكة في جهنم فليس ماله بمنجيه, كلا. <BR>فإن قرأنا: لينبذن بالفتح أي للمفرد, فضمير المفعول يعود على الهمزة واللمزة الذي جمع مالاً ولا إشكال؛ لأن السياق كله سيكون افرادياً. <BR>وإنما الإشكال إذا قُرئ بالضم, فيحصل هنا سؤال كما يلي: <BR>سؤال: من المقصود بالجمع في قوله: [لَيُنبَذَنَّ]؟.<BR>قال العكبري[ ] : هو وماله ويجوز أن يكون المعنى هو وأمواله؛ لأنها مختلفة, وربما قيل: هو وماله وأهله.<BR>في كل ذلك جهة صحة. <BR>وإنما الأمر كما سبق من حيث ان الهمزة واللمزة لا يراد بها واحد بعينه بل يراد بها اسم الجنس وهو بمنزلة الجمع؛ لأنه كلي ينطبق على كثيرين، فيمكن ان يعود الضمير عليه جمعاً. وهذه الفكرة تنطبق على القراءتين: بالضم وبالفتح. <BR>لأننا ان راعينا اللفظ ناسب الفتح, وان راعينا المعنى ناسب الضم. <BR>مضافاً إلى وجه آخر للجمع, وحاصله ملاحظة (كل)  الواردة في أول السورة [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]. وهي تمثل جماعة من الناس لا محالة, فناسب إرجاع الضمير إليها جمعاً, إلا انه لا يتعين ذلك ويمكن لحاظ مدخولها مستقلاً. <BR>سؤال: لماذا سميت جهنم بالحطمة؟. <BR>جوابه: من وجهين: <BR>الأول: إنَّه من الحَطْمِ وهو كسر الشيء مثل الهشم. فهي مبالغة في التكسير. وجهنم تزيد قاطنيها  تحطيماً وتكسيراً. <BR>الثاني: من الأكل يقال: حطَّمه أي أكله بأسنانه حين المضغ والحُطَمَة الآكلة. بل الشديدة الأكل لسكانها, كأنهم يطبخون فيها. <BR>ونحن حين نلاحظ تقابل هذين الأمرين في قوله تعالى: [يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ]. فيكون الإنسان بدل الرفاه والنعيم, تأكله النار وتحطمه وتذله إذلالاً, لا يشفع له مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وقلبه ليس بسليم بطبيعة الحال. <BR>ولا يخفى أن صيغ حطمة جاءت على وزن همزة ولمزة. ومن هنا نعرف سببين لهذا التعبير, ولم يقل حاطمة. <BR>أولاً: للدلالة على الشدة كما عرفنا, وهو مما يخلو منه اسم الفاعل. <BR>وثانياً: حفظ النسق مع الصيغ السابقة. <BR>سؤال: ما المراد بـ[مَا], في قوله تعالى: [وَمَا أَدْرَاكَ]؟.<BR>جوابه: احد أمرين: <BR>الأول: أن تكون نافيَّة, ويكون المعنى: إنَّك لا تدرك ما الحطمة. وذلك للتهويل و التخويف. <BR>الثاني: أن تكون للأستفهام ويكون المعنى: من الذي جعلك تدرك الحطمة؟ فهو استفهام استنكاري يفيد نفي مدخوله باعتبار ان الحطمة أعظم من إمكان إدراكها وفهم مراتب عذابها. <BR>وكلا هذين الأمرين قابل للصحة ومؤد للمعنى.<BR>سؤال: ما معنى: [أَدْرَاكَ], ومَنْ هو المخاطب فيه؟.<BR>جوابه: الإدراك: بمعنى الإدراك الذهني وهو الدرايَّة والمعرفة. والكاف للخطاب وهو بحسب الظهور المباشر للنبي ?. ولكنَّه ? يعلم بالحطمة, فلماذا خاطبة سبحانه بذلك؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>أولاً: إنَّ الخطاب ليس له بل لغيره, من باب: إياك اعني فأسمعي يا جاره. <BR>ثانياً: إنَّه ? أعلى الخلق, فيكون إدراك جهنم إليه بسيطاً ولكن إذا تصورناه رجلاًَ مصلحاً, وانه مجرد بشر يوحى إليه إذن, فهو لم يرى الآخرة, ولا الجنة ولا النار, فليس عجباً أن يقول له سبحانه: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ]. <BR>ثالثاً: إنَّ المراد بالإدراك المنفي في السياق, ليس العلم بل الإدراك البصري الحسي, أو قل: العليّ لا الإقتضائي فان الإقتضائي وان كان موجوداً, إلا أن العلِّي أو الفعلي غير موجود ولا يوجد إلا لمن يدخلها ويراها فعلاً. <BR>سؤال: لماذا نسب الله تعالى النار إلى نفسه, في قوله:[نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ]؟. <BR>جوابه: عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: إنَّ ذلك باعتبار أنها خلق من خلق الله سبحانه, وكل الخلق منسوب إليه تعالى. وأما الجهة الفلسفيَّة لذلك فليس هنا محلها. <BR>الوجه الثاني: نسبتها إليه تشريفاً وتعظيماً. كما نسب ذلك إلى كثير من خلقة في الكتاب والسنة معاً, كالروح والأمين والنبي والكليم: روح الله وأمين الله ونبي الله وكليم الله وغير ذلك.<BR>وهذه النسبة إلى الله مجازيَّة بصفتها مطيعة لله تعالى؛ لأنه تعالى أمرها بالأمر التكويني وهي تؤدي وظيفتها على أحسن وجه بإحراق مَنْ فيها من العصاة والفسقة, فيكون تفخيمها في محله. <BR>الوجه الثالث: إنَّ المراد كونها في الآخرة؛ لأن كل ما كان هناك فهو منسوب إليه؛ لأنها مجردة عن المادة. وأما في الدنيا فلا يمكن نسبتها إليه تعالى؛ لأنها مادة وهي متدنيَّة في سلسلة الوجود. <BR>الوجه الرابع: إنَّ المراد كونها عقوبة من الله سبحانه؛ لأنها حصلت بحكمته وعدله للمستحقين ويؤيد ذلك: إنَّه تعالى لم ينسب الفاظاً أخرى إلى نفسه, كجهنم والسعير ونحو ذلك. فهذا يقرب: إنَّ ما كان من أنواع العذاب في جهنم منسوب إليه سبحانه. <BR>نعم لا خصوصيَّة للنار إذ يقول تعالى: [نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ], بل المهم هو نسبة العقاب إليه, وذلك بعد تجريد النار عن الخصوصيَّة إلى كل عقوبة. <BR>وقد ورد[ ]: إنَّ في جهنم عقوبات كثيرة حتى في كل درك من دركاتها السبعة ثلاثمائة ألف عقوبة أو نوع من العذاب. فيتعين تجريد النار عن الخصوصيَّة. <BR>ثم ان قوله تعالى: [الْمُوقَدَةُ] صفة تدل عن فعليَّة نشاط النار وحيويتها وفعاليتها. وقد يدل ذلك على وجودها وإيقادها الآن. <BR>فان قلنا: إنَّ جهنم موجودة فهو المطلوب, وان قلنا: انها غير موجودة فإنها سوف توجد عندما تقتضي الحكمة ذلك في يوم القيامة أو بعد النفخ في الصور, أو في زمن النبذ فيها. <BR>سؤال: لماذا وصفها بأنها موقدة مع ان كل نار فهي موقدة, ولا يصح ان تكون النار غير موقدة؛ لأنها عندئذ لا تكون موجودة اطلاقاً. <BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>أولاً: أن يكون المراد شدة توقدها بحيث يكون ضم غيرها إليها كضم الحجر إلى جنب الجدار, أو إنها ملحقة بالعدم. <BR>ثانياً: أن يكون المراد بيان الرهبة التي تكتنفها, والخوف الذي يتلبس مَنْ يراد نبذه فيها. <BR>ثانياً: أن يكون المراد صدق الايقاد عليها عرفاً وهذا ثابت لها, في حين أن النار القليلة أو الصغيرة لا يصدق عليها ذلك وان كانت عقلاً كذلك. <BR>سؤال: إنَّ ظاهر القرآن الكريم في عدد من آياته, وفي هذه السورة أيضاً, إن جهنم مخلوقة وظاهر القرآن حجة, فمثلاً قوله: الحطمة يعني حاطمة فعلاً. وقوله: الموقدة يعني هي كذلك فعلاً, ونحوه في قوله: [الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ]. فان كانت كذلك فما الحكمة من وجودها الآن؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: إنَّها قد أوجدها لإبراز قدرته سبحانه. وهذه إحدى النظريات العامة أيضاً في الحكمة من وجود الخلق كله. <BR>ومعه فلا حاجة إلى تأجيل إيجادها إلى الزمن اللاحق؛ لأن الغرض منه ليس هو إحراق الظالمين فقط, بل إبراز القدرة. <BR>الوجه الثاني: إنَّ العقوبة والمثوبة غير خاصة بالبشر, بل هي عامة لكل الخلق المدرك كما ورد[ ]: إنَّ الله سبحانه قد خلق قبل البشريَّة ألف ألف آدم وألف ألف عالم. <BR>وآدم هو أيُّ ذات مدركة وعاقلة. فيذهب المطيعون إلى الجنان والعاصون إلى النيران. <BR>فإن قلت: إنَّ يوم القيامة واحد وليس بمتعدد كما هو مقرر في علم الكلام وعليه ظاهر القرآن. <BR>قلت: نعم هو كذلك, ولكن يراد بقوله[ ]: [وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا]: الحشر لكل نسل آدمي سويَّة, ولا يراد به كل المخلوقات اللانهائيَّة. ففي الإمكان القول - كأطروحة ــ إن لكل نسل قيامته الخاصة به. <BR>فإن قلت: إنَّ قوله: الموقدة صفة نحوياً وقيد أصولياً, والقيد ليس مفهوماً استقلالياً في التصور. فلا يكون بمنزلة الإخبار عن إنها موقدة فعلاً.<BR>قلت: جوابه من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: ما قلناه في علم الأصول من أن القيد وان كان مندكاً في المقيد تصوراً وعقلاً, إلاّ أن له نحواً من الاستقلال العرفي, بحيث يعتبره العرف كاذباً إذا لم يكن مطابقاً للواقع, مع كون هذا الاعتبار لاغياً حال اندكاكه في المقيّد. <BR>الوجه الثاني: إنَّ الحكمة ليست منحصرة في جهنم من حيث كونها عقوبة بل الحكمة من وجودها متعددة وليست واحدة, ومن ذلك كونها لإظهار قدرة الله تعالى. فيتعين وجودها الفعلي. <BR>الوجه الثالث: إنَّنا نستفيد ذلك من القرائن السياقيَّة اللفظيَّة في الآية الكريمة, وهي الإطلاق الازماني الشامل لكل الأزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. <BR>سؤال: كيف تطلع النار على الأفئدة؟.<BR>جوابه: إنَّه يكون من عدة وجوه محتملة:<BR>الوجه الأول: ما ورد عن النبي ?[ ]: من انَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.  وورد أيضاً [ ]: نيَّة المؤمن خير من عمله ونيَّة الكافر شر من عمله. <BR>ويتحصل من ذلك: إنَّ العمل الحقيقي أمام الله سبحانه هو الأعمال القلبيَّة أو النفسيَّة وليست هي الأعمال الظاهريَّة, وعندئذ نقول: إنَّ جهنم تكون عقوبة على القلوب المنحرفة والنوايا الباطلة والمضلة فهي عقوبة للأفئدة والقلوب وليست للأجسام. <BR>الوجه الثاني: ما ذكره السيد الشريف الرضي ? في كتابه (تلخيص البيان)[ ]: من أن آلامها ونفثها يصل إلى القلوب. <BR>أقول: وفيه:<BR>أولاً: إنَّ وصول الألم إلى الفؤاد غير منحصر في جهنم. بل أن كل الآلام والأفراح تصل إلى الفؤاد باعتباره بيت العواطف, كما ان العقل بيت الإدراك. فبلاء الدنيا أيضاً يطلع على الأفئدة, إذا قصدنا مجرد الوصول.<BR>ثانياً: إنَّ ذهابها إلى القلب لا يعني الاطلاع على القلب بمعنى المعرفة؛ لأن جهنم ليس لها علم, وإنما العلم عند الله سبحانه. <BR>ومعه يفشل هذا الوجه إلا أن نجد له تفسيراً  آخر, فنقول: <BR>التفسير الأول: إنَّ الاطلاع ليس بمعنى المعرفة, بل بمعنى النظر, أي وصل نظره إليه واطلع عليه, كما ينظر الإنسان من النافذة. وفي الحديث[ ]: إن الله اطلع اطلاعه على البشر فاختارني منهم, أي نظر إليهم. فالنظر يصل إلى المنظور إليه وليس هو ملازم للفهم دائماً, فتأمل. <BR>التفسير الثاني: أن نقول كما قال الفلاسفة: إنَّ الأشياء كلما صعدت في عالم الروح المجرد زاد فهمها وإدراكها, وكلما كانت اقرب إلى المادة قل فيها ذلك, إذن تكون الأشياء في عالم الروح الأخروي فاهمة ومدركة, وجهنم جزء من ذلك؛ لأن الإدراك مساوق للوجود, فكلما ارتفع الوجود زاد الإدراك وكلما تنازل قل. وبذلك تكون جهنم مطلعة على الأفئدة.<BR>التفسير الثالث: إنَّ [تَطَّلِعُ] لها قراءة أخرى, وان لم تكن مشهورة. وهو تطلع بالتخفيف, أي تصعد إليها وتخرج إليها وتدخل فيها. <BR>الوجه الثالث: ما ذكره الشريف الرضي أيضاً[ ]من: أن شعب النار تدخل في أفواههم فتصل إلى أجوافهم وقلوبهم, فيكون ذلك ابلغ في المضض وأعظم للألم.<BR>أقول: وفرقه عن الوجه السابق: إن ذاك على معنى أن الألم لم يصل إلى الفؤاد, ولكن هنا تصل نفس النار إليه. ونقطة القوة في هذا الوجه, إنَّه لا يحتاج إلى تقدير, بل هي تطلع على الأفئدة بغض النظر عما قلناه هناك. <BR>الوجه الرابع: إنَّها تذيب الجسم حتى تصل إلى القلب, كما قال تعالى: [كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا][ ] فيصل العذاب إلى القلب مباشرة, وحيث ان الموت غير موجود في النار فيعاد الجسد كرة بعد كرة. <BR>إن قلت: إنَّ هناك فرقاً بين الآيتين  فنضجت معناه: إنَّطبخت ورقت نتيجة للاحتراق, لكن الآية هنا ــ حسب هذا الوجه ــ تدل على ان الجسم كله يذوب ويتلاشى. <BR>قلت: هذا من الفهم السطحي؛ لأن نضج الجلود كما يناسب رقتها يناسب ذوبانها وتقطعها وتلاشيها حتى تصل النار إلى اللحم والعظم ثم إلى القلب والفؤاد, فتطابق المعنيان. <BR>الوجه الخامس: ما نقله الشريف الرضي عن آخرين[ ]: من أن الاطلاع هو العلم.<BR> كقوله تعالى: [أطَلّعّ الغَيبَ] [ ] فالمراد إنَّ الله تعالى يخلق في النار علماً تطلع به على ضمائر الموجودين, فتوصل إليهم الآلام على قدر مراتبهم من الذنوب. <BR>أقول: هذا الوجه في طول القرآن, ولأجل تصحيح الآية. في حين إننا نُصحنا أن نأخذ بالفهم السابق على الآية, والذي يمكن ان تكون الآية قد نزلت على أساسه. <BR>ولكن في هذا الوجه بعض نقاط القوة: <BR>الأولى: إنَّه فهم مباشر من الآية, أي إن جهنم تعرف ما في الأفئدة، حسب الظهور العرفي للقرآن. <BR>الثاني : ما ذكرناه سابقاً من إن عالم المجردات كله مدرك وعارف بواقعه الذي يعيش فيه, ومنها جهنم فهي مطلعة على الأفئدة على غيرها, أي على كل ساكنيها, ولكن صاحب هذا الوجه لم يدرك ذلك بوضوح، بل زعم إن العلم يخلقه الله سبحانه في جهنم خصوصاً.<BR>ولكن فيه بعض المناقشات: <BR>منها: إنَّ جهنم ليست اسماً لشيء محدد, بل هي مفهوم انتزاعي. كما إن الحال في (الدنيا) كذلك, فإنها ليست اسماً لشيء محدد, بل لمجموع الحوادث والأعراض والعلل والمعلولات والاضافات التي توجد في هذا العالم المنظور. ومن هنا نلاحظ انه لم يرد في القرآن الكريم لفظ الدنيا مفرداً, بل يقول الحياة الدنيا, إذن فجهنم شيء من هذا القبيل. <BR>ونستنتج من ذلك: إنَّها لا تكون مصداقاً وتطبيقاً للقاعدة التي قلناها: من ان موجودات عالم الروح والمثل مدركة, فإن جواهرها الجزئيَّة مدركة، ولكن مفهومها الانتزاعي غير قابل للإدراك. وحيث إن جهنم من المفاهيم الانتزاعيَّة, على ما هو المفروض في هذا الوجه, فلا تكون صغرى لهذه الكبرى. <BR> ولكن هذا إذا غضضنا النظر عن القراءة الأخرى: تطلُعُ. وإلا سقط هذا الوجه. <BR>لكننا حتى لو سلمنا بتلك القراءة، وان جهنم مفهوم انتزاعي ولكن مع ذلك نقول: إنَّها مدركة؛ لأن حقيقة الأشياء هي بحقائق الملائكة الموكلين بها. فجهنم ليست جهنم, وإنما هي عين خازنها وهو (مالك) خازن النار, وهو مدرك وعاقل. <BR>وعلى أي حال يتحصل من ذلك: إنَّ المطلع على الأفئدة هو الملك الموكل بالنار, أو هو وأعوانه وليست النار بذاتها وإنما نسب إليها العلم مجازاً. <BR>الوجوه الإعرابية في هذه الآيات: <BR>الحطمة الأولى: مجرورة بحرف الجر. <BR>والحطمة الثانية: مرفوعة خبراً لـ[مَا] أو لضمير مقدر. <BR>ويمكن ــ نظرياً ــ جر [نَارُ] على أنها بدلاً من الحطمة الأولى ولا بأس به, وان كان بعيداً. <BR>وأما رفعها فله بابان, الأول: ما أشار إليه العكبري[ ] قال: [نَارُ اللَّهِ], أي هي نار الله. أقول: أي إنها خبر لمبتدأ محذوف وهو ممكن, ولكن يمكن عدم تقدير المبتدأ, بل جعله ظاهراً وهو الحطمة, وليكون نار الله خبراً له, وتساعد على ذلك القرائن المتصلة. <BR>الثاني: إنَّ (نار) بدلا من الحطمة الثانية المرفوعة. ونلاحظ في بعض المصادر: كسر الحطمة الثانية كما في الميزان[ ] وإعراب الكرباسي[ ] وهو خطأ. والصحيح رفعها بالضمة الظاهرة. <BR>ثم انه ذكر أبو البقاء العكبري[ ] لإعراب اسم الموصول: [الَّتِي تَطَّلِعُ], ثلاث أطروحات أو وجوه: <BR>أولاً: الرفع على النعت, يعني إن المنعوت هو: [نَارُ اللَّهِ]. <BR>ثانياً: إنَّه خبر لمبتدأ محذوف, يعني هي التي أو الحطمة التي. <BR>ثالثا: إنَّها في موضع نصب بأعني, يعني اعني التي. <BR>ثم قال عز من قائل: [إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤصَدَةٌ], بالهمزة بقراءة حفص, وقرأ غيره بترك الهمز, والهمز أشهر, إلا انه غير موجود في أصل المادة.<BR>قال الراغب[ ], يقال: أوصدت الباب وآصدته, أي أطبقته وأحكمته وبالتخفيف, أي (موصدة) مطبقة.<BR>أقول: فلا بد من فرض باب لجنهم أو أبواب, وإلاّ لم يصدق الإيصاد. وهو منصوص عليه في القرآن الكريم قال تعالى: [لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ][ ] . كما قد وردت الإشارة إليه في بعض الأخبار أيضاً. <BR>وليس المقصود من الجزء المقسوم أنَّ الباب منقسم إلى قسمين كما هو المتعارف, إذ لو كان كذلك لقال: منها ولم يقل: منهم, فمراده الجزء منهم, أي مستحقيها والمعاقبين فيها, كأنه يتصور جمعٌ واقف أمام جهنم, فيقال لكل جماعة منهم: هذه الباب التي تدخلون منها, وهذا لا يستلزم الجبر؛ لأنه بسوء اختيارهم وفشل تصرفاتهم. <BR>والآية مشعرة بعدم إمكان الفتح مطلقاً, كأنها موصدة إلى الأبد, وذلك بأكثر من تبرير: <BR>الأول: إنَّ من يفتح الباب لا بد أن يكون مسلطا على الفتح ومالكاً للمفتاح, وهم ليسوا كذلك. فهم آيسون من التصرف بالباب مطلقاً, فمن زاويتهم يكون الإيصاد مؤبداً. وأما مَنْ بيده المفتاح فيستطيع أن يفتحها متى شاء, وهما اثنان: مالك خازن النار, وقسيم النار والجنة[ ] . <BR>الثاني: إنَّ الباب مغلقة من الخارج, فلا يكون مَنْ في الداخل متسلطاً على فتحها. وحمل الباب على المجازيَّة أو المعنويَّة وان كان محتملاً, إلا انه غير متعين, غايَّة الأمر اننا نعلم ان الباب من جنس ذلك الوجود, فإن قلنا بماديَّة جهنم ولو باعتبار القول بالمعاد الجسماني, لزم القول بماديَّة الأبواب. وان لم نقل بذلك, باعتبار إنها من عالم المثال ونحوه, قلنا: بأنَّ الأبواب مناسبة لها وهكذا. <BR>ثم قال عز من قائل: [فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ], بفتحتين وقرئ بضمتين. وعلى قراءة الضم, فهي جمع عُمُد أو عُماد كما في تلخيص البيان[ ] . وعلى قراءة الفتح يراد بها المفرد وهو اسم جنس, واسم الجنس بمنزلة الجمع؛ لأنه يدل بدورة على الكثير, إذن فلا تفرق هاتان القراءتان في تفسير الآية. <BR>سؤال: ما المراد من أن جهنم في عمد ممددة؟.<BR>جوابه: قال الشريف الرضي في تلخيص البيان[ ] : إنَّ المراد بذلك إنها مطلة عليهم وثابتة لهم, كما يطل الخباء المضروب بانتصابه, ويثبت بتمديد أعماده وأطنابه. <BR>أقول: إنَّه ? فسر العمد ولم يفسر ممددة, كأنه أخذه مسلماً بأن قماش الخيمة ممدد بالعمد أو على العمد, وهذه نقطة ضعفه. <BR>وبناءا على هذا الفهم يمكن أن نفهم الآية على احد أشكال: <BR>الأول: إنَّ السرادق ممدد على العمد, أي سقفه مبسوط على كثير من الأعمدة, وهذا هو الذي أخذه مسلماً. <BR>الثاني: إنَّ السرادق أعمدته ممددة, أي ممتدة بخط طويل. <BR>الثالث: إنَّ العمد ممددة, أي مرتفعة وطويلة جداً. <BR>وكل هذه الأشكال بناءا على كون [مُمَدَّدَةٍ] صفة للعمد, لا أنها خبر لجهنم, أو الضمير عائد إليها. <BR>كما أن الشريف الرضي أهمل معنى [فِي] فأنه إذا كانت جهنم, كالفسطاط، أو السرادق, فينبغي أن يقول: على عمد ممددة؛ لان جهنم ليست داخل السرادق بل هي السرادق ــ مجازاًــ وهذا تناقض عقلي بين أن نتصور جهنم داخل السرادق أو نتصورها هي السرادق. <BR>وعليه فينبغي أن نؤول المعنى, فأما أن نقول: إنَّ [فِي] هنا بمعنى الباء, ويراد بها السببيَّة, أي بعمد ممددة. يعني أن السرادق مشدود بالعمد. وأما أن نقول: إنَّها بمعنى كاف التشبيه, أي كعمد ممددة أو مثل العمد الممددة. إلا انه على ذلك لا يتغير المعنى؛ لأن الممدة تكون هي العمد لا القماش, فلا بد من زيادة التقدير بأن نقول: كخيام أو كسرادق (هي) في عمد ممدة.<BR>وأما الجهة النحويَّة لهذه الآية, فهي موقوفة على ان [مُمَدَّدَةٍ] بالجر أو بالرفع. وهذا يجرنا إلى سؤال عما إذا كان بالإمكان القول ان تكون نازلة في الوحي ساكنة؛ لأن مقتضى القاعدة هو التسكين والوقوف في نهايات الآيات, وهو مستحب شرعاً, وفي نهايَّة السورة انقطاع الوحي, إذن فقد نزلت ساكنة. ومعه لا يتعين - ثبوتاً- كونها مجرورة أو مرفوعة. <BR>وقوله: [فِي عَمَدٍ], بتقدير حرف العطف. والعطف بتقدير تكرار العامل. إما بتكرار الضمير, أي وهي في عمد ممددة. أو تكرار الضمير ومدخوله, أي إنَّها عليهم موصدة وإنها في عمد ممددة. ومقتضى التبادر الأرجح أن يكون الضمير وحده هو المكرر. <BR>وممددة, بالجر على كونها نعتاً للعمد المجرور بفي, وبالرفع على احتمالين: <BR>الأول: أن تكون خبراً لضمير تقديره هي. <BR>الثاني: أن تكون جملة تقديرها( هي ممددة في عمد) فالضمير مبتدأ أول, وممددة مبتدأ ثانٍ, وخبره الجار والمجرور, والجملة خبر المبتدأ الأول. ومقتضى إجماع المفسرين كون (هي) المقدرة عائدة إلى جهنم أو الحطمة, ولكني أقول: إنَّه عائد إلى سكنة جهنم أو المعذبين فيها!.<BR>فإن قلت: إنَّه لا يناسب ذلك. <BR>قلت: بل يمكن ذلك؛ لأنه يقول: [إنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ], فمرجع الضمير قريب. <BR>فإن قلت: هذا مفرد مؤنث: (هي) وذلك جمع مذكر: (هم).<BR>قلت إنَّتصاراً لهذه الأطروحة: إن سكنة جهنم أعيد لهم الضمير على أشكال ثلاثة كما سنشير, ومعه فالمهم هو الواقع أو تفهّم النص, وليس شكل الضمير. <BR>الشكل الأول: قال تعالى: [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ], فالشخص المقصود هنا مفرد مذكر غائب. <BR>الشكل الثاني: في قوله: [عَلَيْهِمْ] مذكر جمع. <BR>فلا بأس أن يتحول إلى التأنيث في المرة الثالثة, كما تحول إلى الجمع في الثانية, ويمكن أن يرجع إلى أجسادهم أو جثثهم, و إن لم يكونوا ميتين. أو باعتبار أن معنى الجمع  اقرب إلى معنى المؤنث في اللغة العربيَّة. وقد سبق أن قلنا ان التحويل من المفرد إلى الجمع ليس اعتباطياً بل لحكمة, وهو كون المقصود من المفرد اسم جنس وهو بمنزلة الجمع, والجمع بمنزلة المؤنث. <BR>      ومعه يكون الممدد هو أجسادهم, وليس جهنم نفسها. </P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P>سورة العصر</P>

<P>في تسميتها عدة أطروحات:<BR>الأولى: العصر, وهو المشهور.<BR>الثانية: الإنسان, وان كان المشهور أن سورة الإنسان هي سورة الدهر ولا ينبغي تسمية سورتين باسم واحد.<BR>الثالثة: إنها أيضاً سُميت بسورة الخسر, غير أنه ليس بصحيح لأن الانطباع العام فيه فاسد قطعاً, وذلك لأن الإنسان المُعاند ضد الحق, هو الذي يكون في خسر, ولا يمكن أن تكون السورة للخسر. بل ينبغي أن يكون اختيار الاسم محترماً.<BR>الرابعة: السورة التي ذكر فيها الإنسان أو التي ذكر فيها العصر, وذلك على طريقة الشريف الرضي في حقائق التأويل.<BR>الخامسة: ان نسميها باللفظ الأول فيها: [وَالْعَصْرِ] ويُنطق عادة بالكسر لا بالوقف.<BR>السادسة: أن نعطيها رقمها من المصحف الشريف, وهو:[103].<BR>قوله تعالى: [وَالْعَصْرِ]. <BR>الواو للقسم، والعصر مُقسم به أو مدخول القسم, وقد كان سيدي الوالد ? يقول: إنَّ الخلق يقسمون بالخالق, والخالق يقسم بالخلق, ويختار لقسمه بعض الأمور العجيبة أو المهمة. وهنا قد اختار الله سبحانه للقسم شيئاً مهماً وله درجة من الاعتبار حسب الحكمة الإلهيَّة وهو (العصر).<BR>سؤال: ما معنى العصر؟.<BR>جوابه: حسب فهمي إن المعاني الأصليَّة في اللغة اثنان:<BR>أحدهما: الزمان في الجملة.<BR>ثانيهما: العصر بمعنى إخراج الماء, وهذا لم يخطر في أذهان المفسرين أصلاً.<BR>ثم ان الألف واللام, إما أن تكون عهديَّة وإما أن تكون جنسيَّة. فإذا التفتنا إلى المعنى الأول وهو الزمان، كان للاستعمال في السورة عدة معان حقيقيَّة أو مجازيَّة:<BR>المعنى الأول: الدهر, بما فيه من عجائب دالة على قدرته تعالى والألف واللام عهديَّة إلى مجموع الدهر.<BR>المعنى الثاني: حقبة من الدهر, وهذا هو الأنسب لغةً, ومعه قد تكون الألف واللام عهديَّة وقد تكون جنسيَّة, فهنا نفرض كونها جنسيَّة ويكون المقصود المعنى المطلق لحقب الدهر.<BR>المعنى الثالث: حقبة معينة من الدهر بالذات, وتكون الألف واللام عهديَّة، كل ما في الأمر أنها ينبغي أن تكون مهمة كعصر النبي ? أو عصر الظهور, أو عصر بني أميَّة, أو عصر الغيبة الكبرى. وأهميته إما لحُسنه وعدله أو لسوئه.<BR>المعنى الرابع: وقت العصر من النهار وله أصل لغوي, ولكن ليس له أهميَّة تذكر, وعليه فتكون تلك قرينة على عدم أرادته وخاصة مع عدم انحصاره، كما هو معلوم.<BR>المعنى الخامس: ما يوجد في وقت العصر من الفريضة المعروفة, أعني صلاة العصر.<BR>وفيه: يحتاج إلى تقدير, والحمل على الحقيقة أولى بطبيعة الحال. فيكون ساقطاً من هذه الجهة.<BR>هذا كله بناء على المعنى الأول وهو الزمان.<BR>وأما إذا التفتنا إلى المعنى الثاني, وهو إخراج الماء لم نجد للمعنى الحقيقي أهميَّة. وإنما ينبغي أن نلتفت إلى المعاني المجازيَّة من حيث أن كل صعوبة بمنزلة العصر. ومن هنا يقال ضغط عليه, أي أحرجه. فبلاء الدنيا نحوٌ من الضغط على المؤمن لكي يتكامل. قال تعالى: [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ][ ] ، فهذا البلاء يُطهره من الذنوب والعيوب. فكأن الماء الخبيث, يخرج منه ليبقى بعده نظيفاً, طبقا لفطرة الله الأصليَّة [الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا][ ] , وهي طاهرة ما لم تنجسها الذنوب والعيوب. وهذا لا يختلف فيه الحال في الدنيا عن الآخرة سواء قصدنا صعوبات يوم القيامة أو عذاب القبر أو جهنم نفسها. فكلها نحو من الضغط والعصر.<BR>فإن كان المُراد من الألف واللام العهد, كان إشارة إلى بلاء الدنيا, وان كان المراد الجنس, شمل كلا الأمرين. وكلاهما يدلُ على عدل الله وحكمته وتدبيره, وبالتالي يستحق أن يُقسم به الله سبحانه, كما انه أنسب مع الخُسر الموعود به في السورة للإنسان.<BR>ولكن  يمكن القول انتصاراً للمشهور الذي فهم الدهر بوجوه:<BR>أولاً: إنَّ فهم الدهر في الجملة حقيقي وفهم الضغط مجازي, والحمل على المعنى الحقيقي أولى.<BR>ثانياً: التناسب بين المعنيين المذكورين: الدهر والضغط من حيث أنه قد يراد من المعنى الأول: الدهر السيئ وعصر البلاء, ويراد بالمعنى الثاني: البلاء الدنيوي فيرجعان إلى محصل واحد.<BR>وكلا هذين الوجهين قابل للمناقشة:<BR>أما الوجه الأول فبأمرين:<BR>الأمر الأول: إنَّ الضغط ليس معنىً مجازياً للعصر بل هو حقيقي وضع له لغةً بنحو الاشتراك اللفظي لا المعنوي.<BR>الأمر الثاني: إنَّ إجراء أصالة الحقيقة خاص بالسامع ولا يشمل المتكلم, فالمتكلم حر في أن يتكلم مجازاً أو حقيقةً, ويكون الأولى في الحكمة هو ما يكون أكثر أداءً للمعنى لا ما يكون متعيناً في المعنى الحقيقي.<BR>فإن قلتَ: فإن وجود القرينة وعدمها هو المحك في تعين الحقيقة من المجاز بالنسبة إلى المُتكلم والسامع معاً.<BR>قلتُ: هذا مع القول بأن المجاز غلط بدون قرينة على المشهور المنصور, إلا أن بعض أساتذتنا أجازه, فليس لا بد للمتكلم أن يلتزم بها.<BR>ولكن محل حديثنا ليس من ذلك؛ لأن الأمر فيه لا يدور بين الحقيقة والمجاز بل بين معنيين من المشترك اللفظي, ولا شك أن استعماله بدون قرينة جائز خلافاً للمشهور.<BR>وأما مناقشة الوجه الثاني, فلأنه مبني على أطروحات معينة ولكنَّها غير متعينة, فلو قصدنا مطلق الدهر أو الدهر الجيد, كعصر النبي ?أو قصدنا من المعنى الثاني: البلاء الأخروي,أو ما يشمله... لم يتفق المعنيان, فهو اتفاق مبني على أطروحات معينة وفي مورد واحد. واحتماله ضعيف وخاصة الدهر السيئ.<BR>ويمكن الانتصار للمشهور بكبرى أخرى من حيث أنه تعالى لا بد أن يختار ما هو الأفضل في اللفظ حسب الحكمة الإلهيَّة. وحيث أن قصد الزمان هنا أصلح دينياً واجتماعيا فيكون هو الأولى.<BR>ولكن ذلك مطعون صغروياُ بمعنى إمكان التشكيك في التطبيق على محل الكلام, فإنه مَنْ قال إنَّ استعمال معنى الزمان هنا أولى حسب الحكمة الإلهيَّة؟ فتكون الكبرى غير مُنطبقةٌ على المورد.<BR> سؤال: كيف يكون الإنسان في خسر كما تنص الآية الكريمة, وفيها قسم على ذلك, ولام التأكيد وحرف الجر الذي يدل على أن الإنسان في داخل الخسر, مع أن للإنسان مميزات تدل على انه في نجاة وصلاح وهدايَّة وفطرة سليمة. فكيف يكون في خسر؟.<BR>ومن مميزاته:<BR>1-عقله ورشدهُ.<BR>2- روحهُ العليا التي هي أعلى من الملائكة.<BR>3- نظامه الذي يسير عليه، وخاصة العدل المتمثل بالشرايع السماويَّة عامةً, والإسلام خاصةً.<BR>جوابه: إنَّ ذلك يكون لعدة وجوه محتملة:<BR>الوجه الأول: إنَّ هناك قرينة متصلة تدل على أن المقصود بالإنسان ليس مطلق الإنسان بل بعض حصصه, وتلك هي المحمول: في خُسر, فهو يدل على تحديد الموضوع فمناسبات الحكم والموضوع تدل على ان الإنسان المُتدني في خسر, وليس كل إنسان.<BR>ولكن هذا المقدار غير كاف وان كان صحيحاً كبروياً؛ لأنه يعود إلى القضيَّة التكراريَّة أو القضية بشرط المحمول, وهي ان الإنسان الذي هو في خسر في خسر؛ لأن القرينة (في خسر) وليس الإنسان المُتدني, فرجع الحال إلى التكرار، وسقط الجواب, فتأمل.<BR>الوجه الثاني: هناك قرينة متصلة أخرى بالسورة وهي قوله تعالى: [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ], يعني إن الإنسان إذا لم يكن كذلك فهو في خسر.<BR>وهذا صحيح إلا انه لا ينبغي الاقتصار عليه؛ لأنه سوف يرجع إلى القضيَّة التكراريَّة أيضاً؛ لأن ظاهر الآية إن الإنسان الخاسر هو من لم يكن قد عمل الصالحات, والإنسان الخاسر في خسر. فرجع الأمر إلى الدور المضمر لا الصريح كما عليه الوجه الأول.<BR>الوجه الثالث: إنَّ الألف واللام في الإنسان وان كانت جنسيَّة إلا أنه يكفي في الجنسيَّة مطلق الكلي لا الكلي المطلق, فيكفي قصد الحصة منه.<BR>وبتعبير آخر: إن الألف واللام الجنسية تدل على استيعاب مدخولها, ومدخولها قد يكون هو كل إنسان وقد يكون هو بعضه, فتكون القضيَّة بمنزلة المهملة والمهملة بمنزلة الجزئيَّة كما قالوا في المنطق، فكأنه قال: بعض الإنسان في خسر. ولا اقل من الاحتمال المبطل للاستدلال والدافع للإشكال.<BR>إلا أن هنا غير تام أيضاً؛ لأن احتمال أن يكون مدخولها هو بعض الإنسان على خلاف ظاهر القرآن, فسقط الجواب ورجعت القضيَّة إلى قضيَّة موجبة كليَّة, وليست مهملة.<BR>الوجه الرابع: أن نرجع القضيَّة إلى موجبة جزئيَّة بأحد تقريبين:<BR>التقريب الأول: أن نقول: ان مدخول (ال) ليس هو مطلق الإنسان بل هو مقيد بقوله: إلا الذين أمنوا... فيكون ذلك قرينة على أن المراد بعض الإنسان لا كله، وقد سبق الكلام فيه.<BR>التقريب الثاني: أن نقول: إنَّ الألف واللام عهديَّة وليست جنسيَّة, فيرجع إلى بعض حصص الإنسان.<BR>إلا أن هذا وحده لا يكفي؛ لأن ظاهر الألف واللام, والأصل فيها هو كونها للجنس ولا يمكن حملها على العهديَّة إلا بقرائن حاليَّة أو مقاليَّة مفقودة في الآية.<BR>الوجه الخامس: أن نقول: إنَّ الألف واللام مرددة بين الجنس والعهد, فلا تتعين للجنس ليثبت الإطلاق.<BR>وجوابه: إنَّه مبني على أنه لا دليل على إرادة الجنس, مع إن الدليل موجود. فان الظهور الأصلي فيها هو أن تكون جنسيَّة لا عهدية.<BR>ولكن مع ذلك, فأن هناك قرائن حاليَّة أو مقاليَّة تقرب كون الألف واللام عهديه وهي:<BR>أولاً: الإشارة إلى الإنسان المتعارف الذي نراه ونسمعه, قال تعالى: [إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً][ ] , فإن هذا الإنسان متدنٍ عملياً هالك فعلاً؛ لأن 90% من البشر غير مسلمين, و90% من الباقي غير مؤمنين, و90% من الباقي غير مقلدين أو مقصرون وهكذا.<BR>وهذا مطلب في نفسه صحيح.<BR>ثانياً: إنَّ المعهود هو الجيل المعاصر للنبي ? وليس كل جيل متدني, مع العلم إن هذا الجيل قليل بالنسبة إلى مجموع البشريَّة.<BR>ثالثاً: أن نستعمل لغة حساب الاحتمالات, فان أغلب استعمالات الإنسان في القرآن الكريم يراد بها الإنسان المتدني, وعندئذ يمكن أن نُلحق المورد المشكوك ــ وهو محل الكلام ــ بالأعم الأغلب وهو الإنسان المتدني.<BR>قال تعالى: [وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً][ ] , [إنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا][ ],[إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ][ ] ,[ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً][ ] ,[وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا][ ] ,[وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا][ ] , [قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ][ ] , [إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى][ ] ... وغيرها.<BR>وهناك موردان فقط في القرآن الكريم يراد به الإنسان المتكامل.<BR>الأول: قوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ][ ] .<BR>ونفهم منها الروح العليا للإنسان, وتلك هي في أحسن تقويم. بل هي أحسن الخلق؛ لأن مزاياها لم تعطَ للملائكة, فضلا عن غيرهم. وبها وصل النبي ? في المعراج إلى محل لم يستطيع جبرائيل سلام الله عليه أن يصل إليه, وقال: لو دنوتُ أنمُلةً لاحترقت [ ] .<BR>الثاني: قوله تعالى: [وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا][ ] . وظاهره: الإنسان الذي يخاف من حصول الزلزلة, غير اننا روينا في كتابنا ما وراء الفقه[ ] : ما يدل على أن المراد بالإنسان هنا هو أمير المؤمنين ? وهو الإنسان الكامل.<BR>سؤال: إنَّ المستفاد من هذه الآية الكريمة: إنَّ القاعدة هو خسر الإنسان إلا ما خرج بدليل, مع العلم ان قوله تعالى: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ][ ] بالعكس, أعني: نجاة الإنسان بمقتضى طبعه، ولذا تَعجبوا من دخولهم في جهنم. فما هو الوجه في ذلك؟.<BR>جوابه: إنَّ الأطروحات المحتملة ثلاث:<BR>الأولى: إنَّ الأصل هو الخير, ويكون الشر هو المستثنى والطارئ.<BR>الثانية: الأصل هو الشر, ويكون الخير هو الطارئ بعمل الصالحات ونحوه.<BR>الثالثة: إنَّ كلا من الخير والشر أصليان وأساسيان في الخلقة, وأيُّ منهما كان متبعاً كان هو المسيطر على نتيجة الإنسان.<BR>وهنا نحاول الاستدلال على الأطروحة الثالثة؛ لتبرز قيمة الوجهين الأولين من الناحيَّة الواقعيَّة. وما يمكن أن يستدل به عدة أمور:<BR>أولا: قوله تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ][ ] . إذا فهمنا الهدايَّة التكوينيَّة لا التشريعيَّة, ويكون المراد: إنَّنا ركزنا في ذاته وفي روحه النجدين, أي الخير والشر أو قل: الحق والباطل. وما على الإنسان إلا أن يعصي أحدهما ويطيع الآخر. <BR>وبهذا نجمع بين المضمونين, فتكون الآية التي ذكرت أن الخير هو المركوز صادقة, وهي قوله تعالى: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ]. وتكون الآية الأخرى أيضاً صادقة, وهي التي دلت على أن الشر هو المركوز. وهو قوله تعالى: [إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ]. فأحدهما ناظر إلى جانب, والآخر ناظر إلى الجانب الآخر.<BR>ثانياً: إنَّ الأصل الأولي للخلقة هي الروح العليا, وهي خير لا شر فيه. فالأصل إذن هو الخير, ولكن هذا الخير يقترن بشر في المرتبة المتأخرة عنه. ولكن ذلك في نفس الوقت متحقق في المرتبة المتقدمة على الحياة الدنيا. فتكون الحياة الدنيا مُبتلاة بخير سابق عنها وبشر أسبق منها, وان كان الخير أسبق في نفسه من الشر.<BR>أما كون الإنسان مخلوق على الخير, فباعتبار الروح العليا, واما كونه على الشر, فبتقريبين:<BR>التقريب الأول: إن الشر لا يحتاج في وجوده إلى عمل الشر, بل يكفي فيه عدم عمل الخير. فإذا لم يعمل الإنسان الصالحات, فهو على شر. فالإنسان إما أن يعمل الصالحات أو يعمل الشر أو لا يعمل شيئاً. فالأول هو الناجي والآخران هالكان. ومحل الشاهد: إنَّ الروح الخيرة الأساسيَّة لا تنفع فإنها لو كانت نافعة لأثرت بحالة الوسط وهي عدم فعل الشر, مع أنه غير كاف في النجاة وإنما ينبغي أن يقترن المقتضى الأساسي للخير, بالمُقتضى الأساسي للعمل, وهو عمل الصالحات لكي تحصل النجاة.<BR>التقريب الثاني: إن الفطرة الأصليَّة للإنسان وان كانت صالحة, فمقتضى الهدايَّة موجود فيه تكويناً, إلا ان المقتضى لا يؤثر الا مع عدم المانع, وهو مواكبة العمل مع الفطرة. وأما إذا حصل المانع لم تحصل النجاة؛ ولذا قيل: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ]. <BR>وهذا مانع عدمي يعني: إذا لم يعمل فهو على شر, ولا يتعين أن يعمل الشر. مضافاً إلى ارتكاز الشر أيضاً في نفسه, فالمانع أصلي أيضاً. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة:[إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ].<BR>سؤال: لماذا أستُعمل حرف الجر: في قوله: [فِي خُسْرٍ], ولم يقل: على خُسرٍ أو لخُسر مثلا, ولماذا لم يقل: إنَّ الإنسان خاسر؟.<BR>جوابه: إنَّ [فِي] هنا ابلغ وذلك, لأنه دخل في الخسر والخسر مسيطر عليه وليس مجرد أنه خاسر أو على خسر. وبتعبير آخر: إنَّ ذلك للتركيز: بأن الإنسان في باطن الخسر, حقيقة أو مجازا. لكي تكون له الهمة أن يفتقه ويخرج منه.<BR>سؤال: لماذا أستعمل كلمة: [خُسرٍ] نكرة لا معرفة؟.<BR>جوابه: إنَّ فيه عدة وجوه من الفهم:<BR>الوجه الأول: أن يراد به الجنس فكأنه قال: في الخسر. فإن أسم الجنس كالجمع في المعنى, إلا أنه لا يتم؛ لأنه خلاف الظاهر, لاحتواء الكلمة على تنوين التنكير أو تنوين الوحدة، وكلاهما ضد معنى الجنس.<BR>الوجه الثاني: ان يراد به خسر إجمالي لعدم تعينه, كأنه أراد أن يقول: إن هناك خسر ما سيكون أمامك لا حاجة إلى إيضاحه.<BR>الوجه الثالث: أن يراد به خسر ما حسب الاستحقاق, فأن كل فرد غير صالح يستحق نوع من الخسر حسب نوعيَّة السوء في عمله. ولكل عامل خسره الذي يستحقه في علم الله.<BR>الوجه الرابع: أن يراد به خسر واحد, ولكنَّه متشابه ومشترك بين الجميع وهو خسران النفس, قال تعالى: [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ][ ] , وقال: [قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ][ ] . وهذا معنى مكرر في القرآن الكريم. وقد أنتبه إليه صاحب الميزان ?[ ] .<BR>فإن قلت: كيف يخسر الإنسان نفسه, مع أن نفسه لا تزول ولا تتبدل سواء كان في الجنة أو في النار.<BR>وجوابه: إنَّ الفرد إذا مشى في طريق الحق واليقين, فهو يربح نفسه. كما ورد[ ] : من عرف نفسه فقد عرف ربه, وذلك بأن يعرف نفسه الحقيقية وروحه العليا. وأما إذا مشى في طريق الدنيا والشهوات فإنه يخسر نفسه, أي يبقى جاهلاً بحقائق نفسه وروحه وملكاته الواقعيَّة. <BR>وشيء آخر ينفع للإيضاح في المقام, وهو بعض الماديين قالوا: إن تبدل الإنسان من شخصيَّة إلى شخصيَّة أو قل: من أسلوب حياتي إلى أسلوب حياتي آخر صعب بمنزلة المستحيل, وأنا أعتقد انه صعب وليس بمستحيل, فالذي يغير عمله تتغير شخصيته بالتأكيد فيكون معنى الذين خسروا أنفسهم, أي خسروا جانب الصلاح في أنفسهم. أو قل: الشخصيَّة الصحيحة والحقة والتي تتصف بالإخلاص واليقين. <BR>الوجه الخامس: ما أختاره صاحب الميزان[ ]  من أنه جُعِلَ نكرة للتهويل والتعظيم, يعني إنه لو كان بالألف واللام لما أفاد ذلك.<BR>وهذا قابل للمناقشة؛ لأن التنكير نص أو كالنص بالوحدة فيكون ظاهراً, بما تقتضيه الجزئيَّة أو المهملة على الأقل. ومن الواضح أن الموجبة الكليَّة أهم منها؛ لأن محصلها انه حائز على كل خسران فيكون أعظم واشد هولاً. <BR>وبتعبير آخر: إنَّ التنكير لا يراد به الجنس بل الواحد. وهذا يحتاج في تتميمه إلى ضم فكرة أخرى نقول: إنَّ الخسر الواحد أهم من الخسر المتعدد, وهذا غير معقول, فأين التهويل والتعظيم؟ فهذا الوجه ساقط, فلو كان هو الوجه الوحيد كان على خلاف الحكمة.<BR>سؤال: الاستثناء المذكور في السورة, وهو قوله تعالى: [إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ][ ] ، لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات في ربح. مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم ببيان مضادة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء, فكيف حصل ذلك؟.<BR>جوابه: إنَّ الاستثناء وأن لم يدل بصراحة على أنهم رابحون, ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربعة الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح, مع أننا لو فرضنا أنهم ليسوا بربح, فالمضادة حاصلة أيضاً؛ لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء.<BR>وبتعبير آخر: إنَّ المدلول اللفظي ليس إلا استثناؤهم من الخسر, وليس لبيان أنهم في ربح. كل ما في الأمر إنه يمكن أن نستدل على أنهم في ربح بوجوه:<BR>أولا: لما قاله هناك من اتصافهم بهذه الصفات العظيمة وهي أنهم: [آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]. <BR>ثانياً: الملازمة في الارتكاز المُتشرعي بين عدم الخسران والربح؛ لأن الأمر دائر بين الثواب والعقاب أو بين دخول الجنة ودخول النار ولا وسط بينهما, فإذا لم يكونوا في خسر بمقتضى الاستثناء فهم في ربح. <BR>ثالثاً: إنَّ هذه الأعمال مقدمة للربح, والله تعالى أكرم من أن يحجب عنهم مطلوبهم فيكونون رابحين لا محالة, وهذا هو الأقرب إلى ظاهر الآية؛ لأنها واضحة في إعطاء الطريق والمنهج للخروج من الخسر الأساسي إلى الربح الأساسي وانحصار الطريق به, وهذا هو هدف السورة.<BR>سؤال: ما معنى الحق, في قوله تعالى:[وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ]؟.<BR>جوابه: معناه أحد أمور: <BR>الأمر الأول: إنَّه عمل الصالحات المشار إليه بالآية ويكون قرينة عليه.<BR>إن قُلت: إذن يكون بمنزلة التكرار. <BR>قُلت: كلا؛ لأن القصد يختلف في الجهتين. فالأول: العمل لنفسه والآخر: الايصاء لغيره بالعمل الصالح.<BR>الأمر الثاني: إن الصالحات عمل الظاهر, والحق عمل الباطن.<BR>الأمر الثالث: إنَّ الصالحات هو الطاعة, والحق هو التشريع العادل, الذي جاء به الإسلام.<BR>الأمر الرابع: إنَّ الصالحات هو فروع الدين, والحق هو أصول الدين. <BR>الأمر الخامس: إنَّ الصالحات هو الطاعة, والحق هو التوحيد الخالص.<BR>الأمر السادس: أن تكون الباء للسببيَّة, مثل قوله تعالى: [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ][ ] . فيكون معنى الآية إن التواصي يكون بعليَّة الحق وتسبيبهِ وهو الله سبحانه, وأما مضمون التواصي فمحذوف, يدل عليه ما قبله وما بعده.<BR>الأمر السابع: أن نفهم الحق مقابل الحكم, فالحكم ما على الإنسان أن يفعله, أي ما أُمِر به شرعاً. وأما الحق فهو متعلق بالغير من أحكام ارفاقيَّة بالنسبة إلى ذي الحق, فما تعلق بالفرد حكمٌ وما يتعلق بالغير حقٌ.<BR>سؤال: قوله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] مكرر كثيراً في القرآن الكريم, ولكنَّه في هذه السورة مقيد بقوله: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] فما هي الحاجة إلى التقيد بالتواصي؟.<BR>جوابه:انه ينبغي أن يكون ذلك واضحاً؛ لأننا قلنا: إنَّ عمل الصالحات لنفسه والتواصي بالحق لغيره, ولذا نبه عليه بخصوصه. وهذا كما ينطبق على الظاهر ينطبق على الباطن, كما ورد عنهم ?[ ] : إنما الأعمال بالنيات. وورد[ ] : نيَّة المؤمن خير من عمله ونيَّة الكافر شر من عمله, إذن فالأمر الأساسي هو نظافة الباطن, وبأيِّ معنىً فسرنا الحق يكون المطلب ضرورياً.<BR>والحق وحده لا يكفي, ولكن الاستقامة والصبر ضروري؛ لأن عدمه يلازم عدم الحق. فالصبر معناه استمرار الحق إلى الموت, ولذا ورد عنهم ?[ ]: عليكم بالصبر, فان الصبر من الأيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس فيه ولا في إيمان لا صبر معه.<BR>فإنَّ الذي يجزع من البلاء الدنيوي, أو من الارتداع من المحرمات, فإنه يكون مرتكباً للمعاصي لا محالة, وإذا جزع من الطاعات أصبح تاركاً لها, فيؤول الأمر إلى الباطل والفسق, [بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ] [ ] .<BR> ومعه فينبغي أن يستقيم المؤمن ويصبر ويصمد إلى حين موته, لكي يحشر على المستوى الذي مات فيه, فإنَّ الفرد يحشر على المستوى الذي مات فيه إن حقاً فحق وإن فسقا ففسق, ولا يفيده إنه كان مؤمناً سابقاً, ولكنه مات فاسقاً, فإنَّ هذا من الإيمان المستودع, قال تعالى: [وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] [ ] .<BR>والعمل الشخصي والصبر الشخصي لا يكفي, بل لابد من (التواصي) بأن يوصي بعضهم بعضاً عن طريق الموعظة والتحذير والتذكير. ونستطيع أن نتصور مجتمعاً خالياً من ذلك, فكم سيكون فاسداً ومُتدنياًُ ويكون أفراده في خسر لا محالة.<BR>قال في الميزان [ ] :التواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحث على العمل الصالح.<BR>أقول: إن قلتَ: إنَّ التواصي بالصبر مُستحبٌ؛ لأنَّ الأمر بالمستحبِّ مستحبٌ.<BR>قلتُ: الطعن بالصغرى؛ لأن الصبر واجب لأننا إذا رفعنا الصبر كان اعتراضا على الله تعالى, ويلزم منه ترك الواجب وعمل المحرم, فيكون واجباً. <BR>نعم, يكون الصبر في بعض درجاته مستحباً, فلا يكون الأيصاء به من الأمر بالمعروف الواجب, غير أن المجموع من المستحب والواجب يكون مستحب؛ لأن النتيجة تتبع أخس المُقدمات, فيكون التواصي أعم من الأمر بالمعروف وبينهما نسبة العموم والخصوص المطلق. <BR>ولكن نقول: إنَّ بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه, فمحل اجتماعهما هو أغلب الطاعات, ولكن قد لا يكون التواصي أمراً بالمعروف, كما لو كان أمراً بالمستحب أو أمراً مستحباً, كما يحصل عند عدم اجتماع شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. <BR>وقد لا يكون الأمر بالمعروف تواصياً؛ لأنَّ التواصي إنما هو فيما إذا أوصى بعضهم بعضاً, من باب التفاعل بين الطرفين, وأما إذا كان الأمر بالمعروف من طرف واحد فليس تواصياً, بل يصدق السلب من هذه الجهة. فيكون أمراً ولا يكون تواصياً فيكون هذا مورد الانفكاك من هذه الجهة.</P>

<P> </P>

<P><BR>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>سورة التكاثر<BR>لم أجد لها اسماً آخر في المصادر, فيكون لها ثلاث أطروحات فقط: <BR>الأطروحة الأولى: التكاثر. <BR>الأطروحة الثانية: السورة التي ذكر فيها التكاثر. <BR>الأطروحة الثالثة: تسميتها بالكلمات التي بدأت بها: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ]. مضافاً إلى أطروحة رقمها في المصحف الشريف وهو: 102. <BR>سؤال: مَنْ هو المخاطب بقوله تعالى: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]؟. <BR>جوابه: إنَّ فيه أطروحتين: <BR>الأولى: أن يكون خطاباً لمن يتصف بهذه الصفة, وهو مَنْ ألهاهُ التكاثر. فيكون المراد: يا مَنْ ألهاكم التكاثر قد ألهاكم التكاثر. <BR>الثاني: أن يكون خطاباً لأهل الدنيا, وهم عامة البشر الذين جعلوا الدنيا أقصى همهم ومبلغ علمهم, فإنهم على هذه الحال سيلهيهم التكاثر. <BR>وهدف السورة هو التحذير من الدنيا والتقريب للآخرة والتركيز بالعقوبة: [لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ...], أي إذا الهاكم التكاثر. <BR>سؤال: ما معنى اللهو؟ <BR>جوابه: قال الراغب في المفردات [ ]: اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه, يقال: لهوت بكذا ولهيت عن كذا, اشتغلت عنه بلهو. قال تعالى: [الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...][ ] . [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ...][ ] . <BR>وقال الراغب أيضاً: ويقال: الهاه كذا, أي شغله عما هو أهم اليه. قال تعالى: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]. <BR>أقول: الإنسان في حياته يواجه أموراً ومحتملات عديدة, يكون بعضها أهم من بعض أو قل: يكون بعضها أهم وبعضها مهم, أما دنيوياً وأما أخرويا, وأما من كلا الجهتين: فإذا اخذ الفرد بالجانب الأقل أهمية وترك الجانب الأهم, كان هذا لهواً في حدود المعنى اللغوي الذي سمعناه. <BR>ونتيجة ذلك: إنَّه يكون معاباً اخلاقياً أولاً, ودنيوياً ثانياً, وأخرويا ثالثاً. <BR>ومن مصاديق ذلك: اللهو العرفي بالالتزام بما هو ادني عرفاً وترك ما هو أعلى, ومن مصاديقة الرئيسيَّة أيضاً: التلهي بأعمال الدنيا عن أعمال الآخرة. <BR>ومن مصاديقة أيضاً: إنَّ الإنسان ينصرف إلى عمله الشخصي وينسى العمل لغيرة, فيكون عمله سبباً للغفلة من عمل الآخرين الأكثر أهمية, إن كان كذلك. <BR>فمقاربة الدنيا تكون دائماً بهذه الطريقة, قال تعالى: [وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ][ ]. لأنهم يهتمون بالدنيا, وكأن الآخرة غير موجودة, وان كانوا يعتقدون بإصول الدين. <BR>فقوله تعالى: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ], أي صار التكاثر سبب غفلتكم عن الآخرة. <BR>سؤال: ما معنى التكاثر؟.<BR>جوابه: قال في المفردات[ ]: والتكاثر: التباري في كثرة المال والعز, قال تعالى: [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]. <BR>أقول: هنا توجد أكثر من ملاحظة: <BR>الأولى: التباري هو المفاعلة, كالتضارب والتناصل ونحوها, فلا بد من وجود اثنين أو أكثر ليحصل ذلك. وهذا هو حال أهل الدنيا كل منهم يحاول الزيادة على صاحبه؛ ليكون أكثر نفراً و اعز حالاً. <BR>ولكن في الإمكان صدق هذه القضيَّة من دون لحاظ الآخرين. فالتكاثر هنا ليس إلا الاستزادة من المال وهذا هو العمدة, وخاصة إن لاحظنا وجود الباطن السيئ لدى هذا الفرد. <BR>فالأول من باب المفاعلة وهي المكاثرة دون الثاني وهو التكاثر, فانه أعم وكلاهما محتمل في الآية. <BR>الثانية: إنَّ التكاثر إما إثباتي أو ثبوتي, فالتكاثر الاثباتي هو كل صورة ذهنيَّة لهدف دنيوي, كأحلام اليقظة أو التخطيط لتجارة معينة. فهو ليس تكاثراً حقيقياً أو خارجياً, ولكنَّه تكاثر إثباتي. أو قل تكاثر بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع. <BR>ومن انتهى إلى هذه الأفكار, فقد غفل عن الآخرة, والتهى بالدنيا عنها. في حين ان التكاثر الثبوتي هو تطبيق تلك الأفكار عملياً وهو اشد في تسبيب اللهو. <BR>سؤال: ما معنى المقابر؟.<BR>جوابه: قال في المفردات [ ]: المَقْبَرَة والمِقْبَرَة, موضع القبور وجمعها مقابر, قال تعالى: [حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ], كنايَّة عن الموت. <BR>أقول: المِقْبَرَة, هي الأرض كثيرة القبور, فلا تكون مقابر جمعاً لها. وحسب فهمي: إنَّ المِقْبَرَة مؤنث مِقبر, وهو اسم مكان من قبره يقبره إذا ادخله القبر, فالمِقْبَر مكان القبر ــ بمعنى المصدر ــ وعملياً هو القبر ــ بمعنى الذات ــ والمؤنث وهو المِقْبَرَة مثله. فيكون المراد من المقابر القبور لا محل اجتماعها, وإلا كان الجميع دالاً على التعدد من محال الاجتماع, وهو أمر غير محتمل, إلا أن يراد بالجمع اسم الجنس, فيكفي وجود الواحد مصداقاً له, وهو خلاف الظاهر. <BR>وبالتدقيق فان المقبرة بالفتح اسم مكان وبالكسر اسم آلة, وكلاهما يمكن التعبير به عن القبر فقد يكون اسم آلة, أي آلة الانتقال من الدنيا إلى الآخرة, أو آلة الإقبار وهو أن يغيب الجسد عن أعين الناظرين وضرر الآخرين. <BR>إن قلت: لماذا قال: المقابر, ولم يقل: القبر؟.<BR>قلت: ذلك أولا: لحفظ النسق القرآني في الآيات. <BR>ثانياً: أنَّ الخطاب للمجموع, وكل واحد منهم انتهى ونزل إلى قبره فأتى به جمعاً لا مفرداً. <BR>سؤال: ما المراد بقوله: [زُرْتُمْ]؟.<BR>جوابه: قال في المفردات[ ]: الزَّوْر أعلى الصدر, وزرت فلاناً تلقيته بزوري, أو قصدت زَّوْره نحو وجهته. ورجل زائر وقوم زَّوْر نحو مسافر وسفر. وقد يقال: رجل زَوْر, فيكون مصدراً موصوفاً به نحو: ضيف. <BR>أقول: هذا من ناحيَّة اللفظ, وأما من ناحيَّة المعنى, فيمكن أن نتساءل: هل تؤخذ هذه الزيارة مؤقتة أو دائمة؟.<BR>فإن كانت مؤقتة كانت بمعنى الاعتبار بالمقابر حال الحياة, لأجل التقليل من التكاثر أو الامتناع عنه؛ لأنه من قبيل ذكر الموت وقد ورد: إذا ضاقت بكم الصدور فعليكم بزيارة القبور. <BR>وورد[ ]: احيي قلبك بالموعظة... وذلله بذكر الموت, من حيث أن ذلك يقلل من الاهتمام بالدنيا أو يزيله كله. <BR>وان كانت هذه الزيارة دائمة, فستكون تعبيراً آخر عن الموت نفسه, يعني ألهاكم التكاثر طول حياتكم حتى متّم. <BR>إن قلت: فإن الزيارة لا تصدق على الميت؛ لأنها من مواجهة الزور. ولا يكون ذلك إلا للإنسان الحي, فلو زار بيتاً خالياً أو صحراء لم يصدق ذلك. فكذلك لدى نقل الميت إلى القبر. <BR>قلت: جواب ذلك من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: إمكان التسليم, بأنه استعمال مجازي ولا بأس به. <BR>الوجه الثاني: إمكان الالتزام بحصول نحو من أنحاء النقل اللغوي, وذلك بإلغاء الشرط المذكور وهو التقابل بالزور والتوسع إلى مطلق الذهاب. وهذا النقل قد حصل قبل نزول القرآن فيكون حجة. وقد نزل القرآن على أساسه. <BR>الوجه الثالث: إن هذا يحصل للأموات, حين ينتقل إليهم, وتكون جثته بين جثهم. <BR>الوجه الرابع: إنَّ هذا يحصل للأموات في عالم البرزخ حيث يجتمعون ويتحدثون, إلا ان هنا فرقاً من حيث اختيار حصول الزيارة, فإن الزائر الحي يكون مختارا في زيارته, بخلاف الميت فإنه غير مختار بالزيارة لا بجسده ولا بروحه. <BR>إلا أن هذا أيضاً مما لم يؤخذ في الوضع, وإنما هو قيد غالبي. <BR>ثم قال سبحانه وتعالى: [كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ.ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ.كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ...]. <BR>كلا لنفي ما سبقت الإشارة إليه والزجر عنه, وهو التلهي بالدنيا والغفلة عن الآخرة بأيِّ مستوى من مستوياتها. <BR>وهي مكررة ثلاثاً, وهو نفي مؤكد ومشدد, أو قل: هو أقصى درجات النفي فقد قال: [كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ] مرتين, ثم قال: [كَلاَّ], وهي بمعنى تقدير تكرار العامل السابق, يعني: [كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ]. <BR>وكلا الثالثة غير مربوطة بما بعدها لا لفظاً ولا معنى, فكأننا نضع نقطة بعدها ثم نقول: [لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ.لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ].<BR>وقد سبق أن قلنا في (سورة الكافرون): إنَّ الأمر قد يبلغ من الضرورة والأهمية إلى حد ينبغي أن يصل فيه التأكيد إلى أقصى مداه, والتأكيد في اللغة العربيَّة ثلاث مرات كحد أقصى, وهنا مكرر مرتين لفظاً ومرة معنى. <BR>سؤال: ما هو سبب التكرار؟.<BR>جوابه: قال القاضي عبد الجبار[ ]: إنَّ المراد بهما مختلف. فالمراد بالأول: [كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ], ما ينزل بكم في الدنيا في حال الحياة والممات. والمراد بالثاني: [ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ], ما يكون لكم في الآخرة من ثواب وعقاب. وهذا بعث من الله على التمسك بطاعته. <BR>أقول: ويمكن أن يجعل قرينه على ذلك: العطف بثم التي تفيد التراخي بمعنى: في الآخرة. ولكن ينافيها قوله: [سَوْفَ] في [كَلاَّ] الأولى الدالة أيضاً على بعد الزمان فيكون كلاهما للآخرة. <BR>وقال صاحب الميزان[ ]: وقيل: المراد بالأول علمهم بها عند الموت, وبالثاني علمهم عند البعث. وعليه فلا يرد هذا الإشكال. <BR>ولكننا قلنا: إنَّ التكرار للتأكيد والتركيز على الأهمية. وثم هنا ليس للتراخي, بل للدلالة على عدم كفاية القول مرة واحدة, فتكون الأولى ثبوتية والثانية إثباتيه, كأنه قال: ثم أقول كلا... لمدى أهميته بحيث لا يقوم بأداء المعنى إلا تكرار اللفظ. <BR>سؤال: ما هو جواب [لَوْ] في قوله تعالى: [كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ]؟.</P>

<P>جوابه: قال العكبري والطباطبائي: إنَّ جواب [لَوْ] محذوف والتقدير ـ كما في الميزان ـ [ ]: لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي والتفاخر بالكثرة. وقدره العكبري بقوله[ ]: لو علمتم لرجعتم عن كفركم. <BR>أقول: ولماذا لا يكون قوله: [لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ] جواباً لها, ولا تكون استئنافاً كما زعم في الميزان؟.<BR>وقال في الميزان[ ]: واللام للقسم, أي في قوله: [لَتَرَوْنَ] وحسب فهمي إنها ليست كذلك, بل للتأكيد. وقلنا فيما سبق إن هذه اللام تدخل على الاسم فتسمى لام الابتداء, وتدخل على الفعل المضارع فتسمى لام القسم. باعتبار أنها تشبه لام القسم, وإلا فإنه لا  يوجد قسم في السياق. <BR>فإن قلت: إنَّ من جملة الموانع المحتملة لكون: [لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ] جواباً لـ[لَوْ] كونها فعلاً مضارعاً, في حين انه يناسب كونه فعلاً ماضياً, من قبيل قول العكبري: لرجعتم عن كفركم, ولم يقل لترجعن. <BR>قلنا: هذا إنما يتم فيما إذا كان فعل الشرط ماضياً, كما في تقدير العكبري: لو علمتم لرجعتم عن كفركم. وأما لو كان فعل الشرط مضارعاً جاز أن يكون الجواب مضارعاً. كما في الآية؛ لأنه تعالى قال: [لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ.لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ]. وبتعبير آخر: إنَّه لا بأس بالتماثل بين فعل الشرط وجوابه, أما الفعل بالماضي معاً أو بالمضارع معاً. <BR>إن قلت: كما قال في الميزان[ ]: ولا يجوز أن يكون قوله:[لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ] جواب[لَوْ]الامتناعيَّة؛ لأن الرؤيَّة محققة الوقوع, وجوابها لا يكون كذلك. <BR>أقول: أي إن رؤيَّة الجحيم ليست ممتنعة الوقوع, بل متعينة وضروريَّة. كرؤيَّة الجنة والقيامة. فلا يكون جواباً لـ[لَوْ] الامتناعيَّة؛ لأن ما يقع في جوابها هو الممتنع لا الممكن. <BR>وقد أجاب السيد الطباطبائي ? على هذا الإشكال, ولم يعتبره صحيحاً كما سنذكر, ولكنَّه مع ذلك يرى أن قوله: [لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ] استئناف كلام وقدر لـ[لَوْ] جواباً آخر. مع العلم إن الإشكال إذا لم يكن وارداً, فلماذا لا تكون بنفسها جواباً ولماذا تحتاج إلى التقدير؟.<BR>أما الجواب على هذا الإشكال فيتم بوجوه, منها: <BR>الوجه الأول: إنَّ [لَوْ] هنا ليست امتناعيَّة, بل هي شرطيَّة بمعنى: إن وإذا. فإن كان وضعها الأصلي امتناعياً, فهي مستعملة هنا مجازاً في حال عدمه. وقد قلنا في درس الأصول بأن استعمال الحروف مجازاً معقول فتكون [لَتَرَوْنَ] جواباً محققاً لأداة الشرط [لَوْ] غير الامتناعيَّة. <BR>الوجه الثاني: ما أجاب به الطباطبائي حين قال[ ]: وهذا مبني على أن يكون المراد برؤيَّة الجحيم يوم القيامة... وهو غير مسلم. بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤيَّة البصيرة, وهي رؤيَّة القلب التي هي من آثار اليقين..وهذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء الملتهين, بل ممتنعة في حقهم, لامتناع اليقين عليهم. <BR>أقول: قوله: لامتناع اليقين عليهم, يعني بصفتهم ملتهين لا مطلقاً يعني: ولن تعلموا علم اليقين فلن تروا الجحيم بعين البصيرة. وهذا غير محقق الوقوع بل محقق العدم. <BR>ويؤيد هذا الكلام: إنَّ تعلمون وترون أفعال مضارعة, والفعل المضارع يشمل الحال والاستقبال ويمكن التمسك بإطلاقه من هذه الناحيَّة. والحال يراد به الدنيا. والاستقبال يراد به الآخرة. <BR>سؤال: لماذا فضلت [لَوْ] هنا على غيرها, وهل هناك مصلحة في ذلك؟.<BR>جوابه: من أكثر من وجه: <BR>الوجه الأول: إنَّ ذلك أمر اختياري للمتكلم, فينسد السؤال؛ لأنه من غير المنطقي أن تسأل المتكلم عن ألفاظه, كما قلنا في المقدمات.<BR>الوجه الثاني: إنَّها تدل على الترغيب والترهيب من ناحيَّة العلم المشار إليه بالآية: [كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ] فهو يرغب الناس في تحصيل هذا العلم, ويرهب الناس منه حيث يذهب الذهن فيه كل مذهب. وهذا لا يكون في حروف الشرط الأخرى, إن وإذا.<BR>ويمكن القول: إنَّ [لَوْ] وإن صرفت عن كونها إمتناعيَّة, لكنَّها يمكن أن تطعم بمعناها الأصلي الامتناعي, من زاويَّة قبولها للجواب من جهة, ومن ناحيَّة دلالتها على الترغيب والترهيب من جهة أخرى.<BR>بل إذا تقدمنا خطوة أخرى, أمكننا القول: بأن هذا التضمين الامتناعي لـ[لَوْ], يعطينا هذه الفكرة الخيالة للإنسان: كأن شيئاً ممتنعا هو في طريق الوجود. فهو مهم لدرجة اجتماع النقيضين في يوم ما, فهي تقع في الخيال كفكرة رهيبة وعظيمة باعتبار هذا التضمين الامتناعي, وهذه الرهبة تشارك في الترغيب والترهيب المشار إليه.<BR>وقوله: [كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ...] للتهديد؛ لأن المخاطب به أهل الجهل والغفلة بدليل: سوف تعلمون, يعني أنتم الآن غير عالمين. وهو يدل على حصول العلم للجميع, إلا أن متعلق العلم مجهول. ينال كل واحد منهم حسب إستحقاقه وترتفع الغفلة بالموت, وقد حذفه المتكلم جل شأنه عمداً ليذهب به الذهن كل مذهب, وليذهب به الخيال كل مذهب.<BR>و [سَوْفَ] تجعل المضارع نصباً بالمستقبل. وإنما كان الأمر استقبالياً باعتبار توقع حصول أسبابه, وهي تختلف ما بين الناس.<BR>سؤال ما هو متعلق اليقين؟.<BR>جوابه إن فيه عدة أطروحات نذكر منها:<BR>الأطروحة الأولى: اليقين بوجود جهنم, فيكون المعنى: كلا لو تعلمون بجهنم علم اليقين لترون الجحيم. <BR>إلا إن هذا قابل للمناقشة؛ لأن القضيَّة ستكون عندئذ بمنزلة القضيَّة بشرط المحمول أو قضيَّة تكراريَّة, يعني إذا رأيتم جهنم فقد رأيتم جهنم, ولا يكون لها محصل.<BR>الأطروحة الثانية: ما يقوله أهل المقامات من أن المراد اليقين بالله سبحانه الملازم مع انفتاح البصيرة القلبيَّة, فتحصل بذلك الرؤيَّة لكثير من الأشياء كجهنم والجنة وغيرها.<BR>سؤال: إن العلم واليقين بمعنى واحد. فما هو وجه الحاجة إلى هذه الإضافة في قوله تعالى: [عِلْمَ الْيَقِينِ]؟.<BR>جوابه فيه عدة أطروحات:<BR>الوجه الأول: إنَّ العلم يختلف عن اليقين, فإن العلم أعم من العقلي والعرفي, واليقين هو الدقّي أو العقلي. فيكون من إضافة الخاص إلى العام, أو تقييده به كما نقول: الإنسان العراقي.<BR>الوجه الثاني: إنَّهما بمعنى واحد, ولكن مع ذلك يكون تقييد أحدهما بالآخر مفيداً لنتيجة لم تكن قبل ذلك, ولو باعتبار التعمق في العلم أو أهميته فكان مقتضى الحكمة الحصول على هذه النتيجة, فهذا التقيد له فائدة أعلى من كلا الأمرين منفرداً.<BR>الوجه الثالث: إنَّ المراد هو اصطلاح علم اليقين؛ لأنهم قالوا: يحصل أولا علم اليقين ثم تحصل درجة عين اليقين.<BR>فأن قلت: إننا لم نسمع اصطلاحا موجودا في القرآن الكريم وإنما هو دائما عرفي وعقلاني.<BR>قلت: جوابه من أكثر من وجه:<BR>أولا: إنه قد يكون من الفهم الباطني للقرآن الكريم.<BR>ثانياً: إنَّ القرآن هنا أراد ان يجعل باستعماله إصطلاحاً جديدا فهو جعلٌ أبتدائيٌ لاصطلاح جديد يعبر عن درجة من درجات العلم.<BR>وأما الكلام عن: عَيْنَ اليَقيِن.<BR>فإنه إن كان إصطلاحاً أيضاً, فلا بد ان يكون أعلى من علم اليقين, وذلك لأننا نجد فرقا بين العلم والعيان, فالعلم صورة ذهنيَّة ولكنها مشددة ومؤكدة, أما العيان فهي رؤيَّة حسيَّة مباشرة. فالإنسان يومئذ يرى يوم القيامة أو الجنة أو جهنم. كما يرى الأشياء في الدني                   ا.<BR>قال تعالى: [فوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ][ ] .<BR>وبذلك يندفع الإشكال على هذا التركيب, فأن فيه أشكالاً من ناحيتين:<BR>إحداهما: التنافي بين العلم واليقين, فلا يجوز تقييد أحدهما بالآخر؛ لأنه يكون من تقييد المتنافيين. <BR>ثانيهما: إنَّ أحدهما عين الآخر, فلا حاجة إلى التقييد؛ لأنهما متساويان.<BR>وكلا التقديرين ليس بصحيح, والحق أن احدهما يختلف عن الآخر.<BR>ونبدأ بالإشكال بالناحيَّة الأولى بإظهار كونهما متنافيين كما يلي:<BR>إن قلت: عين القين غير مناسب؛ لأن العين إحساس واليقين وجدان, فهما متنافيان وليسا من باب واحد. <BR>قلت: إنَّ الإحساس طريق الوجدان, والعين هنا لا يراد العين العضويَّة أكيداً, بل نتيجتها وهو الإحساس البصري, أو ما كان واضحاً للفرد بمنزلته. كالإحساس بيوم القيامة ونحوه, إذن فالإحساس منتج لليقين فلا تنافي بينهما. <BR>لا يقال: إنَّ الإحساس مساوق دائماً للقين, فيكون من عطف المتساويين على بعضهما البعض.<BR>جوابه: بالالتفات إلى ما يصل إلى الحس من الأوهام والمغالطات الحسيَّة, كانكسار الخشبة في الماء. فيراد بالإحساس في الآية, الإحساس غير القابل للغلط. <BR>قال العكبري[ ] : [لَتَرَوْنَ] مثل: لتبلون وقد ذكر. ويقرأ بضم التاء على ما لم يسم فاعله, وهو من رؤيَّة العين بنقل الهمزة, فتعدا إلى أثنين (أحدهما: نائب الفاعل, والثاني الجحيم). ولا يجوز همز الواو(لترؤن)؛ لأن ضمها غير لازم. وقد همزها قوم كما همزوا (واو) أشتروا الضلالة (اشترؤا الضلالة) وقد ذكر.<BR>أقول: وقوله: لأن ضمها غير لازم, يعني مادام ضمها غير لازم فهمزها غير لازم, فإمكان الهمزة منوط بالضم, وأما مع الفتح فيكون الهمز متعذراً. وعلى أي حال فتكون القراءات ثلاثة: بضم التاء مع الهمز, وبدونه, وبفتحها. والضم على كلا التقديرين شاذ غير مروي عن المعصومين ?, فيسقط عن الاعتبار.<BR>ولكن إذا أصبح (رأى) مهموزاً, أصبح رباعياً (أو مزيداً فيه) فصار متعدياً إلى مفعولين. <BR>تقول: أرى فلان فلاناً النجوم. ومنه [لَتَرَوْنَ] بالضم, ولو لم يكن(رأى) مهموزاً, تعدا إلى مفعولين مع قصد الرؤيَّة القلبيَّة لا بدونها على المشهور, كما سبق أن ناقشناه.<BR>وقوله: وهو من رؤيَّة العين بنقل الهمزة, يحتمل فيه أمران: <BR>الأول: معناه: روي بالهمزة. فالمراد من النقل الروايَّة. <BR>الثاني: إنَّه نقل من الثلاثي إلى الرباعي بزيادة الهمزة, فأصبح مدخوله مفعولين. <BR>ولكن إذا كان هذا مقصوده, فهو على خلاف سياق كلامه؛ لأنه قال بعد ذلك: لأن ضمها غير لازم, بمعنى إنها إذا قُرئت بفتح التاء فهمز (الواو) غير معقول. وأضاف: وقد همزها قوم, وسياق كلامه لا يناسب ذلك. <BR>قوله تعالى: [ثًمَّ لَتُسْألُنَّ] وهي على وجهين؛ لفتح التاء وضمها, وهو الأشهر. أما الأول فبمعنى: إنَّكم أنتم تسألون عن النعيم. والثاني بمعنى: يسألكم السائلون عن النعيم. <BR>والنعيم يراد به نعيم الآخرة, كما فهمه المشهور. فيكون المراد: إن الإنسان يطالب الله تعالى بالدخول إلى الجنة, فيجاب يومئذ حسب استحقاقه. وقد يكون المقصود من النعيم ما هو أعم من نعيم الدنيا والآخرة. وكلا النعيمين يطالب به الفرد ربه. <BR>وقوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ] بحسب السياق اللفظي, يدل على أنه حينما ترون الجحيم وحين تعلمون علم اليقين, حينئذ تسألون عن النعيم. <BR>ومن جملة أساليب الفهم للقرآن الكريم: أن نفهمه متفاصلاً وغير متعلق بسياق قبله. <BR>فيكون المعنى: إنَّكم تسألون عن النعيم عند الحاجة إليه وعند الشعور بالافتقار. وأما إذا كان النعيم حاصلا له فلا يسأل عنه. ويمكن القول: إنَّ الإنسان حينما يرى جهنم عين اليقين ويدخلها, فإنه سوف يطالب الله تعالى بالجنة. وهكذا الإنسان يطالب الله تعالى بالجنة سواء كان في الدنيا, أو في القبر في يوم القيامة, أوفي جهنم نفسها.<BR>ولكن انفصال السياق عن الدنيا واضح وذلك لأن الإنسان فيها محجوب عن عين اليقين, فلذا يسأل في الدنيا عن نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. والله تعالى لا بخل في ساحة كرمه, فيعطي مَا يَشَاء ُ لِمَنْ يُريِدْ وقال: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ][ ] .<BR>سؤال: من هو السائل عن النعيم يومئذ, وما هو النعيم المسؤول عنه (بناء على قراءة الضم)؟.<BR>جوابه: السائل هو جهة الله تعالى, سواء قلنا هو الله تعالى بالمباشرة, أو من قبيل الملائكة, أو أمير المؤمنين ?, أو الضمير الحي.<BR>وأما فهم النعيم, ففيه عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: إنَّ المراد نعيم الآخرة, باعتبار ان الإنسان معاتب يومئذ على النعيم, ومسؤول إنه لماذا دخل النار ولم يدخل الجنة؟. <BR>فإن قلت: هذا صحيح من جانب دخوله النار, فما بال من يدخل الجنة, هل هو معاتب أيضاً؟ فإن لم يكن معاتباً, كانت القضيَّة خاصة غير عامة. <BR>قلت: بل القضيَّة عامة غير خاصة؛ لأن من يدخل الجنة معاتب أيضاً, ومسؤول إنه لماذا لم يختار مقــامـاً أرفــع؛ لأن الكمال لا متناهي, فالسؤال لا متناهي. فأينما وصل من الدرجات فهو نادم؛ لأنه لم يصل إلى المقامات العليا لسوء عمله وتقصيره.<BR>الأطروحة الثانية: ما وردفي بعض الروايات عنهم ? من أن النعيم يراد به ولاية أهل البيت ?, كقوله: إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد[ ], وفي خبر آخر: تُسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله, ثم بأهل بيته[ ] . <BR>الأطروحة الثالثة: ما ذكره صاحب الميزان  ?[ ]  قال: ظاهر السياق إن المراد بالنعيم مطلقهُ, وهو كل ما يصدق عليه انه نعمة, فالإنسان نعمة مسؤول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه.<BR>أقول: ذلك باعتبار إن الألف واللام للجنس في قوله: النعيم, وكل نعيم في الدنيا فلابد مسؤول عنه يوم القيامة. أو يراد به التنعم غير المشروع. وعلى أي حال يراد به السؤال وليس العقاب. فيكون عاماً؛ لأن السؤال يكون حتى فيما لا عقاب عليه.<BR>الأطروحة الرابعة: أن نفهم ان النعيم مترتب على السؤال, وإن السؤال بمنزلة العلة للنعيم, والنعيم بمنزلة المعلول, أي تسألون وتدخلون الجنة.<BR>أما بناءا على قراءة الفتح في تسألون فهو واضح؛ لأنه يكون بمنزلة الدعاء من العبد فيجاب. وأما بناءا على الضم فلان من يحصل على درجات علم اليقين وعين اليقين, وهي جوانب مختلفة وكثيرة فلا يقال له يومئذ:  [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ][ ]؛ لأنه في جنة معنويَّة وليس في سقر, ولكن يسأل عن كل مقام من مقاماته المتوقعة وانه هل عمل له عمله المناسب له أم لا؟.</P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>سورة القارعة<BR>نتكلم عن احتمالات تسميتها وهي عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: [القَارَعةُ] كما هو المشهور.<BR>الأطروحة الثانية: الموازين.<BR>الأطروحة الثالثة: السورة التي ذكرت فيها [الَقارَعةُ] أو الموازين.<BR>الأطروحة الرابعة: رقمها في الكتاب الكريم وهو:101.<BR>قوله تعالى: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ:<BR>قال العكبري[ ] : الكلام في أولها مثل الكلام في أول الحاقة. وقال في الحاقة[ ] : قوله تعالى:الحاقة, قيل: هو خبر مبتدأ محذوف, وقيل: مبتدأ وما بعده خبر على ما ذكر في الواقعة. <BR>أقول: والقول الثاني هو الذي مال إليه الطباطبائي في الميزان[ ] .<BR>وعلى أي حال يتحصل في إعرابه عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: أن يكون لفظاً مفرداً لا محل له من الأعراب أُتي به للتذكير بالمعنى, وبعده جملة مستقلة إعرابياً. وهذا أمر عرفي, وإن لم يعترف به النحويون.<BR>الأطروحة الثانية: أن يكون خبر اَ لمبتدأ محذوف تقديره هي. <BR>الأطروحة الثالثة: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره ما الاستفهاميَّة كالذي بعده, ويدل عليه نفسه بنحو القرينة المتصلة, أي ما القارعة ما القارعة.<BR>الأطروحة الرابعة: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف من لفظه, أي القارعة القارعة, والمراد: القارعة هي القارعة. إلا انه لا يخلو عن بُعد؛ لأنه يكون بمنزلة القضيَّة التكراريَّة. <BR>الأطروحة الخامسة: أن يكون مبتدأ وما الاستفهاميَّة مبتدأ ثانٍ, وما بعده خبر, وهو مختار صاحب الميزان ولعله أبعد الاحتمالات, وخاصة لو تجاوزنا الأطروحة الرابعة.<BR>قوله تعالى: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ]. <BR>الاستفهام فيها للتهويل والتخويف, و[أَدْرَاكَ] صيغة تعجب على المشهور. وهذه الجملة قد تكون خبريَّة وقد تكون إنشائيَّة, فإذا كانت خبريَّة تكون [مَا] موصولة مبتدأ و[أَدْرَاكَ] جملة فعليَّة خبر. والمعنى إنَّ شيئاً ما أدراك القارعة وفهمك عنها.<BR>وأما إذا كانت إنشائيَّة, فتكون ما إستفهاميَّة مبتدأ و[أَدْرَاكَ] خبره. والمعنى كيف تستطيع أن تدرك القارعة.<BR>وإذا كانت تعجبيَّة كانت إنشائيَّة أيضاً, ويكون المعنى ما أعظم إدراكك للقارعة.<BR>وعلى كلا التقديرين الأولين لا يصح استعمال ما؛ لأنها لما لا يعقل, ومن لا يعقل لا يكون سبباً للإدراك, وإنما يكون المناسب استعمال (مَنْ) إلا ان المقصود هو امتناع الإدراك بأي سبب متصور أو منظور من الأسباب الدنيويَّة. فتكون [مَا] نافيَّة, والمعنى أنت عاجز عن إدراك القارعة بالتسبيب المنظور. وحينئذ تكون [مَا] الثانية أسم موصول مفعول به. <BR>سؤال: ما المراد بالقارعة؟.<BR>جوابه: مشهور المفسرين بما فيهم صاحب الميزان ?[ ]: إنها من أسماء يوم القيامة في القرآن الكريم مع انها عامة المضمون؛ لأن القارعة هو الضرب الشديد. قال الراغب[ ] : القرع ضرب شيء على شيء, ومنه قرعت بالمقرعة. قال تعالى: [كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ][ ], [الْقَارِعَة مَا الْقَارِعَةُ].<BR>أقول: ولا يراد بها هنا الضرب جزماً, وإنما هو استعمال مجازي للتعبير عن التأثير النفسي المساوي لتأثير الضرب.<BR>والله تعالى يضرب في مختلف العوالم, مع اقتضاء الحكمة والعدل الإلهيين, فكل ضرب هو قارعة, كيوم القيامة وجهنم وبلاء الدنيا من مرض أو فقر أو عسر شديد وخاصة إذا كان مفاجئاً, فهو إذن تعبير شامل بكل بلاء من مصائب الدنيا والآخرة. <BR>سؤال: إنَّ الخطاب للنبي? مع إنه يدرك معنى القارعة. فما هو الوجه فيه؟.<BR>جوابه: إنَّ لذلك عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ هذا السؤال مبني على أن يكون المراد بـ[ما] الاستفهامية أو النافيَّة, وأما إذا كانت تعجبيَّة, فهي تفيد ثبوت العلم فينسد السؤال.<BR>الوجه الثاني: إنَّ الخطاب له ? والمقصود غيره من قبيل: إياكِ أعني فأسمعي يا جارة.<BR>الوجه الثالث: أن يكون الخطاب له ? والمراد الإحساس المباشر, وليس الصورة الذهنيَّة, فهو لا يعلمها علم الإحساس إلا عند تحققها خارجاً.<BR>الوجه الرابع: إنَّ الخطاب للجميع؛ لأن القرآن نازل إلى الناس أجمعين, كما هو المستفاد من عدد من الآيات الكريمة, فينال كل واحد ما يناسبه. <BR>الوجه الخامس: أن يكون الخطاب للمضروب بالبلاء والقارعة. <BR>سؤال: كيف نفهم من القارعة ما يشمل بلاء الدنيا, في حين إن الآية الكريمة نص بيوم القيامة بقرينة قوله تعالى: [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ], فإن ذلك لا يكون إلا في يوم القيامة.<BR>جوابه: قال الطباطبائي في الميزان[ ] : الفراش على ما نقل عن الفرّاء, الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضاً, وهو غوغاء الجراد. قيل: شبه الناس عند البعث بالفراش؛ لأن الفراش إذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة كسائر الطير, وكذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع, فتوجهوا جهات شتى أو توجهوا إلى منازلهم المختلفة سعادة أو شقاءا. والمبثوث من البث وهو التفريق. <BR>أقول: من الواضح من سياق كلام الطباطبائي ?, إنه لا يتعهد بصحة شيء مما نقله. ونحن نجد ان الفراش جمع فراشة وهي معروفة, وليس هو الجراد. ونستطيع إن شككنا باستعماله في زمن النزول أن نستصحب بنحو الاستصحاب القهقرائي, استعماله إلى زمان صدر الإسلام. <BR>كما يمكن عرض أطروحة في هذا المجال, وهو إيجاد فهم عام يشملهما معاً, وهو الحشرات الطائرة الكبيرة نسبياً وليست كالذباب والبعوض, والقادرة على الاستمرار بالطيران (وليست كالخنافس والنمل المجنح) وليست ذات حمة لاسعة(كالزنابير). وهذا المعنى الجراد والفراش معاً, فيكون من الممكن إطلاق لفظ الفراش على مثل هذا المعنى الكلي. <BR>فهذه كلها مقدمات لبيان جواب السؤال الأخير. وسيأتي الحديث عن جوابه مضافاً إلى أنها في نفس الوقت توجب الإطلاع على تفاصيل السورة. <BR>ثم قال في الميزان الآية التي بعدها[ ] :<BR>[العِهْنِ]: الصوف ذو ألوان مختلفة, والمنفوش من النفش وهو نشر الصوف بندف ونحوه.<BR>فالعهن المنفوش: الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة, إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها بزلزلة الساعة.<BR>أقول: الجبال فعلاً ذات ألوان مختلفة, أما باختلاف ألوان الصخور, وأما باختلاف الجو المحيط بها, وأما باختلاف النبات النابت عليها. <BR>إلا إنه يرد على فهمه هذا أمور:<BR>أولاً: إنَّ [العِهْنِ] ــ حسب فهمي ــ هو مطلق الصوف, ولا ينبغي أن يكون أللون مأخوذاً قيداً في مفهومه, وإن كان كل صوف ملون تكوينياً.<BR>ثانياً: لو قلنا به, فظاهر الآية هو وجود الألوان في طول الزلزلة, فإنها عندئذ تكون [كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ] وليس قبل ذلك, مع إنه قال: تلاشي الجبال بمختلف ألوانها يعني السابقة على الزلزلة. فهل تبقى بعد الزلزلة ذات ألوان؟!.<BR>بينما نحن نفسر الآية بالعكس تماماً, من حيث أن التلوين لاحق للزلزلة بحسب ظهور الآية وليس سابقاً عليها.<BR>ثالثاً: إنَّه لا يراد من الآية التلاشي المطلق, وإلا لانمحت بالمرة, فلا عهن ولا ألوان. في حين انه نص على أنها تكون [كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ]. وهذا يدل على ان التلاشي الذي فهمه السيد الطباطبائي غير حاصل, وإلا لم يمكن تسميتها بالصوف, إذن يبقى لها نحو وجود كما قال تعالى: [يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً][ ] . <BR>إذن, فكيف يكون الأمر هنا في الدنيا كما يكون في الآخرة؟.<BR>وجوابه: يكون على مستويين:<BR>المستوى الأول: يحصل لدى البلاء الدنيوي, فيجد الفرد إن الناس كلهم غير ملتفتين إليه وغير مهتمين بأمره ولا قادرين على إزالة ضرره وإنقاذه من ورطته. بل كل منهم مشغول بحاله حتى أفراد أسرته, وهو معنى الشعور بالغربة أو الاغتراب, الذي تحدثوا عنه في علم النفس الحديث, وهذا المعنى يتأكد كلما زاد البلاء.<BR>ومن هنا يصدق ان الناس أصبحوا متفرقين [كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ]؛ لأنهم تفرقوا عنه جميعاً.<BR>كما يجد الفرد ان من كان يشعر بأهميتهم من أهل الاختصاص لم ينقذوه, حتى الأطباء والأثرياء وغيرهم, وهو تعبير عن تلاشي الجبال, يعني لا يوجد منقذ من الأفراد العاديين ولا من الاختصاصيين.<BR>المستوى الثاني: يحصل لدى أهل الإيمان العالِ, حيث يجد الفرد منهم ان الناس لاهون عن مصالحهم الحقيقيَّة, ومستهدفون أهدافاً دنيويَّة باطلة وظالمون لأنفسهم, لا يختلفون عن الحشرات الطائرة بشيء معتد به. كما قال سبحانه: [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً][ ], إذن فهم كالفراش المبثوث والحشرات المنتشرة, كل منهم يتوجه إلى مصلحته الذاتيَّة.<BR>[وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ] بعدة أطروحات:<BR>الأولى: إنَّ نفس الجبال تزول بما فيها من أهميَّة وعظمة في نظر أهل الدنيا. كما قال الله سبحانه وتعالى: [أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ][ ].<BR>الثانية: الأشخاص المهمون في الدنيا من أهل الاختصاص وأهل المال, تزول أهميتهم لعدة أسباب منها: اليأس من خيرهم, كما أشرنا. ومنها: تلاشي أهميتهم في مراتب اليقين.<BR>الثالثة: جبال الهموم الدنيويَّة الناتجة من البلاء, تزول أما حقيقة إذا أُميط البلاء وذهب. وأما اعتباراً وأهمية, وذلك في درجات الإيمان. كما ورد: لا تفرح بما أتاك من الدنيا ولا تحزن على ما فاتك منها.<BR>الرابعة: جبال البلاء الدنيوي, تزول بنفحة التسليم والرضا ونحو ذلك. وفرقه عن سابقه إن النظر هنا إلى نفس البلاء, وهناك إلى رد الفعل النفسي عليه. وكلا الأمرين يزولان بنفس الأسباب.<BR>فإن قلت: هذا التسلسل الفكري في نفسه وإن كان جيداً, إلا إنه مخالف للقرائن المتصلة في السورة, وذلك لأن القارعة تحصل في الآخرة لا في الدنيا, فبوحدة السياق تكون متعينة في الآخرة.<BR>وبالنسبة إلى المستوى الثاني, فإن الإنسان حينما يتحصل على درجات اليقين فإنه لا يقرع في الدنيا ولا في الآخرة. مع العلم إن السورة تبدأ بالقارعة, فكيف يكون ذلك؟.<BR>قلت: بل يجتمع لأكثر من أمر واحد:<BR>أولاً: إن البلاء الدنيوي من مقدمات التكامل, وهو معنى شامل لسائر المراتب.<BR>ثانياً: إنَّ كل البشر في الدنيا في بلاء حتى المعصومين سلام الله عليهم. غايَّة الأمر إن بعضهم له رضا وتسليم وبعضهم ليس له ذلك. ولم يؤخذ في مفهوم القارعة عدم التسليم بها. بل هي قارعة على كل حال.<BR>نعم, لو أخذ في مفهومها معنى الإيذاء النفسي لاختص بمن ليس له رضا وتسليم, غير إن القارعة هي السبب والمسبب معاً, بل كلاهما قارعة بانفراده. وأي منهما صدق كفى. والمشهور هو السبب حتى لو فسرناه بيوم القيامة. وإلا فيوم القيامة فيه جهة نفسيَّة صعبة أيضاً.<BR>فإن قلت: فإن قوله: [مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ]: دل على أن ذلك يحدث في يوم القيامة, مضافاً إلى ما سنسمع من أن هدف السورة هو التخويف من الآخرة لا من الدنيا.<BR>قلت: هذا وإن كان مسلك إجماع المفسرين, إلا انه مع ذلك يمكن القول بأن القارعة كما تكون في الآخرة تكون بالدنيا. وإن هذا الإيراد غير تام لعدة أمور:<BR>الأمر الأول: إنَّ قوله تعالى: [فَأمَّاْ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ] جملة مستأنفة لا ربط لها بما سبق, فلا تكون قرينة على الشكل المدعى في السؤال, نعم ما يكون مرتبطاً بما قبله يكون قرينة؛ لأن للمتكلم أن يضيف على كلامه ما شاء من القرائن والحديث, إلا ان هذه العبارة القرآنية غير مربوطة بما قبلها.<BR>إلا ان هذا الوجه غير تام لمناقشتين:<BR>الأولى: الطعن في الكبرى, إنَّ الكلام المنفصل تماماً لا يكون قرينة على سابقه, كما لو كان بعد سكوت طويل. إلا ان ظاهر الآية إنها نزلت دفعة واحدة.<BR>الثانية: الطعن في الصغرى: بوجود قرينة تدل على الارتباط وهو الفاء في قوله: [فَأمَّاْ] فإنها تكون بمنزلة السببيَّة, كأنه ذكر العلة ثم معلولها, أي النتائج المترتبة على السياق الأول.<BR>الأمر الثاني: إنَّها ليست إشارة إلى يوم القيامة كما عليه مشهور المفسرين, بل هما إشارة إلى ما بعد يوم القيامة؛ لأنه قال:[فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَّة], أي في الجنة وقال: [فَأُمُّهُ هَاوِيَّة], أي في النار.<BR>ويمكن أن يجاب بمناقشتين:<BR>الأولى: إنَّ ما قيل في الأمر الثاني وإن كان صحيحاً, إلا إنه سبحانه قال: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ.... وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ] وذلك يوم يكون في يوم القيامة لا بعده.<BR>الثانية: إنَّه يمكن أن يكون المراد به مطلق الآخرة, لا خصوص يوم القيامة. إلا أن هذا على خلاف المشهور. فإن السياق واحد والقارع هو يوم القيامة على المشهور. فيتعين أن يكون كله في يوم القيامة. <BR>إلا أن يقال: إنَّه تعرض أولاً ليوم القيامة, ثم تعرض لمعلولاته ثانياً, وهو دخول الجنة ودخول النار.<BR>الأمر الثالث: إنَّ هذه المعلولات تنتج في الدنيا أيضاً. فقوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ...], أي زادت حسناته على سيئاته في علم الله تعالى[فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَّة], أي مرضية. فإنه قد يستعمل أسم الفاعل بمعنى أسم المفعول.على معنى إنها مرضية لفاعلها أو مرضية لله سبحانه. <BR>أو نقول: إن راضية بمعنى أسم الفاعل مجازاً, من حيث أنه نسب الرضا إلى العيشة ومراد العائش, أي: ذو العيشة الراضيَّة. وأما لكونه راضياً بعطاء الله كما قال تعالى: [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى] [ ] .  أو كونه راضياً بقضاء الله وقدره, أي لديه تسليم بذلك, لتكون موازينه ثقيلة. وهذا كله يمكن أن يحدث في الدارين: الدنيا والآخرة.<BR>[وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَّة] أي في النار.حسب الفهم المشهور. وهذا ما يحصل في الدنيا أيضاً, بدليل قوله تعالى: [نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا][ ]  أي في الدنيا. وهذا فهم المشهور لهذه الآية لاستحقاقهم العذاب, فهم في جهنم وان لم يشعروا. وسيشعرون بذلك بعد يوم القيامة.<BR>ونحوه قوله تعالى: [وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ][ ], فإنه يمكن أن يحصل في الدنيا أيضاً. فإن الاستغاثة إنما هي من بلاء الدنيا. فيجاب دعاؤهم بمقدار ما يستحقون. فتكون إجابة ضعيفة لا تسمن ولا تغني من جوع. أو قل: انها [كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً][ ]  .</P>

<P>سؤال: ما هو هدف السورة؟.<BR>جوابه: هو تهويل يوم القيامة على العموم, ونحن وإن قلنا: إن من جملة مفاهيم السورة ما ينطبق على معلولات يوم القيامة, وهو ذهاب كل فرد إلى مكانه الذي يستحقه. ولكن - مع ذلك - فإن فردها الأهم هو يوم القيامة. ومن جملة القرائن في السورة:<BR>أولاً: إن الناس على رشدهم وعقلهم يكونون كالفراش المبثوث.<BR>ثانياً: إنَّ الجبال على ضخامتها تكون كالعهن المنفوش.<BR>ثالثاً: إنَّ التغير سوف يكون شاملا وعميقاً ومهولا. <BR>إلا انني ــ مع ذلك ــ أكرر إنَّ ذلك وإن حصل في يوم القيامة, إلا أن له مصاديق أخرى قابلة للحصول في الدنيا. ويكفينا أن نلتفت إلى أن الجبال تسير الآن بدوران الأرض, وليس فقط في يوم القيامة. <BR>سؤال: ما هو العامل في يوم بقوله:[يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ]؟.<BR>جوابه:ما ذكره العكبري قال [ ] : العامل في القارعة أو ما دلت عليه أي: مادة القارعة: قرع يقرع . وقيل: التقدير أذكر,(فيكون يوم مفعولاً به لا ظرفاً).</P>

<P>وقال في الميزان[ ] : متعلق بفعل مقدر نحو: أذكر وتقرع وتأتي.<BR>أقول: كل ما ذكر ممكن. وإن كان التأويل على خلاف الأصل.وإنما ينبغي أن نرجع الظرف إلى اللفظ نفسه.مع الإمكان. والأمر هنا ممكن لان القارعة اسم فاعل يمكن أن يتعلق بها الظرف, كما هو واضح, فيتعين.<BR>سؤال: ما هو معنى ثقل الميزان, في قوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ]. ومعنى خفة الميزان في قوله تعالى: [وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ], جوابه قال السيد الطباطبائي في الميزان [ ] : قوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَّة], إشارة إلى وزن الأعمال. وان من الأعمال منها ما هو ثقيل الميزان, وهو ماله قدر ومنزلة عند الله, وهو الإيمان وأنواع الطاعات. ومنها ما ليس كذلك وهو الكفر وأنواع المعاصي. ويختلف القسمان أثرا, فيستتبع الثقيل السعادة, ويستتبع الخفيف الشقاء.<BR>أقول: الموازين لها قسط من الحديث في علم الفلسفة وعلم الكلام. وينبغي أن نحمل فكرة عنه ثم نطبقه على القرآن الكريم.<BR>قال المشهور: إنَّ الصحيح هو البعث المادي لا المعنوي. وإن الإنسان يحيا في يوم القيامة كما يحيا في الدنيا ونحو ذلك. ويستنتج من ذلك: إن وزن الأعمال التي صرحت به الشريعة المقدسة موجود, وهو يناسب المعاد الجسماني أو المادي.<BR>ومن هنا قالوا: إن هناك ميزاناً توزن به أعمال الأفراد, فإذا رجحت الحسنات على السيئات دخل الجنة. وإذا رجحت السيئات دخل النار. ولعل هذا هو المراد من قوله: [خَفَّتْ مَوَازِينُهُ]و[قُلَتْ مَوَازِينُهُ]. <BR>ولكن ينبغي أن نلتفت إلى بعض الإشكالات التي ترد على الميزان المادي الذي عليه المتشرعة؛ لأن الذي في أذهانهم من الربط بين المعاد الجسماني والوزن المادي ليس بصحيح. بل يمكن أن نقول بالمعاد الجسماني. ومع ذلك نقول: بأن الوزن ليس مادياً بل معنوياً. وهو قواعد العدل الكليَّة عند الله تعالى ولا دليل على الربط المزبور.<BR>فإن قلت: فإن ما ورد في الكتاب والسنة من ألفاظ: الميزان, ظاهره الميزان المادي؛ لأنه تعالى خاطبنا باللغة العرفيَّة, وهو كذلك عرفاً.<BR>قلنا: إنَّ ما يستحيل الأخذ به من الظواهر لا بد من المصير إلى تأويله. كما هو الحال في كثير من آيات القرآن الحكيم, كقوله تعالى: [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ][ ] . وقوله تعالى: [عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى][ ] . وقوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ][ ] , وغير ذلك.<BR>والأدلة على تعذر فهم الميزان المادي عدة أمور:<BR>الدليل الأول: ما ذكره القاضي عبد الجبار حين قال[ ] : إنَّه ليس هناك ثقل في الحقيقة؛ لأن أعمال المكلف قد تقضت, وهي مع ذلك عرض لا ثقل فيه. وإنما أراد بذلك رجحان طاعته على معاصيه, فتشبه بما يوزن من الأشياء الثقيلة. <BR>أقول: نقتصر في هذا الدليل على قوله: قد تقضت, أي دخلت في الماضي, ولا وجود لها في يوم القيامة. وسيأتي الكلام عن بقيَّة حديثيه.<BR>وهذا في واقعه من ضيق النظر؛ لأن الفاعل المختار سبحانه وتعالى له نظر إلى مجموع الأزليَّة والأبديَّة, فهو يستوي عنده الماضي والحاضر والمستقبل, وكله بالنسبة إليه حاضر يراه ويحسه ويتفاعل معه, إذن فليس هناك ما يكون متقضياً بالنسبة إليه, حتى أعمال العباد.<BR>الدليل الثاني: إنَّ الأعمال من جنس الأعراض, والميزان المادي لا يزن الأعراض, بل يزن الأجسام والجواهر.<BR>والصلاة مجموعة حركات وأقوال, أي أعراض. إذن, فينبغي تحويلها إلى جسم ليمكن جعلها في الميزان وتأثيرها به, وهذا مستحيل لأكثر من أمر واحد:<BR>الأمر الأول: إن الجوهر والعرض مقولتان مختلفتان متباينتان, فلا يمكن تحوّل احدهما إلى الآخر.<BR>الأمر الثاني: إننا لو تنزلنا وقبلنا أنه صار جسماً, إلا أنه يصدق عليه السلب؛ لأن الجسم ليس صلاة بل جسماً جديداً في الميزان فلا ثواب ولا عقاب عليه, وليس من أعمال الفرد إطلاقاً. فإنَّ صحت الحمل هنا للعرض لا للجوهر, فإن العمل هو العرض لا الجوهر.<BR>الدليل الثالث: إنَّنا لو تنزلنا عن الدليلين السابقين وقلنا بتجسم الصلاة, فنسأل عن حجم الجسم الذي يختاره الله تعالى له.<BR>إن حجم الجسم لابد أن يختلف بأهميَّة الطاعات. فكم سوف يكون حجم الجسم بحيث يكون موافقاً للعدل الإلهي, وهو مردد لا محالة بين القليل والكثير وليس له تعين واقعي ثبوتاً. وكذلك الكلام في حجم الأجسام المتحولة عن المعاصي. ويمكن القول: بأن أيَّ حجم أختاره الله لهذه الأجسام المفروضة, سيكون ظلماً للفرد الفاعل؛ لأنه لا يمثل عمله حقيقة, ولا تحديد له ثبوتاً حتى بالعقل العملي. والظلم مستحيل عليه تعالى عقلا ونصاً. وهذا بخلاف قواعد العد الكليَّة الموجودة في علم الله سبحانه.<BR>سؤال: لماذا لاحظت الآية جانب الحسنات فقط؟.<BR>فإننا إذا لاحظنا الآية, وجدناها لاحظت جانب الحسنات فقط حيث قال: [مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ] يعني زادت حسناته و [مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ] يعني قلَّت حسناته. ولم يقل مَنْ رجحت أو ثقلت سيئاته, أو مَن قلَّتْ أو خفَّت سيئاته. فلماذا كان الأمر كذلك؟.<BR>جوابه: إنَّه قد يقال: إنَّ في العبارة تقديراً معنوياً, أي مَنْ ثقلت حسناته, على سيئاته, ومن خفّت حسناته على سيئاته. <BR>إلا إن هذا لا يتم وأن كان أوفق بالمذاق المشهوري:<BR>أولاً: لأنه خلاف الظاهر باعتباره متضمنا للتقدير. ونحن ينبغي أن نفهم الآية كما أنزلت لا كما نرغب. <BR>ثانياً: إنَّ ما عليه فهم المتشرعة: إنَّه كلما زادت حسناته بالنسبة إلى سيئاته دخل الجنة, وكلما زادت سيئاته على حسناته دخل النار.<BR>ولكن هذا بهذا المقدار ليس صحيحاً, فإن الحسنات عليها ثواب والسيئات عليها عقاب. ومقتضى القاعدة إن الفرد ينبغي أن ينال ثواب حسناته وعقاب سيئاته, لا أن مجرد رجحان الحسنات موجب لسقوط العقاب كله أو أن رجحان السيئات موجب لسقوط الثواب كله. <BR>فالذي ثقلت حسناته عليه أن ينال عقاب سيئاته ثم يدخل الجنة. وكذلك من ثقلت سيئاته عليه ان يأخذ عقابها ليدخل الجنة على حسناته,وهكذا.<BR>ثم قال سبحانه: [وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ].<BR>قال الراغب في المفردات[ ] وزن معرفة مقدار الشيء. قال تعالى: [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ][ ] , أي إن الموازين جمع ميزان. والمراد الموازين العادلة المقسطة.<BR>أقول: إنه حسب فهمي فإن جمع ميزان: ميازين وموازين. فأما أن يكونا بمعنى واحد وأما أن نفرق بينهما ببعض الفروق.<BR>أولاً: أن نقول: إنَّ الميازين جمع ميزان. والموازين ما يسمى عرفاً (عياراً)؛ لأنه يوزن بها.<BR>ثانياً: أن نقول الميازين هي الماديَّة والموازين هي المعنويَّة, كقواعد العدل الكليَّة.<BR>سؤال: لماذا أستعمل الجمع في الموازين؟.<BR>جوابه: إنَّ المراد من الجمع أحد أمور: <BR>الأول: أن يكون المقصود ما في الميزان, أي الموزونات من الطاعات والمعاصي وهي كثيرة عادة, ولا يمكن تصورها مفرداً.<BR>الثاني: أن نتصور ــ كأطروحة ــ أن لكل فعل ميزانه الخاص به, أي الفعل الكلي لا الجزئي من الحسنات والسيئات, كالصلاة والصوم والزنا والسرقة وغيرها.<BR>الثالث: إنَّ لكل فرد ميزانه الخاص به يوم القيامة, فتكون الموازين متعددة بعدد الأفراد. وهذا وإن وافق قوله تعالى: [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ][ ] . إلا انه مخالف لقوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ... وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ..] حيث أثبت لكل فرد الموازين جمعا, فيسقط هذا الوجه.<BR>الرابع: ما فيه اقتضاء الوزن, فإن الموزون على شكلين: إما فعلي وإما اقتضائي, ويعبر عنه في الفقه بالمكيل والموزون, يعني ما فيه قابليَّة الوزن وإن لم يوزن فعلاً, فيصح الجمع؛ لأنه متعدداً وليس واحداً. <BR>الخامس: تعدد دفعات استعمال الميزان. <BR>السادس: قواعد العدل الكلية, وهي كثيرة ولكل منها حقلها. <BR>وبهذا الاعتبار نسميها موازين, لكل حقل ميزانه الخاص به.<BR>سؤال: إنَّه نسب الثقل إلى الميزان في الآية, مع إن المناسب ان ينسب إلى ما في الميزان. فما هو الوجه في ذلك؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الأول: إنَّ نسمي ما في الميزان ميزاناً مجازاً, بعلاقة المظروف بظرفه.<BR>الثاني: ان نقصد بالميزان (الكفة) باعتبار إطلاق أسم الكل على الجزء.<BR>الثالث: أن نقصد من الميزان الموزون, أعني نفس الإنسان. فإذا ثقل ميزانه زادت أهميته وإذا خف قلت أهميته. بل يكون التعبير بالثقل والخفة باعتبار ذلك. وخاصة مع ملاحظة ما سبق من أن الملحوظ في الآية هو زيادة الحسنات وثقلها دون السيئات.<BR>سؤال: الرجاء إعطاؤنا فكرة عن قواعد العدل الكليَّة؟.<BR>جوابه: إن هذه القواعد يختص بعلمها الله سبحانه والراسخون في العلم من خلقه, ولذا عَّبر عن قسيم الجنة والنار سلام الله عليه بميزان الأعمال[ ]. وإنما نعرف منها قليلاً مما يمكن استفادته من الكتاب والسنة, مما يفيد إيجاد النسبة بين بعض الأعمال وبعض.<BR>فمن ذلك قوله تعالى: [إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ][ ] . وقوله سبحانه: [اصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ][ ]  .<BR>ونحوه ما ورد عن الصلاة [ ], إنها بمنزلة النهر قرب باب داره إذا أغتسل بالنهر خمس مرات, هل يبقى في جسمه من درن, وغيرها. <BR>سؤال: ما هي الحسنات المُنجيَّة؟.<BR>جوابه: هناك عدة أطروحات لذلك, وهي غير متنافيَّة بل يمكن صدقها جميعاً, بل لعله المتعين:<BR>الأولى: إن الحسنات لا تكون منجيَّة إلا بالولايَّة, وأما مع عدمها فوجودها كعدمها.<BR>الثانية: إنَّ المدار هو العلم والجهل, فحسنات العالم حسنات, وأما حسنات الجاهل فليست حسنات؛ لأنه لا يعلم انها حسنات فهي<BR>متدنيَّة إلى درجة كبيرة.<BR>الثالثة: أن يكون الفرق بينهما في وجود قصد القربة وعدمه, فمع وجوده في الحسنات فهي تثقل الميزان. وأما إذا لم تكن حسناته قربة إلى الله, كما هو الأعم الأغلب, فهي لا تثقل الميزان.<BR>الرابعة: إن المدار هو القصور والتقصير, فإن كان الفرد مقصراً رجحت سيئاته على حسناته. وإن كان قاصراً رجحت حسناته على سيئاته. ومنه القول المشهور عن المجتهد المستنبط للأحكام: إنَّه إن أصاب فله كفلان من الثواب فإن أخطأ فله كفل واحد من الثواب.<BR>قوله تعالى: [فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَّة].<BR>سؤال: لِمَ لم توجد السين أو سوف التي تفيد الاستقبال؛ لأنه حسب إرتكاز المتشرعة: إن من ثقلت موازينه فسيكون في عيشة راضيَّة, أو سوف يكون كذلك؛ لأن ذلك لا يحدث إلا حين يدخل الجنة. وأما في الدنيا أو في يوم القيامة فلن يكون في عيشة راضيَّة.<BR>أو نقول: إن ظاهر قوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَّة]. إن الثقل والرضا متزامنان. مع إن الثقل في يوم القيامة والرضا في الجنة, وهو متأخر عنه فاحتاج إلى حرف التسويف. فكيف صح حذفه؟.<BR>جوابه: إن لذلك عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ هذا مما قد يحصل في الدنيا, حين يكثر إيمان الفرد ويزداد يقينه, ويجعل الله تعالى له من أمره فرجاً ومخرجاً ويسراً, فيكون في عيشة راضيَّة.<BR>الوجه الثاني: إنَّه قد يدخل الجنة بلا حساب, فلا يرى أهوال يوم القيامة ولا صعوبة الحساب. فيكون في عيشة راضيَّة.<BR>الوجه الثالث: إنَّه اختصار في التعبير باعتبار وضوح فوز الفرد وقرب دخوله الجنة, فيكون من قبيل المجاز, باعتبار مشارفة الحقيقة.<BR>سؤال: ما المراد بالعيشة, هل ذلك في الدنيا أم الآخرة؟.<BR>جوابه: إنَّ الظاهر الأولي العرفي من العيشة هي معيشة الحياة الدنيا, إلا ان ذلك لا ينافي إرادة الراحة في الجنة خاصة أو الأعم منها. فإن الحياة في الآخرة هي الحياة الحقيقة. كما قال الله تعالى: [وَإِنَّ الدَّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ][ ] . وقال أيضاً عن الشهداء: [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ][ ] .<BR>وإنما كان ذلك الإنصراف العرفي, باعتبار تقيد محسوساتنا بالمكان والزمان والحياة الدنيا وعادتنا عليها. وإلا فمن الواضح إن الفرد الأهم والأفضل هو الحياة الأخرى. ويمكن فهم ذلك على أحد مستويين:<BR>المستوى الأول: لذة النفس, أو قل: لذة البطن والفرج في الجنة, كما هو ظاهر القرآن. قال تعالى: [وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ][ ] . وقال: [وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ][ ] .<BR>المستوى الثاني: لذة الروح. قال تعالى: [وَإِنَّ الدَّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ...][ ] , أي إن الحياة هي تلك وليست هنا. بدليل فهم الحصر من الآية, كما هو معلوم. وقال تعالى: [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ], أي بالرزق المعنوي المناسب لكونهم هناك لا لذة البطن والفرج.<BR>سؤال: كيف قال: عيشة راضيَّة؟.<BR>جوابه: إنَّ هذا تعبير مجازي حتماً؛ لأن العيشة لا تتصف بالرضا؛ لأن الرضا جانب نفسي أكثر منه خارجي, فالمراد عائش راضي أو عائش مرضي<BR> ــ بالفتح ــ قال تعالى: [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ][ ] . أو المراد عيشة مرضية لصاحبها, من قبيل استعمال أسم الفاعل بمعنى أسم المفعول مجازاً. وهو موجود في اللغة.<BR>أو هي عيشة مرضيَّة لله عز وجل, أما في الدنيا باعتبار أنه سبحانه يريد لنا الطاعات والقربات, وأما في الجنة باعتبار أنه سبحانه يريد لنا دخول الجنة. وفي القرآن الكريم ما يدل على كلا الأمرين. قال تعالى: [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةًٍٍٍٍ][ ] . وقال سبحانه: [تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرة][ ] , أي لكم وليس لنفسه.<BR>سؤال: ما معنى قوله تعالى: [فَأُمُّهُ هَاوِيَّة]؟.<BR>جوابه: إنَّ المشهور ان أمه تعبير مجازي عن جهنم باعتبار رجوعه إليها, كالمأوى, كما يأوي الطفل إلى أمه وكذلك الهاويَّة. قالوا: إنها إشارة إلى جهنم باعتباره يُلقى فيها. ولكننا إذا اقتصرنا على هذا الفهم فإنه سيرد عليهم إشكال مفاده: إن المبتدأ والخبر واحد. وتكون القضيَّة بمنزلة شرط المحمول, كأنه قال: فجهنم جهنم. وهو لغو عرفاً.<BR>فان قلت: إنَّ كلا اللفظين يراد به الإشارة إلى جهنم من زاويَّة معينة, وبعنوان غير الآخر, فتندفع اللغويَّة. قلت: هذا إنما يصح في صورة ما إذا لوحظ العنوان بما هو لا بما هو مشير إلى المعنون. مع إن الفهم المشهور كون العنوان مشيراً محضاً إلى المعنون, فرجعت اللغويَّة.<BR>والأطروحات المحتملة لـ[أُمُّهُ] ثلاث: <BR>أولا: الوالدة, وهي أقرب الاحتمالات إلى المعنى الحقيقي.<BR>ثانياً: النفس الأمارة بالسوء, فإن الإنسان قد يطيعها كما يطيع والديه, فيمكن التعبير عنها بأنها: أمه.<BR>ثالثاُ: جهنم, وهو أيضاً تعبير مجازي, لوضوح عدم انطباقه حقيقة.<BR>والأطروحات المحتملة لـ[هَاوِيَّة] ثلاث أيضاً:<BR>أولا: من (الهوى), أي الرغبة والشهوة وهذا مما لم يتعرض له المفسرون.<BR>ثانياً: ما عليه مشهور المفسرين من أنه من (الهُوي) وهو السقوط أو الانخفاض.<BR>ثالثاً: محل السقوط, ويسمى بالهاويَّة.<BR>فيكون الاحتمال الثاني إشارة إلى السقوط نفسه, أو طريق السقوط ويكون الاحتمال الثالث هو نهايَّة السقوط. <BR>ومعه تكون الاحتمالات لقوله تعالى: [فَأُمُّهُ هَاوِيَّة] تسعة, ناتجة من ضرب ثلاثة في ثلاثة. يتم توضيحها كما يأتي:<BR>الاحتمال الأول: إنَّ [أمه هاويَّة] يعني: إن والدته تتبع الهوى والشهوة. فتكون سبب فساد أولادها, كما قال الشاعر[ ] :<BR>الأم مدرسة إذا أعددتها<BR>  أعددت شعباً طيب الأعراقِ</P>

<P>وكما ورد في الحديث الشريف[ ] : يولد الإنسان على الفطرة ولكن أبواه يهودانه وينصرانه. <BR>ومن هنا يمكن أن نفهم إن قوله: [فَأُمُّهُ هَاوِيَّة] إشارة إلى العلة, لا إلى المعلول, كما عليه المشهور, أعني علة حصول الفساد للفرد. <BR>الاحتمال الثاني: إنَّ والدته هاويَّة, وهي الضالة المضلة, أو هي سبب الضلال فيكون هاوية بمعنى مهويَّة, أي مسقطة لابنها من استعمال الثلاثي محل الرباعي, وخاصة وان الرباعي من هذه المادة غير متعارف, فيمكن إستعمال الثلاثي لإفادة معناه.<BR>الاحتمال الثالث: إن والدته هي محل السقوط (المسْقَط) وهو مجاز يراد به نفس المعنى السابق.<BR>الاحتمال الرابع: إنَّ النفس الأمارة بالسوء ذات هوى.<BR>وهو أمر أكيد وواضح, ولا يكون من قبيل القضيَّة بشرط المحمول؛ لأن مفهوم الهوى لم يؤخذ في معنى النفس ليلزم ذلك.<BR>الاحتمال الخامس: النفس الأمارة بالسوء, هي ساقطة.<BR>الاحتمال السابع: جهنم هاويَّة, أي مريدة لإحراق وتعذيب الكافرين طاعة لرب العالمين. ولا يحتمل أن جهنم هاويَّة بمعنى: أنها مريدة للسوء.<BR>الاحتمال الثامن: جهنم هاوية, أي ساقطة. وهذا غير محتمل, فيكون مجازاً من محل السقوط من تسميَّة الحال باسم المحل.<BR>الاحتمال التاسع: جهنم هاوية, أي محل السقوط. ويراد بمحل السقوط أحد أمرين:<BR>الأمر الأول: المسقط نفسه, وهذا يكون بالعمل. فالمسقط هو الدنيا, والخسران يكون فيها. فالدنيا هاويَّة, بهذا المعنى وليس جهنم, إلا أنه بسبب الدنيا يكون مستمر السقوطً في جهنم.<BR>الأمر الثاني: أن يكون المسقط بمعنى نتيجة السقوط, فهو يصل بانتهاء السقوط إلى جهنم, أو إلى أحد دركاتها. أو قل يصل إلى مستواه الرديء الذي وصل إليه ثبوتاً.<BR>قال في الميزان[ ] : وقيل: المراد بأمه أم رأسه, والمعنى فأم رأسه هاويَّة, أي ساقطة؛ لأنهم يلقون في النار على أم رؤوسهم.<BR>ثم قال: ويبعده بقاء الضمير (في قوله: ماهيَّة) بلا مرجع ظاهر.<BR>أقول: هذا ليس بصحيح؛ لأننا حتى لو قلنا بأن أمه بمعنى أم رأسه, إلا أن يصلح ــ مع ذلك ــ مرجعاً للضمير, وإن فرضنا امتناع إلى (أمه) فيرجع إلى الهاويَّة.<BR>مضافاً إلى أن أصل الوجه المذكور غير تام؛ لأنه يحتاج إلى تقدير. بأن يقال: فأم رأسه, وهو خلاف الأصل وخلاف الظاهر.<BR>سؤال: وهو ما ذكره الرازي في هامش العكبري[ ] : من أنه كيف قال الله تعالى: [وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ], أي رجحت سيئاته على حسناته فأمه هاوية, أي فمسكنه النار. وأكثر المؤمنين سيئاتهم راجحة على حسناتهم.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: ما أجاب به بقوله[ ] : قوله تعالى: [فَأُمُّهُ هَاوِيَّة] لا يدل على خلوده فيها. فيسكن المؤمن فيها بقدر ذنوبه ثم يخرج منها إلى الجنة.<BR>الوجه الثاني: ما ذكره أيضاً [ ] :  قيل: المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكليَّة, وذلك موازين الكفار.<BR>أقول: إنَّه يمكن القول إن كل الناس لهم شيء من الحسنات. غير ان الحسنات تكون حقيقيَّة وثقيلة في الميزان بصحة الاعتقاد والولاية. فيمكن حمل الحسنات هنا على مطلق الحسنات. فيكون المراد من خفت موازينه, أي قلّت حسناته, أي ليست لها ثقل حقيقي وإن كانت موجودة.<BR>أما الذنوب فهي ذات ثقل حقيقي وكبير؛ لأنها تكتسب مسؤوليَّة أخلاقيَّة لا متناهيَّة؛ لأنها تعبر عن عصيان الأمر اللامتناهي في الوجود وفي الفضل والرحمة.<BR>ويمكن تقديم تفسيرين لفهم كلام المشهور إنه لا حسنات له:<BR>الأول: ما قلناه من إن الآية أشارت إلى الحسنات ولم تشر إلى السيئات.<BR>الثاني: التمسك بإطلاق الآية من قوله: [خَفَّتْ مَوَازِينُهُ], أي خفت خفة مطلقة وكاملة, ووصلت إلى درجة الصفر والعدم.<BR>فإن قلت: إنَّه مع الإنعدام لا يسمى خفة بإعتبار ان الخفة تدل على وجود شيء خفيف.<BR>قلت: نعم, لا شك أن شيئاً ما موجود. لما قلناه من ان الشخص لا يخلو من الحسنات, إلا أن هذا لا ينافي انعدام قيمتها الأخلاقية, كما ورد في مثل قوله[ ] : كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.<BR>فإن قلت: فأن العكس أيضاً صحيح, بأن نفهم من الثقل: الثقل الكبير جداً, بحيث قد لا يكون متناهياً. وعندئذ لا يدخل الجنة إلا النوادر.<BR>قلت: فيه عدة تعليقات:<BR>الأول: إنَّ التمسك بالإطلاق إلى حد ما لا نهايَّة, بلا موجب. بل بمقدار ما هو مستحقه. <BR>الثاني: إنَّنا نعترف إن من يدخل الجنة بدون حساب وعقاب قليل جداً.<BR>الثالث: إن السياق ذكر الطرفين: الثقل والخفة. وترك الوسط, أي أن الكثرة وهم المحاسبون لم تذكرهم الآية الكريمة, وفي ذلك محذوران:<BR>الأول: إنَّه يمكن القول: إن من يدخل الجنة بدون حساب صنفان: أحدهما: من كان كذلك بإستحقاقه. وثانيهما: من كان كذلك بالعفو والرحمة والشفاعة وهي واسعة.<BR>ومن يدخل النار أيضاً صنفان: أحدهما: من تكون أصول دينهم فاسدة. والثاني: من تكون فروع دينهم فاسدة. وهم أيضاً كثيرون وخاصة مع الالتفات إلى قوله تعالى: [هَلْ مِنْ مَزِيدٍ][ ] . فيستجيب الله تعالى لها, فيدفع لها مزيداً من الطعام !! <BR>إذن, فيمكن القول عن الذين لا يحاسبون هم الثلث تقريباً من البشريَّة. <BR>إذن, فالآية لم تهمل الأكثريَّة.<BR>الثاني: إنَّنا قد نتصور إن في الآية مفهوم مخالفة, باعتبار دلالتها على الحصر. والصحيح إنه لا يوجد ما يدل على ذلك, ولم تذكر الآية: كم من ثقلت موازينه أو من خفت.<BR>الرابع: من التعليقات: إن المتشرعة أخذوها ساذج في الثقل والخفة, ولكننا ينبغي أن ندقق فيها كما يدقق فيها يوم الحساب. كما ورد[ ]  في تفسير قوله تعالى: [وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ][ ] . فإذا دققنا عرفنا أن المراد هو ذلك من نتيجة الحساب, وبعد تطبيق قواعد العدل الكّليَّة, لا الخفة والثقل اللذان يظهران لأول مرة.<BR>وبالتالي نستطيع أن نقول: إنَّ الآية مستوعبة لكل البشر, وليس للبعض.<BR>وترد هنا بعض الإشكالات:<BR>الإشكال الأول: إنَّ السياق دال على منع الخلو لإفادته الحصر فيكون له مفهوم. وقد نفينا ذلك فما هو الوجه في ذلك؟.<BR>جوابه: إن استفادة منع الخلو من السياق ليس وجدانياً وإنما هو برهاني. وإلا سقط عن الإعتبار. <BR>وما يمكن أن يدعي له أحد طريقين: أما ظهور [أمّا] في الآية الكريمة. وأما صيغة الخفة والثقل باعتبار ظهورها بالحديَّة. وكلا الطريقين نتيجته إلا يكون ثالث لهما. <BR>إلا أن كلا الوجهين لا يتم. <BR>أما الطريق الأول: فإن [أمّا] لا تدل على الحصر إلا مع نفي الثالث. فإذا كان هناك ثالث لم تدل على الحصر فقولنا: الإنسان أما عربي أو هندي. فهو لا يدل على الحصر, لوجود أقسام أخرى للإنسان.<BR>أما الطريق الثاني: فلا يتم أيضاً؛ لأنه يوجد هناك ثالث لهما وهو التساوي. فلا يكون دالا على منع الخلو.<BR>الإشكال الثاني: إنَّه يمكن ترجيح ما عليه المشهور من كون [أُمُّهُ] يراد بها المعنى المجازي و [نَارٌ حَامِيَةٌ],يراد بها المعنى الحقيقي. وذلك: باعتبار صيغة التعجب:[وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ]؟.<BR>جوابه: أولاً: إنَّنا لا نسلم انها للتعجب, بل قد تكون للنفي أو للاستفهام على ما سيأتي.<BR>ثانياً: إنَّ التعجب لا ينحصر أن يكون من الأمر الحقيقي, بل لعله من الأمر المجازي. <BR>ثالثاً: لو سلمناهما, فلا يتعين أن يكون الأمر المتعجب منه هو [أُمُّهُ] أو [نَارٌ حَامِيَةٌ].<BR>إذن, يبقى التردد بين الأمرين ولا يتعين الأمر المشهوري.<BR>إن قلت: كيف فسرنا ـ في ما سبق ـ  أمه بالوالدة وبالنفس الأمارة بالسوء مع إنها تدل على جهنم, بحسب القرينة المتصلة وهي قوله تعالى: [نَارٌ حَامِيَّة].<BR>قلت: يجاب ذلك بأمور منها:<BR>أولاً: يمكن أن نسلم كما سلم المشهور بالمعنى كأطروحة, فتكون [نَارٌ حَامِيَّة]بمنزلة الخبر لـ[أُمُّهُ], وتكون [أُمُّهُ] بمنزلة المبتدأ, مستعمله مجازاً. [نَارٌ حَامِيَّة] مستعملة بالمعنى الحقيقي.<BR>ثانياً: إنَّه يمكن عكس المعنى, أي إن [أُمُّهُ] مستعملة بالمعنى الحقيقي. و[نَارٌ حَامِيَّة] مستعملة مجازاً. فالمعنى:والدته [نَارٌ حَامِيَّة] بأحد وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّ سلوكها بمنزلة النار الحاميَّة, كأن تكون عصبيَّة جداً, أو مؤذيَّة ونحو ذلك.<BR>الوجه الثاني: إنَّ والدته في جهنم, أي ذات نار حاميَّة. في تنزيل المظروف منزلة الظرف. وهي في جهنم حال كونها في الدنيا كما قال تعالى: [أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا][ ] . فتكون سبباً لضلال أولادها.<BR>فقد دار أمر الإستعمال بين أثنين: الحقيقي والمجازي. والخيارات في ذلك عديدة: <BR>منها: أن نقدم المتقدم لفظاً.<BR>ومنها: إجمال العبارة, بعد تعارض المقتضيين.<BR>ومنها: أن نقدم اللفظين: [نَارٌ حَامِيَّة] على اللفظ الواحد [أُمُّهُ] باعتبار أن قرينية اللفظين أولى.<BR>ويجاب ذلك: إنَّ اللفظين هل هما قرينتان لتتقدم على الواحدة؟ بل هما يشكلان مفهوماً واحداً متكوناً من القيد والمقيد, فتكون قرينة واحدة. وكذلك [أُمُّهُ] قرينة واحدة, فيتعارضان ويسقط التفسير المشهوري.<BR>سؤال: هل الخطاب في قوله تعالى: [مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه]. للنبي ? أو لغيره؟.<BR>جوابه: من أكثر من وجه:<BR>أولا: إنها من قبيل إياك اعني وأسمعي يا جارة. فهو بالمباشر خطاب للنبي ? وبالواسطة للمسلمين جميعاً.<BR>ثانياً: أن يكون المخاطب بالمباشرة هم المسلمون جميعاً كما قال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً...][ ] , وغيره.<BR>فإن قلت: فان كان الخطاب للعموم, فينبغي أن يقول: ما أدراكم.<BR>قلت:إن المجموع كمجموع, هو مفهوم انتزاعي ذهني لا معنى لتحمله المسؤوليَّة والتكليف. بل إن المكلف حقيقة هو الفرد. فيكون الخطاب انحلاليا إلى كل فرد. فيصح استعمال المفرد في خطابه.<BR>سؤال: ما المراد بـ[مَا] في قوله تعالى: [مَا أَدْرَاكَ]؟.<BR>جوابه: إن فيها احتمالات عديدة: التعجبيَّة والاستفهاميَّة والنافيَّة. وعلى كل تقدير, يمكن أن تكون مستعملة حقيقة أو مجازاً. بناءاً على ما قلناه في إمكان استعمال الحرف مجازاً. وبضرب تلك الثلاثة في هذين الاثنين تكون الاحتمالات ستة.<BR>وعلى ذلك فالاحتمالات الرئيسيَّة كما يلي:<BR>أولاً: التعجب, وهو أردءُ الاحتمالات؛ لان التعجب سيكون من الإدراك لا من النار الحاميَّة. كما هو مقتضى السياق. وعلى تقدير تسليمه, فيكون المراد وجود الإدراك لا نفيه. ويكون التعجب من وجوده.<BR>ثانياً: النفي أو الاستفهام وعلى كلا التقديرين: إما أن يراد به التهويل أو التحقيق.<BR>فإذا كان المراد به التهويل, فقد ذكر الإدراك هنا بصفته طريقياً (لأجل التوصل إلى التهويل). فتقل أهميَّة الاستفهام أو النفي؛ لأنه سؤال عن شيء غير مهم, وإنما هو المهم هو مركز التهويل وهو النار الحاميَّة.<BR>وإن كان المراد به التحقيق, يعني الاستفهام الحقيقي أو النفي الحقيقي, فهو احتمال ضعيف بطبيعة الحال, وإن يكن عرضه كأطروحة ضعيفة.<BR>ثالثاً: أن يكون نفياً حقيقاً طرفه الأفراد الاعتياديين, أي إنك في الدنيا لا تعلم ما في الآخرة.<BR>أو إنه نفي حقيقي طرفه النبي ?. ولكن هذا غير مناسب معه ?؛ لأنه مدينة العلم, فتتعذر الدلالة المطابقيَّة في حقه. بل المراد العلم الاستقلالي عن أرادة الله تعالى وتعليمه وهدايته. فيكون المراد الحقيقي للعلم الاستقلالي. وهو صحيح.<BR>رابعاً: أن يكون استفهاما حقيقياً, ولكن مدخوله ليس هو النار الحاميَّة, وإنما هو الإدراك,أي كيف علمت ما هي؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>أولهما: أن يكون [نَارٌ حَامِيَةٌ] بمنزلة الجواب على ذلك السؤال.<BR>ثانيهما: إنَّ ذلك دخيلاً في الاستفهام نفسه. ويكون المراد: الاستفهام عن سبب الإدراك لكونها ناراً حاميَّة. بحيث يكون اللفظ المتأخر قيداً للمتقدم.<BR>سؤال: ما هي الهاء الموجودة في نهايَّة قوله تعالى: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ]؟.<BR>جوابه: قال أبو البقاء العكبري[ ] : والهاء في [هِيَهْ] هاء السكت. ومن أثبتها في الوصول أجرى الوصل مجرى الوقف لكي لا تختلف رؤوس الآي.<BR>أقول: إنَّنا لا نعلم إن الوحي كيف نزل على النبي ?, فأنه بدوياً يحتمل فيه ثلاث أطروحات:<BR>الأولى: وجود هاء السكت.<BR>الثانية: إنَّها بفتح الياء بدون هاء.<BR>الثالثة: إنَّها بالوقف على الياء. ومقتضى القاعدة في الوقف على الحرف هو سكونها.<BR>فإذا لم نعلم ان هاء السكت نزلت بالوحي, وإنما يحتمل أن الكتّاب كتبوها هكذا في الصدر الأول. إذن, لا حاجة إلى أن نورط أنفسنا في تفسيرها والحديث عنها.<BR>ويمكن القول: إنَّهم ربما أثبتوها لحفظ رؤوس الآي: [هاويَّة, حاميَّة, ما هيه] ليستقيم النسق. ولكن, مع ذلك نقول: إنَّ النسق بدونها متحقق في الجملة بين الهاء والفتحة. فإن الفتحة بمنزلة الهاء عرفاً, وإن لم تكن كذلك حقيقة.<BR>وأبو البقاء أخذ الأمر مسلماً كأن الوحي نزل به, طبقاً لحجيَّة القراءات. ونحن نعلم إننا إنما نحتاج إلى هاء السكت عند الوقف لا عند الدرج بين الآيتين. <BR>وقال أبو البقاء[ ] : ومن أثبتها في الوصل أجرى الوصل مجرى الوقف. إلا أننا قلنا: إنَّ الفتحة بمنزلة الهاء, كما هو معلوم مع مد النَفَس بالفتحة.<BR>وعلى أي حال: فيمكن القول ــ كأطروحة ــ إن نهايات الآيات في هذه السورة أسماء فاعل بمعنى أسماء المفعول [مرضيَّة ــ مهويَّة ــ محميَّة].<BR>وقال العكبري أيضاً [ ] : و[نَارٌ حَامِيَةٌ] خبر مبتدأ محذوف, أي هي نار حاميَّة.<BR>سؤال: كل نار حاميَّة, فما اختصاص نار جهنم. ولماذا وصفها بذلك, مع عموم الوصف؟.<BR>جوابه: من وجوه:<BR>الوجه الأول: أنَ يكون للتهويل, فإن العرف يدرك أن كل نار حاميَّة, فإذا وصفت النار بأنها حاميَّة, فُهِمَ منها أنها أكثر حرارة من سائر النيران. وإلا كان وصفها بذلك لغواً.<BR>الوجه الثاني: إنَّها حاميَّة بنسبة عاليَّة جداً عن سائر النيران, بحيث تكون سائر النيران تجاهها كالعدم, كأنها باردة !! <BR>الوجه الثالث: يمكن حملها على الحرارة المعنويَّة, كحمي الوطيس في الحرب. ويكون المراد إنها معذّبة لساكنيها عذاباً شديداً, قال تعال: [كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا][ ] .<BR>ولكننا ينبغي أن نلاحظ أن [حَامِيَةٌ] ليست من الحرارة؛ لأنه لا يوجد في اللغة (حماوة) وإنما مادتها من الحماية من السوء والشر والضلال.<BR>فإن قلت: كيف تكون النار حاميَّة بهذا المعنى؟.<BR>قلت: لذلك عدة أطروحات, نذكر منها:<BR>أولاً: إذا كان المراد بها نار جهنم نفسها, فيمكن القول أن الله تعالى قد يرحم الفرد المذنب, فيضعه في درك منها أقل من إستحقاقه. ومعه يكون هذا الدرك حامياً له عن الدرك الذي يستحقه.<BR>ثانياً: إذا كان المراد بها وصف أمه, أي والدته, في بعض الاحتمالات السابقة, فإن الأم قد تكون عصبيَّة المزاج ومضرة بولدها أو بناتها, فيكون ذلك سبباً لتربيتهم الدينيَّة والمعنويَّة.<BR>أما لأنها عصبيَّة إلى طرف الحق. وأما لأنها عصبيَّة على الطرف الباطل. إلا أن حال أولادها عندئذٍ يكون في بلاء دنيوي. والبلاء الدنيوي سبب للتربيَّة المعنويَّة في نفسه. أو قل: هو مقتضي للتربيَّة ما لم يحصل المانع.<BR>ثالثا ً: إنَّ كان المراد من النار الحاميَّة: البلاء الدنيوي, فهو سبب للتربيَّة المعنويَّة, كما قلنا قبل لحظة. مما يوجب كونه حامياً عن عقوبة الآخرة.<BR>رابعاً: إذا كان المراد بالنار الحاميَّة, ما يراه الفرد في القبر والبرزخ والقيامة من مصاعب ونيران. فقد ورد[ ] : إنَّ الله تعالى قد يوجد مثل هذه المصاعب إلى عبده ليخفف عنه عذاب جهنم. أو قد لا يوجب دخوله لها إطلاقاً. ومن هنا تكون هذه النار حاميَّة من جهنم.<BR>ثم إن قوله: [حَامِيَةٌ], هو من إستعمال الثلاثي اللازم. بدلا من الرباعي المتعدي. ولو باعتبار إستعمال الثلاثي متعدياً مجازاً. والمراد أنها محميَّة لغيرها. وأما كونها حاميَّة لنفسها, فهذا معنى عاطل؛ لأنها ليست فاعلة لإحماء نفسها. ألا أن يكون أسم فاعل قد أستعمل بمعنى المفعول, أي محماة بفعل الله سبحانه أو بفعل مالك خازن النار, أو بأمر قسيم الجنة والنار.</P>

<P> </P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>سورة العاديات</P>

<P>في تسميتها كما في أغلب السور, عدة أطروحات:<BR>أولاً: العَادِياَت. وهو المشهور.<BR>ثانياً: السورة التي ذكرت فيها العَادِياَت.<BR>ثالثاً: إعطاؤها رقمها في المصحف الشريف وهو: مائة.<BR>قوله تعالى: [وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً].<BR>الواو للقسم, وقلنا - في سورة العصر -: إنَّ الخلق يقسم بالله تعالى, والله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه. فالمسألة هنا اختياريَّة من قبله سبحانه.<BR>فهو قسم لأجل التوصل إلى النتيجة, و[إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ] فالقسم لأجل التركيز والتأكيد على ذلك.<BR>سؤال: ما هو معنى العاديات؟.<BR>جوابه: قال الراغب في المفردات[ ] : العدو: التجاوز ومنافات الالتئام. فتارة يعتبر بالقلب, فيقال: العداوة والمعاداة. وتارة بالمشي فيقال له: العدو. وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة, فيقال: العدوان والعدو.<BR>أقول: والعادي أسم فاعل من عدا وهو الركض. وهو على معنيين: مادي ومعنوي.<BR>والمعنى الأول: له عدة تطبيقات:<BR>الأول: الأفراس الراكضة نحو الحرب.<BR>الثاني: الإبل الذاهبة إلى منى يوم العيد.<BR>الثالث: الحجاج الذاهبين من موقف إلى موقف.<BR>الرابع: المسافرون الذين يركبون العاديات (الإبل) في أيِّ سفر.<BR>والمعنى الثاني: أي العَدْو المعنوي وتطبيقه: شحذ الهمة للاستهداف لأجل نتيجة معينة. وله مصاديق عديدة دنيويَّة وأخرويَّة, كطلب العلم وطلب رضا الله وطلب الجنة.<BR>هذا إذا أخذناها من العدو وهو الركض.<BR>أما إذا أخذناها من الاعتداء, وهو ــ حسب فهمي ــ أعم من السوء والخير, وإن كان عرفاً أقرب إلى السوء. وذلك بأن يراد به تحميل المسؤوليَّة تحميلاً ضخماً ومهماً, سواء كان بالخير أو بالسوء.<BR>فيكون له عدة مصاديق, ومصاديقه بالسوء: المعتدون أو الأعداء. قال تعالى: [غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ][ ] , وهو في الآيتين أسم فاعل, إلا إنه هنا جمع وهنا مفرد.<BR>وكذلك من مصاديقها: بلاء الدنيا من حيث انتسابها إلى الأسباب كالمرض والفقر وظروف التقيَّة. فانه نحو من تحمل المسؤوليَّة<BR>ــ كما قلنا ــ. أما من حيث انتسابها إلى الله فهو خير؛ لأنها من أجل الامتحان واختبار الصبر.<BR>سؤال: ما هو الحديث في قوله: [ضَبْحَاً]؟.<BR>جوابه: قال في الميزان[ ] : الضبح, صوت أنفاس الخيل عند عدوها. وهو المعهود المعروف من الخيل.<BR>وقال الراغب[ ] : قيل: الضبح صوت أنفاس الفرس تشبيهاً بالضباح وهو صوت الثعلب. وقيل: هو خفيف العدو,وقد يقال ذلك للعدو. وقيل: الضبح كالضبع, وهو مدّ الضبع في العدو. وقيل: أصله إحراق العود, وشبه عَدْوَهُ به كتشبيهه بالنار في كثرة حركتها.<BR>أقول: من الواضح أن الراغب لم يجزم بشيء من هذه الآراء, وإنما عرضها كأطروحات مصححة للمعنى. كما يمكن أن يكون المراد الرطوبة الخارجة من فم الفرس عند الركض. وأستشكل المشهور على هذا القول؛ لأن الإبل والإنسان لا تخرج منه رطوبة, بل يجف فمه عند العدو. فمع تعين هذا الوجه, يتعين أن يكون المراد بالعاديات الجياد.<BR>سؤال: ما هو إعراب: [ضَبْحَاً]؟.<BR>جوابه: لذلك عدة أطروحات:<BR>الأولى: ما قاله العكبري عنها[ ] : مصدر في موضع الحال, أي والعاديات ضابحة.<BR>الثانية: منصوب على إنه مفعول مطلق لفعل من غير لفظه.<BR>الثالثة: منصوب على إنه مفعول به لفعل محذوف تقديره أضبحي ضبحاً,أي أركضي ركضاً. وفرقها عن الثانية أنها هنا تصح لو كانت معرفة وهناك تصح لو كانت نكرة. كأنه قال هنا: أركض الركض.<BR>وكلا الأطروحتين الأخيرتين قابل للمناقشة:<BR>أما الأولى؛ فلأنه لا يصح مفعولاً مطلقاً إلا بتقدير أمر قبله, أي أضبحي ضبحاً, وهو هنا مما لا يصح؛ لأنه مناف للقسم. فلو صدق للزم إلغاء القسم. وإنما قد يصح إذا كان على نحو النداء, يعني يا أيها العَّاديات أضبحي ضبحاً.<BR>وأما الثاني: فلأنه يلزم منه التكرار بالمعنى؛ لأن العاديات بمعنى الراكضات. فيكون معنى الركض مأخوذاً في كلا اللفظين: العاديات وضبحاً, وهو خلاف الظاهر. فإن المفروض تعدد المعنى كما لو فهمنا من الضبح الرطوبة الخارجة من فم الفرس. فيكون حالاً أو في موضع الحال, كما قال العكبري.<BR>إلا أن هذه الكبرى غير تامة؛ لأن التكرار وإن كان غالباً سمجاً, ولكن مع ذلك قد يكون صحيحاً, كما في المفعول المطلق. فيكون احتمال كونه مفعولاً مطلقاً باقياً إلى هذا الحد من التفكير.<BR>ثم إن معنى الآية الكريمة: العاديات تضبح ضبحاً. له نحو من الحث السياقي, وإن لم يكن أمراً مقدراً. فكأنه تشجيع على العدو والضبح, فله إفادة الأمر وإن لم يكن أمراً.<BR>إن قلت: أمر العاديات بأن تعدو, هو من تحصيل الحاصل, وهو لغو أو مستحيل.<BR>قلت: جوابه من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: أن نفسر الضبح بغير العدو وهو الركض. بل نفسره بأنفاس الفرس أو برطوبة فمها. فينسد السؤال.<BR>الوجه الثاني: أن نقول أنه أمر بزيادة العدو وسرعته, بحيث يكون العدو السابق عليه منزلاً منزلة العدم.<BR>الوجه الثالث: إنَّه لو كان المنظور في عنوان العاديات, هي كونها متصفة فعلاً بذلك كان أمرها محالاً, بعد التنزل عن الوجوه السابقة, إلا أنه يمكن القول إن النظر في هذا العنوان إلى الذات لا إلى الصفة, يعني ذوات العاديات لا بصفتها عاديات. وهو استعمال عرفي أحياناً, باستعمال الإشارة إلى الذات بالصفة الغالبة أو الأهم فيها.<BR>فإن قلت: يمكن أن تكون [ضَبْحَاً] مفعولاً به للعاديات باعتبارها أسم فاعل, فهو يعمل في نصب المفعول.<BR>قلت هذا لا يتم لعدة وجوه.<BR>أولا: إنَّ (عدا) لازم. فإذا تعدى ينبغي أن يكون بحرف, لا بالمباشرة. تقول: عدا عليه. والحرف غير موجود.<BR>ثانياً: إنَّ هذا مفعولا به, فما هو فاعله؟.<BR> له أحد تقديرين كلاهما رديء:<BR>1- أن يكون ضميراً تقديره هي. <BR>2- أن يكون أسم الفاعل مستغنياً بالمفعول به عن الفاعل. وهو رديء أيضاً, إذ لا يكون أهم من الفعل. وتلك صفة لا تكون للفعل, فكيف تكون له.<BR>ثالثاً: إنَّه بعد التنزل عن الوجهين السابقين, فإنه يكون فرض المفعول به معناه: إنَّ العدو أو الاعتداء على الضبح نفسه. وهو سخف في التفكير.<BR>سؤال: عن معنى قوله تعالى: [فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً]؟.<BR>جوابه: قال العكبري[ ] : قدحاً مصدر مؤكد؛ لأن الموري: القادح.<BR>أقول: أي, يكون مفعولاً مطلقاً, كأنه قال: القادحات قدحاً. والأطروحات التي قيلت في [ضَبْحَاً] تقال هنا أيضاً.<BR>أولاً: إنَّها مفعول به لفعل مقدر, كأنه قال: أقدحي قدحاً. والتقدير خلاف الأصل, ولا يتعين إلا مع الانحصار.<BR>ثانياً: إنَّها مفعول به للموريات. ولا يرد الإشكال السابق؛ لأن أوري متعدِ بنفسه. ولكن ترد عليه الإشكالات الأخرى.<BR>ثالثاً: إنَّها مصدر سد مسد الحال, أي الموريات إيراء, أي حال<BR>كونهم كذلك.<BR>سؤال: هل إن المُورِياَت والقادحات بمعنى واحد, كما سبق أن سمعنا من العكبري في قوله: لأن الموري القادح. فإن المادتين إن كانتا بمعنى واحد, كان السياق بمنزلة التكرار. وهو رديء؛ لأن الكلمتين متتابعتان لا فاصل بينهما. فيتمكن أن يغني احدهما عن الآخر.<BR>جوابه: إنَّهما ليسا بمعنى واحد, بل بمعنيين لعدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ أورى النار, أي أشعلها فارتفع لهبها, يعني أججها. وأما القدح فهو إيجادها بعد العدم عن طريق إيجاد الشرار. فقد ذكر العلة بعد المعلول.<BR>الوجه الثاني: أن نحمل مادة الموريات على الاقتضاء, ومادة القدح على الفعليَّة. كما لو أمرنا شخصاً عمله الإشعال بالإشعال.<BR>الوجه الثالث: أن نحمل الموريات على القليل من النار, والقدح على الكثير منها عكس ما قلناه في الوجه الأول. ولكن يمكن فهم ذلك كأطروحة بعد ضم مقدمتين:<BR>الأولى: إنَّ القدح بمعنى مطلق النار لا خصوص الشرار.<BR>الثانية: إنَّ القدح هو الشرار, ولكن زيادة النار تحتاج إلى قدح جديد (مجازاً أو حقيقة).<BR>فحمل معنى القدح على النار المتزايدة, يكون ترقيا من الأقل إلى الأكثر, وليس تــكراراً.<BR>فإن قلت: إنَّه بغض النظر عما قلناه في ثالثاً, لماذا تقدم ذكر المعلول على العلة, وكان الأنسب العكس, أي: قدح فأورى.<BR>قلت: يجاب بأحد وجهين: <BR>أولاً: حفاظاً للنسق القرآني والسياق اللفظي معاً.<BR>ثانياً: إنَّه ليس فيها فاء دالة على الترتيب ليدل على تأخر العلة عن المعلول. ولذا يكون باختياره تقديم أياً منهما شاء.<BR>بل ما وقع أنسب, لأنه ابتداء بما هو أهم وهو النار العاليَّة ثم يكرر بيان سببه وهو القدح البسيط.<BR>سؤال: عن معنى قوله تعالى: [فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً]؟.<BR>جوابه: المغيرات, أسم فاعل من أغار وهو الهجوم بدون سابق إنذار. وكان معروفاً لدى العرب وعليه قوت الغالب منهم. وهو ينتج القتل والسرقة. إلا أنه يمكن التجريد عن الخصوصيَّة للإخبار عن كل حرب ومنازلة, فإنها إغارة على أي حال, وهذا كما يتفق بالسلاح القديم, قد يحصل بالسلاح الحديث أيضاً.<BR>والصبح, له عدة احتمالات:<BR>أولاً: الفجر, وهو الذي يفسر به قوله تعالى: [وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ][ ]. أي: الفجر, مع احتمال كونه من استعمال الخاص بالعام.<BR>ثانياً: طلوع الشمس.<BR>ثالثاً: إنَّكشاف الحال قبل الطلوع عند استيقاظ العصافير والدجاج والذباب.<BR>رابعاً: أول النهار, كما سنسمع من الراغب.<BR>خامساً: طلوع الحمرة المشرقيَّة, وهو ما يظهر من الراغب في المفردات. حيث قال[ ] : الصبح والصباح أول النهار. وهو وقت ما أحمر الأفق بحاجب الشمس. قال تعالى: [أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ],  [فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ].<BR>أقول: وهو طلوع الحمرة المشرقيَّة, وتكون في نصف الوقت بين طلوع الفجر وطلوع الشمس تقريباً.<BR>سؤال: لماذا قيد الإغارة في الصباح؟.<BR>جوابه: لأكثر من وجه:<BR>الأول: إنَّه قيد غالبي يمكن تجريده عن الخصوصيَّة. وتركيز الأهميَّة عرفاً في هذه القضيَّة على الإغارة لا على وقتها.<BR>الثاني: إنَّ وقت الصبح مناسب للإغارة والحرب, من أكثر من ناحيَّة:<BR>أولاً: لغفلة العدو فيه ونوم أهله.<BR>ثانياً: إنَّه يبقى للجماعة المغيرة زمان كاف لتنفيذ الهدف, خلال نهار كامل, قبل أن يحجز بينهما ظلام الليل.<BR>سؤال: عن معنى قوله تعالى: [فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً].<BR>جوابه: النقع والقتير والعتْيرَ والقَتاَمَ, هو الغبار. والخيل حينما تضرب على الأرض الرمليَّة فإنها تثير غباراً كثيراً.<BR>قال الشاعر في مدح أمير المؤمنين ?[ ] .:</P>

<P>جبريل نادى معـــــلناً<BR>والمسلمون قد أحدقوا<BR>لا سيف إلا ذوالفقــار<BR>  والنقع ليس بمنجلي<BR>حول النبــي المرسل<BR>ولا فتــى إلا علـــي</P>

<P><BR>والمراد بالفاعل في الآية: فأثرن ــ فوسطن ــ على المشهور: الخيل المهاجم للعدو. ونون النسوة أما أن يعود على العاديات, وهي مؤنث مجازي, أو إلى الذات المؤنثة الحقيقيَّة, ويراد بها الخيل.<BR>والضمير [بِهِ] وقد أعيد مرتين, ويوجد في مرجعه احتمالان:<BR>أولاً: الضبح, كما هو ظاهر الميزان[ ] . وهو نحو من الإسناد المجازي.<BR>ثانياً: الصبح, فتكون الباء بمعنى في. ويرد عليه: إنَّ الباء ظاهرها السببيَّة لا الظرفيَّة, وصرفها عن الظاهر خلاف الظاهر.<BR>فإن قلت: ولكن استعمالها بمعنى (في) جائز, إما حقيقة أو مجازاً, كما هو مقرر في علم الأصول.<BR>قلت: ولكن مع ذلك خلاف الظهور الأولي للآية. فإن ظهورها بالسببيَّة أوضح. وعندئذٍ لا يكون مرجع الضمير هو الصبح بل شيء آخر, كالعَدْو أو القتال. أي: بسببه.<BR>وإن قلت: إن فهم القتال من السياق, وإن كان ممكناً, إلا أنه يحتاج إلى نحو من التقدير.<BR>قلت: يمكن الاستغناء عن معنى القتال, إلى معنى العدو, وهو مذكور في الآية في مادة: [الْعَادِيَاتِ].<BR>والعدو يثير النقع, فيرتفع الإشكال مع حفظ الباء للسببيَّة.<BR>وقوله تعالى: [فَوَسَطْنَ], أي: توسطن في داخل الجمع وخلاله وفي قلبه. والمراد به كتيبة العدو, كما في الميزان[ ] . وقال: أو المعنى فتوسطن جمعاً ملابسين للنقع. أقول: على معنى أن تكون [بِهِ] قيداً لما بعدها, وهو الجمع لا لما قبلها. فتأمل.<BR>قال[ ] : وقيل: المراد توسط الآبال جمع منى. وأنت خبير بأن حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على أبل الحجاج الذين يفيضون من جمع إلى منى, خلاف ظاهرها جداً. أقول: سيأتي عما قليل بعض الكلام عن ذلك, فأنتظر.<BR>والآن, لابد من تطبيق معاني الآيات على المعاني الخمسة للعاديات, بعد أن توضحت لنا تفاصيل المعاني. وذلك كما يلي:<BR>المعنى الأول: وهو المشهور جداً بين المفسرين, بما فيهم صاحب الميزان حيث قال[ ]  : وقيل والمعنى: فاقسم بالخيل الهاجمات على العدو بغتة في وقت الصبح.<BR>المعنى الثاني: الإبل الذاهبة إلى منى, أو إلى أي مكان. ويفترض إنها لا تمشي الهوينا بل تؤمر بالركض وتحث عليه للوصول إلى الهدف في أسرع وقت. فنطبق ذلك على تفاصيل الآيات: <BR>[ضَبْحَاً], والضبح كما عرفنا صفة للخيل, ولكن يمكن أن يكون صفة للإبل مجازاً.<BR>[فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً], فإن الإبل ليس فيها نعل لتقدح الأرض. فلابد من حمله على المجاز. لأن القدح بمعنى قدح العود الذي يدل على الحرارة, والسرعة أيضاً تنتج الحرارة. فتكون قابلة للانطباق على الإبل والأفراس معاً [فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً] يمكن تجريدها عن خصوصيَّة الإغارة الحربيَّة إلى كل مجيء بهمة وبسرعة, فهو بمنزلة الغارة.<BR>[فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً], ويكون المراد به الإبل, فرقها عن الفرس إن الفرس ترجع رجليها إلى الخلف, فتثير غباراً غليظاً. وهو غير موجود للإبل. غير إن الغبار موجود في الجملة, على أي حال.<BR>[فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً], يحتمل فيها جمع الناس, إذا حملناها على مطلق السفر, ويحتمل فيها الأرض التي تسمى جمع. ولها ثلاثة أسماء: جمع والمزدلفة والمشعر.<BR>ومن فسر العاديات بالإبل, فسر[فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً] بالذهاب إلى منى في صبح عيد الأضحى. قال صاحب الميزان[ ] : وقيل المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى. والسنة أن لا ترتفع حتى تصبح. <BR>أقول:ولكن حسب تفسيرنا يكون ذلك واضح الإشكال؛ لأن جمع هو المشعر. فيكون المراد أنهم دخلوا المشعر لا أنهم خرجوا منه .<BR>فإن قلت: فكيف يكون زمن الصبح؟.<BR> قلت: إنَّ دخول المشعر يكون في الصبح, من الفجر إلى طلوع الشمس. <BR>المعنى الثالث: الناس الحجاج. والنتيجة واحدة مع الوجه السابق؛ لأن الحجاج لا يكونون راجلين بل راكبي الإبل.فهنا نقصد الراكب, وهنا قصدنا المركوب وهو الإبل.<BR>المعنى الرابع: السالكون طريقة الهدايَّة والرحمة. ونطبقه على تفاصيل الآيات:<BR>[ ضبَحْاً ], شدة التعب الذي يصيبهم في سبيل الله أو في تركهم الدنيا وتحمل بلاءها وصعوباتها.<BR>[فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً], إما أن نقول: إن القدح هو العطاء والنور الإلهي.وإما أن نقول:إنه السرعة في السير والتكامل.<BR>[فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً], يعني المقابلات صبحاً, أي حين الفجر, وهو مصداق لقوله تعالى: [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ][ ] , ويمكن تفسير الصبح بمن ترك ظلام المطامع الدنيويَّة, أو بإشراق شمس الهدايَّة والكمال.<BR>[فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً], فإن الغبار مما لا مناص منه من أثر ضغط النفس والعقل والشبهات والآمال القصيرة.<BR>[فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً], إن قلنا: إن الجمع جمع الناس. فهو قد توسطهم قبل الوصول إلى تلك الدرجة من الكمال. وهو الملأ الأعلى أو نحوه. وإن قلنا: إنه أسم لأرض المشعر, فهي الأرض المقدسة أو المرتبة التي يصل اليها الإنسان.<BR>المعنى الخامس للعاديات: إنها تنطبق على كل ذي هدف كطالب العلم وطالب الشهرة وطالب المال وأضاربهم. يريد السرعة والهمة في الحصول على نتائجه. وعندما يصل إليها يصدق قوله: [فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً]. أما قوله: [فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً], فهي الموانع والمعوقات عن الوصول إلى الهدف كما قال الشاعر: </P>

<P>تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. <BR>بل قد يكون بفعل الفرد نفسه من حيث لا يعلم, أو من نتائج عمله.<BR>و[جَمْعاً], يمكن أن نفهم منه الهدف نفسه, أو أن نفهم منه جمع الناس المستهدفين لنفس الهدف. وكأنه يريد المال فأصبح من الأثرياء أو بينهم.<BR>إلى معانٍ أخرى محتملة للسياق, لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها. <BR>ولابد أن نلتفت إلى إن هذه السورة قد حفظت سياقاً ونسقاً للقسم. وهو يتغير بعد ذلك مباشرة لحكمة ندركها, وهو الإشعار والإشارة إلى الاثنينية بين القسم والمقسم له. أو قل: الإشارة إلى النتيجة بعد الانتهاء من المقدمة ثبوتاً أو إثباتاً. <BR>سؤال: ما هو معنى: [كَنُودٌ], في قوله تعالى: [إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ]؟.<BR>جوابه: قال الراغب في المفردات[ ] : قوله تعالى: [إنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ],أي كفور لنعمته لقولهم: أرض كنود إذا لم تنبت شيئاً. وأيده صاحب الميزان قال[ ] :الكنود الكفور.<BR>أقول: وهو استعمال مجازي لطيف. وإشكاله: إنه حينئذ ينبغي أن يقال: بربه لكنود؛ لأننا نقول: كفر به لا كفر له.<BR>فإن قلت: فإن استعمال اللام بمعنى الباء مجازاً محتمل.<BR>قلت: هو محتمل, ولكنَّه لا يتعين إلا مع الانحصار, وسنبين إنه غير منحصر. فيتعين المعنى الحقيقي للام.<BR>إذن,ليس المراد بالكنود الكفور.<BR> نعم, هم فهموا ذلك من الأرض غير المنتجة, والكافر بمنزلتها. ولكنَّه مع ذلك, ليس هذا معنى منحصراً. فإن الإنسان غير المنتج له عدة معاني:<BR>الأول: إنَّ الإنسان غير نافع لربه كالأرض التي لا تنبت شيئاً. من حيث أن الله غني عن العالمين. كما في الدعاء[ ] : إلهي أنت الغني بذاتك أن يصل إليك النفع منك فكيف لا تكون غنياً عني.<BR>الثاني: إنَّ الإنسان قليل الطاعة. كما قال تعالى: [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ][ ] . [وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً][ ] . <BR>الثالث: إنَّه قليل الالتفات إلى الآخرة وكثير الغفلة عنها. كما قال تعالى: [وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ][ ] .<BR>الرابع: إنَّ الآية الكريمة لم تتعرض لمتعلق القلّة, وإن الإنسان كنود من أيِّ جهة. بل تركت الباب مفتوحاً لأجل أن يملأ بأيِّ شيء معقول يمكن أن يخطر على البال. فيمكن أن يقال: إن المراد قلة الاهتمام بأمور الدنيا وقلة الأخذ بزبرجها وزخرفها قربة إلى الله تعالى. ومعنى القربة مفهوم من قوله تعالى: [لِرَبِّهِ].<BR>فإن قلت: فإنَّ هذا لا يحصل إلا للقليل, مع أنَّ الألف واللام جنسيَّة, فيدل على أتصاف نوع الإنسان بالصفة, لا حصة منه. فيدل على فساد المعنى الرابع.<BR>قلت: جوابه من عدة وجوه: منها:<BR>أولاً:أن نقيد الإنسان بالإنسان المهتم بآخرته. وهو كنود من الدنيا ومن مصالحه الشخصيَّة. إلاّ أن هذا الوجه على خلاف الأصل.<BR>ثانياً: إنَّ الإنسان له أطلاقان: <BR>أحدهما: مطلق الإنسان. وله حصص كثيرة, كالعربي والهندي والمؤمن والفاسق.<BR> وثانيهما:الإنسان المطلق, وهو صنف واحد. وهم أولياء الله. وإن قسنا إنسانيتهم إلى مطلق الإنسان كانت بمنزلة قياس الوجود للعدم. ومعه يمكن أن نفهم منها الإنسان المطلق لا مطلق الإنسان.<BR>فإن قلت: ولكن الألف واللام هنا جنسيَّة فتشمل كل البشر.<BR>قلنا: نعم جنسيَّة, والألف واللام الجنسيَّة تستوعب كل افراد مدخولها. فإذا فهمنا من مدخولها الإنسان المطلق استوعبت أفراده وليس لها أن تستوعب كل افراد الإنسان.<BR>فالإنسان المطلق صفته أنه لربه لكنود. وليس الكافر, كما عليه مشهور المفسرين.فقد أراده المفسرون شراً وأردناه خيراً ! ! <BR>وكذلك على الوجهين في قوله تعالى: [وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ].<BR> فإنَّ الخير يمكن فهمه على وجوه:<BR>الأول: المال, وعليه المشهور. كما في قوله تعالى: [إنَّ تَرَكَ خَيْراً...][ ] , أي: ثروة. <BR>الثاني: مطلق الخير, كما أحتمله الطباطبائي?حيث قال[ ] : "ولا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقه. ويكون المراد: أن حب الخير فطري للإنسان. ثم إنه يرى عرض الدنيا وزينتها خيراً, فتنجذب اليه نفسه, وينسيه ذلك ربه أن يشكره".<BR>أقول: وهذا معناه إن السياق غير مختص بالكافر والفاجر, لأنَّ كل الناس مجبولون على ذلك. وكذلك الحال بناء على الوجه الأول. فيكون هناك تنافٍ بين التفسير المشهور للآيتين. ولا يبقى وجه للإشارة لحب الكافر بالخصوص للمال, مع حب الجميع له.<BR>الثالث: الخير المطلق. وهو الله سبحانه. فانه عين الكمال وحقيقته. حتى سمي بالخير في قوله تعالى: [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً][ ] .  على مناقشة سبقت في سورة الفلق.<BR>فيكون المعنى: وإنه لحب الله لشديد. فيكون السياق دالا على الفضلاء لا على الفجار. <BR>سؤال: ما هو معنى [شَهِيدٌ] في قوله تعالى: [وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ].<BR>جوابه: إن فيه عدة أطروحات:<BR>الأطروحة الأولى: ما عليه المشهور من أن الشهيد بمعنى الشاهد. قال في الميزان[ ] : فالمعنى: وان الإنسان على كفرانه بربه شاهد محتمل. <BR>أقول: يعني: متحمل. فالآيَّة تكون في معنى قوله تعالى: [بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ][ ] . <BR>الأطروحة الثانية: إنَّه بمعنى المقتول في سبيل الله. إما حقيقة, أي في حرب جهاديَّة صحيحة. أو لقتله الشهوات والنزوات من نفسه.<BR>فإن قلت: فإن هذا المعنى لا يناسب قوله: [عَلَى ذَلِكَ]. فيكون هذا قرينة على فهم المشهور. باعتبار أنه يبصره ويراه.<BR>قلت: يمكن أن يكون معنى: [عَلَى ذَلِكَ]: إضافة على ذلك. أو إلى ذلك. فكأنه معنى على معنى, أو مضمون إلى مضمون. فلا يكون الجار والمجرور متعلقاً بشهيد, كما يناسب فهم المشهور. بل متعلقاً بمحذوف يعني كائناً على ذلك.<BR>الأطروحة الثالثة: إنَّه مشاهد لرحمة الله الخاصة مضافاً إلى الرحمة العامة.<BR>الأطروحة الرابعة: إنَّه مشاهد لما ذكر في السورة من أفعاله وأفعال غيره, كالعاديات والموريات وغيرها. إلا أنه يلزم على هذا الوجه أن تكون [عَلَى] بمعنى اللام.<BR>الأطروحة الخامسة: إنَّه بمعنى أداء الشهادة يوم القيامة لما رأى وسمع. فيكون شاهداً على نفسه وعلى غيره.<BR>فهنا نرى, إنه قد انسجمت الآيات الثلاث, على بعض هذه الأطروحات, على أرادة الخير.<BR>فإن قلت: إنَّ هذا مناف مع القرائن الآتيَّة وهي قوله تعالى: [أَفَلا يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ]. وهو سياق التهديد, وهو ينافي ما قلناه من إرادة الخير, إذ لا حاجة معه إلى التهديد.<BR>جوابه: إنَّه بناء على فهمنا يكون الاستفهام إثباتياً لا أستنكارياً. فلا يكون للتهديد.<BR>يعني: إنه يعلم ذلك كله, لا أنه جاهل به أو بمنزلة الجاهل.<BR>سؤال: عن معنى قوله تعالى: [وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ].<BR>جوابه: تقدم معنى الخير وحب الخير. وقد فسره المشهور, بأنه حب المال, وأنه شديد البخل به لزيادة حبه له.<BR>ويرد عليه:<BR>أولاً: إنَّ حب الخير بالمال, قد يقتضي العكس. وهو زيادة التصدق به وإنفاقه.<BR>ثانياً: بالإمكان القول بأن الشديد ليس صفة للحب. وإلا لكان الأنسب استعمال (الباء) أو (في) مع أنه أستعمل اللام. وإنما هو شديد لأجل أو من أجل حب الخير. وأما متعلق الشديد فمحذوف, ومضمونه أنه لا تأخذه في الله لومه لائم, يعني في الخير أيا كان معناه.<BR>سؤال: ما هو الوجه في استعمال: [مَا فِي الْقُبُورِ], بدل مَنْ في القبور. مع إن المهم هو الحديث عن انبعاث الموتى, وهم مَنْ يعقل؟.<BR>جوابه: لا كثر من وجه:<BR>أولاً: إنَّ الإنسان بما هو إنسان, هو ممن يعقل. ولكن المراد هنا جسمه أو جنازته أو التراب الحاصل من ذلك. وكلها لا تعقل.<BR>ثانياً: إنَّ خروج الموتى يتم ببعثرة التراب في القبور لإخراج مَنْ فيها. وهذا يفهم من السياق بالدلالة التضمنية لا المطابقيَّة, أي حفر القبور لإخراج الموتى منها.<BR>سؤال: وهل تتوقف قدرة الباري عز وجل على إخراج الموتى ببعثرة القبور؟.<BR>جوابه: من وجوه:<BR>أولاً: إنَّه كلام على مقتضى القانون الطبيعي والأسباب الاعتياديَّة. فيكون هنا بمنزلة المجاز. إذ ليس المقصود بعثرة القبور حقيقة بل مجرد إخراج الموتى. <BR>ثانياً: إنَّه كلام مبني على الفهم العرفي العام, وإن لم يكن على القانون الطبيعي. <BR>ثالثاً: إنَّه مجاز إذا لم نقل بالبعث الجسماني؛ لأنه لا حاجة إلى البعثرة يومئذٍ.<BR>رابعاً: إنَّه مجاز من حيث إن أكثر البشر لا قبور لها. بل لا يوجد قبور يومئذٍ إطلاقاً. وإنما يراد بها إمكان تواجد بقايا تلك الأجساد.<BR>سؤال: لماذا تقدمت الهمزة على الفاء في قوله تعالى: [أَفَلا يَعْلَمُ...]؟.<BR>جوابه: إنَّه أفصح في اللغة العربيَّة. كقوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...][ ] . [أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ][ ] . [أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ][ ] . [أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ][ ] . ولا فرق في ذلك بين الإثبات والنفي.<BR>فإن قلت: لمجرد التوضيح: إنَّ (الفاء) متقدمة في قوله تعالى: [فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ][ ] . فليكن هنا كذلك.<BR>قلت: إنَّ الهمزة في المقيس عليه أصليَّة وليست استفهاميَّة. والتقدم للاستفهاميَّة لا للأصليَّة. وهذا رباعي(مزيد فيه) من جاء. ومعناه قُهر على المجيء أو حُمل عليه حملا. باعتبار أن المخاض يقهر المرأة ويزعجها.<BR>سؤال: عن معنى (الفاء) في قوله تعالى: [أَفَلا].<BR>جوابه: لها أطروحتان:<BR>الأولى: إنها للتفريع لإعطاء النتيجة من قوله: [إنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ] وهي نتيجة عقوبة وتهديد, على المشهور.<BR>الثانية: إنَّها (فاء) جواب الشرط متقدمة. كأنها داخلة على قوله تعالى: [إِنَّ رَبَّكَ]. أو إن جملة: [أَفَلاّ يَعْلَمُ], جواب شرط متقدم.<BR>وهذا واضح, لو قلنا بضرورة دخول (الفاء), ولو باعتبار أنه أفصح, والقرآن يختار الأفصح. <BR>وأما إذا لم نقل بضرورتها, وقلنا إن عدمها لا ينافي الفصاحة. أو قلنا إن للقرآن أن يختار بعض ما لا يتفق مع الفصاحة. من باب: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ][ ] . يعني حتى ما ينافي الفصاحة. إذن, يتعين أن تكون (الفاء) تفريعيَّة, لظهورها الأولي في ذلك, والشك في كونها شرطيَّة.<BR>سؤال: عن زمن العلم في قوله: [أَفَلاّ يَعْلَمُ]؟.<BR>جوابه: فيه عدة أطروحات من حيث الزمان:<BR>الأولى: إنه يعلم بيوم القيامة في حينه. وهذا هو المناسب مع كونه كافراً به الآن, كما عليه المشهور.<BR>الثانية: إنَّه يعلم بها الآن؛ لأنه مؤمن بيوم القيامة.<BR>الثالثة: إنَّه خطاب لفساق المسلمين, يعني: كيف تذنب وأنت تعلم بيوم القيامة؟.<BR>وكل هذه الأطروحات صحيحة بمعنى من المعاني, لكنَّهم أجناس يختلفون في ذلك, فالكافر تنطبق عليه الأطروحة الأولى والمؤمن تنطبق عليه الأطروحة الثانية والفاسق الثالثة؛ لأن العلم من الأمور المشككة التي قد يحصل التدرج فيها.<BR>سؤال: ما المراد بقوله تعالى: [وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ]؟.<BR>جوابه: ما في الصدور هي النوايا والارتكازات والذكريات وغير ذلك, مما في باطن النفس.<BR>والمراد بالتحصيل إما ثبوتي وإما إثباتي. فما يحصل ثبوتاً هو بروز المرتكزات من القوة إلى الفعل. وذلك عن طريق أسبابها في الدنيا. وأما الإثباتي, فهو بمعنى التعرف عليه والتذكير به في الآخرة. <BR>وأما عن الصدور فهي كوامن النفس ومحتوياتها. وإنما عبَّر بالجمع باعتبار تعدد الأفراد المقصودين.<BR>وليس الآن محل الكلام في التفريق بين القلب والصدر في القرآن الكريم, بل له فرصة أخرى إن شاء الله تعالى. وإنما لنا الآن أن نعدهُما بمعنى واحد, كما هو إحدى الأطروحات. فيكون المراد بالصدور أحد معنيين:<BR>أولاً: كوامن النفس اللاشعوريَّة.<BR>ثانياً: ما هو مخزون في الذاكرة.<BR>فهنا مستويان من التفكير: <BR>المستوى الأول: إنَّ الذاكرة من سنخ العقل, والعقل في الرأس عرفاً وليس في الصدر. وإنما في الصدر العواطف والكوامن.<BR>المستوى الثاني: إنَّ الذاكرة مناسبة مع تحصيل الآخرة وحسابها؛ لأنه يتذكر ما هو مر عليه في الدنيا. <BR>وفي الحديث[ ] : في الدنيا عمل ولا حساب وفي الآخرة حساب ولا عمل. إذن, فمن الممكن جعل الصدور قرينة متصلة على كون المراد حصول التحصيل في الدنيا.<BR>فإن قلت: فإن قوله تعالى: [وبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ]. قرينة قطعيَّة على إنه يحصل في الآخرة؛ لأن بعثرة القبور تكون يومئذٍ. <BR>قلت: يمكن المناقشة في ذلك بوجوه:<BR>أولاً: إنَّ الآية غير واضحة في أن البعثرة والتحصيل يكونان في زمان واحد. وإن كان لا يبعد أن تكون الإشارة إلى السابق قبل اللاحق. <BR>ثانياً: إنَّه يمكن أن يكون للقبر معان أخرى, فإن حاصله: وجود ما هو مخفي فيه وهو الميت وظهوره بعد الكمون. وكذلك كوامن النفس لا حركة فيها<BR> ـ كالميت ـ فتخرج بالتمحيص. وكذلك الذاكرة فإن المنسي بمنزلة الميت<BR> فيظهر بالتذكر. <BR>وحيث قلنا: إن الأقرب تحصيل ما في الصدور في الدنيا, فبعثرة القبور أيضاً يكون بالمعنى المناسب لها.<BR>ومن الواضح إن البعثرة من قبيل إزالة المانع في طرف العلة, والتحصيل بمنزلة المعلول. فيكون الأول متقدماً على الثاني. وقوله: [يَوْمَئِذٍ], يدل على أن المراد كلا هذين المعنيين؛ لأن يومهما واحد عرفاً.<BR>سؤال أثاره الرازي في هامش العكبري حيث قال[ ] :  كيف قال الله تعالى: [إنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ], مع إنه تعالى أخبر بهم في كل زمان. فما هو الوجه في تخصيص ذلك اليوم"؟.<BR>جوابه: ما ذكره في جوابه بقوله[ ] : معناه إن ربهم سبحانه مجازيهم يومئذٍ عن أعمالهم. فالعلم مجاز من المجازات. ونظيره قوله تعالى: [أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ]. معناه يجازيهم على ما فيها؛ لأن عمله شامل لما في قلوب كل العباد. ويقرب منه قوله تعالى: [يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ].<BR>أقول: أما أن السياق سياق المجاز فنعم. ولكن هذا يتم على أشكال عديدة: <BR>أولاً: إنَّه يقال عرفاً: إنَّي أعلم ماذا أفعل, أي في ذلك المورد. فإنه وإن كان يعلم دائماً ماذا يفعل إلا أنه مادام بصدد حديث معين, فهو يكون قرينة على إن المراد وجود التخصيص بذلك.<BR>ثانياً: إنَّه يقال عرفاً: إنَّي أعلم ماذا افعل, أي في مقام العقوبة والتنكيل, وهذا واضح عرفاً, ومن الممكن حمل الآية عليه.<BR>ثالثاً: أن يكون بتقدير مضاف, أو كلمة بين حرف الجر والضمير في قوله: [بِهِمْ]. هو استحقاقهم من الثواب والعقاب أو بمستواهم من الإيمان أو الكفر. غير أن التقدير خلاف الأصل ولا يصار إليه إلا مع الانحصار.<BR>رابعاً: إنَّنا نقدر في المحل المشار إليه معنى مستواهم؛ لأن مستواهم عين ذاتهم ولا يحتاج إلى تقدير. فإنه إذا علم بمستواهم علم بهم أنفسهم.<BR>خامساً: ما قاله الرازي ــ كما سمعنا ــ من أن العلم بمعنى المجازات, مجازاً لفظياً. فتصل إليه النوبة بعد غض النظر عن الوجوه السابقة. وهو وجه رديء؛ لأكثر من مناقشة:<BR>الأولى: إنَّ المستعمل ليس هو لفظ العلم ليكون مجازاً في المجازات بل: الخبير. ولا ملازمة بين قصد المجازات في الآيات الأخرى وقصدها في هذه الآية لتعدد المادة. والمعنى لا يكون مجازا,ً بل اللفظ.<BR>الثانية: إنَّه إذا كان خبيراً, بمعنى معاقب, لزم إستعمال ( لهم) لا [بِهِمْ]؛ لأن العقاب يتعدى باللام.<BR>اللهم إلا أن يقال: باستعمال الحرف مجازاً أيضاً. فنبتلي بمجازين في حين يكفينا في التقدير تجوز واحد. بل لا حاجة إلى التقدير, كما قلنا؛ لأنه سبحانه يعلم بهم أنفسهم. وهنا نكتة كلاميَّة يحسن مجرد الإشارة إليها, فإنه وإن كان خبيراً بهم دائماً, إلا أن المراد هنا هو العلم المتجدد في عالم المحو والإثبات لا العلم الأزلي.<BR>وهذا العلم المتجدد يحصل بعد تحول ما بالقوة إلى ما بالفعل نتيجة للبلاء والتمحيص, فيكون علماً بمعلول التمحيص, كما في قوله تعالى: [وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ][ ] , فإذا أصبح صابراً كتب في الصابرين. وإذا أصبح مجاهداً كتب في المجاهدين, وإن أصبح معانداً كتب في المعاندين. <BR>وهكذا, فالعلم ينطبق على ما هو موجود فعلا من قيود الزمان والمكان. وهو المراد من يومئذٍ أو عندئذٍ, أي إنتاج التمحيص لمعلوله. فهو سبحانه خبير بمستواهم الذي هو نفس ذواتهم, كما قلنا وهذا كما ينطبق في الآخرة ينطبق في الدنيا أيضاً. </P>

<P> </P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>ســـورة الزلزال<BR>وفي تسميتها عدة أطروحات: <BR>أولاً: الزلزلة, وهو المشهور. فانه كان لفظ الزلزلة غير موجود, إلا أن مادتها موجودة.<BR>ثانياً: الزلزال, كما في بعض المصادر[ ] . هو لفظ موجود في السورة مع حذف المضاف.<BR>ثالثاً: السورة التي ذكر فيها الزلزال. إذا سرنا على حسب ما ذكره الشريف الرضي في مجازات القرآن.<BR>رابعاً: [إذا زُلْزِلَتِ], يعني باللفظ الذي بدأت به السورة.<BR>خامساً: برقمها في المصحف السائد, وهو: 99.<BR>سؤال: ما هو معنى الأرض في قوله تعالى: [إذا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا]. وما المراد من زلزالها؟.<BR>جوابه: إنَّ هنا عدة احتمالات. باعتبار انقسامات ثلاثة:<BR>الانقسام الأول: إنَّ الأرض هل يراد بها الأرض المادي المعهودة أو الأرض المعنويَّة, باعتبار أن النفس لها أرض وسماء. فارضها الشهوات وسماؤها العقل.<BR>الانقسام الثاني: إن الزلزلة هل تحدث بقانون طبيعي أو بسبب غير طبيعي؟.<BR>الانقسام الثالث: إنَّه هل يتحرك بالزلزلة المجموع أم البعض؟<BR>فتكون الاحتمالات ثمانيَّة, ناتجة من ضرب الاثنين في نفسها ثلاث مرات:2×2× 2.<BR>سنستعرض فيما يلي مجملها.<BR>مقتضى فهم المشهور أن المراد من الأرض الكرة الأرضيَّة, فيرد عليهم هنا سؤال هو: هل أن الزلزلة المذكورة تشمل كل الأرض, أم بعضها؟ فإن كانت تشمل الأرض كلها, فيرد عليه إشكالان.<BR> الإشكال الأول: عدم تحقق ذلك تاريخياً.<BR>الإشكال الثاني وهو الأهم: إنهم قالوا في علم الفلك: إن سبب عدم الإحساس بحركة الأرض حول نفسها ونحو ذلك هو: إنَّ الحركة فيها كليَّة وليس موضعيَّة. أو قل: إنها حركة مجموعيَّة لمجموع الأرض وليست لجزئها. ومن جملة مصاديقها: ما إذا كان الإنسان راكباً في واسطة نقل, فانه لا يحس بحركتها ولا حركته, مع كونهما متحركين واقعاً.<BR>فإذا عرفنا ذلك, فإن الزلزلة إذا أصابت كل الأرض, فستكون حركتها كليَّة, ولن يُحس بها مهما كانت سريعة. هذا مضافاً إلى وجود الجاذبيَّة, ووضوح إن الأرض حينئذٍ تتحرك مع طبقاته الهوائيَّة وليس وحدها. وهذا يدعم عدم الإحساس بالحركة.<BR>ومعه يتعين على فهم المشهور أن تكون حركة الزلزلة في جزء الأرض لا في الجميع. في حين إنه يفهم من الأرض كل الأرض لا الجزء. فيقع في تهافت واضح. فلابد من عرض الأمر بشكل آخر.<BR>الفهم الأول: إن المراد من الأرض مجموع الأرض, ومن الزلزلة حركتها حول نفسها طبيعياً.<BR>إلا أنه لا يتم لأمرين:<BR>أحدهما: إنَّ السياق سياق التهويل والتهديد, وهذه الحركة فاقدة لذلك.<BR>ثانيهما: إنَّ السياق سياق دال على أن هذه الحركة لم تحدث لحد الآن, وإن التنبؤ قائم على حصولها في المستقبل. كما هو المستفاد من قوله تعالى: [إذا زُلْزِلَتِ]. مع إن هذه الحركة متحققة فعلا ً.<BR>الفهم الثاني: أن يكون المراد الزلازل الاعتياديَّة لجزء من الأرض.<BR>ويرد عليه كلا الإشكالين السابقين, ومضافاً إلى إمكان القول: بأن المراد من الأرض كلها لا جزأها, ولو باعتبار ان الأصل في الأف واللام الجنسيَّة لا العهديَّة, فتأمل.<BR>الفهم الثالث: أن يراد تحرك الأرض كلها بشكل غير معهود كما لو كانت تهتز ونحو ذلك. وبهذا تندفع الإشكالات الواردة على الفهمين السابقين. مع إمكان دعمه بان السياق يدل على حدوثه بالمعجزة, لا القانون الطبيعي. ويكون هذا الفهم مؤيداً للمشهور بحدوثه عند يوم القيامة.<BR>الفهم الرابع: أن يراد تحرك بعض الأرض بشكل غير معهود.<BR>ويرد عليه مضافاً إلى ما قلناه في الأشكال على الفهم الثاني, وجهان آخران:<BR>الأول: إن قوله: [زِلْزَالَهَا] يشعر بأن الزلزال المشار إليه هو زلزال عظيم. بحيث تكون نسبة الباقي إليه كالعدم. وهذا كما يكون قرينة على عدم إرادة الزلازل الاعتيادية, يكون قرينة أيضاً على عدم كونه في جزء بسيط من الأرض, وإن لم يكن اعتيادياً؛ لأنه على كلا التقديرين لا يتصف بتلك الصفة.<BR>الثاني: قوله: [وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا], مشعر بأن ذلك نتيجة الزلزال, والزلزال الموضعي لا ينتج مثل ذلك, بل يصلح هذا وجهاً لمناقشة عدد من الوجوه السابقة أيضاً.<BR>الفهم الخامس: أن يكون المراد بالأرض, الأرض المعنويَّة وهي أرض النفس. <BR>فإن قلت: وما ربط ذلك بالزلزلة؟.<BR>قلت: أن نفهم منها الزلزلة المعنويَّة, فإن النفس تتزلزل عند البلاء الدنيوي وعند الفرح والحزن والغضب والشكوك وغيرها. ولعل كل أفراد البشر قد مروا في ذلك.<BR>ومعه فيكون المراد من قوله تعالى: [وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا],اعني صاحب تلك النفس وحاملها.<BR>فإن قلت: إنَّنا عرفنا أن المراد الإشارة إلى زلزال رئيسي عظيم الأهميَّة, فهل لدى النفس شيء من هذا القبيل؟.<BR>قلت: نعم, ولذلك عدة مصاديق أوضحها ما يحدث حالة الاحتضار, فتخرج الأرض أثقالها وهو البدن ويقول المحتضر مالها. ولماذا حصل الألم إلى هذه الدرجة؟.<BR>فإن قلت: فإن حمل اللفظ, وهو الأرض على الأرض المعنويَّة, مجاز, وهو مناف لأصالة الحقيقة. <BR>قلنا: نعم, إلا أن استعمال القواعد اللغويَّة العامة في الفهم المعنوي للقرآن, ليس في محله.<BR>الفهم السادس: أن نفهم من الأرض: ما على الأرض لا الأرض نفسها, أي أن نفهم الجانب الاجتماعي والإنساني من الأرض. كما قال تعالى: [وَاسْأَلِ الْقَرْيَّةٍ][ ] , أي أهل القريَّة, بصفتهم متضمنين في معنى القريَّة نفسها, فالأرض متضمنة للمجتمع أيضاً.<BR>وفي هذا الفهم, عن المراد تزلزل المجتمع بالبلاء الدنيوي, أو بأي شيء يشاؤه الله تعالى. وأخرجت الأرض أثقالها, وهو سقوط المهمين في المجتمع, وقال الإنسان مالها, وهم أفراد المجتمع.<BR>ولكن لماذا يعبر بالزلزال هنا؟.<BR>وذلك لأحد وجوه:<BR>الأول: إنَّ البلاء يوجب كثرة حركة الأفراد, إما خوفاً أو لقضاء حاجاتهم الآنيَّة, ونحو ذلك. <BR>الثاني: إنَّ كثرة الحركة هذه توجب حركة في القشرة الأرضيَّة, وإن كانت قليلة, فهي تشبه الزلزلة من هذه الناحيَّة. <BR>الثالث: إنَّ أرض النفوس كلها تتزلزل من الناحيَّة النفسيَّة على العموم.<BR>فإن قلت: فإننا استفدنا من الآية الكريمة أن المراد الإشارة إلى زلزال رئيسي للأرض, فلا ينطبق على هذا الفهم, وخاصة على الوجه الثاني حيث لا يحصل في قشرة الأرض إلا حركة قليلة. <BR>قلت: نعم, لابد أن يكون المراد حصول بلاء رئيسي في المجتمع أو في المجتمعات أو في البشريَّة, ولو باعتبار إشراط يوم القيامة.<BR>وأما قصة القشرة الأرضيَّة, فهي خارجة موضوعاً, بعد أن نقلنا ــ بناء على هذا الفهم ــ معنى الزلزال من الأرض إلى المجتمع.<BR>سؤال: ما هو معنى [أَخْرَجَتِ], في قوله تعالى: [وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا]؟.<BR>جوابه: إحدى أطروحتين ــ على الأقل ــ: <BR>الأولى: إنَّها تخلصت ورفضت ولفظت أثقالها, كأن شيئاً مزعجاً كان في داخلها فأخرجته. وهذا هو الأوفق بالفهم المشهوري.<BR>الثانية: إنَّها أبرزت وبينت ذلك؛ لأجل مصلحة وحكمة إلهيّة.وأوضح مصاديق ذلك هو إخراجها للكنوز والمعادن عند ظهور الإمام المنتظر سلام الله عليه[ ] .<BR>فهو إظهار لطيف وليس مزعجاً.<BR>سؤال: ما هي الأثقال التي تخرجها الأرض يومئذٍ؟.<BR>جوابه: إنَّ فيها تسعة احتمالات:<BR>الاحتمال الأول: الموتى. كما رجحه الطباطبائي في الميزان[ ] . <BR>ويرد عليه: إنَّ الله تعالى هو الذي يبعث مَنْ في القبور. ولا دخل للأرض في ذلك, ونسبة الإخراج تكون للفاعل لا للمكان. وإلا كان مجازاً والأصل التمسك بالمعنى الحقيقي. <BR>هذا, مضافاً إلى إننا نسأل هل ان عودة الموتى تتوقف على زلزلة من هذا القبيل؟.<BR>نقول: <BR>أولاً: إنَّ قدرته سبحانه على ذلك لا تتوقف على ذلك.<BR>ثانياً: إنَّ أكثر الموتى من البشريَّة ليس لهم جثث, بل قد اختلطت أجسامهم بالرمال. وحصول الزلزلة ليس سبباً لإعادة الرمل جسماً. إلا إذا قلنا: إن ذلك مما يحدث بقدرة الله تعالى. فإذا أخذنا قدرة الله بنظر الاعتبار, فلا حاجة إلى الزلزلة.<BR>اللهم إلا أن يقال: إنَّ المراد أن الأرض تفتقت عن جثث الموتى إلى الحياة, فيعبر عن هذا التفتق أو التفتح بالزلزلة. ولكنَّه ليس هو المعنى الحقيقي للزلزلة على أي حال.<BR>إلا أن يكون نظير قوله تعالى: [اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ][ ] . لحصول اهتزاز التراب بخروج النبات من البذر. إلا أن معنى الزلزلة غير ذلك بالوضع الحقيقي.<BR>الاحتمال الثاني للأثقال: المعادن والكنوز.<BR>وهذا المعنى مشهوري أيضاً وله عدة تطبيقات: <BR>1- فمرة نحمله على استخراج المعادن من الأرض من قبل البشر. وإنما نسب إلى الأرض باعتبارها مكاناً للتعدين. إلا أنه لا يناسب السياق العام, كما هو واضح, وأوضح من ذلك إنها غير مسبوقة بالزلزلة.</P>

<P>2- ما ورد من أن الأرض تلقي بأفلاذ أكبادها من الذهب والفضة عند ظهور المهدي ?[ ] .<BR>ويرد عليه ما أوردناه على الأول. مع إن كليهما غير مربوط بيوم القيامة. كما عليه المشهور من أن سياق السورة كله مربوط به.<BR>3- إن المشهور يقول: إنَّ الزلزلة يوم القيامة تخرج المعادن من جوف الأرض وتطرحها على الأرض, كما فهموا من السياق. ولعل بعض التقريبات تدل على عدم الحكمة من ذلك وكونه لغواً, واللغو لا يصدر من الحكيم لا إثباتاً ولا ثبوتاً.<BR>مضافاً إلى نكتة أخرى لا ينبغي إهمالها, وهي: إنَّ سياق الآيات حسب فهم المشهور: إنَّ كلاً من الموتى والمعادن تخرج بنفس الزلزلة.<BR>ونحن نلاحظ إن هذا يحتاج إلى معجزتين ولا تكفي معجزة واحدة. فإذا أخرجت الأرض المعادن, فكيف سيكون إخراج الموتى؟ وعندئذٍ لابد من مضاعفة المعجزة, ولا حاجة إلى ذلك فيكون عبثاً أو لغواً. وإنما يومئذٍ المهم هو إخراج الموتى فقط.<BR>أو نقول: إنَّ المعادن نفسها متكونة من جثث الموتى. إما باعتبار التعبير مجازاً عن الجثث بكونها معادن, أو إن بعض المعادن متكونة من الجثث, كما يقال في النفط من كونه متكوناً من أجساد متحللة من الحيوانات والبشر من ملايين السنين, تحت الضغط والحرارة الباطنيَّة العاليَّة.<BR>إلا أن ذلك يقتضي تحول المعادن إلى أجساد بشريَّة لدى الإخراج إلى سطح الأرض. ومعه لن تجد معادن خارجة. وهذا ينافي الوجه الخاص بإخراج المعادن.<BR>الاحتمال الثالث للأثقال: إنها أخرجت ما على وجهها من سكان ونبات وحيوان. فإن الثقل عرفاً يكون على الشيء أو على سطح الأرض لا في الباطن. ويؤيده قوله تعالى: [وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ][ ] , أي أصبحت خاليَّة منها, إذا أعرضت عنها ولفظتها.<BR>الاحتمال الرابع: أن يكون الثقل ثقل الذنوب والمسؤوليَّة وثقل استحقاق العقوبة. ويؤيده قوله تعالى: [يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ][ ] . أي: أصبحت أرضاً لم يذنب عليها إنسان كما ورد[ ] . كأن الأرض هي السبب في التنظيف من الذنوب.<BR>الاحتمال الخامس: أن يكون المراد: الظلام المعنوي الناتج من الذنب أو المنتج له, وهو القصور والتقصير. كما في قوله تعالى: [وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا][ ] , فيتحول الظلام إلى النور بعد إلقاء الثقل والتخلص منه.<BR>الاحتمال السادس: التخلص من العيوب بحصول الكمال.<BR>الاحتمال السابع: الأعمال.<BR>فإن قلت: هل أنه نتيجة للزلزلة؟ قلت نعم, فإننا إنما نتحرك للعمل الرئيسي عند العاطفة الحقيقيَّة. <BR>فإن قلنا: إنَّ [أَخْرَجَتْ] بمعنى لفظت أو رفضت. فتكون الأعمال مرفوضة على أحد شكلين: <BR>أحدهما: أن نقول: إنَّ الإنسان قد يكون في حالة يأس من نفع الآخرين وإفادتهم له وقضاء حاجته, فيكون خاملاً لا نشاط له.<BR>ثانيهما: أن نقول: إنَّ الإنسان يكون في درجة من التكامل المعنوي. فلا يقدم طاعاته لله عز وجل, وإنما يقدم ذنوبه فقط. ويحس انه في تقصير مستمر. <BR>وان قلنا: إنَّ [أَخْرَجَتْ], أي أبرزت. وكان المراد من الأثقال: الأعمال ــ كما عليه هذا الوجه ــ كان هذا على ضد الشكل السابق. وهو أن الفرد يشعر بطاعاته أمام الله سبحانه وأمام خلقه, وانه تحمل المصاعب والبلاء في سبيل ذلك, فهو يبرزها ويفتخر بها. <BR>الاحتمال الثامن: أن يكون [أَخْرَجَتْ], بمعنى أبرزت, على معنى أنها أخرجت وهيئت خيراتها بعد الظهور. ويكون ذلك نتيجة لزلزلة البلاء السابق عليه.<BR>وهذا المعنى قابل للانطباق على الأيام الكبيرة عموماً, كظهور الإسلام المسبوق ببلاء الجاهليَّة وعبادة الأصنام, أو دخول الجنة المسبوق ببلاء يوم القيامة. <BR>الاحتمال التاسع: أن تكون ارض النفس قد أبرزت كوامنها بالاختبار والتمحيص. وتلك الكوامن قد تكون هي الإيمان والطاعات, وقد تكون هي الفسق والنفاق. <BR>فان قلت: إنَّ كل هذه الأمور ليس لها ثقل حتى المادي منها, كالمعادن والموتى والسكان؛ لأن الثقل العرفي هو المحسوس بالحمل أو الوزن ونحو ذلك. وليس هذا منه. <BR>قلت: يكفي الصدق العرفي للثقل, ويظهر ذلك بتقدير الحمل أو حصول الوزن. <BR>فان قلت: الذنوب والظلمة والمسؤوليَّة أيضاً ليس لها ثقل. مع أن نص الآية على وجود الثقل. فتكون قرينة متصلة على نفي كل هذه المعاني وتبقى المعاني الماديَّة المشهورية.<BR>ويؤيد ذلك: إنَّ بعض الأمور الماديَّة أيضاً ليس لها وزن في حالة وجودها الأصلي في الطبيعة, فكأن وزنها صفر.<BR>قلت: إن هذا كله لا يعني التنزل عن الإدراك المعنوي لثقل تلك الأمور المشار إليها. مهما كان ظهورها العرفي ضعيفاً.<BR>سؤال: لماذا يقول الإنسان مالها؟.<BR>جوابه: إن قوله: [وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا], استفهام يراد به الاحتجاج أو يدل على حصول الدهشة, كما عليه المشهور. وهم يعنون الأمور غير المتوقعة أو الردئيَّة وليس الحسنة, وهذا قابل للمناقشة من وجوه:<BR>أولاً: إنَّ الأمور الحسنة أحياناً لا تكون متوقعة, فتثير الدهشة, وإن لم تثير الاحتجاج.<BR>ثانياً: احتمال أن يراد الاستفهام عن استحقاق النفس لطلبها من الله سبحانه.<BR>ثالثاً: إنه استفهام استنكاري للاستحقاق يراد به نفيه.<BR>رابعاً: أن تكون [مَا] نافيَّة فهي لنفي الاستحقاق, يعني مالها شيء.<BR>فان قلت: هذا لا ربط له بالزلزلة.<BR>قلت: إن فهمنا من الأرض: الأرض العرفيَّة, فان السؤال يأتي بعد الزلزلة, أو قل: نتيجة للزلزلة.<BR>وإن فهمنا من الأرض: الأرض المعنويَّة, فان السؤال يمكن أن يكون خلال التزلزل ويمكن أن يكون بعده.<BR>إن قلت: إنَّ [مَا] نافيَّة وليست استفهامية. <BR>قلت: بل يتعين كونها استفهامية؛ لأن النافيَّة:<BR>أولاً: خلاف السياق.<BR>ثانياً: على خلاف أصالة عدم التقدير؛ لأن التقدير: ما الذي لها. أو ما الذي يكون لها. فالجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر. والمبتدأ محذوف أيضاً, فنحتاج إلى تقدير, بخلاف كونها استفهاميَّة, بحيث تصلح بنفسها أن تكون مبتدأ.<BR>فان قلت: فهي موصولة, أي وقال الإنسان: ما هو الذي لها.<BR>قلت: فتكون: إما مبتدأ وخبرها مقدر وتقديره: ثابت أو متحقق أو تكون صفة, أي وقال الإنسان الذي لها.<BR>وهذا على خلاف مشهور اللغويين إضافة مقول القول, مع إن المفروض ثبوته. وكل هذه القرائن تدل على إنها ليست نافيَّة ولا موصولة.<BR>سؤال: من هو المتسائل في قوله: [مَالََهَا]؟.<BR>جوابه: الإنسان. وينقسم إلى أقسام:<BR>أولاً: مطلق الإنسان, أو عمومه. وهو ما فهمه المشهور.<BR>ثانياً: الإنسان المطلق.<BR>ثالثاً: المبتلى بالزلزلة.<BR>رابعاً: المشاهد لها, وإن لم يكن مبتلى بها.<BR>أما الإنسان المطلق فهو المتكامل بعد أن طهرت نفسه وأخرجت أثقالها, فهو يتساءل عن استحقاق نفسه. فيجيبه الله سبحانه بمقدار استحقاقها. كما قال سبحانه: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ][ ] . والله تعالى كريم لا بخل في ساحته.<BR>وأما مطلق الإنسان فان فهمنا من الأرض: الأرض الماديَّة فانه يسأل عن العلة الماديَّة والسبب للزلزلة. أو عن العلة الغائيَّة لها, وإنها بأي حكمة حصلت. أو انه يسأل عن الحكمة بصفته معترضاً على ذلك. والعياذ بالله.<BR>وإذا فهمنا من الأرض: الأرض المعنويَّة, وهي الفرد الاعتيادي دائمة التزلزل. كثرة الشكوك والفتن. كما قال في الدعاء[ ] : فان الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن. فهو يتساءل عن سبب ذلك. إذا كان هو المبتلى بها.<BR>أما إذا كان المتسائل هو الشاهد لها, فله عدة أمثلة:<BR>منها: إنَّ الإنسان المطلق يتساءل عن سبب كفر الكافر آسفاً عليه. كما ورد إن الحسين ?, كان يبكي لحال أعدائه[ ] .<BR>ومنها: إنَّ مطلق الإنسان يتساءل عن حال صاحبه (الإنسان المطلق) باعتبار أنه متخلف ورجعي ومتقوقع ولا يريد إلا مصلحة نفسه.<BR>ومنها: قول الملائكة: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ][ ] . فهم معترضون على الكفار والفجرة بوصولهم إلى هذا الدرك, مع إن الله أهلهم بالخلقة للوجود في أعلى عليين, كما قال تعالى: [أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ][ ] . وقد يكون الإنسان هو المتسائل بدل الملائكة.<BR>قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا].<BR>حدث, يتعدى بالباء إلى المفعول الثاني لا بنفسه. والأخبار هنا بمنزلة المفعول الثاني. وأما الأول فمحذوف, فاحتاجت الأخبار إلى الباء.<BR>فهي لا تحدث الأخبار نفسها, وإنما تحدث بأخبارها, فتكون هنا أكثر من أطروحة:<BR>الأولى: إنَّ [أَخْبَارَهَا] منصوب بنزع الخافض على اعتبار إن مقتضى الأصل وجوده. <BR>الثانية:أن [تُحَدِّثُ] وإن كان ينصب مفعولاً واحداً حقيقة, إلا إنه جعل مجازاً ناصباً لمفعولين. ولا ضير في ذلك.<BR>وارتباط هذه الآية بالآية السابقة عليها صريح. فيكون المراد رد الجواب على السؤال السابق: [مَا لَهَا]؟.<BR>سؤال:ما المراد بالأخبار؟.<BR>جوابه: إنَّ في ذلك عدة أطروحات:<BR>الأولى: إنَّها تحدثه عن سبب حصول ما يسأل عنه: وذلك إنه حصل بسبب الوحي [بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا], أي بان تتزلزل.<BR>الثانية: إن الأرض تحدث الأخبار الحاصلة فيها من الحوادث الموجودة في الحال والماضي.<BR>الثالثة: إنَّها تخبره أنه قد حصل لها الوحي إجمالاً, بغض النظر عن مضمونه. <BR>وأسلوب الأخبار منقسم إلى تقسيمين:<BR>التقسيم الأول: إنَّها تتحدث بلسان المقال والنطق أو أنها تتحدث بلسان الحال. وهذا احتمال ينفع المستوى الثقافي المادي الذي يستبعد حصول النطق والكلام فنقول له: إنَّها تنطق بلسان الحال, أي تعرف من علاماتها وأوصافها.<BR>التقسيم الثاني: إنَّ الحديث أو النطق إما أن يكون بشكل موضوعي, أي إنه مجرد شرح للحال: إنَّه حصل كذا وكذا!, وإما أن يكون هذا الشرح مقترناً بلسان الإقرار والمذلة أمام الله سبحانه, وليس مجرد كونه شرحاً موضوعياً.<BR>الوجوه الإعرابيَّة:<BR>قال العكبري[ ] : عامل في إذا جوابها, وهو قوله تعالى:[تُحَدَّثُ] أو [يَصْدُرَ].<BR>أقول: وتعليقنا على ذلك بأمور:<BR>أولا: إنَّ المشهور على أن [إِذَا] ظرف يحتاج إلى متعلق أو عامل كما أشار العكبري[ ] , إلاّ أن ذلك لا يخلو من إشكال؛ لأن[إِذَا] حرف, والحرف لا محل له من الأعراب, فلا يحتاج إلى متعلق. وإذا كانت إسماً لم تحتاج إلى متعلق أيضاً, بل تكون مبتدأ, والجملة الشرطيَّة خبرها.<BR> أو نقول: إنَّها لا محل لها من الإعراب؛ لأن لها الصادرة في الكلام, وكل ما لا محل له لا يحتاج إلى متعلق وإن كان أسماً.<BR>ثانياً: إنَّه بعد التنزل عن الأمر الأول, وقلنا: إن [إِذَا] أسم أو ظرف. فان المتعلق ــ حسب فهمي ــ  ينبغي أن يكون اسبق رتبة من الظرف, وإذا تعلقت[تُحَدَّثُ] أو[يَصْدُرَ], كما قال العكبري, تكون متعلقة بمتأخر لفظاً ورتبة؛ لأن كلا منهما جواب شرط. وجواب الشرط متأخر رتبة عن أداة الشرط لا محالة. وهو متأخر لفظاً ايضاً. <BR>بل إن هذين الفعلين المحتملين, متأخران عن[إِذَا] رتبتين لا رتبة واحدة, لوقوعهما في جواب الشرط,, وهو متأخر عن فعله المتأخر عن الأداة. ولكن إذا دار الأمر بين الجملتين على أنها جزاء الشرط تقدمت المتقدمة؛ لأنها أسبق رتبة من الأخرى.<BR>فان قلت: إنَّ هنا إشكالا آخر, على تعليق [إِذَا] بهذين الفعلين؛ لأنهما عملا في عدة معلولات كالمفعول به والحال. كما هو واضح لمن يقرأ الآية الكريمة, ولا يمكن للفعل الواحد أن تتعلق به عدة معلولات. إذن, لا يمكن أن تتعلق[إِذَا] بأيٍّ منهما.<BR>قلت: بل يمكن القول بالجواز, وإنَّ الفعل قد يعمل عدة أمور دفعة واحدة. ولا مانع من ذلك نحوياً. نعم, لو أخذنا ذلك من جانب فلسفي أمتنع, لقاعدة: إنَّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد.<BR>سؤال: ما هو جواب الشرط لـ [إِذَا]؟.<BR>جوابه: هو قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا]. <BR>فإن قلت: إنَّها لا يمكن فيها ذلك؛ لأن جواب الشرط مصدّر بالفاء. في حين أنها فاقدة له. وكان ينبغي أن يقول: فيومئذ تحدث أخبارها, لو كان جواباً.<BR>قلت: أولا: لعلها موجودة في بعض القراءات. ولا يخلّ وجودها بالسياق القرآني وجماليته.<BR>ثانياً: إنَّ الوحي نزل بدون الفاء في جواب الشرط, فيكون حجة على العدم؛ لأن الأخذ بالنطق القرآني أولى من الأخذ بلسان العرب.<BR>ثالثاً: إنَّ هناك من الموارد ما لا يقع الفاء في جواب الشرط, ومنه الفعل المضارع الواقع في الآية, وهـو [تُحَدَّثُ]. <BR>رابعاً: مع التنزل عن ذلك وفرض إصرار النحويين على وجود الفاء. نقول: انها حذفت من أجل مصلحة المورد. وملخصها إنها لا يمكن أن تدخل على الكلمات كلها: يومئذ, تحدث, أخبارها.<BR>أما الأخيرة فواضح, وأما [يَوْمَئِذٍ]؛ فلأنها فضلة وليست جملة, وأما [تُحَدَّثُ]؛ فلان دخول الفاء فيها مضر بصحة السياق القرآني كما هو معلوم. كما أنَّ تقديم [تُحَدَّثُ] قبيح في السياق أيضاً, فيتعين حذف الفاء.<BR>خامساً: أن نقول: إنَّ جواب الشرط غير هذه الآية المذكورة, بل هو الآية الأسبق منها, وهي قوله تعالى: [وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا].<BR>فان قلت: إنَّها أيضاً محذوفة الفاء, في جواب الشرط.<BR>قلت: يأتي هنا بعض ما قلنا هناك, مضافاً إلى القول: إنَّ الواو هنا زائدة أو إنها بمعنى الفاء.<BR>ثم أضاف العكبري قوله[ ] :[يَوْمَئِذٍ] بدل من[إِذَا], وقيل التقدير أذكر إذا زلزلت. فعلى هذا يجوز أن يكون [تُحَدَّثُ]عاملاً في [يَوْمَئِذٍ], وأن يكون بدلاً.<BR>أقول: إذا كانت ظرفاً متعلقاً بمحذوف وهو اذكر وغير متعلقة بـ[تُحَدَّثُ]. صح أن يتعلق [يَوْمَئِذٍ] بـ [تُحَدَّثُ].أما إذا كانت متعلقة بـ[تُحَدَّثُ]. فلا يصح أن يكون [يَوْمَئِذٍ] متعلقاً بها؛ لأن الفعل الواحد لا ينصب ظرفين في رتبة واحدة, حسب وجهة نظر العكبري.<BR>وجواب ذلك من وجهتين:<BR>الوجهة الأولى: النقاش في الصغرى وذلك إن العكبري أصلا, أعتبر [يَوْمَئِذٍ] بدلا من[إِذَا], فيكون الظرف المتعلق واحداً وهو [إِذَا].<BR>الوجهة الثانية: النقاش في الكبرى, وذلك إننا قلنا فيما سبق ان مقتضى سياقات كلام النحويين ان الفعل يكون عاملاً لعدة معلولات دفعة واحدة,  كرفعه للفاعل ونصبه للمفعول وكونه متعلقاً للجار والمجرور ونحو ذلك.<BR>نعم, و هو لا يعمل عملين من جنس واحد, وفي رتبة واحدة, كما لو رفع فاعلين أو نصب مفعولين أو تعدى إلى جارين ومجرورين.<BR>وإذا تم ذلك, لم يكن [يَوْمَئِذٍ] متعلقاً بـ [تُحَدَّثُ]؛ لأن كلا من إذا ويومئذ ظرف بنوعيَّة واحدة ورتبة واحدة,  بعد التنزل عن كونها بدلاً, كما في الوجه الأول.<BR>وقال العكبري: [يَوْمَئِذٍ] بدل من إذا. يعني مرجعهما في معنى واحد ومحصل واحد. وكأنهما بمنزلة ظرف واحد؛ لأن يومئذ يحتوي على تنوين التعويض, ومرجعه إلى تكرار السابق يعني: يوم إذ زلزلت الأرض زلزالها. فرجع إذ وإذا إلى معنى واحد. وهو مطلب وجهيه.<BR>ثم قال العكبري[ ] : [بِأَنَّ رَبَّكَ], الباء تتعلق بـ [تُحَدَّثُ], أي تحدث الأرض بما أوحى, وقيل هي زائدة و[أَنَّ] بدل من [أَخْبَارَهَا], و[لَهَا] بمعنى إليها, وقيل: [أَوْحَى] يتعدى باللام تارة وبالى أخرى.<BR>أقول: فيكون المعنى تحدث الأرض بما أوحى الله تعالى لها من الأمور. فينتج من ذلك: إنه يتعلق بـ [تُحَدَّثُ] سنخين من المتعلق: الظرف والجار والمجرور. وهذا لا بأس به سواء كان الباء في [بِأَنَّ] زائدة أم سببيَّة.<BR>وقوله: وقيل هي زائدة يعني كون الباء بمنزلة العدم, بمعنى أنها تحدث أن ربك أوحى لها.<BR>وقوله: و[أَنَّ] بدل من [أَخْبَارَهَا], يعني: إنَّ المصدر المؤول من [أَنَّ] ومدخولها هو البدل.<BR>فان قلت: إنَّ [أَوْحَى] تتعدى بالى لا باللام كقوله تعالى: [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ][ ] . وقوله: [فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى][ ] . وغير ذلك. في حين أنها متعديَّة هنا باللام, في [لهَاَ].<BR>قلت: ذلك من وجوه:<BR>أولاً: ما ذكره العبكري[ ] , من: [لهَاَ] بمعنى إليها.كما سبق.<BR>ثانياُ: ما نقله العبكري بقوله[ ] :وقيل أوحى يتعدى باللام تارة وبـ(إلى) أخرى.<BR>ثالثاً: إنَّ [أَوْحَى] تتعدى بـ(الى) أو ما يقوم مقامها حقيقةً أو مجازاً, بناءاً على ما اختاره من إمكان الاستعمال المجازي في الحرف.<BR>رابعاً: إنَّ معنى اللام غير معنى إلى. فمعنى أوحى إليها إنها هي السامعة للوحي. وإما أوحى لها فبمعنى: أوحي لأجل مصلحتها. ولكن إلى من يكون الوحي؟ فهذا مجمل في الآية. ولعله الى بعض الخلق العالي, كـ(جرئيل) أو غيره. وهذا في نفسه معنى المحتمل.<BR>وقوله تعالى: [بِأَنَّ رَبَّكَ] الباء يفيد التكلم, أي إن الأرض تحدث بوجود الوحي أو بسبب الوحي أو انها تزلزلت بسبب الوحي, إما امتثالا أو خشوعاً. فيكون نحو اعتذار عن التزلزل. أو أنها يوحى لها وتحدث أخبارها بعد أن يتم التزلزل, وهكذا.<BR>قال الطباطبائي في الميزان[ ] : وقد أشتد الخلاف بينهم في معنى تحديث الأرض بالوحي, أهو بإعطاء الحياة والشعور للأرض الميتة حتى تخبر بما وقع فيها. <BR>أقول: قال الفلاسفة: إن الجماد ليس ميتاً بهذا المعنى. بل يمكن سماعه وجوابه.<BR>وقالوا أيضاً: إنَّ الصفات من العلم والقدرة والحياة, هي من لوازم الوجود, فهي تتحقق بتحققه. وكلما كان الوجود أعلى, وأهم وأشرف, كانت هذه الصفات أوضح. وكلما كان أدنى كانت هذه الصفات اقل وأضعف, حتى لا يكاد يكون مدركاً لنا, كما في الجمادات, إذن فالأرض بصفتها موجودة, يمكن أن تسمع وان تتحدث.<BR>وأضاف الطباطبائي[ ] : أو يخلق صوت عندها, وعُد َّذلك تكليماً منها.<BR>أقول: هذا بعد التنزل عن الرأي الأول, واعتبار الأرض ميتة. ولكن صوتاً ماّ يخلقه الله في أرجائها. ونوع هذا الصوت كالصوت الذي أوجده الله سبحانه في الشجرة لموسى ?. وهو قوله تعالى: [يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ][ ] .<BR>وقول الطباطبائي: وعُدَّ ذلك تكليماً منها, يعني: إنها تحدث مجازاً لا حقيقة. <BR>ويرد عليه: إنَّه مَنْ يسمع ذلك الصوت؟ فانه حسب سلسلة تفكير المشهور: إنَّ ذلك يحصل في اشراط الساعة, وأن الأرض تخرج أثقالها وكل الناس ميتون يومئذٍ, فمَنْ يسمع؟ والصوت بدون سامع لغو!!.<BR>قلت: إن المشهور يرى, إنه بعد النفخة الأولى في الصور, فان جميع الخلق من ملائكة وبشر وجن يموتون [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ][ ] , فهل الله هو المتحدِّث, وهو يعلم بذلك بالعلم الأزلي. ولا حاجة له إلى هذا الحديث؟.<BR>إذا سرنا بهذا السير, فبالإمكان القول: انه يحصل بعد النفخة الثانية نوع من الحياة. فحينئذٍ تخرج الأرض أثقالها وتحدث أخبارها. وهم الذين يسمعون.<BR>وأضاف الطباطبائي في الميزان إلى عبارته السابقة[ ] : أو دلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الأعمال الخ.<BR>وحسب فهمي: إن السيد ?: يدعم الأطروحة الأولى بروايات وردت في البحث الروائي وان لم يصرح بذلك. قال[ ] : ولا محل لهذا الاختلاف بعد ما سمعت ولا أن الحجة تتم على أحد بهذا النوع من الشهادة, انتهى.<BR>إن الآيات القرآنية تنص على أن كثيراً من ظواهر الطبيعة, قابلة للإدراك كقوله تعالى: [وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ][ ] . وقوله سبحانه:[وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ][ ] . وقوله جل جلاله: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا][ ] . وقوله تعالى: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ... إلى آخر الآية][ ] . وهذا كله يدعم الفكرة الفلسفيَّة الآنفة الذكر.<BR>وأما عدم تماميَّة الحجة بهذا النوع من الشهادة, كما أشار الطباطبائي, فهو غير صحيح؛ لأن المفروض أن الدلالة كاملة بحيث يحصل منها العلم أو الاطمئنان, فلماذا لا تكون حجة؟.<BR>فان قلت: إنَّ الوحي مختص بالنبوة, والأرض ليست كذلك.<BR>قلت: ليس الوحي منحصراً بالأنبياء يقيناً. بدليل قوله تعالى: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ ][ ] . [وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى][ ] . وفي الروايات المستفيضة: إن الوحي ينزل على أناس ليسوا رسلاً, كأمير المؤمنين والزهراء والحسنين والمهدي ?[ ]  وهذا يكفي.<BR>بل إن نزوله حاصل حتى على الحيوانات, كما صرح به القرآن الكريم. إذن, فلا غرابة أن تكون الأرض موحى لها.<BR>ويدعمه قول أمير المؤمنين ?[ ] : أما بعد فان الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قسم لها.<BR>فان قلت: الأوامر هنا بمعنى الحوادث. <BR>قلنا: كلاّ, بل الأمر أكثر من ذلك. فكأنه يشبه قطرات المطر في الكثرة والانتشار. فكل قطرة هي وحي يوحى إلى الطبيعة, والى المؤثرات والأسباب القهريَّة فيها.<BR>قال تعالى: [يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا... يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ].<BR>سؤال: عن إعراب [يَوْمَئِذٍ] الثانية؟.<BR>جوابه قال العكبري[ ] : و[يَوْمَئِذٍ] الثانية بدل, وعلى تقدير اذكر. أو ظرف لـ[يَصْدُرُ]. <BR>أقول: الأولى كونه ظرفاً لـ[يَصْدُرُ], لموافقته للمعنى ومشابهته في الظرفيَّة لـ[يَوْمَئِذٍ] الأولى.<BR>سؤال: لماذا كرر [يَوْمَئِذٍ]؟.<BR>جوابه: إنَّه بعد التجاوز عن الجانب الاختياري, من حيث ان للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء. يمكن تقديم عدة وجوه للفرق بينهما:<BR>الوجه الأول: إنَّ الأول خاص بالإنسان المطلق, والثاني عام لمطلق الإنسان. <BR>الوجه الثاني: إن الأول خاص بالأرض, والثاني عام لمن عليها.<BR>الوجه الثالث: إن الأول خاص بالحوادث السابقة على يوم القيامة, والثاني عام لحوادث يوم القيامة.<BR>ولا تنافي بين هذه الوجوه. ولكل منها قرائنه الخاص به. وتجمع على أن مناسبة الأولى أخص من مناسبة الثانية.<BR>سؤال: ما هو المحذوف في [يَوْمَئِذٍ]؛ لأنهم قالوا: إن التنوين فيه دال على محذوف, ومعوّضٌ عنه فما هو؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّ المقدر في كل منهما غير المقدر في الأخرى, وكل منهما يؤخذ المقدر مما سبقه في الكلام.<BR>الوجه الثاني: إنَّ المقدر فيهما واحد, وإنما كرر إيضاحاً. ووحدة السياق تدعم هذا المعنى, ولكن ينبغي أن نلاحظ انه ما هو العلة وما هو المعلول من هذين اليومين المذكورين في [يَوْمَئِذٍ]؟ طبعاً الأول منهما يكون بمنزلة العلة أو الشرط, والثاني يكون بمنزلة المعلول أو المشروط. أو يكونان بمنزلة المعلولين لعلة واحدة وهو الزلزال. فيحصل منه أمران مقترنان:<BR>أن تحدث الأرض أخبارها, وأن يصدر الناس أشتاتاً.<BR>سؤال: عن معنى قوله أشتاتاً.<BR>جوابه: قال الراغب[ ] : الشت, تفريق الشعب. يقال: شَتَّ جمعهم شتاً وشتاتاً, وجاءوا أشتاتاً, أي متفرقي النظام. قال تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً]. وقال: [مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى], أي مختلفة الأنواع. وقال: [وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]. أي: هم بخلاف من وصفهم بقوله: [ولكنَّ الله آلَّفَ بَيْنهُم].<BR>وقال العكبري[ ] : أشتاتاً حال. والواحد منه شت الخ.<BR>أقول: ومفرده مُشِتَّ. وأسم فاعله شات. ومشت رباعي (أو مزيد فيه) من أُشت, أي حمل غيرهِ على التفرق. فيكون معناه: مفرِّق وليس متفرق. وأما شات فهو من الثلاثي. من شئت إذا تفرق الجميع. <BR>وأشتات جمع تكسير لمشت أو شتَ.. ولكن شات ومشت يجمع جمعا سالماً أيضاً: شاتين ومشتين.<BR>ويمكن طرح أطروحة أخرى, وهي احتمال كون أشتاتاً, مفرداً وليس جمعاً ــ وحسب فهمي ــ إن ذلك فيه عدة أطروحات:<BR>أولاً: إنه مفرد بمنزلة الصفة المشبهة.<BR>ثانياً: إنه بمنزلة أسم الفعل يعطي معنى التفرق.<BR>ثالثاً: إنه مفرد لا جمع له.<BR>رابعاً: إنه جمع لا مفرد له.<BR>خامساً: إنه مفرد يراد به الجمع, أو هو مفرد لفظاً جمع معنى, مثل ناس ونساء. <BR>ومن العجيب إنهم قالوا: إن له مفرد وهو جمع. لكننا لو لاحظنا الجمع فيها فينبغي ملاحظة عدة جماعات مشتتة. فيكون كل واحد منها جزئياً للأشتات. وليس من الصحيح أن تلاحظ جماعة واحدة, بحيث يكون كل فرد مفرداً لها, بل يكون جزءاً من الشتات الواحد.<BR>وأما إذا لاحظنا الأشتات لجماعة واحدة وليس كل واحد منها مفردا بل جزء, فيكون معنى شت انه متفرق عن صاحبه. فيكون معنى: شتّ, أي ابتعد. ومعنى مشت, أي شخص مبتعد.<BR>فهذه نقطة قوة من هذه الجهة, وهو إننا حصلنا على مفرد أشتات.<BR>ولكن نقطة ضعفه: إن الأشتات عندئذٍ لا يكون بمعنى متفرقين, كما فسره أهل اللغة, بل يكون بمعنى متباعدين. وان كان المحصل العرفي فيهما واحد.<BR>هذا وينبغي أن نلاحظ أن هذا الوصف لا يوصف به الذوات العاقلة فقط. بل كل متفرق, حتى لو كان حيواناً أو نباتاً. قال تعالى: [نَبَاتٍ شَتَّى][ ] .<BR>وإنه أيضاً, لم يلحظ في أشتات: سبق الاجتماع, أي إنهم كانوا مجموعين فتفرقوا وأصبحوا أشتاتاً. بل قد يكونوا متفرقين بالخلقة, كما في الجبال المتوزعة على سطح الأرض فإنها أيضاً أشتات. وكل واحد من هذين النحوين حصة منة. <BR>فان قلت: ولكن هذه الآية تعطي (صورة متحركة) بأنهم كانوا مجموعين ثم تفرقوا.</P>

<P>قلت: هذا صحيح, ولكنَّه لم ينشأ من قوله تعالى: [أَشْتَاتاً]. وإنما من قوله: [يَصْدُرُ], يعني يرجعون إلى الحياة. كقوله تعالى: [وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ][ ] . <BR>فان قلت:إن أشتاتاً حال من [يَصْدُرُ]. فيكون المعنى: إنَّهم يصدرون متفرقين من حين صدورهم, لا أنهم بعد صدورهم تفرقوا وأصبحوا أشتاتاً.<BR>قلت: نعم, هو مستفاد من الآية إلى حدٍ ما. ولكن يمكن القول: إنَّهم يصدرون فيتفرقون. وأما إذا فهمنا أنهم متفرقون من حين صدورهم, فينبغي أن نفهم من الأشتات تفرق الاتجاه لا تفرق الأفراد, بمعنى إنهم مجموعون في لحظة قيامهم. ولكن كل واحد منهم يتجه إلى اتجاه مختلف عن إتجاه الآخر. قال تعالى: [ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى..] [ ] , أي اتجاههم متفرق. وقال تعالى: [إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى][ ] , أي متفرق. وهي أوضح من سابقاتها فيما نقوله.<BR>سؤال: يبدو أن هناك تناقضاً ما بين آيتين من القرآن الكريم. أحداهما قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً]. <BR>وثانيهما:قوله تعالى: [ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً][ ] . حيث دلت إحداهما على التفرق والأخرى على الجمع, فأي منهما نصدق؟.<BR>جوابه: إنَّ هذا له أكثر من مبرر: <BR>الأول: ما التفت اليه في الميزان حين قال[ ] : والمراد بصدور الناس متفرقون يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنة والنار.<BR>أقول: فيكون الجمع في الموقف والتفرق بعده.<BR>ويرد عليه: إنَّ [أَشْتَاتاً] حال من [يَصْدُرُ], فيكون المعنى أنهم يصدرون حال كونهم أشتاتاً. في حين أن مقتضى هذا الوجه هو أنهم يتفرقون بعد ذلك في منازلهم من الجنة والنار.<BR>مضافاً إلى نص الآية إنه: [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ], وذلك في يوم القيامة. فالصدور سابق على يوم القيامة, فهذه الصفة أعني[أَشْتَاتاً] سابق عليها أيضاً.<BR>وأما ذهابهم إلى منازلهم, فيكون على معنى أنهم يرون نتائج أعمالهم, من الثواب والعقاب,وإفادة ذلك من الآية يحتاج إلى تقدير وهو خلاف الأصل.<BR>الثاني: ما في الميزان أيضاً حين قال[ ] : وقيل: المراد خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرقين متميزين بسواد الوجوه وبياضها, وبالفزع والأمن وغير ذلك, لإعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب.<BR>ويرد عليه: إنَّ الأشتات والتفرق صفة للصدور في الآية, وليس صفة للأوصاف والحالات. ويكون فهم ذلك متوقفاً على التقدير, وهو خلاف الأصل.<BR>الثالث: إنَّ [أَشْتَاتاً] راجع إلى ما قبل الحشر عند الخروج أو الصدور من قبورهم باعتبار تفرق قبورهم. أو لأنهم كانوا في الدنيا مشتتين, فيكون الحاصل إنَّهم يُجمعون بالرغم من تفرقهم.<BR>وجوابه: إنَّ الظاهر عودة الأشتات إلى الصدور, يعني بعد الصدور لا قبله.<BR>الرابع: إنَّهم أشتات ما بين الصدور والحشر. فإن الذي يحصل في يوم القيامة ثلاثة أمور: <BR>الأول: رجوع الموتى إلى الحياة.<BR>الثاني: الذهاب إلى عرصة المحشر. <BR>الثالث: الحساب في عرصة المحشر. <BR>وأشتاتاً يعود إلى الأمر الثاني. وفي عرصة المحشر يُجمعون بعد التفرق.<BR>الخامس: أن نقول بالحشر التدريجي, وفكرته: إنَّ كل جماعة أو كل جيل أو كل دين يحشر لوحده ويحاسب. فيراد بالتفرق والأشتات, أي في أزمنة متعددة.<BR>ويرد عليه: إنَّ هنا وضوحاً في أذهان المتشرعة بحصول الحشر الدفعي. وان الحشر التدريجي باطل. وكذلك هو ظاهر قوله تعالى: [وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً][ ] .<BR>ويمكن أن يجاب على ذلك بما ورد في عدد من الروايات[ ] : إن قبل آدمكم هذا ألف أدم وألف عالم. فهل يحاسب هؤلاء كلهم دفعة واحدة؟.<BR>حسب فهمي: إنَّ كل نسل يحاسب على حده,والحساب إن لاحظناه دفعياً فهو صادق لكل نسل وحده. وان لاحظناه تدريجياً, فباعتبار تعدد النسل, كما نصت عليه الروايات, المشار إليها.<BR>فان قلت: فما المقصود إذن, من [النَّاسُ] في قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً]؟.<BR>قلت: إنَّ المقصود بهم أحد أمرين:إما أولاد آدم, أي النسل الحالي على وجه الأرض.وهذا هو الأقرب إلى الظهور الأولي للقرآن الكريم, فيثبت الحشر الدفعي لهذا النسل.<BR>وإما أن يراد بهم الذوات العاقلة المدركة القابلة للثواب والعقاب. وهذا المعنى شامل لكل ذاك النسل المشار إليه في الروايات. إلا أن هذا يعني: أن لكل نسل منهم حشراً دفعياً. وهو معنى وجيه, وأما أن نقول: إن ظاهر الناس اجتماع كل تلك النسول دفعة واحدة. فهذا مما لا يمكن المصير إليه. وكذلك في قوله تعالى: وحشرناهم جميعاً فلم نغادر منهم أحدا.<BR>سؤال: عن قوله تعالى: [لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ].<BR>جوابه: قال العكبري[ ] : [لِيُرَوْا] يتعلق بـ[يَصْدُرُ].ويقرأ بتسميَّة الفاعل وبترك التسميَّة وهو من رؤيَّة العين, أي جزاء أعمالهم.<BR>أقول: إنَّ قلت: [لِيُرَوْا] ليس جاراً ومجروراً ليتعلق بشيء.<BR> قلت: إنَّهم يعتبرونها بتقدير (أن) المصدريَّة. فتكون لام الجر داخلة على المصدر المسبوك منها مع مدخولها. فيحتاج إلى متعلق.<BR>ويكون المعنى بناء على القراءة المشهورة مبنياً للمفعول, وإن الفاعل المحذوف هو الله سبحانه أو الملائكة ونحو ذلك, يعني: يريهم أعمالهم.<BR>وان قرأناه على القراءة الأخرى مبنياً للفاعل. كان من رؤية العين وقد أخذ مفعولاً واحداً.<BR>وأما إذا قرأناه مبنياً للمفعول, فهو بمعنى تعديه إلى مفعولين, باعتبار تحوله من الثلاثي إلى الرباعي. فالثلاثي: رأى, يرى. والرباعي: أُرِي, يُرى. إذا حُمل على الرؤيَّة. وهذا قليل الاستعمال في العربيَّة. ومثاله: خاط زيد الثوب. وأخاط زيد عمراً الثوب, أي حمله على الخياطة. فيتعدى إلى مفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبر. وكذلك الحال في يُروا, بان يكون نائب الفاعل بمنزلة المفعول الأول. والمنصوب هو الثاني.<BR>قوله تعالى: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ].<BR>قال مشهور المفسرين: إنَّ المراد أن الإنسان يرى عمله يوم القيامة.<BR>ويرد على ذلك عدة إشكالات.<BR>الإشكال الأول: ما أشرنا إليه فيما سبق من أن المرئي حقيقة إن كان هو العمل, فلا وجود له يوم القيامة ليكون قابلا للرؤيَّة.<BR>ويجيب المشهور على ذلك بأحد وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّه يرى جزاء عمله من ثواب وعقاب.. غير أن ذلك يستلزم التقدير وهو خلاف الأصل.<BR>الوجه الثاني: إنَّهم قالوا بتجسد الأعمال. فهو يرى عمله على شكل جسم. وهو أيضاً يحتاج إلى نحو من التقدير؛ لأنه ليس رؤيَّة للعمل نفسه بل للجسم النائب عنه أو البديل له مضافاً إلى ما سبق أن ناقشنا به هذا المسلك عموماً.<BR>الإشكال الثاني: انه هل يوجد عمل بمقدار ذرة؟.<BR>وهو إشكال على ظاهر الآية, مضافاً إلى كونه موافقاً لفهم المشهور. <BR>وجوابه: إنَّه ينبغي أن يقال أحد أمور:<BR>الأمر الأول: إن جزء العمل عمل. فالصلاة عمل وجزؤها الركوع وجزؤه الذكر وجزؤه الحرف. وكلها أعمال يُجزى عليها. فإذا لوحظ العمل كمجموع, فانه لا يكون صغيراً, وأما إذا لاحظناه لحاظ تحليلياً فهو أعمال كثيرة وصغيرة. ويمكن أن تكون الآية قد لاحظت ذلك.<BR>الأمر الثاني: إنَّنا لو تنزلنا عن الأمر الأول, وقلنا بان الأعمال الجسديَّة واضحة وكبيرة. فان الأعمال ليست فقط تلك, بل هناك الأعمال الباطنيَّة: النفسيَّة والقلبيَّة والعقليَّة. وهي ليست دائماً بذاك الوضوح. بل قد توجد في غايَّة الصغر والضآلة. كخطورٍ في الذهن في لحظة. فهو بمقدار ذرة. ويشبه ما ورد: لو تكاشفتم لما تدافنتم, أي تكاشفتم بما في الخواطر والنفوس.<BR>الإشكال الثالث: إن المراد بالرؤية في يوم القيامة ليس هو نفس الأعمال, وإنما التقييمات الأخلاقية لها, ولا أهميَّة لأي عمل بدون تقييم فهو العمدة في يوم القيامة. ويمكن أن تكون الآية واضحة من هذه الناحيَّة. ومن الواضح أن بعض التقييمات كبير, وبعضها قليل مثل قيد شعرة أو مثقال ذرة.<BR>الإشكال الرابع: إن الأعمال إنما هي أعراض وليست جواهر. وما يمكن تعلق الرؤيَّة به الجواهر لا الأعراض.<BR>جوابه: إنَّه ــ عرفاً ــ يقال رأيته ويراد به العرض. فالأعراض من الناحيَّة العرفية مرئيَّة ومحسوسة في الدنيا والآخرة. <BR>والمشهور يقول: إنَّ الأعمال نراها جوهراً, أي: بعد تحولها إلى جوهر. وهو القول بتجسد الأعمال. إلا انه لا ضرورة إلى ذلك في حدود الجواب على هذا الإشكال الأخير.<BR>كما يمكن القول: بان الرؤيَّة في الآخرة بمعنى التذكر للأعمال الموجودة في الدنيا.<BR>فان قلت: إنَّ التذكر ليس رؤيَّة.<BR>قلت: إنَّ التذكر قد يكون من الوضوح بحيث يكون بمنزلة الرؤيَّة, فكأنه يعيش في الدنيا وإن لم يكن كذلك.<BR>سؤال: ما هو المرئي في هذه الرؤيَّة؟.<BR>جوابه: فيه عدة احتمالات غير متنافيَّة: <BR>الاحتمال الأول: إنَّ المراد هو العمل المنجز, ويكون المرئي هو العمل المنجز نفسه. فمن يصلي يرى صلاته في الدنيا ويراها في الآخرة أيضاً.<BR>الاحتمال الثاني: أن يكون المراد بالعمل: العمل القلبي, والرؤيَّة للعمل القلبي أيضاً, فمن يحب أهل البيت ?, يرى ذلك في الدنيا والآخرة أيضاً.<BR>الاحتمال الثالث: أن يكون المراد بالعمل: العمل المنجز ويكون المرئي هو الباطن كما في مرتكزات النفس لدى ظهورها بعد التحميص والبلاء.<BR>والضمير في [يَرَهُ] لا يرجع إلى مادة [يَعْمَلْ] ولا إلى هيئته. فان كليهما خلاف الظاهر, بل يرجع إلى المثقال. وفيه نفس هذه الاحتمالات.<BR>سؤال: يتحصل من سياق عبارة الطباطبائي في الميزان[ ] , تخيل المنافات بين ما تدل عليه هاتان الآيتان من عموم الرؤيَّة للأعمال, وبين الآيات الدالة على حبط الأعمال, أو الدالة على انتقال الأعمال إلى الآخرين ونحو ذلك.<BR>جوابه: من وجوه: <BR>أولاً: إنَّ الفرد الذي يرى عمله قبل التحول, يراه طرفة عين أو آناً ما, ثم يتحول أو يحبط. فلا تنافي بين الأمرين؛ لأنهما مختلفان رتبة. <BR>ثانياً: ما ذكره صاحب الميزان[ ] , من أن الطائفة الثانية حاكمة على هاتين الآيتين؛ لأنه يكون بعد الانتقال لا عمل له فلا يراه.<BR>ثم انه ?, أمر بالفهم: (فافهم) دلالة على قابليته للمناقشة. من حيث انه عند الانتقال والإحباط لا يتغير العامل, بل يستحيل ذلك عقلاً. وإنما يقع التغير فقط على الثواب والعقاب, إذن فبناء على هذا الوجه سوف نحتاج إلى تقدير, وهو خلاف الأصل.<BR>ثالثاً: إنَّ هاتين الآيتين لم يذكرا أنه يراه كعمل له. بل لعله يراه كعمل لغيره, فتحصل الرؤيَّة إجمالاً بعد الانتقال أو الإحباط.<BR>سؤال: المثقال أكبر من الذرة التي نعرفها ملايين المرات فكيف تقاس, كما هو المفهوم من قوله تعالى: [مِثْقَالَ ذَرَّةٍ]؟.<BR>جوابه: هذا مبني على الفهم الحديث على أن الذرة هي الإلكترونات والبروتونات ونحوها, وكون المراد من المثقال هو أحد الأوزان القابلة للقسمة عرفاً. في حين لم يكن هذا ولا ذاك مفهوماً في الزمن الماضي, في صدر الإسلام وفي عصر الصدور. <BR>ولكن مع التنزل عن ذلك, يمكن أن نجيب بأجوبة أخرى:<BR>أولا: إنَّ مثقال ذرة تعبير عرفي يراد به التقليل للعظيم. مع الالتفات إلى أن الفهم العرفي السابق للمثقال كونه أصغر من الفهم المعاصر.<BR>ثانياً: يمكن إلغاء معنى المثقال من الآية؛ لأن المهم الأخذ بما يدل على الضآلة وهو الذرة دون المثقال. فيبقى هذا التعبير مجرد تعبير أدبي.<BR>ثالثاً: ما ذكره الراغب حين قال[ ] : والمثقال ما يوزن به, وهو من الثقل. وذلك أسم لكل سنج (عيار أو صخر). <BR>قال تعالى: [وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ]. وقال:[ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ].<BR>أقول: وهذا معناه احد أمرين.<BR>1- إن المثقال معنى عام حتى للأوزان الخفيفة جداً, بحيث لا مانع من مقايسته بالذرة. <BR>2- إن القرآن قد أستعمله في ذلك ولو مجازاً.<BR>سؤال: قاله القاضي عبد الجبار[ ] : أليس ذلك يوجب أنَّ الكافر والفاسق إذا فعلا طاعات يُريان ثوابهما. وذلك على خلاف قولكم.<BR>جوابه: إنَّه أجاب عليه بقوله[ ] : إنَّ الخير المستحق على الطاعة هو الثواب. وإنما يستحقه فاعل الخير إذا لم يكن معه معصيَّة أعظم من الطاعة. فأما إذا كانت معاصيه من باب الكفر والفسق فلن يرى ذلك؛ لأن الوعد والوعيد مشروط بما ذكرنا في الثواب والعقاب. <BR>أقول: يعني إذا لم يكن معه معصيَّة أعظم من الطاعة, وأما إذا كان كذلك فلا يراه.<BR>وهذا غير تام؛ لأننا إذا افترضنا في مرحلة من التفكير أن الكفار والفاسقين لديهم طاعات إجمالاً ـ كما أقربه القاضي عبد الجبار ـ فليس من العدل الإلهي أن لا يثابوا بها ولا يرونها؛ لأن ذلك سوف يكون من الحجة على ربه.وحاشاه.<BR>على أن العبارة على هذا التقدير, تحتاج إلى تقدير, وهو خلاف الأصل. في حين لو زال التقدير, فيكون المرئي هو نفس العمل وهو مما يمكن حصوله, سواء أُثيب عليه أم لا.<BR>على أننا يمكن أن نجيب على السؤال بأجوبة أخرى: <BR>منها: إنَّ هؤلاء الذين أشار إليهم القاضي عبد الجبار وهم الكفار والفسقة, ليس لهم طاعات إطلاقاً, فلا يرونها لأنها غير موجودة. وذلك لأكثر من تقريب:<BR>التقريب الأول: إنَّ الطاعات إنما تقبل في ميزان العدل الإلهي ويُجزى عليها بالخير, وذلك مع درجة من صفاء النيَّة وطيبة القلب. ولو كانت بدرجة ضئيلة جداً. وإلا لم يكن العمل مقبولاً, فلا يكون لديه طاعات حقيقيَّة, وان تخيل ذلك لنفسه. ويؤيد ما ورد من[ ] : أنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم.<BR>التقريب الثاني: ما ورد من أنه[ ] : لا تقبل طاعة عبد إلا بولايتنا أهل البيت. ومعه فان كانت الولايَّة موجودة فالطاعة موجودة, أو أن العمل طاعة فعلاً. وإلاّ لم يكن طاعة, وإن توهم ذلك. ومن تطبيقات ذلك قول الكافر يوم القيامة: [يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً][ ] .<BR>هذا, ولو أخذنا بالفهم الذي رجحه القاضي عبد الجبار, وهو حصول النجاة بمجرد أن تثقل كفة الحسنات. فعندئذٍ يدخل الجنة بغير حساب. حينئذٍ أمكن أن نقيد الآية الكريمة بذلك بأن نقول: إنَّه يرى حسناته إذا لم تثقل سيئاته عليها, ويرى سيئاته إذا لم تثقل حسناته عليها, ومن الواضح إن التقييد لا ضير فيه عرفاً.<BR>سؤال: ما هو محل خيراً وشراً من الإعراب؟.<BR>جوابه: قال العكبري[ ] : خيراً وشراً بدلاً من مثقال ذرة ويجوز أن يكون تميزاً. والله أعلم.<BR>أقول: وهناك احتمال ثالث قلما يُلتفت إليه, وبالرغم من عدم صحته لا بأس بطرحه هنا لتنميَّة الذهن.وهو أن يكونا مفعولين, وإن كان الفعل أساساً يأخذ مفعولاً واحداً.<BR>وذلك: إنَّ الفضلات لا تكرر عادة كحالين متتابعين أو تمييزين أو مضافين أو مفعولين لفعل متعد واحد.وكل ذلك عليه المنع في الغالب وبعضها المنع مطلقاً. ولكن ــ حسب فهمي ــ فانه ممكن أحياناً وأن كان خلاف العادة.<BR>فمثلاً: يمكن أن نقول: (سرج الفرسِِ ِزيدٍ). بعنوان إن زيد مضاف ابتداءاً إلى السرج, كما إن الفرس مضاف إليه نفسه أيضاً.<BR>وليس هذا من قبيل الإضافات المتعددة, وهي الإضافة إلى الإضافة, يعني: المضاف إليه إلى المضاف إليه. كقول الشاعر[ ] :<BR>حمامة جرعى حومة الجندل أسجعي<BR>  فأنتِ بمرأى من سعاد ومسمع</P>

<P>ِوهنا نقول: مثقال, مفعول به. وشراً وخيراً أيضاً مفعول به, أي بتكرر المفعول به لما يأخذ مفعولا واحداً. فكأننا أسقطنا المفعول الأول وأتينا بالثاني, كأنه الوحيد الموجود.<BR>إلا أن هذا بمجرده لا يتم, إلا بعد دمج أحد المفعولين بالآخر, إما معنوياً (بافناء المثقال بالخير باعتبار أن الثاني هو المقصود الرئيسي) أو بتقييده به. فيتكون منهما مفهوم واحد يكون هو المفعول به الواقعي معنوياً. وإن لم يقبل النحويون بذلك. </P>

<P><BR>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>ســـورة البينة<BR>في تسميتها عدة أطروحات:<BR>أولاً: سورة البينة وهو المشهور.<BR>ثانياً: سورة البريَّة, كما سماها العكبري[ ] .<BR>ثالثاً: سورة [الذينً كَفرُا], كما في بعض الروايات[ ] .<BR>رابعاً: سورة [لًمْ يَكُن], بتسميتها باللفظ الأول فيها.<BR>خامساً: السورة التي ذكر فيها [الَبرِيَّة] أو [الَبيَّنةُ] أو [الذَيِن كَفَرُوا].<BR>سادساً: إعطاؤها رقمها من القرآن الكريم وهو: 98.<BR>سؤال: ما هو معنى حرف الجر [مِنْ] في قوله تعالى:  [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ]؟.<BR>جوابه: يحتمل أمران:<BR>الأمر الأول: أن تكون تبعيضيَّة, وهو اختيار الميزان[ ] . ويكون المعنى: بعضهم من أهل الكتاب وبعضهم من المشركين.<BR>الأمر الثاني: أن تكون بيانيَّة, فيكون المعنى: الكفار الذين  هم أهل الكتاب والمشركون.<BR>وحسب الفهم الآتي, فإن المراد من الآية: إن الكفار والمشركين سوف لن يتغيروا ولن يتوبوا حتى تأتيهم البينة. ولن ينفكوا عن دينهم  إلا بإقامة الحجة كما سيأتي. وعلى هذا, فإنه يترجح كون [مِنْ] للتبيين لا للتبعيض ــ كما رجح الميزان ــ لأن  المراد جنس الكفار لا بعضهم.<BR>سؤال: إن أهل الكتاب اخذوا  في الآية في مقابل المشركين, مما يظهر  إنهم ليسوا  بمشركين: مع أننا نعلم أنهم مشركون. فكيف صح ذلك؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّه عطف العام على الخاص, حيث اقتضت المصلحة ذكر أهل الكتاب لكي يلتفوا, ولكي يحصل جدل بينهم. ومعه لا يتعين من التعبير أن لا يكون أهل الكتاب من المشركين.<BR>الوجه الثاني: إنَّه يمكن القول إنهم ليسوا بمشركين, فإن كان ظهور الآية بذلك, فهو ليس أمراً مستنكراً. وتقريب ذلك من وجوه:<BR>أولاً: إنَّهم باعتبار دينهم الأصلي ليسوا بمشركين جزماً.<BR>ثانياً: إنَّنا نعدّهم غير مشركين إحتراماً لأنبيائهم, كما قربنا ذلك في ما وراء الفقه[ ] .<BR>ثالثاً: إنَّهم عملياً ليسوا بمشركين بل موحدون. أما اليهود فإنهم وإن كانوا يميلون إلى التجسيم, إلاّ ان التجسيم لا يتنافى مع التوحيد. وأما النصارى فلأنهم وإن أمنوا بالثالوث المقدس إلا أنهم يعتبرون الأهم في الثلاثة هو الأب, فهو الخالق حقيقة, والباقي مخلوقون. فعاد الأمر إلى نحو من أنحاء التوحيد.<BR>رابعاً: إنَّ المشركين أسم لعبدة الأصنام خاصة, أما مطلقاً أو من كان منهم في الجزيرة العربيَّة. لأن المعهود يومئذٍ هذان القسمان, فكان مقتضى قاعدة (كلم الناس على قدر عقولهم) هو الإشارة إليهم. وإن يمكن التجريد عن الخصوصيَّة من كل تل تلك النواحي.<BR>خامساً: ما ذكره القاضي عبد الجبار قائلاً [ ] : إنَّه في أصل اللغة, المشرك هو الكافر المخصوص الذي يتخذ مع الله شريكاً, لكن من جهة عرف الشرع أطلق ذلك على كل كافر كما عقل من قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]. ومن قوله:  [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]. فلا يمتنع أن يفضّل بينهما في بعض المواضع. وهذا كما يقال مثله  في المسكين والفقير. <BR>أقول: إلا أن هذا الوجه بمجرده واضح الدفع؛ لأنه لا يحتمل أن يكون بين الفقير والمسكين إلا نسبة التساوي أو التباين في حين أن الآية تجعل النسبة بين الكفار والمشركين العموم المطلق.<BR>سؤال: إنَّ قوله تعالى: [الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ], دال على أن بعض الكفار مشركون لا جميعهم. في حين أننا ينبغي أن نعرف إن جميعهم مشركون, فكيف الحال في ذلك؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّ [مِنْ] ليست للتبعيض كما سبق. وإنما هي بيانيَّة. ويكون المراد من السياق التفصيل بعد الإجمال.<BR>الوجه الثاني: إنَّ الأمر يدور بين أن يكون ما قبل [مِنْ]  مقسماً, إلى ما بعده, كما هو المفهوم عادة, وبين أن يكون ما بعدها مقسماً إلى ما قبله. فلا يتعين المعنى المشهور الذي ابتنى عليه السؤال.<BR>سؤال: ما هو المراد من قوله: [مُنفَكِّينَ]؟.<BR>قال الراغب[ ] : الفك التفريج, وفك الرهن تخليصه. وفك الرقبة عتقها. <BR>أقول: وكله بمعنى الفك والانفصال أما مادياً أو معنوياً.<BR>قال: "وقوله: [فَكُّ رَقَبَةٍ] قيل: هو عتق المملوك. وقيل: بل هو عتق الإنسان نفسه من عذاب الله. وأضاف: والفك انفراج المنكب عن مفصله ضعفاً. والفكان ملتقى الشدقين. <BR>أقول: بل هما نفس الشدقين, وإلا لما صحت تثنيته؛ لأنه واحد لا يزيد. وإنما عبر عنه بالفك, لحصول الانفكاك والانفصال فيه بينهما.<BR>والانفكاك يحتاج إلى طرفين: منفك ومنفك عنه. وأحد الطرفين موجود في الآية وهو الفاعل في قوله: [مُنفَكِّينَ]. وأما الطرف الآخر فمحذوف. ومن هنا تحير المفسرون فيه. وهو يكون على وجوه:<BR>الأول: ما فهمه الراغب[ ] , وهو المشهور, من أن المراد أنهم منفكين عن بعضهم البعض, يعني إن المنفك هو عين المنفك عنه سنخاً وإن أختلف عنه فرداً.[حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ]. فإن أتت البينة أصبحوا مسلمين.<BR>الثاني: ما فهمه صاحب الميزان[ ] , من عدم انفكاك وانفصال الهدايَّة عنهم, كأن السنة الإلهية قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة, ولما أتتهم تركتهم وشأنهم.<BR> وهذا غريب لوجوه:<BR>1ــ إن فاعل الانفكاك في الآية هم الكفار والمشركون وليس الهدايَّة كما قال.<BR>ويمكن أن يجاب عليه: إن الانفكاك بما أنه حاصل من طرفين, فعدم انفكاك أحدهما ملازم لعدم انفكاك الأخر, وهو كما ترى.<BR>2ــ لا وجود لذكر الهدايَّة قبل ذكر البينة.<BR>3ــ مع التنزل, كيف تنفك عنه الهدايَّة بعد البينة, بل هي هي.<BR>الثالث: إنَّهم منفكون عن صفتهم المذكورة نفسها وهي الكفر والشرك. وإنهم من أهل الكتاب, إلى الهدايَّة والإسلام. فلا يكون ذلك إلا بالبينة.<BR>ولعل هذا هو أوضح المحتملات, ولا يحتاج إلى تأويل, كما ذكر في الميزان. لان الاعتماد في هذا الوجه. على العناوين التفصيليَّة المذكورة نفسها.<BR>الرابع: يوجد في الآية ذكر لصفتين من الناس, كلاهما متعاضدان ضد الحق والإسلام, كانوا على ذلك ولا زالوا عليه هما: أهل الكتاب والمشركون. فهذا التعاضد المنصوص لا ينفك ولا يتبدل حتى تأتيهم البينة.</P>

<P>إعراب هذه الآيات:<BR>قال العكبري[ ] : [وَالْمُشْرِكِينَ] هو معطوف على [أَهْلِ]. و[مُنفَكِّينَ] خبر كان. و[مِنْ أَهْلِ] حال من الفاعل في [كَفَرُوا].<BR>أقول: ــ للتوضيح ــ  فإن قلت: هذا تفصيل بعد اجمال. ويكون المعنى: إن الكفار متصفون بصفتين: كونهم مشركين وأهل الكتاب. والتفصيل بعد الأجمال لا يناسب معنى الحال الذي ذكره العكبري.<BR>قلت: هذا وإن كان صحيحاً, إلا أنه لا ينافي معنى الحال؛ لأن المراد كون حالهم كذلك.<BR>وأضاف العكبري[ ] : [رَسُولٌ] هو بدل من [الْبَيِّنَةُ], أو خبر مبتدأ محذوف.<BR>   أقول: ــ حسب فهمي ــ: إن الأفضل هو معنى البدليَّة؛ لأن الخبريَّة تستلزم التقدير. وهو خلاف السياق, وكذلك إن الضمير لا يعود إلى مرجع محدد في العبارة عندئذ.<BR>فإن قلت: كيف يكون المذكر: [رّسَولٌ], بدلاً من المؤنث: [الْبَيِّنَة]؟.<BR>قلت: أولاً: إنَّه إبدال مجازي وليس حقيقياً؛ لعدم صحة حمله عليه حقيقة. بل هو من أسبابه؛ لإقامة الحجة عليهم بالرسول. فناسب نسبة العلة إلى المعلول مع إسقاط لحاظ التأنيث. <BR>ثانياً: إنَّ التأنيث في البينة لفظي. والتأنيث المجازي بمنزلة المذكر.<BR>وأضاف العكبري[ ] : [مِّنَ اللَّهِ], يجوز أن يكون صفة. <BR>أقول: إنه موصوف بأنه من الله.<BR>قال: أو متعلقا به. <BR>أقول: لأن [رّسَولٌ], مشتق قابل لتعلق الجار والمجرور به.<BR>قال: [ويَتْلُو], حال من الضمير في الجار.<BR>أقول: الجار ليس فيه ضمير, والجار والمجرور معاً ليس فيهما ضمير أيضاً. وكذلك متعلق الجار والمجرور وهو [رّسَولٌ]. فأين وجد هذا الضمير؟.<BR>قال: أو صفة لرسول. ويجوز أن يكون [مِّنَ اللَّهِ] حالا من [صُحُفاً], أي يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله.<BR>أقول: صحف من الله, رسول من الله يتلو من الله. كله محتمل عقلا. إلا أن تعلقه بـ[يَتْلُو] لا يخلو من إشكال؛ لأنه متأخر لفظاً عن الجار والمجرور. وإنما يتعلق الجار والمجرور بما هو متقدم. <BR>قال: [فِيهَا كُتُبٌ], الجملة نعت لـ[صُحُفا].<BR>وقال الرازي في هامش العكبري[ ] : المراد بالرسول هنا محمد ? بلا خلاف. <BR>فكيف قال تعالى: [يَتْلُو صُحُفاً] وظاهره يدل على قراءة المكتوب من الكتاب. وهو منتفٍ في حقه?؛ لأنه كان أمياً.<BR>قلنا: المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلب؛ لأنه هو المنقول عنه بتواتر.<BR>أقول: بناء عليه يكون الإسناد إسنادا مجازياً؛ لأن التلاوة  تكون بالمباشرة من المصحف, وهذا يكون قبل كتابة القرآن في الصحف, أو المراد  بها التشريع أو الهداية لأصول الدين. فإذا كان كذلك  كانت التلاوة مجازاً, أو هي تلاوة بالمقدار المناسب لها, أي الأعراب والإفصاح عنها. وقد كان رسول الله ? كذلك.<BR>وقال الرازي أيضاً [ ] : فإن قيل: ما الفرق بين الصحف والكتب, حتى قال: صحفاً مطهرة فيها كتب, قلنا: الصحف القراطيس, وقوله تعالى: مطهرة, أي من الشرك والباطل.وقوله تعالى: فِيهَا [كُتُبٌ قَيِّمَةٌ], أي مكتوبة مستقيمة ناطقة بالعدل والحق, يعني الآيات والأحكام.<BR>أقول: الكتب يعني: الكتابات أو الكتاب نفسها, كما ورد عنه ?: تعلم كتاب يهود. وكتاب مذكر كتابة, وهي تكون في القراطيس والصحف. وحملها على المعنوي أوضح  من السياق؛ لأن القراطيس لا تكون مطهرة من الشرك والباطل؛ لأنها فيها كالسالبة بانتفاء الموضوع. والكتب قيمة, أي مستقيمة بالعدل, كما قال بمضامينها ومعناها.  فالمراد هو المعنى عموماً.<BR>وعلى أي حال, فالتلاوة تكون بمقدار يناسب الصحف, فإن كانت القراطيس حقيقية فالتلاوة حقيقيَّة, وإن كانت مجازيَّة, فالتلاوة مجازيَّة, كما هنا كذلك.<BR>فإن قلت : فإنه في عالم المعنى  لا يبقى فرق بين الصحف والكتابة.<BR>قلت: جوابه من عدة وجوه.<BR>أولاً: أن نقبل إنهما بمعنى واحد . ويكون قوله: [يَتْلُو] راجعاً إلى كلا اللفظين. وقد وصف المجموع بكلا الوصفين: [مُّطَهَّرَةً] و[قَيِّمَةٌ]. والتفريق بينهما أدبي؛ لأجل تحسين السياق.<BR>فإن تنزلنا عن هذا الوجه صرنا إلى الوجوه التاليَة التي تلحظ الاختلاف في المعنى.<BR>ثانياً: إنَّ الصحف ناظرة إلى مجموع ما يفيد البشر من الأمور المعنويَّة. والكتب ناظرة إلى الأقسام والحصص, كأصول الدين وفروعه.<BR>ثالثاً: إنَّ الصحف ناظرة إلى تعدد العوالم, وكل عالم منها ذو نظام كوني مستقل. والكتب ناظرة إلى تفاصيل العالم الواحد منها.<BR>رابعاً: إنَّ الصحف ناظرة إلى اللوح المحفوظ, حيث يكتب فيه القلم الأعلى. والكتب ناظرة إلى تفاصيله.<BR>فإن قلت: ولكن الصحف جمع, واللوح المحفوظ مفرد.<BR>قلت: إنَّ اللوح المحفوظ وإن كان واحداً, إلاّ أنه يمكن لحاظه  متعدداً بالتحليل. وذلك باعتبار الجوانب التفصيلة فيه, أي التقسيم المكاني والزماني وغيره. فإن لكل واحد منها لوحه الخاص به وكتابته الخاصة به. وبهذا اللحاظ يكون متعدداً.<BR>فأن قلت : فما معنى التلاوة في اللوح المحفوظ؟.<BR>قلت: إنْ قصد به القضاء والقدر, فيراد به التلاوة, التلاوة التكوينيَّة لا القراءة بالمعنى العرفي, بل إنجاز الأمور تدريجاً وتطبيقاً مهما طال الزمن. والرسول ? كذلك, أي يتلوه ويطبقه.<BR>وإن قصد به التشريع, فالتلاوة هي الأمر والنهي, أي انشغال الذمم بالتكاليف. وتبليغه ? الناس بذلك. سواء كان ذلك من قبيل التلاوة  على ورقة أو من القرآن أو أي شيء أخر.<BR>إن قلت: هذا لا ربط له بأهل الكتاب والمشركين. مع إن الآيات تذكرهم.<BR>قلت: جوابه من عدة وجوه:<BR>أولا: إنَّ أوصاف النبي ? لا ضرورة إلى ارتباطها  بذلك السياق. وإنما هي أوصاف مستقلة لتعريف فضله وعلو شأنه.<BR>ثانياً: إنَّها هدايَّة لهم ولغيرهم.<BR>ثالثاً: إنَّ حصةً منها هدايَّة وحصة تكوين؛ لأن من جملة الأمور التكوينيَّة  وجود الرسالة المحمديَّة.<BR>رابعاً: أن نعترف بالانفصال بتقدير : هو رسول. والارتباط كاف في السياق بمضمونين: إنَّهم سيكونون منفكين بفعل الرسول?.<BR>والقوامة على الأول تشريعيَّة وعلى الثاني تكوينيَّة, وهي إنما هي ثابتة للرسول ? وليست للكتابة ولا للصحف بعنوانها  الاستقلالي.<BR>سؤال: عن معنى الكتب في قوله تعالى: [فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ].<BR>جوابه: إنَّنا إن أخذنا بالمعنى المتعارف فإنه يشمل الكتب السماويَّة الحقة كلها. ويؤيده ما قلناه من أن البينة  الثانية إنما هي نحو ذلك.<BR>إلا أنه مع ذلك لا يتم؛ لأن ظاهر الآية إن الكتب في الصحف لا أن الصحف في الكتب. فإذا حملنا الكتب والصحف على المعنى المتعارف, كانت الصحف في الكتب دون العكس, فيتعين بالسياق أن يراد بها الكتابة, كما سبق أن قلنا.<BR>قال في الميزان[ ] : وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية  ومعاني مفرداتها, حتى قال بعضهم ــ على ما نقل ــ: إنَّ الآية أصعب الآيات نظماً وتفسيراً. والذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها, من غير تناقض بين الآيات وتدافع بين الجمل والمفردات".<BR>أقول: لا توجد آية في القرآن الكريم لا يمكن التوصل إلى معناها, باستثناء الحروف المقطعة . وذلك لعدة أسباب مفهومة, أهمها: أن القرآن إنما أُنزل إلى الناس لهدايتهم, ولا تحصل الهدايَّة بغير التفهم.<BR>وعلى أي حال, فإنه لا يوجد كلام غير مفهوم, بل لا معنى لذلك البتة, ولكن الخطاب  إنما يوجد بمقدار فهم المُخاطَب , والله تعالى يعلم مقدار فهمه. وإذا عرضنا ــ كما سبق ــ عدة أطروحات للفهم, كفى أن تصح واحدة منها لفهم المعنى, أياً كانت هي منها. وإنما هؤلاء قوم قاصرون  وقد أضافوا  صفتهم  إلى غيرهم .. إلى كتاب الله سبحانه.<BR>سؤال: عن معنى القيمة في قوله تعالى: [فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ].<BR>جوابه: فيها عدة احتمالات أو أطروحات:<BR>أولاً: غلاء الثمن, يعني ثمن الكتب.<BR>ثانياً: علو المعنى والأهميَّة.<BR>ثالثاً: القيمومة, كما قال الله تعالى: [دِيناً قِيَماً][ ], أي قيماً, وقال: [وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] [ ], أي الدين القيم, أو دين الجماعة القيمة, كما سيأتي. فيكون المضمون والقانون المسجل في الكتب هو القيم على البشر تكويناً أو تشريعاً.<BR>سؤال: حول قوله تعالى: [ومَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ]. من حيث أن السياق واضح, بأن البينة هي السبب للتفريق. فكيف أصبحت كذلك, مع أنها  ينبغي أن تكون سبباً لاجتماع الآراء؟.<BR>جوابه: إنَّ [تَفَرَّقَ] فيها عدة أطروحات:<BR>أولا: أن نفهم الآية الثانية على ضوء الأولى فيكون [تَفَرَّقَ] بمعنى إنفك السابقة. فيكون  المعنى  هنا إنهم انفكوا عن دينهم  بالهداية, سواء كانت هداية الأنبياء السابقين أو الهداية الإسلامية.<BR>إذ يحتمل في [الْبَيِّنَةُ] هنا أمران:<BR>الأمر الأول: أن يكون المراد بها بينة الإسلام, أي بعثة النبي <BR>? فيكون المعنى إنهم تركوا اليهودية والنصرانيَة, فتفرقوا عن أمثالهم السابقين.<BR> الأمر الثاني: إنَّ نفهم  منها  مطلق البينة, يعني أية بينة تأتيهم, سواء كان هو موسى ? أو عيسى ?  أو سليمان ? أو محمد ?.<BR> وجوابه: أعني هذا الاحتمال الأول: إنَّ الظاهر من السياق  هو اختلاف مورد الآية الثانية عن مورد الأولى, وهو على هذا الإحتمال يكون واحدا, فيكون هذا الاحتمال منفياً بظاهر السياق.<BR>ثانياً: ما ذكره الرازي في هامش العكبري[ ] : من أنهم كانوا متفقين على نبوة نبينا ? قبل بعثته. ثم تفرقوا بعدها, فمنهم من آمن ومنهم من كفر والمراد بالبينة عندئذ الإسلام.<BR>وجوابه: إنَّ ظاهر الآية تفرقهم بما هم أهل الكتاب لا بعد الإيمان. مضافاً إلى إن الانفكاك منفي لا مثبت, فتأمل.<BR>ثالثاً: تفرق أهل الكتاب في البلدان لغرض الهدايَّة  للبينة, والمراد  بها هنا دينهم حينما كان حقاً. فهم يحملون هذه البينة إلى الناس بهدايتهم إلى دينهم.<BR>وجوابه: إنَّ الظاهر تفرقهم بالرأي, أي في الدين أو المذهب لا بالجسم, كما هو مقتضى هذا الاحتمال.<BR>رابعاً: تفرقهم  فيما بينهم بالآراء والمذاهب, بحيث أصبحوا يكفر بعضهم بعضاً, وانقسموا إلى كاثوليك وأرثوّذوكس وسريان وأثور وأرمن, وغير ذلك. ومنهم من لا يعترف بالبابويَّة. ومنهم من لا يعترف ببعض أجزاء الكتاب, أعني التوراة والإنجيل المتعارفة, بينما يؤمن الآخرون بها جميعاً.<BR>وهذا الاختلاف لم يحصل الا بعد البينة. ويراد بها هنا بعثة أنبيائهم.<BR>وهذا المعنى موجود في عدد من آي الكتاب الكريم, كقوله تعالى: [ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ][ ]. أو قوله سبحانه: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ][ ]. <BR>لأن هناك نحو ملازمة بين الهدايَّة وحصول الاختلاف عملياً.<BR>فأن قلت: كيف يكون إنزال الكتاب وتبليغ العلم سبباً للتفرق.<BR>جوابه: إنَّه يقول في الآية:[ بَغْياً بَيْنَهُمْ]. فلا يكون العلم بمجرده سبباً للتفرق والاختلاف, وإنما مع انضمامه إلى المكر وهو البغي. أو قل: إنَّ عندهم آخرةً مع دنيا, فاطماع الدنيا هي التي توجب البغي.<BR>فإن قلت: إنَّ الله تعالى يستطيع أن ينزل عليهم مقداراً من العلم بما يمنعهم من التفرق والاختلاف. فلماذا لم ينزل علماً غزيراً [ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ][ ]؟.<BR>قلت: إنَّ الله لا يكلف نفساً إلا وسعها, ولا يكرههم على الأيمان. كما قال سبحانه: [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ][ ].<BR>وإنما ينزل عليهم من العلم, بمقدار يتصف بصفتين عليا ودنيا:<BR>الصفة العليا: كونه قابلا للهداية, إقتضاءاً لا عليَّة. <BR>والصفة الدنيا: إنَّ يكون بمقدار استحقاقهم وتحملهم واحتياجهم, لا أكثر من ذلك.<BR>فهو علم محدود بالرغم من تكامله, لا يمنع تكويناً من استعمال النزوات والشهوات لمن يريدها, فمن حده ذاك يتصرف أهل البغي والمنافقون.<BR>خامساً: من احتمالات التفرق: إنشعاب أهل الكتاب إلى جماعات دنيوية مضافاً إلى الجماعات الدينية, من حيث انقسامهم اقتصادياً واجتماعياً, أو دولياً أو أيديولوجياً, وغير ذلك. وهذا مما حصل فعلاً وعلى نطاق واسع.<BR>قال في الميزان[ ]: كانت الآية الأولى [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ..... الخ] تشير إلى كفرهم بالنبي?.. وهذه الآية تشير إلى اختلاف السابق على الـدَعوة الإسلامية..ومجيء البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم وأوضحه لهم أنبياءهم.<BR>أقول: وهو كما ترى, إذا كان المراد بالبيان النبوي هو خصوص الإسلام, كما هو المنساق من عبارته. وإنما البينة والعلم هو تعاليم أنبيائهم خاصة. نعم  يمكن الحمل على المعاني المشتركة بين كل الأنبياء.<BR>ننقل فيه لفظ الطبأطبائي حيث قال في الميزان[ ]: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في مذاهبهم, ولم يتعرض إلى تفرق المشركين وأعرضهم عن دين التوحيد وإنكارهم الرسالة.<BR>وجوابه: من أكثر من وجه:<BR>أولاً: ما أجاب به في الميزان[ ] : من أنه لا يبعد أن تكون الآية شاملة للمشركين كما هي شاملة لأهل الكتاب, يعني بالإطلاق.<BR>أقول: وهذا غير محتمل؛ لأن الآية مقيدة  بالذين آتوا الكتاب لفظاً. والمشركون ليسوا مصداقاً منهم. إلاَّ أن يراد الأمة المدعوة لهم لا خصوص الأمة المؤمنة منهم. وهو غير مقصود للمؤلف جزماً.<BR>  مضافاً: إلى أن عالمية الدعوة عندئذٍ كانت أقتضائية ولم تكن فعلية. والجزيرة العربية (وهي المحل الرئيس للمشركين يومئذٍ) لم تكن معهودة بالدعوة المسيحية في حياة المسيح, ونحو ذلك.<BR>   مضافاً: إلى ان المشركين ما جاءتهم البينة ولا العلم  فإننا إذا فسرناها بالأديان السابقة, فهولاء ليس لهم دين سابق.<BR>ثانياً: من أجوبة السؤال: إنَّ المشركين غير مهمين في نظر القرآن في هذه المرحلة من التفكير بإزاء الكفار الكتابيين؛ لوجود الأنبياء لديهم. <BR>ثالثاً:إنَّ المشركين لم يختلفوا لعدم حصول البينة لديهم. فمن هذه الناحيَّة أصبحوا خيراً من أهل الكتاب. وليس المراد من البينة الرسالة المحمديَّة, ليكون وصفاً مشتركاً بين الفريقين.<BR>إن قلت: ولكن المشركين اختلفوا أيضاً في أديانهم إلى أقسام كثيرة, كالبوذيَّة والهندوسيَّة والبراهمة والسيخ والمعطِّلة وغيرهم.<BR>قلت: هذا له أحد جوابين:<BR>الجواب الأول: إنَّه لوحظ الكفر والشرك ملة واحدة. فلم يختلفوا في عنوانه.<BR> ولكن قد يقال فيه: إن المسيحيين قد اختلفوا في دينهم, فلم يلحظهم الآن ملة واحدة, مع أنهم كذلك بالعنوان العام.<BR>وجوابه: يمكن أن يكون الاختلاف المشار إليه هو الاختلاق بين أديانهم الرئيسة. كما هو بين اليهوديَّة والمسيحيَّة.<BR>الجواب الثاني: إنَّ الاختلاف بين المشركين وان حصل, ولكنَّه لم يصل إلى القتال الديني, وإنما اختلفوا وقاتلوا في أمور دنيويةٍ محضة, ولم يسجل التاريخ أنهم تقاتلوا في الدين. في حين أن المسلمين والمسيحيين واليهود تقاتلوا في دينهم. وهو مراد القرآن الكريم هنا.<BR>رابعا: من الأجوبة على السؤال الرئيسي هنا: إنَّ المشركين لوحظوا مشركي الجزيرة العربيَّة. وهم لم يختلفوا عقائدياً من ناحيَّة اتفاقهم على عبادة الأصنام, وأهل الكتاب معروفون عند المجتمع, وهم مختلفون .<BR>فإن قلت: فإنَّ وحدة السياق تعيِّن الإسلام, في معنى البينة؛ لأن المراد منها أولاً هو ذلك بنص الآية, فكذلك المراد من الثاني. فرجع إشكال الميزان. <BR>قلت: جوابه لأكثر من وجه:<BR>أولا: إمكان الطعن بالمعنى الأول: إذ لا يتعين أن يكون المراد به هو الإسلام. بل هو العلم الحق من أي مصدر كان.<BR>ثانيا: نفي وحدة السياق بينهما, للفصل الكبير بين الآيتين, ويؤيده إن الألف واللام في كلا لفظي البينة جنسيَّة, وفي حين لو عملنا بوحدة السياق تعيَّن كونها عهديَّة.<BR>ولعل الآيتين لم تُنزلا سوية, فلم نحرز وحدة السياق فيكون التمسك بها في المورد, من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقيَّة.<BR>ثالثاً إنه لا ملازمة بين القصدين كما هو ظاهر, وإن كان مظنوناً بظن غير معتبر. ولا دليل عليه إلا أجماع المفسرين, والإجماع في غير الشريعة ليس بحجة.<BR>إذن, فالمراد الإطلاق من كلا الجهتين؛ لأن كُلاً من موسى و عيسى ومحمد صلوات الله عليهم, هم رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة. فكلا البينتين يراد بها نفس المعنى, وهو الأعم من كل الهداة.<BR>سؤال: حول قوله تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]. من حيث أن [أُمِرُوا] مبني للمجهول. والفاعل الحقيقي له هو الله تعالى: لكن هذا بلسان مَنْ؟ هو بلسان نبي بلا شك, ولكن مَنْ هو؟.<BR>جوابه: فيه أطروحتان: <BR>الأولى: الأطروحة المشهورة, وهي الإسلام. كما حمل السياق السابق على الإسلام. ويكون المراد: إنَّ الأوامر والتعاليم الإسلامية لا تختلف كثيراً عما عهدوه في أديانهم من المفاهيم والتعاليم, وهذا كلام ترغيبي للدخول في الإسلام؛ لأنهم سيبقون إذا أسلموا على عاداتهم, لا تتغير حياتهم كثيراً لكي يخشوا مثل هذا التغير والاختلاف. وهذا معنى جيد للعوام.<BR>الثانية: إنه بلسان الأنبياء جميعاً, فيكون إشارة إلى الدعوة النبويَّة العامة للأنبياء, والمراد: أن دعوة الإسلام بأصوله وفروعه عين دعوة أنبيائهم الواقعيَّة. يعني: وما أمرهم الله دائما إلاَّ بذلك.<BR>سؤال: عن معنى[مُخْلِصِينَ], في قوله تعالى:[مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء]. <BR>جوابه: قال الراغب في المفردات[ ]: الخالص كالصافي, إلاّ أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه. والصافي قد يقال لما لا شوب فيه. <BR>أقول: يعني الأعم.<BR>وقال: وقوله تعالى: [خَلَصُوا نَجيِّاً], أي انفردوا خالصين عن غيرهم. وقوله تعالى: [وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون. إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]. فإخلاص المسلمين إنهم قد يتبرأوا مما يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث. قال تعالى:  [مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ..] فحقيقة الإخلاص ألتبري من كل ما دون الله تعالى.<BR>   أقول: والملاحظ وروده في القرآن  مكسوراً ومفتوحاً: مخلِصين ومخلَصين. وفي محل الكلام مكسور, وورد  بالفتح في بعض القراءات[ ] .<BR>والفرق بينهما: إنَّه بالكسر يكون أسم فاعل, وبالفتح يكون اسم مفعول. فإن كان هو سبب أخلاص نفسه, فهو مخلص بالكسر, وأما المخلص بالفتح, فالملاحظ فيه أنه جعل فيه الإخلاص كما في قوله تعالى:[كُفِرْ][ ], أي جعل فيه الكفر . والجاعل أحد أمرين:<BR>أولاً: بلحاظ الأسباب, أي حصلت الأسباب المناسبة لوجود الإخلاص أو الكفر.<BR>ثانياً: بلحاظ المسبِّبْ, أي أن الله تعالى أخلصه, كما في المقربين, أي قربهم الله تعالى. <BR>ومادة (خلص) إما ثلاثية خلص, وإما رباعيَّة مزيدة (أخلص). والثلاثي لازم لا يتعدى إلى مفعول بخلاف الرباعي فانه متعدي. وقد يستعمل لازماً كما تقول: أخلصت لله, أي أصبحت مخلصاً.<BR>ونقول بنحو الأطروحة: إنَّ الرباعي متعد دائماً ولا يكون لازماً. وهذا ينتج إذا لوحظ الفعل لازماً كان من الثلاثي وأسم فاعله: خالص. والرباعي اسم فاعله: مخلص بالكسر. فإذا لاحظنا جانب الفاعل قلناه بالكسر, وإذا لاحظنا جانب المفعول قلناه بالفتح.<BR> فيكون معنى: مخلص لك بالكسر, أي أنه جاعل فيك الإخلاص. كما لو سلك سلوكاً بحيث جعلك توده وتخلص له فهو مخلص لك, أي مخلّصك من الشوب الذي كان موجوداً كان موجوداً عندك تجاهه, ثم نقل بشكل مجازي. فبدلا من أن يكون لقباً للفاعل, أصبح لقباً للمفعول به.<BR>إن, فمعنى الإخلاص, إنما هو بالفتح دائماً؛ لأن الملحوظ فيه جانب المفعول. وأما بالكسر فالملحوظ فيه جانب الفاعل, لكن العرف لا يفهم ذلك!! فقد أصبح المخلص بالكسر صفة للمتصف بالإخلاص كما أصبح لازماً. مع انه في أصل  اللغة ينبغي أن يكون متعدياً.<BR> وهما  ليسا مترادفين طبعاً؛ لأن أحدهما أسم فاعل والآخر أسم مفعول. فيتحصل سؤال: إنَّه ما الفرق بينهما؟<BR>جوابه في ذلك عدة أطروحات:<BR>الأولى: أن نقول: إنَّه لا فرق بينهما, وإنما هما لغتان لمعنى واحد.<BR>الثانية: إنَّ مخلص بالكسر لوحظ فيه التسبيب للإنسان, كما سبق. وبالفتح لوحظ إسناد السبب إلى الله سبحانه.<BR>الثالثة: إنَّ المخلص بالكسر, أقل درجة من الآخر. باعتبار أن الفرد قد يشعر هو الذي يتكامل أو يجعل نفسه يتصف بالزهد والعبادة. فإن كان صادقاً في نيته فهو مخلص بالكسر . وإن كان يشعر إن طاعته إنما هي بتوفيق الله سبحانه وفضله, فهو مخلص بالفتح. والأول أقل درجة بطبيعة الحال, من الثاني.<BR>إن قلت: إنَّه بناء على ذلك يحصل تنافٍ في الآية الكريمة: مخلصين له الدين, وذلك دين القيمة, بناء على تفسير المشهور, أي الجماعة القيمة. وهم القيمون على الدين وهم المعصومون ?. فيحصل التنافي؛ لأننا عرفنا أن المخلصين بالكسر  تعبير عن المتدنين نسبياًً. والقيمة تعبير عن العالمين. مع ان ظهور السياق القرآني هو كون المراد منهما واحداً, فكيف نجمع بينهما؟.<BR>قلت: يكون ذلك من عدة وجوه:<BR>أولاً: يمكن التنزل عن تأويل الجماعة القيمة  إلى الأمة القيمة, وهم سائر المسلمين, وهم مخلصين  بالكسر غالباً, فناسب صدر الآية ذيلها, وسقوط الأشكال.<BR>ثانياً: إنَّ الآية الكريمة ليس فيها مفهوم مخالفة نافٍ للزائد.<BR>ونحتاج هنا إلى مقدمة وحاصلها: إنَّ النسبة بين مخلص بالكسر ومخلص بالفتح هو العموم المطلق, وليس التباين ولا التساوي,  فكل مخلص بالفتح هو مخلص بالكسر ولا عكس.<BR>فالجماعة القيّمة وهم المعصومون ?, مخلصين بالكسر وهم أولى من غيرهم أن يكونوا كذلك, والآية لاحظت حالهم بالكسر ولم تلحظه بالفتح. ولا يجب ذكر الصفة الأفضل.<BR>ثالثاً: إنَّه تعالى:يقول: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]. فالجماعة القيّمة  آمره. والكفار والمشركين وأهل الكتاب هم المأمورون. <BR>فمتعلق الآية  هو الأمر لمن هو دانى لكي يكونوا مخلصين بالكسر وأما مخلصين بالفتح فلا يتعلق به الأمر؛ لأنه من فعل الله لا من فعل العبد.<BR>رابعاً: إنَّ السياق يختلف بقوله تعالى: [وذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] كأنه بدأ سياق ثانٍ, فلا يتعين أن يكون مخلصين بالكسر وصفاً للقيمة, بل يمكن أن يكونوا مخلصين بالفتح. <BR>فإن قلت: فإنه في متن العبارة يقول: وذلك, وهو أشارة إلى أمور منها المخلصون بالكسر, المذكورون بالآية.<BR>قلت: نعم إلاّ أن الظاهر إن الدين القيم هنا يراد به الدين الذي يدعوا له القيمة, لا الدين الذي يستلزمونه بينهم وبين الله. فإن ذاك مستوى أعلى من هذا.<BR>سؤال: عن معنى قوله تعالى [حُنَفَاء]؟.<BR>قال: الراغب في المفردات[ ] : الحنف, (بفتحتين) هو ميل (والأفضل أن يقول هو الميل) عن الضلال إلى الاستقامة (أي الهداية والعدل). والجنف, ميل عن الاستقامة إلى الضلال, والحنيف (صفة مشبهة) هو المائل إلى ذلك. قال عز وجل: [قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً...], وقال: [حَنِيفاً مُسلْماً]. وجمعه حنفاء, (أي مجموعة من الناس كل واحد منهم متصف بالحنف) قال عز وجل:  [وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.حُنَفَاءَ لِلَّهِ]. وتحنف فلان, أي تحرى طريق, الاستقامة (أي اهتدى). وسمّت العرب كل من حج واختتن حنيفاً, تنبيها على إنه على دين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.<BR>والأحنف, (بمعنى كلي) من في رجله ميل. قيل: سمي بذلك على التفاؤل, (يعني من تسمية الضد باسم ضده, كما سميت الجميلة: قبيحة, والقصيدة العصماء: البتراء, وكما قال الشاعر:<BR> مضل الناس قد سميت هادي        كما قد سمي الأعمى بصيراً...) <BR>وقيل: بل أستعمل للميل المجرد.<BR>أقول: هنا عدة مستويات:<BR>الأول: إن النبي ? ومن كان قبله من الأنبياء والصالحين, على دين إبراهيم ?.<BR>الثاني: إنَّ النبي ? والأئمة من ولده هم من أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة كما ورد[ ] . فكيف كان ذلك, وأباؤهم مشركون؟.<BR>وجوابه: إنَّهم كانوا متدينين بدين الله في زمن الجاهلية, وهو دين الحنيفية. كما روي عن عبد المطلب وأبي طالب وغيرهما, إنهم كانوا يقرأون كتب الأنبياء السابقين.<BR> الثالث:إن الجزء الرئيسي ــ حسب فهمي ــ من دين الحنيفية, هو ما نسميه بأصول الدين لا فروعه, والجزء الرئيسي من أصول الدين هو التوحيد. مع الغفلة عن الأربعة  الأخرى منها في ذلك الحين  أو عن غالبيتها.<BR>وأما فروع الدين, فلم تكن ملغاة بالمرة. نعم, لم تكن هناك أوامر محددة, وإنما كان هناك نواة. كـ (لا تزنِ, لا تسرق, لا تكذب,  لا تشرب الخمر) وأمثال ذلك. وقد كان الحنفاء ملتزمين بمثل هذه الأمور,  مضافاً إلى تركهم السجود للأصنام.<BR>فإن قلت: كيف تكون الحنيفية مقبولة منهم, وقد كان الدين الحق يومئذٍ هو دين المسيح ? ؟.<BR>قلنا: نعم, ولكن هناك عدة موانع من الالتزام بذلك, منها:<BR>1-  إن دين اليهودية والنصرانية, كان محرفاً عن العقيدة الأصلية لأنبيائهم. ولم تكن العقيدة الأصلية معروفة بينهم ليتم الالتزام بها.<BR>2-  إن اليهود والنصارى كان لهم وجود في جزيرة العرب. وهم معاشرون ومصاحبون للمجتمع. ويعرفهم الناس بانهم ذوو عقائد محددة غير محمودة, كالاعتقاد بالثالوث المقدس ونحوه. ويستطيع المفكرون من أهل الحنيفية استنتاج ذلك بكل تأكيد.<BR>3-  إن هؤلاء اليهود والنصارى, كما هم غير تامين في أصول دينهم, فهم ناقصون أيضاً في فروع دينهم, وملتزمون بكثير من المعاصي والفواحش واللاإنسانية,الأمر الذي ينفّر الفرد المنصف والطالب للحق عنهم.<BR>ومن هنا, كان لابد لهؤلاء الطالبين للحق الالتزام بنبوة النبي السابق على اليهودية والنصرانية وهو إبراهيم ?. وهو متصف بصفات مهمة في نظرهم وفي نظر الجميع:<BR>1-    إنه جاء بعقيدة متكاملة في فهم التوحيد الإلهي.<BR>2-    إنه كان واضح الإخلاص لله في سلوكه.<BR>3-    إنه جاء إلى الجزيرة العربية وخلف فيها ولده إسماعيل.<BR>4-    أنه باني الكعبة المشرفة.<BR>5-    إنه النبي الذي يعترف بقدسيته على كل الملل المتأخرة عنه.<BR>والمهم بعد كل ذلك, إن الحنيفية هي الإخلاص في التوحيد, وهي من قسم أصول الدين وليست من فروعه.<BR>فإن قلت: إنَّ العرب, كما سمعنا, كانت تسمي كل من حج واختتن حنيفاً, وذلك من فروع الدين.<BR>قلت: أهم تفسير لذلك أن نقول: إنَّ ذلك العمل كان منهم قربة إلى الله تعالى. فالالتزام به يدل على الالتزام بأصول الدين, ويكون له كشف إثباتي عنه. وبتعبير آخر: إنهم لم يكونوا يعملون تلك التطبيقات: الحج والختان لمجردهما. بل بعنوان كونها لله عز وجل. <BR>والأعم الأغلب كانوا يفعلون ذلك كوظيفة دينية. فرجعنا إلى أن الأصل في الحنيفية هو التوحيد.<BR>فإن قلت: كيف نسبت الحنيفية الى ابراهيم ?, في حين أنها تمثل خط الأنبياء, ومن كان قبله ومن جاء بعده؟. <BR>قلت: لذلك عدة أجوبة يجمعها معنى أهمية إبراهيم ?, وعظمته. فإن له صفتين ثبوتيَّة وإثباتيَّة:<BR>أما الصفة الثبوتيَّة, فهي: إنه ? بلغ من صفات التوحيد ودقائقة أكثر ممن كان قبله, وقد وصلت البشرية في زمنه إلى أعلى مرتبة سابقة في توحيد الباري سبحانه. <BR>نعم, تطور الدين في زمن موسى?, ولكن تطوره كان في فروع الدين, لا في أصوله, وأما الزيادة في زمن عيسى ?, فقد كانت التبشير بالمستقبل المقدس للبشريَّة.<BR>إذن, فالمبشر الرئيسي بالتوحيد هو إبراهيم ?, في عالم الثبوت والواقع. <BR>وإذا تنزلنا عن ذلك,  نقول: إنه ? أحسنْ من بيَّن ذلك اثباتاً, حتى نوح ? لم يستطع ذلك؛ لأن مجتمعه كان أغلبه كفاراً ولم يؤمن به إلاَّ القليل, حتى أخذه الطوفان. وأما أدم ? فقد كان عدد البشر في زمنه قليلاً جداً.<BR>ومع التنزل عن كل ذلك  يكفي أن يكون الأمر ترغيباً للمتدينين السابقين على الإسلام للدخول في الإسلام, وانهم إذا دخلوه كانوا حنفاء أيضاً, بل كانوا أيضاً على دين الجماعة القيمة, وهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ? .<BR>الرابع: من مستويات الحديث عن لفظ الحنفاء:<BR>أن ندّعي كأطروحة, إن [حُنَفَاء] بمعنى: مخلصين, لأكثر من قرينة:<BR>أولاً: إنَّ [حُنَفَاء] إن كان بمعنى الموحدين أو الملتزمين بدين إبراهيم ?, صار بمعنى واحد كالمترادفين. ونحن نعلم وجداناً انهما ليسا كذلك. فلابد أن يكون في[حُنَفَاء] زيادة في المعنى عن معنى الموحدين. فندعي إنه بمعنى المخلصين.<BR>ثانياً:إن الراغب كما سمعنا قال: الحنف, هو ميل عن الضلال إلى الإستقامة.<BR>والذي يميل هذا الميل هو المخلص الناصح لنفسه والمخلص لربه . وإلاَّ كان فيه جنف لا حنف. <BR>ولكن ليس كل إخلاص هو حنف, أي ليس المخلص لأي هدف هو حنيف بل حصة منه. فاما أن نقول: إنَّ الحنف هو الإخلاص بدرجة عالية, بحيث يكون الفرد على استعداد بأن يفدي نفسه وأهله وماله, وأما أن نقول: إنَّه الإخلاص للتوحيد أو للدين وليس للدنيا.<BR>فإن قلت: إذا كان [حُنَفاَء] بمعنى [مَخْلصيِنَ], و[مَخْلصيِنَ] واردة في ألآية ايضاً فماذا يتحصل من مفهوم الآية؟.<BR> قلت: هذا له عدة أجوبة:<BR> الأول: إنَّه تكرار بغير لفظه, فلا يكون قبيحاً, بل إنه مهم لزيادة الاهتمام والتوكيد.<BR>الثاني: إنَّ [مَخْلصيِنَ] معنى عام, و[حُنَفَاء]: مخلصون لله ــ كما قربنا ـ فيختلفان.<BR>إلا أن هذا لا يكون؛ لأن الإخلاص في الآية مقيد بالدين, فإن كان [حُنَفَاء] مقيد بالدين أو بالتوحيد (وهو الدين أيضاً) حصل التكرار. فإن قبلنا به رجع إلى الجواب الأول, ولكن لو تنزلنا عن ذلك, بطل هذا الوجه.<BR>الثالث: أن نخص أحدهما بأصول الدين, ونخص الآخر بفروعه,أو بالعكس. وكلاهما أطروحة معتمدة لدفع الإشكال. وكون مخلصين له الدين بالفروع وحنفاء بالتوحيد أو بالأصول أرجح لأكثر من قرينة.<BR>منها: إنَّ [حُنَفَاء]أشارة إلى دين إبراهيم ? , ومنها: إنَّه ترقٍ من الفروع إلى الأصول, وهو ينتج زيادة في التفهيم والتأكيد, لا يتحصل مع العكس, وهذا الظهور واضح في الآية.<BR>سؤال: عن إعراب [مَخْلصيِنَ].<BR>قال العكبري[ ] :[مَخْلصيِنَ] حال من الضمير في [يَعْبُدوُا] (يعني: يعبدون الله حال كونهم مخلصين). و[حُنَفَاء] حال أخرى  من الضمير في [مَخْلصيِنَ], يعني: مخلصين حال كونهم حنفاء, وقوله تعالى:  [دِينُ الْقَيِّمَةِ], أي الملة أو الأمة القيمة.<BR>سؤال: عن معنى[الْقَيِّمَةِ]. وما هو التقدير المناسب لها؟.<BR>جوابه: له عدة أطروحات:<BR>الأولى: ما فهمه المشهور وسمعناه عن العكبري, ومن أن التقدير الملة أو الأمة. والفرق بينهما: إن الأمة هي مجموعة من الناس كيفما اتفق. والملة هي الجماعة المتصفة بدين معين أو آيديولوجية معينة. فتكون النسبة بينهما العموم المطلق, فكل ملة أمة ولا عكس.<BR>فالملة حينما نطلقها, فإننا نشير إلى دينها, فهي قيمة بصفتها متدينة. فيترجح اختيار الملة على الأمة, فيما إذا أخترنا هذا الوجه. <BR>الثانية: حسب فهمي,إن التقدير ينبغي أن يكون الجماعة, لا معنى القيم هو من لا قيم عليه, أو قل هي القيم على الإطلاق الذي ليس فوقه قيم غير قيم الله عز وجل, فينصرف إلى أعظم الأفراد, وهم المعصومون ?.<BR>الثالثة: أن نقول: لا حاجة إلى التقدير؛ لأنه لا يصار إلا مع الضرورة, فيمكن القول بأن [القَيَّمَة] وحدها تكفي وهي بمعنى: القيمين.<BR>وليس هذا غريباً في اللغة, أعني التعبير  بالمؤنث عن الجمع. فيكون المعنى : القواّم أو القائمين, أي المشرف والمدبر والمراقب. وهو مأخوذ من القيام, وهو الوقوف؛ لأن الأغلب في المشرف أن يكون واقفاً على ما يشرف عليه . ثم أستعمل فيما كان فاقداً له مجازاً, ولكنَّه أصبح حقيقة منذ زمن قديم جداً.<BR>والآية كما هو معلوم لم تشر إلاَّ إلى عنوان القيمين, ولكن مَنْ هم وممَنْ هم وعلى مَنْ هم. فقد أهملت الآية التعرض لذلك عمداً, لأن الحكمة  اقتضت الاختصار.<BR>ولكننا نستطيع أن نستنتج من السياق الجواب على أنهم: من قِبَلِ مَنْ هم وذلك؛ لأن الله تعالى في القرآن يشهد بأنهم قيمون. فأخذَهم بشكل مطلق وحق, ولم يشر إلى أنهم منصوبون من قبل ناس آخرين. فيكون واضح الدلالة أنهم منصبون من قبل الله سبحانه للقيمومة.<BR>فإن قلت: إنَّ القيم واحد وهو الله سبحانه. وهو ينافي معنى التأنيث؛ لأنه يوحي بالجمع.<BR>قلت: ليس هو المالك, بل هو المنصوب من قبله, كما يقولون: وكيل مفوض, والله سبحانه لم يلاحظ قيماً؛ لأنه غير منصوب من قبل أحد. وإن كان قيماً بالذات. والعرف لا يسمى المالك قيماً, بل المنصوب من قبله. وهنا نقصد المنصوب من قبل الغير, وهم المعصومون ?, ولا يشمل الله سبحانه. فرجع المتعلق إلى الجماعة, لا إلى الفرد. فالتأنيث في محله.<BR>إن قلت: إنَّنا مخيرون بين تقدير الأمة وتقدير الجماعة. فإذا لم نقدر الجماعة قدرنا الأمة أو الملة وهم المسلمون. فلماذا لا نقدر المسلمين, مع إنه تعالى قال في آيَّة أخرى:[لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ][ ], أي شاهدين وقائمين فيكون معنى الآيتين مشترك؟.<BR>قلت: ينبغي أن نفرق بين مفهوم القيمومة ومفهوم الشهادة ولم يثبت ان معنى هذا هو ذاك, والأمة الإسلامية شهيدة على الناس ولكنَّها ليست قيمة عليهم. وأوضح فرق بينهما: إنَّ القيمومة تقع في علل التصرف والشهادة تقع في معلولاته, وبعد إنجازه, فالقيمومة متقدمة رتبة على العمل, والشهادة متأخرة عنه.فلا يجتمعان. <BR>فإن قلت: ولكن الله تعالى في نفس الآية السابقة يقول:  [لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً]. فإن نفينا كون الأمة قيمة فلا يمكن أن ننفي كون الرسول قيماً, ومعه يمكن فهم قيمومة الأمة من قيمومة الرسول وشهادتها, باعتبار وحدة السياق.<BR>قلت: كلا: فأن الرسول له صفتان: الشهادة و القيمومة. فقد جعله الله في جانب العلة وفي جانب المعلول معاً. وهذه الآية السابقة تدل على وجود الشهادة في الأمة وفي الرسول. ولا تدل على القيمومة  في الأمة ولا في الرسول, وليس لها مفهوم مخالفة يدل على نفي القيمومة. والآية التي نتكلم عنها تدل على القيمومة لا على الشهادة.<BR>  فهذه الأطروحة الأولى للتفسير[دين القيمة], يعني دين الجماعة القيمة أو دين القيمين, وهو الأرجح مما سنذكره.<BR> ولكن توجد أطروحة ثانية يمكن أن تعرض بهذا الصدد. وهو أن يكون دين القيمة, أي دين القيمومة فان القيم هو صفة مشبهة, بمعنى أسم الفاعل. وبالتالي فهو أسم فاعل.<BR>و القيمومة مصدر, فتكون الآية قد أستعملت أسم الفاعل بمعنى المصدر. ولا ضير في ذلك مجازا. فالدين القيم بمعنى الدين القائم أو دين القيمومة.<BR>ويمكننا ان نصف الدين بأنه قيم, وذلك على ما ورد في آيات أخرى من القرآن الكريم, قال تعالى: [إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً][ ], أي قيماً. بحسب أهم تفاسيره أو على قراءة أخرى غير المشهورة. وقال تعالى: [ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ][ ] .<BR>فإن القيم هو الفرد المشرف والمدبر بالمباشرة (الفاعل المختار الرشيد) ولكن حين لا يكون معه فكر أو آيديولوجيَّة صحيحة, فانه يسئ التصرف. بل لعل جانب الفساد منه سيكون هو الأغلب؛ لأنه سوف يطيع شهوات نفسه ومصالحه الشخصيَّة. ولكن مع وجود الدين والفكر الحاكم على هذا القيم, ستكون القيمومة بعدل ومطابقة للواقع. ومعه أمكن أن نصف هذا الدين أو الفكر بأنه قيم؛ لأنه الموجّه للقيم.<BR>ومعه تكون لفظة: القيمة,  بمنزلة  الصفة أو النعت للدين نفسه. كما ورد وصفه بانه قيم. بدون حاجة إلى تقدير موصوف, أعني الجماعة القيمة.<BR>غير أن ذلك يواجه اشكالان. <BR>أحدهما: إنَّه من نعت النكرة بالمعرفة؛ لأنه قال: دين القيمة, فكان الموصوف نكرة والصفة معرفة.<BR>وجوابه: إنَّ هذا إستعمال عرفي, وإن لم يكن فصيحاً. ومقتضى أحتواء القرآن على كل شئ [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] أن يحتوي على ذلك أيضاً. فإننا نقول عرفاً: صحن الشريف والكعبة المشرفة وسوق الكبير. وبالرغم من أننا نعربه مضاف إليه وليس نعتاً, إلا أن المقصود الحقيقي هو النعت وليس الإضافة. <BR>ثانيهما: إنَّه من وصف المذكر بالمؤنث؛ لأنه قال: [دِينُ الْقَيِّمَةِ]. فكان المنعوت مذكراً ونعته مؤنثاً.<BR>وجوابه من وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّ الدين كلي, والكلي بمنزلة الجنس, والجنس بمنزلة الجمع, والجمع بمنزلة المؤنث في اللغة العربيَّة.<BR>الوجه الثاني: إنَّنا قد نقول: إنَّ تاء التأنيث لا تدل على تأنيث مدخولها دائماً. بل تناسب مع المذكر أحيانا, كتاء الوحدة والتنكير كتمرة وجلسة. فيكون القيمة مذكراً. وأما ما هو ممنوع فهو وصف المذكر بالمؤنث الحقيقي؛ لتنافيهما. وهذا ليس منه.<BR>سؤال: ما هو هدف السورة ؟.<BR>جوابه: إنَّ أفضل من التفت إلى ذلك هو سيد قطب في ظلال القرآن[ ] : فقد ذكر مجموعة أمور كهدف للسورة. إلا أن هدف السورة ينبغي أن يكون واحداً. وقد جعلت هذه المفاهيم التفصيلة كمقدمات لتحصيله.<BR>والهدف هو مجادلة الكفار من أهل الكتاب والمشركين ومضادتهم أولا, وهدايتهم ثانياً.<BR>فأقول ــ بعرض منا بغض النظر عما قيل في ذلك المصدر ــ إن المهم في مجادلة الكفار من أهل الكتب  والمشركين أربع نقاط: بيان عيوبهم وما يصلحهم  وبيان الرحمة والمنة النازلة عليهم وتقييمهم كما يلي:<BR>أولاً: أما ذكر عيوبهم,  فهي كونهم كفاراً ومشركين وأهل كتاب. وهذا العنوان في نفسه عيب؛ لأن الإسلام دين ناسخ لما قبله من الأديان. ومن يترك ما هو أعلى وأفضل ويختار ما هو أدنى, فهو معيب لا محالة.<BR>ثانياً: وأما ما يصلحهم فهو البينة والكتب المطهرة.<BR>ثالثاً: واما الرحمة والمنة النازلة عليهم فهي العلم. ولكنَّهم لم يستفيدوا من هذا العلم, وإنما أختلفوا فيه وتقاتلوا عليه. <BR>رابعاً: وأما تقييمهم فهو أنهم شر البريَّة . وهم كذلك في الدنيا والآخرة. أي إن القيمة الأخلاقيَّة لهم متدنية في كلا الدارين.<BR>وفي مقابلهم خير البريَّة, وقيمتهم الأخلاقية عالية في كلا الدارين. وجزاء خير البريَّة الجنة وجزاء شر البرية النار.<BR>قد يقال: إنَّ نسق  الآيات  يختلف في السورة, ابتداء من قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا], بعنوان الإشارة إلى كونه هو النتيجة للمقدمات الموجودة في أول السورة. <BR>وجوابه: إنَّ هذه الاختلاف غير الواضح. والنسق هو نسق (الهاء) الساكنة في كل الآيات إطلاقاً.<BR>وهنا يمكننا أن نلاحظ عدة أمور:<BR>أولا ً: إنَّ لفظ القيمة أستعمل مرتين بمعنيين: كتب قيمة ودين القيمة, ولا أقل أنه بعد تقييده يصبح بمعنيين.<BR>فإن قلت: إنَّ القيمة  بمعنى واحد؛ لأنكم ذكرتم إن معنى كتب قيمة هي الكتب التي لها القيمومة وكذلك دين القيمة. فرجع إلى معنى واحد.<BR>قلت: جوابه من عدة وجوه:<BR>1- إننا ذكرنا ذلك كأطروحة, ولكن هنا يمكن أن نخرج عن الإشكال, بأن نختار إحدى الأطروحتين في أحد اللفظين ونختار الأخرى في الآخر؛ لأجل أن يلزم التكرار.<BR>2- إنه مع التنزل فإن المفهوم التصوري حين يقيّد بمفهوم تصوري آخر, يكون المجموع مفهوماً تصورياً واحداً, فإذا اختلفت الإضافة اختلف المفهوم. كقولنا: سرج الفرس وسرج زيد.<BR>3- لا بأس أن يكون كلا اللفظين بمعنى واحد. وتكون القيمومة للكتب المطهرة وللدين معاً؛ لأن محصلهما الحقيقي واحد.<BR>ثانياً: من الأمور التي نلاحظها في الآية: إنَّ النسق محفوظ في (الهاء). والضمير في [رَبِّهِ] جعل في نسق (التاء) المدورة, كالبينة والقيمة. وهذا واضح في لزوم تسكين نهايات الآيات ليصح النسق ويتحقق.<BR>وهذا يدعم الأخبار الواردة الدالة على الاستحباب الشرعي للوقوف في نهايات الآيات والنهي عن الدرج فيها. ومن هنا نستطيع أن نفهم من هذه السورة  نحواً من الأمر والطلب للوقوف في نهايات الآيات ليكون النسق واحداً. ولعل الأرجح فعلاً إنها نزلت بالسكون.<BR>ثالثاً: إن عدد من الآيات مضموم كـ[الْبَيِّنَةُ] و[رَبِّهِ] وعدد منها مكسور وهي: [خَيْرُ الْبَرِيَّةِ] و[شَرُّ الْبَرِيَّةِ]. فلو قرأت بالحركات الإعرابية لانتفى التناسق.فلابد من قراءتها بالسكون.<BR>سؤال: حول قوله: [خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ]. فقد يستشكل من ناحيَّة كلاميَّة في الخلود. أما من ناحيَّة الخلود في النار  لكل أحد غير جائز. وأما الخلود لكل هؤلاء (أي الكفار) غير جائز؛  لأن فيهم قاصراً ومعذوراً ونحو ذلك.<BR>جوابه: إنَّه يقع الكلام في ذلك في جهتين:<BR>الجهة الأولى: في الخلود لأي إنسان. وجهة السؤال فيه: إننا لو فرضنا إن الإنسان قد أذنب طول عمره, وهو محدود. فهل يبقى في العذاب مدة لا متناهيَّة؟ وهذا خلاف العدل, بأن تزيد العقوبة على الذنب.<BR>وجوابه: أحد أمرين:<BR>الأمر الأول: نقضاً, في جانب الجنة فإن أهلها خالدون فيها خلوداً أبدياً. مع إنهم أطاعوا الله ــ على سبيل الفرض ــ طول عمرهم, وهو محدود. ونسبة المتناهي إلى اللامتناهي صفر فيأتي فيه نفس الكلام, وما يقال هنا يقال هناك.<BR>الأمر الثاني: حلاً, وهو أحد أمرين: <BR>الأول: ما ورد في السنة الشريفة من تفسيره[ ] : بأن الإنسان لو بقي في الدنيا إلى ما لانهايَّة لا ستمر على المعصيَّة إلى ما لا نهايَّة. فيعاقبه على الذنوب التي يمكن أن تحصل منه.<BR>ويجاب عليه: إنَّ العقاب على الذنوب التقديريَّة الحاصلة في المستقبل, ولم تحصل فعلاً ظلمٌ أيضاً. ولكن يمكن أن يجاب عليه بما يلي:<BR>الثاني: إنَّ العقاب ليس على هذه الذنوب التي سوف تحصل. بل هو عقاب على سببه ومعدنه وعينه, وهي العين النابعة أو المنبعة للذنوب. وهو سوء السريرة والنفس الأمارة بالسوء. فمهما بقي الفرد على سطح هذه الأرض, فإنه يبقى في حالة ذنب وعصيان.<BR>فإن قلت: بأن هذا الوصف غير اختياري ليصح العقاب عليه. <BR>قلت: جوابه من وجهين:<BR>الوجه الأول: إنَّه اختياري؛ لأنه رباه ونماه بذنوبه السابقة. فاشتد مستواه التعصبي للكفر والفسق والفجور. بل اقتنع  بوجوده,  ولعله أصبح مفتخراً به, فهو اختياري.<BR>الوجه الثاني: ذكر (دانتي) في كتابه: الجحيم[ ] , في وصف جهنم: إن بعض قاطنيها يزدادون عتواً ونفورا, ويشتمون الله ويعترضون عليه. <BR>وحسب فهمي: إنَّ هؤلاء دخلوا إلى جهنم باستحقاقهم فإبقاؤهم فيها عدل وخلودهم فيها رحمة, ولا يجب على الله بحسب حكم العقل العملي إخراجهم منها, مع شتمه والاعتراض عليه. فهم يبقون فيها جوازاً على أقل تقدير.<BR>إن قلت: ورد إنه في الآخرة حساب ولا عمل[ ] ؛ لعدم وجود الشريعة هناك, فكيف أصبح الشتم هناك سبباً للعقاب, وهو الخلود في النار؟.<BR>قلت: جوابه من وجهتين:<BR>أولاً: إننا لم نقل إن الخلود في النار عقوبة على الشتم, وإنما الشتم سبب وجهة تعليليَّة, لعدم وجوب إخراجهم من النار بحسب حكم العقل العملي. بحيث لا يكون بقاؤهم وخلودهم فيها ظلماً لهم, ماداموا على تلك الصفة.<BR>ثانياً: إنَّ هذا المضمون وإن ورد, وهو إنه في الآخرة حساب ولا عمل. إلا أنه لم يثبت على إطلاقه. إذ لا إشكال إن شتم الله ذنب وذكره والطمع في رحمته وحسن الظن به طاعة. سواء كان في الدنيا أو في الآخرة. فما كان في ذاته  ذنب بغض النظر عن الشريعة, قابل للثبوت هناك. وكذلك ما كان في ذاته طاعة. وإنما هو المفقود هنا هو الشريعة فقط. وهو المقصود بالأخبار المشار إليها.<BR>الجهة الثانية: وهي أن الخلود غير جائز للقاصرين والمعذورين.<BR>فإنه تحصل من الجهة السابقة إن من يخلد في النار هم المعاندون وأضرابهم. وليس بهذه العناوين التفصيلية الثانوية. ودخول القاصرين إلى جهنم وخلودهم فيها, غير موافق للرحمة الإلهيَّة. نعم قد يدخل (إذا كان مستحقاً إجمالاً) ولكنَّه لا يخلد.<BR>سؤال: ما معنى: البرية؟.<BR>جوابه: الباري اسم فاعل, وهو يطلق في لغة المتشرعة على الخالق سبحانه وتعالى. قال الله تعالى:  [الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ][ ]. واسم المفعول منه بري أو برئ. وهو فعيل بمعنى مفعول. وبريَّة مؤنث بري. فالبريَّ هو المخلوق, فيكون معنى البريَّة: المخلوقون.<BR>قال الراغب في المفردات[ ] : البريَّة: الخلق. قيل: أصله الهمزة فترك. وقيل: ذلك من قولهم بريت العود. وسميت بريَّة لكونها مبريَّة عن البري, أي التراب, بدلالة قوله تعالى:  [خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ]. وقوله تعالى: [أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ]. وقال: [شَرُّ الْبَرِيَّة].<BR>أقول: من المؤكد إن الفهم المشهوري من البريَّة: البشر, أي أولاد آدم ?. ولا شك إن ذلك عليه أجماع المفسرين. وهو اسم مفعول أو صفة مشبهة. بمعنى: مبريَّة أي مخلوقة, وأصله مبروؤة, إلا أن فهم خصوص البشر بلا موجب؛ لأن المراد مطلق الخلق. ولكن يوجد تقييد بأن المشار إليهم بأولئك هم المذكورون لا غيرهم, بدليل ثوابهم وعقابهم, سواء كانوا بشراَ أو خلقاً آخر.<BR>سؤال: عن صيغة [شَرُّ الْبَرِيَّة] و[خَيْرُ الْبَرِيَّة].<BR>جوابه: إنَّ فهم المشهور بأن فيه إشعار بافعل التفضيل. ولعلهم أخذوه مسلما مع إنه مخالف لقواعد اللغة العربيَّة وللظاهر أيضا,ً فإنه لم يقل: أشر وأخير لكي نحمله على ذلك. بل أورد مجرد الصفة. فيكون حالها حال الأعمى في قوله تعالى: [وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخرة أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً][ ].  فلا يمكن أن نفهم منها إنه أكثر عمىَّ.<BR>وبذلك ينتفي الفهم المشهوري والارتكاز المتشرعي. إلا أن نفهم  - كأطروحة محتملة - إنه معنى موروث جيلاً بعد جيل من قبل الأئمة ?, فيكون من قبيل السنة التي تفسر القرآن الكريم, ولم يثبت ذلك. فتبقى دعوى المشهور مفتقرة إلى دليل. وسيأتي مزيد إيضاح لذلك. <BR>سؤال: كيف وصفهم القرآن الكريم بذلك, ولعل في البرية من هم أكثر شراً منهم أو أكثر خيراً؟.<BR>جوابه: إنَّ هذا مسند من قبل القرآن الكريم نفسه؛ لأنه يشهد بأنهم شر البرية وخير البرية [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً][ ]. هذا مع متابعة الفهم المشهوري للتفضيل.<BR>سؤال: إنَّ الأشر يجب أن يكون واحداً لا جماعة, فكيف أصبح الجماعة أشر البريَّة؟.<BR>جوابه: إنَّ التفضيل مقول بالتشكيك  بوجود الفاضل والأفضل منه. [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ][ ]. في الكمال والنقص,  أي من ناحيَّة الخير ومن ناحيَّة الشر. وكلاهما مراتب متعددة. وكلما زاد الكمال قلت الأفراد, وكلما قل زادت. <BR>فإذا لاحظ المتكلم  الكمال الأعلى, فإنه ينحصر بواحد. وأما إذا لاحظ الكمال المتوسط أو الأدنى, فهو واسع في جماعة. فمن الممكن في الآية أن يكون قد لاحظ ذلك.<BR>ثم إننا ينبغي أن نلتفت هنا إلى أن الله تعالى قسم البشريَّة إلى قسمين: قسم صالح, وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وقسم طالح, وهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين. ثم لاحظ المجموع وسماهم البريَّة. فخير البريَّة هم المؤمنون وشرها الكفار. <BR>ويمكننا أن نلاحظ هنا ما سبق أن قلناه من عدم استفادة التفضيل باعتبار عن  المقصود هو كون هذه الجماعة هي خير للبشر أجمعين وتلك هي شر لهم.<BR>سؤال: ما هي الحاجة إلى قوله:  [أُولَئِكَ هُمْ]. مع أنه يمكن الاكتفاء بأحدهما؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>أولا: إنَّ أوضح مبرر لذلك هو التأكيد الذي ينتج من التكرار. وقلنا ان أقصى التأكيد ثلاث مرات. وهو متحقق هنا  في [الَّذِينَ] و[أُولَئِكَ] و[هُمْ]. ويكون التأكيد لدفع كل الأوهام المحتملة.<BR>ثانياً: إنَّه بعد التنزل عن الوجه الأول  نقول: انه للدلالة على الحصر. وهو نفي الزائد. <BR>ثالثاً: الاحترام, كما قال سبحانه: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ][ ]. فهو يشير إلى شيء مرتفع معنوياً احتراما له. كذلك يقول هنا: [أُولَئِكَ]. ويشير إلى من هم مرتفعون وعالون في المقام. ويمكن أن يعم ذلك لكلا البعدين المعنويين للخير والشر معاً.<BR>رابعاً: إنَّ حذف أحدهما يخل بالسياق القرآني, وهذا ما ندركه بالذوق.<BR>خامساً: إشارة إلى المجموعة كمجموعة؛ لأن لفظ الخير مفرد, فاحتاج إلى هذا التأكيد, لإبراز جهة المجموع, ليفهم السامع إن المراد بالخير الكلي وليس المفرد الحقيقي. <BR>سادساً: لو كانت  الجملة بدون [هُمْ] لبدت منفصلة عن سابقتها. وهذا ما يدرك بالذوق أيضاً.<BR>سؤال: لماذا وصف الجنات بأنها: [جَنَّاتُ عَدنٍ]؟.<BR>جوابه: فيها أطروحتان:<BR>الأولى: وهي المشهورة: إنَّ [عَدنٍ] صفة لطبقة من الجنة. وهناك طبقات أخرى, كالفردوس والخلد والفردوس الأعلى, وغيرها.<BR>الثانية: ما يستفاد من كلام الراغب في المفردات حين قال[ ]: جنات عدن, أي استقرار وثبات, وعَدَنَ بمكان كذا استقر. ومنه المعدن لمستقر الجواهر. وقال: عليه الصلاة والسلام: المعدن جبار.<BR>أقول: فهي جنات استقرار, ويلزمه أن تكون صفة لكل الجنات لا لبعضها أو لطبقة منه. فإن أي نوع منه يبقى فيه صاحبه ويستمر ويعدن فيه بتوفيق الله سبحانه. بل هي لا نهائيَّة في الاستقرار.<BR>ولدى الجمع بين الوجهين ينتج أمران:<BR>الأول: إنَّ تلك الجنة وما فوقها, فسكانها خالدون فيها أبداً.<BR>الثاني: إنَّه لا يلزم من ذلك المراتب الأدنى من الجنة  خالدون فيها أبداً.<BR>سؤال: لماذا قال: [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ], ولم يقل من فوقها أو فيها أو عليها. وهذا وصف للجنة مكرر في القرآن الكريم.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: الإشارة إلى المياه الباطنيَّة في الجنة.<BR>وهو غير تام؛ لأن ظاهر السياق هو الترغيب وحصول البهجة برؤيَّة الأنهار. مع إن كونها باطنيَّة لا يسبب اللذة المطلوبة للمؤمن. باعتبارها باطنيَّة وغير مرئيَّة. فوجودها كعدمها. <BR>الوجه الثاني: إنَّ [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا], أي على وجه الأرض, كما تجري الأنهار في الدنيا, ولعل حوض الكوثر أحد مصاديقها لو فسرناه بأنه نهر في الجنة. <BR>وكذلك ما ورد[ ] : من أن فيها نهراً من لبن ونهراً من عسل ونهراً من خمر.<BR>إلا أن هذا لا يتم لكونه خلاف الظاهر, من حيث أن هناك تنافياً جزئياً, بين كون الأنهار (من تحتها) أو على وجه الأرض. ما لم يرجع الأمر إلى الوجه الآتي.<BR>الوجه الثالث: يمكن أن تشبه درجات الجنة ومراتبها المتعددة بالعمارات العاليَّة أو ناطحات السحاب. فإن أعطي المؤمن عدة درجات أو طوابق, فإنه يملك  حينئذٍ ما تحتها. فالأنهار يراها تجري من تحته في الجنة؛ لأنه ينظر إليها من فوق العمارة. فيصدق عليها حقيقة ذلك, وإن كانت الأنهار جاري على سطح الأرض.<BR>سؤال: ما هو وجه الجمع في الآية بين [خَالدِينَ] و[أبَدَاً]. ألا يكفي كونهم خالدين فيها فقط؟.<BR>جوابه: من وجهين:<BR>الوجه الأول: ما ذكره في الميزان بقوله[ ] : تأكيد بما يدل عليه الاسم.<BR>الوجه الثاني: إنَّ الخلود أقل من الأبد, أي إنه لا يفيد الأزليَّة. وإنما تستفاد من قوله: [أبَدَاً].<BR>فإن الخلود يمكن أن يكون له معنيان في اللغة:<BR>الأول: بقاء شيء من شيء مدة طويلة, كبقاء الأهرام في مصر, والكعبة المشرفة في مكة, وهو لا يعني البقاء الأزلي؛ لأن الفرع يفنى لا محالة بفناء الأصل.<BR>الثاني: ما ذكره الراغب حين قال[ ] : الخلود هو تبرّي الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها. وكل ما يتباطؤ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود, كقولهم للأثافي خوالد. وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها.. ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب, ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى  تخرج رباعيتها. ومنه يظهر بوضوح عدم التأبيد, بل يكفي لذلك عدة سنوات كعشر سنين ونحوها. ومنه يظهر بطلان إطلاقه على الله سبحانه وتعالى بكلا هذين المعنيين, كما هو موجود فعلا في ارتكاز المتشرعة. <BR>فلما لم يكن الخلود للتأبيد, أحتاج إلى القيد الدال عليه في الآية.<BR>سؤال: إنَّ قوله: [خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً], ظاهر في التأبيد, ولكنها مقيدة في آية أخرى وهي قوله تعالى: [خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ][ ].  فما هو الوجه في ذلك؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الأول: أن نقول بخلود السماوات والأرض, وكونها أبدية. فتتوافق الآيتان, ويكون الاستثناء للانقطاع.<BR>الثاني: أن نقول بعدم التأبيد للسماوات والأرض, فيكون من قبيل التقييد, ويكون التأبيد داخلاً في المستثنى من الآية الثانية. <BR>الثالث: أن نقول: إن المراد منها السماوات والأرض الباطنيَّة وهي خالدة حتماً ما دام الفرد مستمراً.<BR>سؤال: حول قوله تعالى: [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ]. <BR>وإشكاله: إنَّه ثبت في علم الكلام, إن الله تعالى بسيط لا تدخله الحوادث والطبائع مثل الرضا والغضب, من ان ظاهر القرآن هو ذلك.<BR>وجوابه: مع تنزيه الذات عن الحوادث, أحد شكلين:<BR>الشكل الأول: إنَّ هذه الحوادث والطبائع, يضعها الله سبحانه في نفوس أوليائه الذين هم قادة الخلق. ومن هنا ورد[ ]: رضا الله رضانا أهل البيت.<BR>الشكل الثاني: إنَّنا قلنا في علم الأصول: إن الله تعالى خاطبنا بصفتنا عرفيين وبصفته عرفياً, أي نزّل نفسه إنساناً وتحدث معنا كأحدنا. فحصلت من ذلك  التنزيل  شخصيَّة وهميَّة وتلك الشخصيَّة تكون محطاً للعواطف المذكورة في القرآن كالحب والبغض والرضا والغضب والنسيان [ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ][ ].<BR>وهذان الجوابان كافيان, ولكن يمكن أن نقول أيضاً: إن رضا الله ثوابه, وغضبه عقابه. وهو فهم المشهور. ولكنَّه قابل للمناقشة:<BR>أولاً: إنَّه ليس بسعة الوجهين السابقين, لوضوح عدم تفسير النسيان ونحوه.<BR>ثانياً: عن ظاهر هذه الآية  التي نتكلم عنها (في سورة البينة) عن الرضا غير الجنات بصراحة.<BR>سؤال: ذكره القاضي عبد الجبار[ ]: وقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة], إلى قوله: [ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه]. يدل على إن العلماء خير البريَّة . لقول: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]. وأنت إذا جمعت بين الآيتين ثبت ما ذكرناه. <BR>أقول: فهل الأمر كذلك؟.<BR>جوابه: نعم؛ لظهور الآيتين معاً في الحصر. إما أحداهما فبإنما. وإما الأخرى؛ فلأنه قال: [ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه]. فكأنه قال: فقط لهم وليس لغيرهم. وإلا لما قال: [ذَلِكَ].<BR>بل يقتضي الأمر أكثر من ذلك. وهو عن كل العناوين السابقة لهم لا تتعداهم إلى غيرهم: [الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ], [لْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ], [خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً, رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, وَرَضُوا عَنْهُ]. وليس فقط [خَيْرُ الْبَرِيَّةِ].<BR> إذن, لا تبقى صفة معتد بها لغيرهم, وخاصة إذا فهمنا من الجنان مطلق الجنان, وفهمنا من [عَدْنٍ] مطلق الاستقرار والثبوت.<BR>إن قلت: ولكن اختصاص كل هذه المزايا  للعلماء غير مفهوم متشرعيا من ظاهر الكتاب والسنة. والمعروف إنه تعالى يجزي كل فرد على مستواه واستحقاقه. بل أكثر من استحقاقه, باعتبار الرحمة الإلهية, بلا فرق بين الجاهل والعالم. فكيف تكون هذه المزايا للعلماء؟.<BR>قلت: إنَّ ما استنتجناه إنما هو ظاهر القرآن الكريم, بعد ضم آيتين  كلتاهما تدل على الحصر, ولكن مع ذلك فهو قابل لعدة أجوبة:<BR>الأول: أن نعمم معنى العلماء. باعتبار أنه يراد من العلم  مطلق العلم كالتفقه في الدين, فيشمل المتشرعة والمتفقهة فما زاد. وأما من كان دونهم فلا يكون كذلك.<BR>وفيه: إنَّ العلماء مقرونون بالخشيَّة, وظاهر الآية  يدل على نسبة التساوي  بينهما. وليس العموم المطلق, فكل من يخشى فهو يخشى, وكل عالم فهو يخشى, ولا يمكن أن نوسع معنى الخشيَّة؛ لأنها معنى وجداني, كما أمكن أن نوسع معنى العلم.<BR>الثاني: أن ننفي ظهور التقسيم إلى قسمين ونقول: إنَّ هناك  طبقات وسطى كثيرة بين العالم والجاهل أو المؤمن والكافر. وحينئذٍ يصدق ما قيل. والله تعالى يعطي لكل فرد حسب استحقاقه. ومع ذلك فإنهم لا يتميزون بالمميزات العليا كالعلماء, بل لابد من وجود التفضيل بينهما.<BR>الثالث: إنَّه بعد التنزل عن الوجهين الأولين, وافتراض كون البشر قسمين فقط نقول: إنَّه يراد أن النسبة والفرق بين العلماء وغيرهم كثير. فنسبة ما يعطى من المميزات لهم بالنسبة إلى غيرهم  كالفرق بين السماوات والأرض. بحيث يصدق مجازاٌ على المجموع الباقي أنهم شر البريَّة.<BR>الرابع: إنَّ الباقي فيه أشكال من الناس ومجموع خليط بما فيهم الكفار والمنافقون. فيكون هذا المجموع هو شر البريَّة. لا بلحاظ كل فرد منهم؛ لأن النتيجة  تتبع أخس المقدمتين.<BR>الخامس: وبلحاظ الطرف الآخر وهو العلماء نجد فيهم مراتب عديدة أيضاً. ويمكن القول أنه بالرحمة الواسعة تكون النتيجة تابعة لأحسن المقدمتين. فيكون هذا المجموع خير البريَّة.<BR>سؤال: حول قوله تعالى: [ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه]. ما هو معنى الخشيَّة بحيث يكون الإنسان عندها عالماً؟.<BR>جوابه: ما ورد[ ] : من أن الخوف على أربعة أقسام:<BR>أولاً: الخوف, وهو لعامة الناس باعتبار ارتكابهم الذنوب.<BR>ثانياً: الخشيَّة, وهي للعلماء. قال تعالى: [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ][ ]. <BR>ثالثاً: الرهبة, وهي للمتقين. قال تعالى: [وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ][ ].<BR>رابعاً: الهيبة, وهي للعظمة. ولم يذكرها القرآن بصراحة. ولكن أشار إليها بقوله: [وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ][ ].<BR>أقول: إنَّ جهات الخوف عديدة:<BR> منها: الوجل والحذر. <BR>ومنها: ما هو مذكور في القرآن الكريم غير تلك الأربعة.<BR>ويحسن بنا استعراض المعاني اللغويَّة لكل منها:<BR>قال الراغب في المفردات:<BR>الخوف: توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة, كما إن الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة. ويضاد الخوف: الأمن. ويستعمل في الأمور الدنيوية والأخروية.<BR>قال تعالى: [وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ]. [وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهٍِ]. [يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً]. <BR>والخيفة: الحالة التي على الإنسان من الخوف.<BR>قال تعالى: [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى. قُلْنَا لَا تَخَفْ], [وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ]"[ ].<BR>أقول: والخيفة في الآية الأخيرة ليس هو الخوف, بل الهيبة والرهبة؛ لأن الخوف لا يكون إلا من ذنب. والملائكة  ليس لهم ذنب.  ونستمر في نقل كلام الراغب في هذه الموارد:<BR>الوجل: استشعار الخوف, يقال: وَجِلَ يوْجَلُ وجلاً فهو وَجلْ. قال تعالى: [إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ]. [إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ], [قَالُوا لا تَوْجَلْ], [وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ].<BR>الحذر: احتراز عن مخيف. قال تعالى: [يَحْذَرُ الآخرة],  [وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ], [هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ], [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ], وحِذار, أي نحو مناع, أي امنع.<BR>الخشية: خوف شديد يشوبه تعظيم, وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه. ولذا خص العلماء بها في قوله تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]. وقال: [يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَّة اللَّهِ أو أَشَدَّ خَشْيَّة].<BR>أقول: فهو تهيّب, وجانب الخوف فيه أغلب.<BR>الرهبة: والَرهَبَ, مخافة مع تحرز واضطراب. قال تعالى: [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً]. وقال: [رَغَباً وَرَهَباً]. وقال: [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ]. وقال: [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ].<BR>الهيبة: ولم يذكرها الراغب؛ لأنها لم تذكر بلفظها في القرآن الكريم. <BR>قال في مجمع البحرين للطريحي[ ] : وهاب الشيء إذا خافه وإذا وقرّه وعظّمه. وتهيبت الشيء إذا خفته. <BR>أقول: ــ وحسب فهمي ــ إن هذه الألفاظ على كثرتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: <BR>القسم الأول: ما فيه توجس بشر أو نقص, وحصول قلق من حصوله, وهي الخوف والمخافة والحذر والوجل.<BR>ولكل منها انطباع خاص ومعين يختلف عن الآخر, بالرغم من مادتها قد تكون واحدة لغة, ومعه لا يجوز تبديل بعضها ببعض. فلا تقول: على تخوف: على خيفة, ولا تقول: في مخافة الله: التخوف من الله سبحانه.<BR>ففي هذا القسم يكون خوف بلا تعظيم ولا شعور بالهيبة. وأوضح مصاديقه هي عبادة العبيد.<BR>القسم الثاني: ما كان شعوراً بالعظيم بدون خوف فعلي. وهو معنى التعظيم والاحترام والهيبة والرهبة. على اختلاف ضمني فيما بينها.<BR>القسم الثالث: مركب بين الخوف والتعظيم, وهي: الخيفة والخشية.<BR>وهذا التسلسل المعنوي يبدأ بخوف خال من التعظيم, ثم بما يشوبه تعظيم ثم يكون تعظيم بلا خوف؛ لأن النفس في ذلك المقام تكون طاهرة, والخشيَّة من النوع الوسط الذي يجتمع فيه الخوف مع التعظيم وليس تعظيماً صرفاً. ومن هنا نعلم عدم ارتفاعها العالي. <BR>ومن هنا نعلم أيضاً عدم ارتفاع العلماء بذلك المعنى؛ لظهور التساوي بين العلم والخشية. <BR>كما إنها في الروايَّة في المرحلة الثانية. <BR>والخوف يمكن أن ينسب إلى متعددين من الناحية الأخروية: كالذنب والنفس والشيطان والآخرة والعذاب والله سبحانه, وكل منها له درجة من الإعداد له بلا شك. إلا أن الأمر يرجع بالنهاية إلى سوء الاختيار والمسؤولية الأخلاقية. ولذا يقول أمير المؤمنين ?: ولا يخاف إلا ذنبه[ ] .<BR>ونلاحظ أن ثلاثة منها تقع في علل الذنب وثلاثة في جانب معلولاته. أما التي في طرف العلل: فقصد المعصية والنفس والشيطان. وأما التي تقع في طرف معلولاته فهي: الآخرة وجهنم وغضب الله سبحانه.<BR>والخوف في القرآن الكريم منصوص في جانب المعلولات (خف أن تذنب لكي لا تقع في النتائج) وأما جانب العلل فغير منصوص. ولكنَّها كلها لها نحو التسبب للخوف. وأول الخيط هو قصد المعصيَّة بسوء الاختيار.<BR>هذا, ونستطيع أن نفهم معنى العلم من القرآن الكريم. من قوله تعالى: [عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ][ ]. حيث أستطاع به أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين في أقل من طرفة عين. فكيف مَنْ كان مصداقاً لقوله تعالى: [وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ][ ]. يعني: علم الكتاب كله. كما ورد بهذا المضمون عن المعصومين ?.<BR>إن قلت: إنَّكم نزّلتم قبل قليل من أهميَّة العلماء؛ لأنهم بالدرجة الثانية من الأربعة في الروايَّة التي قسمت الخوف إلى أربعة أقسام. وهنا صعدنا بهم إلى درجة عاليَّة جداً.<BR>قلت: هذا صحيح, إلا أن العلم إذا كان في مرتبة ثانية لا يعني عدمه في المراحل التي بعدها, بل هو أولى بالثبوت.<BR>سؤال: عن الوجوه الإعرابيَّة للآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة.<BR>جوابه: [الَّذِينَ] أسم [إِنَّ] و[فِي نَارِ جَهَنَّمَ] خبرها. و[خَالِدِينَ] حال منها و[أُوْلَئِكَ] مبتدأ و[هُمْ] مبتدأ ثانٍ و[شَرُّ الْبَرِيَّةِ] خبر المبتدأ. والجملة خبر المبتدأ الأول, أو هو ضمير فصل بين المبتدأ والخبر.<BR>وما يصدق من هذه الأمور على الآية الأولى, يصدق على الثانية أيضاً.<BR>قال العكبري[ ]: [خَالِدِينَ] الثانية  حال من الضمير في الخبر. <BR>أقول : لا يأتي الحال من الضمير بل من الظاهر فقط. وحينئذٍ يكون هذا الوجه بعيداً. ولكن ــ حسب فهمي ــ إنه ليس بمتعذر؛ لأن الحال من الضمير إنما هو حال من مرجعه, لا من الضمير نفسه. والضمير إنما يكون مشيراً إلى مرجعه. كما يمكن جعله حالا من مرجع الضمير رأساً, وهو أسم [إِنَّ].<BR>وأما في قوله تعالى: [أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة.جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] فـ[أُوْلَئِكَ] خبر [إِنَّ]. ويمكن ــ كأطروحة ــ أنها تصلح ان تكون خبراً أول و[جَزَاؤُهُمْ] خبر ثانٍ. مع إمكان أن يكون للمبتدأ الواحد خبران. ومعه يكون [أُولَئِكَ هُمْ] للفصل, إما بدون محل للإعراب أو هي جملة من مبتدأ وخبر. والجملة للفصل بدون محل أيضاً.<BR>أو أن جملة: [أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة] خبر [الَّذِينَ آمَنُوا], ومعه يكون [جَزَاؤُهُمْ] مبتدأ وخبره الظرف [عِنْدَ] أو [جَزَاؤُهُمْ] ْخبر بتقدير تكرار العامل الذي هو المبتدأ, يعني الذين آمنوا جَزَاؤُهُمْ أو يكون المبتدأ ضمير مقدر[هُمْ]. مضافاً إلى ما سبق من إنه يصلح أن يكون خبراً ثانياً.<BR>كما يصلح أن يكون أُولَئِكَ مبتدأ ثانياُ وجَزَاؤُهُمْ خبره, والجملة خبر من أسم ان. كما يمكن أن يكون [أُوْلَئِكَ] ليس للفصل بل مبتدأ ثاني وله خبران: [خَيْرُ الْبَرِيَّة] و[جَزَاؤُهُمْ]. وتكون الجملة من أسم إن أو تكون معطوفة بواو استئنافية مقدرة.<BR>كما يصلح أن يكون [جَزَاؤُهُمْ] مبتدأ و[جَنَّاتُ] خبره. مع ضمه إلى بعض التقادير السابقة أيضاً. وجملة [تَجْرِي] نعت.<BR>وقوله: [خَالِدِينَ]. قال عنها العكبري[ ] : هي حال والعامل فيه محذوف تقديره ادخلوها خالدين أو أعطوها خالدين. ولا يكون حالا من الضمير في جزاؤهم؛ لأنك لو قلت ذلك لفصلت بين المصدر ومعموله بالخبر. وقد أجازه قوم اعتلّوا له بان المصدر هنا ليس في تقدير أن والفعل. <BR>وفيه بعد, أقول: ــ على أي حال ــ يصلح ذلك بأن يكون من بعض الأطروحات.<BR>قال: فأما [عِندَ رَبِّهِمْ] فيجوز أن يكون ظرفاً لـ[جَزَاؤُهُمْ]. وأن يكون حالاً منه.<BR> أقول: وهو لمعنى الظرفيَّة أقرب بلا إشكال.</P>

<P> </P>

<P><BR>***</P>

<P> </P>

<P><BR>ســـورة القدر<BR>أما عن اسمها: ففيه عدة أطروحات:<BR>الأولى: سورة [الْقَدْرِ] وهو المشهور جداً, بل المتسالم عليه عملياً.<BR>الثانية: السورة التي ذكر فيها [القَدْرِ] أو التي ذكرت فيها [لَيْلةُ القَدْرِ].<BR>الثالثة: رقمها من المصحف الشريف. وهو 97.<BR>الرابعة: تسميتها بأول لفظ فيها وهو المشهور عند العامة: [إنَّا أنزلْناهُ].<BR>ويمكن أن نذكر لهذه السورة مقدمة كما يلي:<BR>هذه السورة ملحوظة لحاظ خاصاً من قبل الله تعالى, وفيها دلالات على مزايا يعبر عنها فلسفياً بتعبير, ومتشرعياً بتعبير آخر.<BR>أما الفكرة الفلسفيَّة, فهي أنهم قالوا: كما ذكرنا في كتابنا (حديث حول البداء)[ ] : إن الأوامر تنزل على النفس الفلكيَّة العليا والتي تسمى (فلك الأفلاك) ثم تتوزع على مواردها ومصاديقها. وهو ما يحصل في ليلة القدر. ثم يتم التوزيع خلال السنة بالتدريج.<BR>ويرد عليه: إنَّ هذه الأفلاك متناهيَّة ومواردها في الخلق لا متناهيَّة. فكيف تتحمل الأوامر المتعلقة بجميع الخلق؟.<BR>أجابوا على ذلك: إنَّه تنزل عليه أوامر سنة واحد, وهي محدودة, فتتحملها تلك الأفلاك المحدودة. سواء كانت رَحَمات أم نقمات كبيرة كانت أو صغيرة.<BR>وأما الفكرة المتشرعيَّة, فإنهم قالوا: كما ورد في الأخبار المستفيضة[ ] : إنه تنزل على الإمام الحي ? في كل عصر أوامر السنة الكاملة في ليلة القدر. <BR>ويمثلونها بصحيفة مكتوب عليها ما يكون إلى سنة, ويوقع عليها الإمام ويقرّها. وقد ورد عنهم ?[ ]: إن الأوامر تصدر عن بيوتكم, أي عنكم. <BR>فهذه هي أهم مزايا هذه السورة, ولعله هدفها الأساسي.<BR>سؤال: لماذا سميت [لَيْلةُ القَدْرِ]؟.<BR>جوابه: لذلك عدة أطروحات غير متنافية:<BR>الأطروحة الأولى: القدر بمعنى العظمة والجلالة والمنزلة والمهابة, أي ليلة المنزلة العظيمة.<BR>الأطروحة الثانية: القدر من القدرة, والقدرة مؤنث القدر, أي ليلة القدرة. فهي تدل على قدرة الله. فكأنه تنزل قدرة الله وسلطنتهُ وتدبيره للكون.<BR>الأطروحة الثالثة: القدر بمعنى الحد التكويني الثبوتي: فقدره كذا, أي حده كذا. غير قابل للزيادة والنقيصة. والمعنى: الليلة التي يبت فيها عن تحديدات الأمور تكوينياً.<BR>الأطروحة الرابعة: التقدير الاثباتي. يعني: بيان الشيء. وهو ما ذكره الراغب حين قال[ ] : والقدر والتقدير تبين كميَّة الشيء.<BR>الأطروحة الخامسة: الليلة التي يقدر فيها حوادث السنة في مرتبة المحو والإثبات, ويحصل إنزال هذه الأوامر في النفس الفلكية التي تطبقها خلال السنة. أو ينزل على الإمام الظاهري (الحي) لكي يمضيها ويوقع عليها.</P>

<P>ويدل عليه قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا][ ].<BR>وباعتبار وحدة مرجع الضمير في الآيتين [أَنْزَلْنَاهُ] نعرف أنها ليلة القدر. وأنها نفسها موصوفة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم. فهي ليلة الفرق وهو معنى القدر. بمعنى توزيع الأوامر على مواضعها ومستحقيها.<BR>كما نعرف من قوله تعالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ][ ]. هو القرآن, إذن فيكون المراد القرآن في الآيتين.<BR>إذن فليلة القدر في شهر رمضان.<BR>فالله أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان. فينطبقان على كلا العنوانين والزمانين.<BR>سؤال: ما هو مرجع الضمير في [أَنْزَلْنَاهُ]؟.<BR>جوابه: ليس له مرجع ظاهر, والمشهور بما فيهم الميزان [ ] إن مرجعه القرآن بأحد تقريبات:<BR>الأول: إنَّ ترك ذكره للتعظيم.<BR>الثاني: ما ذكره القاضي عبد الجبار[ ] من أن الأمر إذا صار معروفاً جاز إرجاع الضمير إليه.<BR>الثالث: العود إلى ما هو فعلي؛ لأن الكلام موجود في القرآن, فيعود الضمير إليه. كما لو دفعت شيئاً إلى شخص وقلت له: هذا فيعود أسم الإشارة إليه.<BR>وفي مقابل ذلك أيضاً أطروحتان محتملة:<BR>إحداهما: أطروحة عودة الضمير إلى نفس ما ينزل في ليلة القدر من الأوامر أو العطاء. وهذا بمعنى قد يكون مبايناً للقرآن وبمعنى آخر قد يكون أعم منه وشاملاً له.<BR>الأخرى: الخلق كله. فان الإنزال هو الخلق باصطلاح القرآن, كما قال تعالى: [وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ][ ], أي خلقناه وأوجدناه. ويراد بليلة القدر كتم العدم. ومن القدر أهمية وتعظيم هذا الخلق والإيجاد.<BR>سؤال: عن الفرق بين الإنزال والتنزيل.<BR>جوابه: المشهور بما فيهم الميزان[ ] , قالوا: بأنهما بمعنيين, الأول: دفعي والثاني: تدريجي. وأيد ذلك صاحب المفردات[ ] وسيأتي أنه ليس معنىً لغوياً.<BR>فإن كان المقصود بالكتاب القرآن كما عليه المشهور, كان للقرآن نزولان دفعي وتدريجي. أما الدفعي ففي ليلة القدر, وأما التدريجي ففي خلال ثلاث وعشرين سنة, منذ البعثة إلى وفاة النبي ?. كما قال سبحانه: [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً][ ]. بأن نفهم من قوله [عَلَى مُكْثٍ] انه ببطء وبالتدريج.<BR>وأما النزول الدفعي في ليلة القدر, فقد كان إلى السماء الأولى, كما في بعض الروايات[ ]  أو نزول على قلب النبي ?.<BR>ولكن ــ حسب فهمي ــ انه لا يوجد في أصل اللغة بينهما فرق, أعني نزّل وانزل, وإنما المادة تدل على الانحطاط من فوق إلى تحت وكلاهما متعد. وإن لم يكن نزل متعدياً. ولكن انزل أو نزّل غيره, يعني جعل غيره ينحط.<BR>وأما أن النازل كله (ليكون دفعـــياً) أو بعضه (ليكون تدريجــــــياً), فلم يلحظ في أصل اللغة. وما دعمه الراغب به من الكلام إنما هو بالرأي لا بحسب الأصل اللغوي, وكذلك المشهور. <BR>ولكن مع ذلك يمكن القول إن له نحواً من الظهور في ذلك بعد الالتفات إلى أن اللغة المعتمدة في الكتاب والسنة ليست هي اللغة القاموسية أو الأصلية, فقط. بل العرف أيضاً له دخل فيها. والظهور العرفي وان لم يكن له دخل في اللغة إلا انه له دخلا في الفهم الاجتماعي والعام لها.<BR>وعندئذٍ ففي الإمكان القول: إن العرف يوافق على فهم الدفعية في انزل والتدرج في نزّل, يعني بعضا بعد بعض.<BR>ولكن هذا يحتاج إلى صغرى وهي وجود هذا العرف في عصر الصدور والنزول. فإننا لا بد أن نحمل النص القرآني, على ما كان يوم نزوله في لغته وعرفه. وعندئذٍ ففي الإمكان القول: إنَّ ما كان يومئذٍ متحققاً في ذلك الحين هو الإنزال الأعم بدون لحاظ التدريجية والدفعية. <BR>فان قلت: فإننا حيث نفهمها الآن يمكن أن نستصحبه استصحاباً عكسياً قهقرائياً, كما في غيره من الظهورات, فيثبت وجوده آنئذٍ.<BR>قلت: ولكنَّه معارض باستصحاب آخر غير قهقري؛ لأننا نعلم أن الاستعمال قبل الإسلام كان بالمعنى المذكر في أصل اللغة. وهو مطلق النزول ونشك أنه بعد الإسلام هل تحول إلى معنى التدرج أو لا, فنستصحب عدم التحول. أو قل: بقاءه على معناه الأصلي, فبثبت نزول القرآن على ذلك الفهم. ولا أقل من التعارض والتساقط بين الاستصحابين, فلا يثبت مراد المشهور.<BR>أو نقول: إنَّ الاستصحاب القهقري لما كان عكس القاعدة, فيقدم الاستصحاب الموافق للقاعدة, وهو الآخر المخالف للمشهور في النتيجة.<BR>ونستطيع التمسك بإطلاق ما هو منزل للشمول لجميعه. فانه لو كان النازل بعضه لبيّنة, وحيث انه لم يبين, تعين أن النازل كله. فالضمير الذي يعود على القرآن أو إلى غيره نازل كله, أعني في قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ]. وهذا على خلاف المشهور.<BR>وبذلك يندفع بالبرهان, ما دفعه السيد الطباطبائي بالوجدان, حيث قال في الميزان[ ] : فلا يعبأ بما قيل: إنَّ معنى قوله تعالى: [أَنْزَلْنَاهُ] ابتدأنا بإنزاله.<BR>مضاف إلى أن يوم المبعث هو اليوم السابع والعشرون من رجب. وفيه نزل أول ما نزل من القرآن الكريم: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]. وليس أوله نازلاً في رمضان كما قيل.<BR>وإلا فماذا يكون معنى قوله تعالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]؟, لو كان المراد بدأ النزول. وهو لم يبدأ به قطعاً, بل المراد الإنزال الكامل.<BR>فالضمير في [أَنْزَلْنَاهُ] يعود إلى أمر غير مقيد بالبعض, وهذا الأمر حاصل في شهر رمضان وفي ليلة القدر. والله سبحانه ذكر كلا الزمانين لنزوله, فيثبت كونهما متداخلين من أجل صدق كلتا القضيتين, لاستحالة النزول الكامل مرتين, واستحالة تحصيل الحاصل.<BR>ومعه يتعين, بظهور القرآن كون ليلة القدر في شهر رمضان. إذن فما في ذهن المتشرعة وعليه بعض الروايات الضعيفة[ ] . من أن ليلة القدر مشتبهة بين جميع أيام السنة أو أنها من المحتمل أن تكون هي ليلة النصف من شعبان و ونحو ذلك. سيكون خلاف ظهور القرآن الكريم بعد ضم الآيتين المذكورتين فيسقط عن الحجيَّة.<BR>وأما تعيين ليلة القدر في ليالي شهر رمضان نفسه, فهو غير مستفاد من ظهور القرآن الكريم. وهي عند المتشرعة مشبهة ومرددة بين ثلاث ليالي هي التاسعة عشر والحاديَّة والعشرين والثالثة والعشرين من شهر رمضان. غير أن الروايات الآتيَّة صالحة لنفي الاحتمال الأول.<BR>وقد سئل المعصوم ? في عدة أحاديث عن ليلة القدر, وأنها في أي الليلتين فلم يعيَِّن. بل قال[ ] : ما أيسر ليلتين فيما تطلب. أو قال: ما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين. ونحو ذلك.<BR>سؤال: ما هو حساب شهر رمضان في الكون. ولماذا هذا التركيز والأهميَّة له؟ علماً أن الأرض ليس لها أهميَّة في هذا الكون. وبتعبير آخر أوضح: إنَّ شهر  رمضان كامن في الأرض؛ لأنه من نتائج حركتها السنويَّة حول الشمس. فإذا كان الإنزال الدفعي في السماء الأولى, فهناك لا يوجد شهر رمضان, لكي يكون نازلاً فيه ولا توجد ليلة القدر. بل كلها أرضيَّة. فما دخل السماء فيها؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ الأرض وان زعموا أنها في مكان مدحوض من المجرة التي نحن فيها وهي درب التبانة. فان هذا وان صح مادياً في علم الفلك. إلا أنه ليس بصحيح معنوياً.<BR>وقد قال متشرعة الإسلام ومتشرعة الأديان السابقة بإزاء ذلك: إن الأرض هي مركز الكون وتخيل بعض المتشرعة أن المراد هو المركز المادي, فنفى ذلك لثبوت خلافه في علم الفلك. ولكن الواقع أن المراد به الجهة المعنويَّة والتركيز على الأهميَّة.<BR>وذلك؛ لأنه في الأرض سكن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وسكنها خير الخلق والمعصومون ?. وكذلك هي محط نزول الملائكة والرسل والكتب ومحط ذكر الله وعبادة الله. فالأهمية الإلهية جعلت منها مركزاً للكون.<BR>ونتيجة ذلك: إنَّ الكون يقاس بالأرض, أي إن فيه شهر رمضان وليلة القدر, وكذلك العيدان ويوم عاشوراء وغيرها. ما دام أحد هذه الأزمنة متحققاً في الأرض فانسد السؤال.<BR>الوجه الثاني: أن يكون المراد من الأرض والسماء: أرض النفس وسماؤها. فأرض النفس هي الشهوات وسماؤها العقل. فنعقد لذلك قضيتين: <BR>الأولى: إنَّ أرض النفس موجودة في الأرض الخارجية, تحس أنها في شهر رمضان أو في ليلة القدر؛ لأنها حقيقة كذلك. والإنسان يعيش إحساساً هكذا.<BR>الثانية: إنَّ هذا الإحساس ينتشر في جميع النفس, أرضها وسماؤها؛ لأن النفس, كما قال الشــيخ السبزواري[ ] : النفس في وحدتها كل القوى. <BR>من حيث أن قواها وملكاتها متعددة. إلا أن النفس مجموعها واحدة لا تتعدد. بما فيها من أرض وسماء.<BR>وعندئذٍ فإذا سرت ليلة القدر إلى أرض النفس من الخارج, فقد سرت إلى النفس كلها طبقا للوحدة. فتنتشر ليلة القدر وينتشر شهر رمضان في كل النفس, سمائها وأراضها.<BR>الوجه الثالث: إنَّه يمكن القول بعد التنزل عن الوجهين السابقين: إنَّ القرآن نزل إلى السماء الأولى في وقت كانت الأرض فيها ليلة القدر, وكانت البشرية متصفة بهذا الزمان.<BR>الوجه الرابع: إنَّها ليلة القدر بإحساس المتلقي بالعرف الأرضي وهذا يكفي من باب كلم الناس على قدر عقولهم.<BR>سؤال: حول قوله تعالى: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ]. من حيث أن الخطاب للنبي ? وهو يعلم ما ليلة القدر. فكيف ينكر  إدراكه له.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّها صيغة تعجب كقولنا: ما أحسنها أو  ما أعظمها. لكنَّه أخذها في الآية جانب الإثبات وهو الإدراك, لا جانب الثبوت. <BR>الوجه الثاني: ان المقصود الناس؛ لأن القرآن أُنزل إليهم, وان كان الخطاب للنبي ? كما قال المثل: إياك أعني فاسمعي يا جارة.<BR>الوجه الثالث: إنَّه استفهام يراد به التعظيم, وليس الاستفهام الحقيقي. كما قلنا في درس الأصول: إنَّ الاستفهام في مثل هذا المورد هو معنى أولي للفظ, والتعظيم معنى ثانوي, وهنا يراد المعنى الثانوي خاصة.<BR>الوجه الرابع:أن تكون [أدْرَاكَ] من الإدراك, أي تحصيل منزلة تلك الليلة على معنى: إدراكك, فيكون إستفهاماً تعظيمياً لذلك الإدراك.<BR>سؤال: لماذا أصبحت خيراً من ألف شهر. أو بالأحرى ما معنى ذلك؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>الوجه الأول: إنَّ العدد ليس للضبط فلا يفهم من الآية الحديَّة, أي بشرط لا عن الزيادة ولا النقيصة.<BR>بل المراد شهور كثيرة جداً.<BR>ورقم الألف أقصى رقم كان يتصوره العرب. وظهوره العرفي يدل على ذلك, وإن كان الأصوليون يقولون بعدم إمكان إسقاط العنوان, ولكن ذلك صحيح ما لم تقم قرينة ضده, والظهور العرفي هنا على هذا النحو.<BR>إذن, فيمكن أن يكون المراد أنها خير من الزمان كله لما فيها من الأوامر ومن العطاء.<BR>الوجه الثاني: إنَّ المشهور فسرها بألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقد ورد ذلك في بعض الأخبار[ ] . وهذا صحيح؛ لأنها لو كانت فيها ليلة القدر لكانت مثلها, ولم تكن دونها في الأهمية. <BR>كما انه لم يقل: إنَّها ألف شهر متتابعة, بل هي ألف شهر في الجملة. وإلا كانت فيها ليلة القدر, لتكررها كل سنة. فهي ألف شهر مشروطة بالتفرق.<BR>الوجه الثالث: ورد تفسيره بملك بني أميَّة[ ] .<BR>وفيه إشكالان:<BR>الأول: عدم انطباقها على مدة ملكهم, فقد كان أكثر من ألف شهر. وهذا صحيح. إلا أننا عرفنا أن الألف تقريبي وليس مضبوطاً. فيندفع الإشكال.<BR>الثاني: إنَّنا قلنا أن الشهور ينبغي أن تكون متفرقة لكي لا تكون فيها ليلة القدر؛ لأنها موجودة في كل سنة بضرورة الدين. ومدة ملك بني أميَّة متواليَة. إذن, فقد حصلت خلاله ليلة القدر.<BR>وجوابه: من وجوه:<BR>الوجه الأول: أن نتنزل عن هذا التفسير وننفيه باعتبار ضعف الخبر.<BR>الوجه الثاني: أن ننظر إلى مصداق هذا العنوان صرفاً, وهو ملك بني أميَّة بغض النظر عن الزمان. فان المجتمع كان في ذلك الحين بائساً, والعطاء الإلهي والكرم الرباني المتوقع لم يكن ينزل خلال مدة ملكهم. فكان وجود ليالي القدر فيها كعدمها؛ لأن ليلة القدر إنما هي بمنزلة المقتضي للعطاء لا علة تامة. وملكهم مانع عن العطاء الإلهي, يعني عن تأثير المقتضي فيه. فمن الناحيَّة العمليَّة تكون ليلة القدر مفقودة في مدة ملكهم. <BR>الوجه الثالث: إنَّ المراد من ملك بني اميَّة ليس هو مؤداه المطابقي بل يمكن أن نفهم منه زمان انحطاط الفرد بحيث لا يستحق العطاء, فلا ينزل عليه فهي خير من آلف شهر بدون عطاء.<BR>فقد أخذ في هذا التقدير, وهو كونها خيراً من آلف شهر: أهميَّة العطاء في ليلة القدر. إذ بدونه تكون كالعدم. فان الأوامر تنزل فيها على أيّ حال, ولكن العطاء قد ينقطع. <BR>سؤال: لماذا قال:[تَنَزَّلُ]. ولم يقل تُنََّزل أو تَنْزل. <BR>جوابه: من وجهين:<BR> الوجه الأول: إنَّ هناك قراءة بضم حرف المضارعة[ ]. وهي وان كانت شاذة إلا أنها تحفظ المعنى أولاً, ولا تخل بالسياق ولا بالنسق القرآنيين ثانياً, ومحتملة ثالثاً. والاحتمال مبطل للاستدلال. <BR>الوجه الثاني: ــ حسب فهمي ــ فان هذه الصيغة لها ثلاث مزايا:<BR>الأولى: الأمر بالنزول, من حيث أن الملائكة مأمورين بذلك.<BR>الثانية: حمل شيء خلال النزول, وهي الأوامر والعطاء الذي تحمله الملائكة وتوزعه في العالم الأدنى.<BR>ونظيره في القرآن قوله تعالى:[وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ][ ] , أي لم تكن تحمله الشياطين معها. وقوله تعالى: [عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ,تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ][ ].<BR>الثالثة: التدريجيَّة في النزول, فان الملائكة إذا كانوا مأمورين بالنزول. فقد ينزلهم الله تعالى إنزالاً (أي: دفعياً) لا تنزيلاً (أي: تدريجياً). ولكن ــ حسب فهمي ــ انه لأجل إقامة القرينة على عدم الدفعيَّة, قال: [تَنَزَّلُ], بقصد نفي النزول الدفعي وإثبات التدريجي. ومن هنا اتضح إن الصيغتين الأخيرتين المقترحتين في السؤال, لا تفيدان الميزتين الأخيرتين قطعاً. والثالثة لا تفيد المزايا الثلاث كلها أصلاً. ومن هنا كان الرجحان للصيغة الأولى المشهورة.<BR>وهنا قال في الميزان[ ] : باختصار أصله تتنزل, وفيه معنى التدريجيَّة.<BR> أقول: هل إن هذه الصيغة من الإنزال أو من التنزيل؟ مقتضى فهمه للتدريج هو الثاني. ومقتضى أصل المادة لغة هو الأول, فيقع في نحو من التهافت.<BR>سؤال: ما المقصود بـ[الرُّوحُ]في قوله: [تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ]؟.<BR>جوابه: ليس هناك معنى مشهوري في هذا الصدد, بل هناك أراء متعددة تصلح كل منها كأطروحة.<BR>الأطروحة الأولى: إنَّ المراد به جبرائيل ?. وخص بالذكر لأهميته, بالرغم من اندراجه ضمن مفهوم الملائكة, فيكون من عطف الخاص على العام, أو قل: عطف الجزئي على الكلي.<BR>الأطروحة الثانية: هو أعظم الملائكة, وفيه ما قلنا في الأطروحة الأولى.<BR>الأطروحة الثالثة: هو خلق أعظم من الملائكة, ولعله الأشهر بين جملة من المفسرين. وفي اعتقادي أنهم إنما ذكروه باعتبار ظهور التباين بين طرفي العطف: [الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ] فلا يمكن أن يكون الروح مندرجاً في معنى الملائكة. وقد يدعم هذا الكلام: إنَّ [الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ] من سنخين. لان وجود الملائكة من عالم الخلق والروح من عالم الأمر. وعالم الأمر أعلى من عالم الخلق. ومن سنخ أخر غير سنخه. <BR>وبحسب فهمي فان هذه الأطروحة بمنزلة ( الكلي ), والوجه الآتي أو الأطروحة الآتية تكون مصداقاً وتطبيقاً لها.<BR>الأطروحة الرابعة: ما قاله في الميزان[ ] : الظاهر من الروح هو الروح الذي من الأمر, قال تعالى: [قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي][ ].<BR>أقول: إنَّه ? لم يذكر ما معنى الروح في الآية بالتحديد. وواضح من السياق أن المراد منها الروح الإنساني. فان الروح الواقعيَّة التي عند الله للإنسان هي التي تنزل مع الملائكة, في ليلة القدر. وهي من عالم الأمر وهي أيضاً في حقيقتها خلق أعظم من الملائكة, فحصل الوفاق بين عدد من الأطروحات. <BR>سؤال: إنَّ الملائكة جمع, والروح مفرد. فلماذا قال ذلك؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الأول: إنَّ المراد بالروح الجنس, وهو بمعنى الجمع, يعني تنزل الملائكة والأرواح. فالأول: جمع نحوياً, والثاني: جمع معنوياً.وهذا يكفي.<BR>الثاني: أن يلحظ الفرد فقط. ولكل فرد روح واحدة. وهذا اللحاظ غير موجود في الملائكة.<BR>الثالث: إنَّ الروح واحدة لا تتعدد طبقا لكل الأطروحات السابقة في فهمها. فهي وجود واحد, فلا بد من التعبير عنه بالمفرد ولا يمكن بالجمع.<BR>سؤال: ما هو معنى الأذن في قوله تعالى: [بِإِذْنِ رَبِّهِمْ]؟<BR>جوابه: قال الراغب[ ]: والأذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه. وقال في الميزان[ ] : وهو إعلام عدم المانع منه.<BR>أقول: وهذا لا يكفي؛ لأن المفهوم متشرعياً كون الملائكة مأمورين إلزاما بالنزول. فكيف يجتمع الأذن الترخيصي والأمر الإلزامي.وهذا المعنى لم يتعرض له السيد في الميزان.<BR>هناك عدة أطروحات لفهم معنى الأذن.<BR>الأولى: إنَّ المراد بالأذن الوجوب والإلزام, يعني عدم المانع المقترن بالمقتضي والشرط. فهو بالمعنى الأعم على معنى الإمكان العام الشامل للإمكان والوجوب. فيكون الإذن هنا شاملا لمعنى الترخيص والإلزام. والحصة المرادة هنا خصوص الإلزام.<BR>الثانية: إنَّ الملائكة راغبون في النزول؛ لأنه عملهم وعبادتهم. فإذا ارتفع المانع أثر المقتضي أثره بالنزول. ومما يُشعِر بهذه الرغبة كونهم يستغفرون لمن في الأرض.كما تشير بعض الآيات الكريمة[ ] .<BR>الثالثة:إنَّ النازل ليس كل الملائكة بل بعضهم, فمن الممكن أن تكون المسألة اختيارية لأفرادهم. وان كان الأمر بنحو الوجوب الكفائي. فكل فرد منهم يشعر انه ينزل برخصة لا بإلزام. وهذا يصدق بطبيعة الحال في عالم المحو والإثبات.وهو العالم الذي يحس به الملائكة, كما نحس به. لا في عالم اللوح الأعلى.<BR>فان قلت: إنَّ الملائكة مطلعون على كلا العالمين باعتبار وجودهم في الملأ الأعلى. فيكونون مدركين للإلزام لا للإذن.<BR>قلنا: كلا, إن الملائكة غير مطلعين على القضاء الحتمي. بل على عالم المحو والإثبات فقط؛ لأنه هو الخاص بعالم الكثرة, وهو العالم الذي يحس به الملائكة والأنس والجن كلهم. <BR>سؤال: ما معنى الأمر في قوله تعالى: [مِنْ كُلِّ أَمْر]؟.<BR>جوابه: للأمر قسمان رئيسان هما: مفرد أوامر ومفرد أمر, وكل منهما ينقسم إلى ثلاثة أقسام:<BR>القسم الرئيسي الأول: هو مفرد أوامر, وهو بمعنى الطلب. وهو المعنى المشهور للمفسرين. وفيه ثلاث أطروحات:<BR>أ - انه الأمر الموجود في اللوح المحفوظ في الجانب الأعلى, فيأخذه الملائكة وينزلون به.<BR>ب - انه الأمر الموجود في الجانب الأسفل. إذ يكون الملحوظ تنفيذ الأوامر وتطبيقها على وجه الأرض.<BR>ج‌- انه الأمر الموجود في الجانب الأوسط, يعني أن يكون الملحوظ هي الأوامر التي تحملها الملائكة حال هبوطها. بغض النظر عن مصدرها الفوقاني وموردها التحتاني.<BR>وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أمر أغفله المفسرون, وهو أن النزول بالأوامر العليا ينقسم على قسمين: نزول ثبوتي, ونزول إثباتي. <BR>ونريد بالنزول الثبوتي, ما يريده المشهور من الملائكة تنزل بالأوامر وتطبقها على وجه الأرض.<BR>ونريد بالإثباتي, قيام الملائكة بتعريف تلك الأوامر للأولياء, لكي تنزل إلى عالم التطبيق تدريجياً.<BR>ومن المعلوم أن النزول الثبوتي لا يكون في ليلة القدر, بل خلال سنة كاملة. بخلاف النزول ألإثباتي فانه خاص بها. ومعه يتعذر أن نفهم من النزول ما يريده المشهور وهو الثبوتي. بل يتعين المعنى الآخر له. <BR>القسم الثاني الرئيسي للأمر: أن يكون المراد هو مفرد أمور, أي أشياء. فيكون المعنى: بإذن ربهم من كل شيء. وينقسم على ثلاثة أطروحات أيضاً مقابلة لأطروحات القسم الأول:<BR>1- الجانب الأعلى: (المحمول منه), وهو ما خرجت منه الأوامر.<BR>2- الجانب الأسفل: ( المحمول إليه), وهو ما تطبق فيه الأوامر.<BR>3- الجانب الأوسط: ( الحامل), وهم الملائكة الحاملون للأوامر.<BR>فان قلت: إنَّ الأمر إذا كان بمعنى الشيء كان بمعنى العطاء الذي تحمله الملائكة, وخرج عن كونه أمراً بمعنى مفرد الأوامر. مع أن الملائكة تحمله أيضاً.<BR>قلت: إنَّ الأمر( مفرد الأمور) يشمل الأمر (مفرد الأوامر)؛ لأن الأوامر بهذا المعنى هي أشياء. فالملائكة تحمل أشياء عديدة, منها عطاء ومنها أوامر.<BR>سؤال: ما هو معنى [مِّنْ] في الآية الكريمة؟<BR>جوابه: إنَّهم ذكروا لـ [مِّنْ] عدة معانٍ:<BR>الأول: إنَّها بمعنى الباء, أي بكل أمر.<BR>وهذا يمثل ــ بحسب فهمي ــ المرحلة الوسطى,من المراحل المشار اليها فيما سبق. والملائكة تحمل أموراً, (سواء بمعنى الأشياء أو بمعنى الأوامر ) وتنزل بها. قال تعالى: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ][ ].<BR>ويرد عليه:انه يكون المعنى: إنَّهم حاملون لكل الأمور ونازلون بها. وهذا ما لا تطيقه الملائكة؛ لأن مجموع الأمور والأوامر كثيرة جداً, بل هي لا متناهيَّة, والمحدود لا يطيق تحمل غير المحدود. <BR>وجوابه: إنَّنا هنا نحتاج إلى تقييد ما, أي نقول بكل أمر خاص. كأن يكون خلال سنة أو للمخلوقين أو للدنيا. فتكون الأمور والأوامر متناهيَّة, فلا بأس أن تحملها الملائكة. <BR>فان قلت: الظاهر عدم الحذف والتقدير. فانه خلاف الظاهر إلا بقرينة متصلة. <BR>قلت: إنَّ البحث اللغوي لا يكون له دور هنا. ولكن ــ مع ذلك ــ فإننا يمكن أن نفهم من السياق أن المراد من كل أمر ليس كل الأوامر اللامتناهيَّة. وإنما المتعلقة بالعدل ونحو ذلك فهي أوامر محددة, أي من كل أمر مناسب. فهو تقليد ارتكازي أو معنوي لا لفظي فيمكن أن تحمله الملائكة.<BR>الثاني: إنَّها بمعنى (التسبيب), أي تسبيب الأمر الإلهي إلى النزول.<BR>أو قل: بسبب كل أمر, وهو يمثل السبب أو المرحلة العليا من الثلاث السابقة. <BR>فان قلت: إنَّ الظاهر هو السببيَّة التامة أو العليَّة. وهي تصح إذا كان الأمر بمعنى الطلب لا بمعنى الأشياء (مفرد أوامر لا مفرد أمور), فإنها على التقدير الآخر تكون مناسبة مع العليَّة الناقصة, فتكون [مِّنْ] قرينة متصلة على فهم مفرد أوامر لا مفرد أمور.<BR>قلت: إنَّ النحويين حين يقولون أن المراد من الحرف هو السببيَّة لا يعنون بها السببيَّة التامة ولا الناقصة, بل الأعم منهما. والمورد هنا بالمعنى (الفلسفي) اقتضائيا وليس عليّاً, وهو مناسب مع كلا المعنيين.   فلا تكون القرينة المذكورة صحيحة. <BR>الثالث: إنَّها للتعليل بالغايَّة, من حيث ان العلة هي تطبيق الأوامر. وهي تمثل المرحلة الثالثة من الثلاث السابقة. <BR>فان قلت: ولكن توزيع الأوامر لا يكون في ليلة القدر, بل في سنة كاملة <BR>قلت: جوابه على احد شكلين:<BR>الأول: النزول بكل أوامر السنة يكون بفعل المعصوم ?. وهو العلة الغائيَّة للتدبير.<BR>الثاني: إنَّ النزول اقتضائي لا علِّي. فلو توخينا العليَّة أو الفعليَّة, لتنفيذ هذه العطاءات فلا بد من مرور سنة, إلا انه لا بأس أن ينزل كله في ليلة نزولاً إقتضائيا, ويبقى موقوفاً تطبيقه على شرط حصول زمنه. <BR>الرابع: ما اختاره في الميزان حيث قال [ ]. والحق أن المراد بالأمر إن كان الأمر الإلهي المفسر بقوله: [إِنَّمَا أَمْرُهُ إذا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ][ ]. فـ[مِّنْ] للابتداء وتفيد السببيَّة, والمعنى:<BR>تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بإذن ربهم مبتدأ تنزلهم وصادراً من كل أمر الهي.<BR>وان كان هو الأمر من الأمور الكونيَّة والحوادث الواقعة, فـ[مِّنْ] بمعنى: اللام التعليلية, والمعنى: تنزل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربهم لأجل تدبير كل أمر من الأمور التكوينيَّة. <BR>أقول: يرد عليه عدد من الإشكالات السابقة. <BR>الخامس: إنَّ[مِّنْ] للتبعيض, أي بعض الأمور أو الأوامر أو الأعم منهما. فانه لا حاجة إلى نزولها كلها, بل تنزل بمقدار الحاجة. <BR>سؤال:عن معنى (السلام) في قوله تعالى: [سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ].<BR>جوابه: قال الراغب في المفردات[ ]: السلام والسلامة التعري من الآفات الظاهرة والباطنة. قال تعالى: [بِقَلْبٍ سَلِيمٍ][ ], أي متعر ٍ من الدغل. فهذا من الباطن. وقال تعالى: [مُسَلَّمَةٌ لا شِِيَةَ فِيْهَا][ ], فهذا من الظاهر.<BR>أقول: ويستعمل بمعنى السلامة من البلاء الدنيوي. وكذلك العافيَّة من كل بلاء. ومادة سلام لها معنيان:<BR>الأول: ضد المرض.<BR>الثاني:ضد الحرب.<BR>وكلاهما ضد البلاء الدنيوي, فهي سبب السلامة وعدم تكدر البال. وهذا هو المشهور. ولكنَّه على خلاف المعنى الأصلي. إذ لا فرق بين المؤنث والمذكر. وعلى أيِّ حال, فالسلام في السورة, خير الهي ورحمة, أما بعطاء جديد أو دفع بلاء محتمل في الحرب مع الشهوات والشياطين وفسقة الأنس والجن.<BR> وذكر العكبري معنى آخر حيث قال[ ]:  في [سَلامٌ] وجهان:  <BR>أحدهما: هي بمعنى مسلّمة, أي تسلم الملائكة على المؤمنين. أو يسلم بعضهم على بعض. <BR>والثاني: بمعنى سلامة أو تسليم. فعلى الأول [هِيَ] مبتدأ و[سَلامٌ] خبر مقدم.<BR>أقول: والسلام ظرف (أي: وقت سلام ) ولم يشير إليه؛ لأنه مفهوم ضمناً.<BR>وقال في الميزان[ ] : وقيل المراد به إن الملائكة يسلمون على مَنْ مرّوا به من المؤمنين المتعبدين.<BR>أقول: وهو ليس بصحيح؛ لأن الملائكة تسلم على من تُرسّل إليه لا على من تمر به. وعطاؤهم إما السلام أو أنهم يسلمون لهم شيئاً من الله سبحانه.<BR>والمعنى الآخر بمعنى السلامة, أي التسليم, أي التسبيب للسلامة. أو قل: إيجاد سبب السلام, كما يقال: سلمك الله, أي اوجد السلامة فيك.<BR>وأضاف العكبري[ ] : حتى متعلقة بسلام, أي الملائكة مسّلمة إلى الفجر. ويجوز أن يرتفع [هِيَ] بـ[سَلامٌ]  على قول الأخفش: (أي المبتدأ المتأخر بالخبر المتقدم ). وعلى القول الثاني: ليلة القدر ذات تسليم, أي ذات سلامة إلى طلوع الفجر. وفيه التقديران الأولان (يعني: تعلق[حَتَّى] بـ[سَلامٌ] وقول الأخفش). ويجوز أن يتعلق [حَتَّى] بـ[تَنَزَّلُ].<BR>أقول: وفي دعاء الصحيفة السجاديَّة وصف ليلة القدر بأنها: (التي هي من كل أمر سلام ), يعني: سلام هي من كل أمر. وقد تقدم الجار والمجرور لفظياً, في حين هو متعلق بـ[سَلامٌ]  وليس بـ[تَنَزَّلُ] كما هو ظاهر العبارة ومسلك مشهور المفسرين. <BR>ويتحصل المعنى من هذا الدعاء ضمن عدة أطروحات:<BR>الأولى: أن يقصد بقوله: [مِنْ كُلِّ أَمْرٍ], الأمر الخبيث, فيكون المراد السلامة والنجاة من كل أمر سيئ.<BR>وقد يجاب: إنَّ الملائكة والروح هي التي تنزل بالأمر, وهي أجل من أن تنزل بأمر سيئ.<BR>وجوابه: أولا: إنَّها قد تكون جملة مستأنفة لا علاقة لها بما سبق.<BR>ثانياُ: إنَّ الملائكة قد يحملون أموراً سيئة؛ لأنهم ينزلون بالخير والشر معاً وتكون ليلة القدر نجاة مما يحملون من السوء.<BR>الثانية: أن نفهم من الأمر الجيد والعلوي من العطاء, وعندئذٍ لا يمكن أن نحمل السلام على معنى النجاة, بل يجب أن نحمله على ما يناسب السياق وهو الاتصاف به لا النجاة منه.<BR>ووصف الليلة بالمصدر (هي سلام) كوصف زيد بالعدل (زيد عدل), أي عادل. وهو مجاز وتأويله: أما أسم فاعل, أي مسلمة أو سبب السلام أو ظرفه. وأما بتقدير مضاف, أي ذات سلام. أو انه بمعنى أفعل التفضيل كما أحتمله القاضي عبد الجبار[ ].<BR>وقال في الميزان[ ]: والإتيان, اعني: قوله تعالى: [تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ... إلى آخر السورة] في معنى التفسير لقوله: [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ]. <BR>أقول: أو أنها بمنزلة الجواب, عن إنها لماذا كانت خيراً من ألف شهر؛ لأن الملائكة لا تنزل في آلف شهر, بل في ليلة القدر. <BR>سؤال: ما معنى [حَتَّى] في قوله: [حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ].<BR>جوابه: إنَّها بمعنى إلى. <BR>سؤال: [مَطْلَعِ الْفَجْرِ] ما معناه؟.<BR>جوابه: فيه عدة أطروحات:<BR>الأولى: الفجر بعد الليل, وهي المشهورة.<BR>الثانية: إنَّه يكون بعد ليل البلاء, والفجر فجر السلامة من البلاء.<BR>الثالثة: إنَّه يكون بعد ليل الضلال, وهو فجر الهداية.<BR>الرابعة: أن يكون بعد ليل الدنيا؛ لأن الدنيا غاية همنا ومبلغ علمنا, فنخرج من هذا الحال, وندخل في حال أفضل.<BR>الخامسة: إنَّه فجر العطاء بعد ليل الحرمان من العطاء.<BR>فان قلت: ولكن السياق واضح بأنها ليلة عظيمة, فكيف نفهم مطلع الفجر؟.<BR>قلت: هذا يحتاج إلى درجة من الفهم الباطني. فأما أن نفهم إن كل عبارة مستقلة عن الأخرى. وأما أن يختلف معنى مطلع الفجر, فيمكن أن يحصل فجر الهداية أو فجر العطاء خلال ليلة القدر لا في نهايتها. وهو فجر معنوي وليس بمادي. </P>

<P>***</P>

<P> </P>

<P> </P>

<P> </P>

<P><BR>ســـورة العَلَقُ<BR>في تسميتها عدة أطروحات: <BR>الأولى: العَلَقُ, وهي المشهورة.<BR>الثانية: الْقَلَمِ, وهي مشهورة أيضاً[ ] .<BR>الثالثة: السورة التي ذكر فيها العَلَقُ أو التي ذكر فيها الْقَلَمِ. <BR>الرابعة: [اقْرَأْ], بصفته اللفظ الأول في السورة بعد البسملة. <BR>الخامسة: رقمها من المصحف الشريف وهو: 96. <BR>سؤال: هل أن هذه السورة نزلت أول ما نزل من القرآن؟.<BR>جوابه: إنَّه يوجد في أذهان المتشرعة إلى حد يوجب الاطمئنان, إنَّ هذه السورة هي أول ما نزل من القرآن. وقد وردت في ذلك روايات كما في الصحيحين. والدر المنثور وغيرها. نعرض الروايَّة كما في الدر المنثور أولا. ثم نناقش متنها[ ]. <BR>عن عائشة أم المؤمنين إنها قالت: أول ما بُدىء به رسول الله ? من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء, وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد. قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة, فيتردد لمثلها. <BR>حتى جاءه الحق وهو في غار حراء, فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد, ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ, فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ]. <BR>فرجع بها رسول الله ? يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد. فقال: زملوني زملوني فزملوه. حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله أبدا انك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب [ ] المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق [ ] .<BR>فانطلقت خديجة, حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة. وكان امرءاً قد تنصر في الجاهليَّة, وكان يكتب الكتاب العبراني, فيكتب من الإنجيل بالعبرانيَّة ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. <BR>فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ? خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي انزل الله على موسى. يا ليتني أكون فيها جذعاً, يا ليتني أكون فيها حياً, إذ يخرجك قومك.<BR>فقال رسول الله ?: أو مخرجيَّ هُمْ؟ قال: نعم, لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. وان يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. <BR>أقول: وفي هذه الروايَّة عدة إشكالات: <BR>أولاً: عدم صحة سندها. <BR>ثانياً: إنَّ أول ما نزل من القرآن الكريم هو البسملة, وليس اقرأ باسم ربك. <BR>ثالثاً: إنَّ في الروايَّة انه ? خاف من جبرائيل ?, ولا مبرر لذلك الخوف البتة. <BR>رابعاً: إنَّ جبرائيل ? قال له: [اقْرَأْ], بدون أن يعرض عليه كتاب أو صحيفة فلا يكفي الاعتذار من النبي ? بقوله ما أنا بقارئ.<BR>خامساً: لنا أن نتساءل لماذا عاقبه جبرائيل ? وهو يمثل رحمة الله الواسعة. وقد كان صادقا في كلامه بأنه ليس بقارئ فهو لا يستحق العقوبة. <BR>سادساً: دلالة الروايَّة على انه لم يعلم انه نبي أو رسول !!.<BR>قال في الميزان[ ]: وسكون نفسه ? في كونه نبيا إلى قول رجل نصراني مترهب. وقد قال تعالى: [قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي]. وأي حجة بيِّنة في قول ورقة؟ وقال تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ]. فهل بصيرته ? هو سكونه إلى ورقة؟ وبصيرة من اتبعه هو سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لاحجيَّة فيه قاطعة. وقال تعالى: [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ]. فهل كان اعتمادهم في ثبوتهم على مثل ما تقصه هذه القصة؟. <BR>جزى الله صاحب الميزان خيرا. <BR>سؤال: لماذا بدأت السورة بفعل الأمر: [اقْرَأْ]؟.<BR>جوابه: أولا: إنَّ المسألة اختياريَّة, كما بينا قاعدته العامة في المقدمة. <BR>ثانيا: إنَّ هذا متكرر في القرآن, ولا بأس به, لوجود سورة أخرى بدأت بفعل الأمر كقوله تعالى: [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى][ ].<BR>ثالثا: إنَّ السورة على المشهور أول ما نزلت من القرآن الكريم فتكون اقرأ, أي القرآن الكريم, فتكون تبشيرا بنزوله, وتكليفا للنبي ? بالاستماع إليه وتبليغه. <BR>سؤال: ما هو المقروء في: [اقْرَأْ]؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه, بعد الالتفات إلى انه لا يوجد مفعول به لفظي, كما هو معلوم, كما لا يوجد مفعول مقدر, لوضوح تعمد الإطلاق من هذه الناحية. وإنما غايته انه يوجد مفعول معنوي. لأن غض النظر عن المفعول به مطلقا, مما لا يمكن. ونبدأ الآن بوجوه الجواب. <BR>الأول: ما أشار إليه العكبري [ ]  والطباطبائي[ ] : من أن المفعول: [اسْمِ رَبِّكَ] والباء زائدة, كقول الشاعر: لا يقرأن بالسور. وذلك لأن قرأ متعديَّة بنفسها لا بالباء. <BR>الثاني: ما أشار العكبري أيضاً[ ] : من ان التقدير اقرأ مبتدأ باسم ربك. كما قال: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]. فهو تعليم عام للبشريَّة من هذه الناحية. <BR>فان قلت: فان البسملة جزء من السورة, فيكون المضمون متكررا بلا موجب. <BR>قلت: إنَّ ذلك كرر تأكيدا لكثرة غفلة البشر عنه. والتكرار بغير اللفظ لا يكون سمجا. <BR>مضافا, إلى اختلاف المتعلق, فإنه في البسملة خاص بالسورة, وفي [اقْرَأْ] عام لكل الأمور. <BR>نعم, لو تنزلنا عن هذه الأجوبة, فأن قرينة التكرار تدل على أن هذا الوجه غير مقصود. <BR>كما أننا لو تنزلنا عن جزئية البسملة للسورة لم يلزم التكرار. <BR>الثالث: اقرأ القرآن على الناس. كما قال تعالى: [لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ][ ] وهذا ما ذكره الطباطبائي[ ] ونفاه ولم يستدل على نفيه.<BR>الرابع:إن المراد مطلق القراءة, يعني اقرأ أيَّ شيء باسم الله سبحانه. وهو ما ذكره الطباطبائي[ ] أيضاً ونفاه ولم يستدل على نفيه. ونحن إذا أمكننا أن نفهم من القرآن عدة معانٍ. فكل معنى معقول, يكون داخلاً تحت التوقع. <BR>الخامس: [اقْرَأْ], بمعنى قل. يعني: اذكر الله سبحانه بأحد أسمائه. كقوله تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ][ ]. <BR>السادس: ما اختاره الطباطبائي[ ] من أن المقصود: الأمر بتلقي الوحي من الملك النازل به. فالجملة أمر بقراءة الكتاب وهي من الكتاب, كما لو قلت في الرسالة: اقرأ كتابي هذا. أو لفظ القرآن في القرآن, فأنه قرآن بالحمل الأولي وبالحمل الشايع. <BR>أقول: فيكون المعنى على ما اختاره: إنَّتبه أو اجمع في ذهنك الوحي أو أحفظه في ذهنك, مما يلقيه الملك إليك. <BR>ولكن هذا المعنى بنفسه مما ينفيه قوله تعالى: [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ][ ]. فالنظر في هذا الوجه إلى الأسباب لا إلى المسبب. <BR>مضافا أن الراغب قال[ ]: والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل. وليس يقال ذلك لكل جمع. <BR>أقول: أي أن القراءة هي جميع الحروف اللغويَّة وضمها. لا الحروف التي تنزل بالإلهام والوحي. وإنما سمت قراءة مجازاً. إن كانت هناك قراءة. فأن التلفظ للملك أو الله سبحانه. والنبي ? إنما هو السامع وهو غير القارئ.<BR>فضبط الوحي وجمعه وان كان من تكليفه ?, إلا انه ينطبق عليه عنوان القراءة مجازاً. وحمل اللفظ على المجاز خلاف الأصل.<BR>ويستنتج الطباطبائي ?: بان هذا يدل على أن [اقْرَأْ] أول ما نزل من القرآن الكريم. فيكون المعنى: اقرأ القرآن الذي سوف يوحى إليك. إلا أن هذا فرع اختيار هذا الاحتمال وظهوره فيه. وقد عرفنا مناقشته. فإذا بطل هذا الوجه, بطلت نتيجته أيضاً. <BR>واستنتج أيضاً منها (بتقريب منا): إن مادة القراء فيها جنبتان نستطيع أن نسمي الأولى: قرآن بالحمل الأولى, والثانيَّة: قرآن بالحمل الشايع, يعني الجزء من القرآن. وكلاهما قرآن وهو يمثل أي قراءة. كما قال الطباطبائي كقول القائل في مفتتح كتابه لمن أرسله إليه: أقرأ كتابي هذا وأعمل به. فقوله هذا أمر بقراءة الكتاب وهو من الكتاب...الخ.<BR>وبهذا ظهر الجواب على السؤال الذي أفاده العكبري[ ]: وهو فيما يتعلق بالباء. حيث قال: قيل: الباء زائدة؛ (لأن اقرأ متعدٍ بنفسه فيكون المفعول له حقيقة هو الاسم مع زيادة الباء)... وقيل: دخلت لتنبه على البدايَّة باسمه في كل شيء. كما قال تعالى[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ]. فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً, أي: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]. <BR>أقول: أي, متعلق بمفعول محذوف, أي اقرأ شيئاً باسم ربك. وهو القرآن أو السورة أو اسم ربك. وبهذا المعنى قدر العكبري معنى الحال: (مبتدأ باسم ربك) فيكون الجار والمجرور متعلقا بالفعل المقدر بدلا من تعلقه بـ [اقْرَأْ]. وهو خلاف الظاهر.<BR>سؤال: عن [الَّذِي] في قوله: [الَّذِي خَلَقَ].<BR>جوابه: أما من الناحية العرفية, فان مدخول [الَّذِي] يكون بمنزلة الجهة لهذا الفعل. كما قال تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ][ ], أي بسبب وعلّيَّة هذه الصفة. <BR>وأما من الناحية الدقيَّة, فان هذا ليس بصحيح, فإنهم قالوا في علم الأصول: إنَّ القيد والمقيد يكوّنان مفهوماً واحداً, فلا يتحصل من المجموع ذلك المعنى.<BR>إذن, فمعنى الذي, أي من هذه الجهة. وليس مجرد قيد أو توضيح أو إشارة إلى الذات. هو أمر عرفي كما سبق. وهذا مما يبعِّد ما أختاره الطباطبائي من يكون مفعول اقرأ هو الوحي. إذ لا يبدو له ربط واضح, إلا أن يراد انه خلق الوحي, وهو خلاف الظاهر.<BR>إن السياق الذي ادعاه في الميزان من أن السورة أول القرآن, يعني: اقرأ من الآن فصاعداً. لا يكون صحيحاً, إذ لا علاقة باسم [الَّذِي خَلَقَ] بإنزال الوحي. وإنما ينبغي استعمال آخر يتعلق بالوحي وبالقرآن لا الخالق, لو كان المراد ذلك. فهذا بمنزلة القرينة المتصلة على نفي السياق الذي ادعاه. مضافاً إلى المناقشات التي سبقت. <BR>سؤال: قال الرازي في هامش العكبري[ ]: فان قيل: أين مفعول خلق الأول؟.<BR>جوابه: يحتمل وجهين:<BR>احدهما: أن لا يقدر له مفعول, بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خلق سواه. كما قال: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ]. في أحد الوجهين. وقولهم: فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع, أي بغض النظر عما يعطيه أو يمنعه. وهذا أمر عرفي لطيف. <BR>الثاني: أن يكون مفعوله مضمراً تقديره الذي خلق كل شيء. ثم أفرد الإنسان (في الخلق الثانية) بالذكر تشريفاً له وتفضلاً.<BR>أقول: ويحتمل أيضاً: أن يكون المراد من كلتا الكلمتين كلمة واحدة, ومفعولها الإنسان. وإنما كررت لنكتة بلاغيَّة أو أدبية أو سياقية مع حفظ السياق والروي والنسق, وبدونها سيكون التعبير سمجاً.<BR>كما انه يمكن أن تكون حكمة التكرار هو انقطاع الوحي انقطاعاً مؤقتاً, كما ذكرنا في سورة الإيلاف, فراجع. <BR>سؤال: وقال الرازي أيضاً[ ]: فان قيل: كيف قال تعالى: [خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ] على الجمع ولم يقل: من علقة؟.<BR>جوابه: قلنا: لأن الإنسان في معنى الجمع بدليل قوله تعالى: [إنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]. والجمع إنما خلق من جمع علقة لا من علقة. <BR>فان قيل: هذا الجواب يردّه قوله تعالى: [إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ].<BR>قلنا: المراد: فانا خلقنا أباكم من تراب. ثم خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة. وقيل: إنما قال من علق رعايَّة للفاصلة الأولى وهي خلق.<BR>أقول: ولكنَّه مع ذلك لم يجمع بين الآيتين من الناحية المعنوية, وان كان قد جمع بينهما من الناحية النحوية. إذن, فالإشكال يبقى مفتوحا من حيث إن الآية الأولى ذكرت أن الإنسان خلق من علق. والآيَّة الثانية ذكرت ثلاث مراحل لخلقته:التراب والنطفة والعلقة. <BR>وحسب فهمي: فان للإنسان ثلاث بدايات, يصلح أن يكون كل منها بداية للإنسان:<BR>البدايَّة الأولى: وهي التراب, بأحد تقريبين:<BR>الأول: لأن آدم من تراب كما قال تعالى: [ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ][ ]. فآدم ? مخلوق من تراب بالمباشرة, وخلق الناس بالتراب بالواســطة والتسبيب عن طريق آبائهم, كما أشـــار الرازي.<BR>والثاني: لأن الجسم كله دائماً من تراب. وهذا تقريب (مادي) من حيث انه قد يُستبعد أن يكون آدم من تراب حقيقةً. فيمكن أن يكون المراد: الأجزاء الترابية أو مكونات التراب.<BR>ويوضح ذلك: إنَّ هناك دورة بين الإنسان والتراب, وذلك لأن النبات يخرج من التراب فيأكلهُ الإنسان ويعود إلى التراب, فيكون نباتاً من جديد. أو نقول: إن التراب يكون نباتاً, فيأكله الحيوان, فيأكله الإنسان, فيكون تراباً. ومعه يمكن القول بدرجة من درجات الفهم بالحمل الشايع: إنَّ التراب لحم واللحم تراب.<BR>والتقريب الأول عليه ارتكاز المتشرعة وظاهر القرآن الكريم. أما التقريب الثاني فهو فهم العصر المادي المتأخر.<BR>البداية الثانية: وهي النطفة قال تعالى: [أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى][ ]. فان الذي يكون لحماً وعظماً ليس هو النطفة بل الدم. كما نص القرآن الكريم: [ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً][ ]. <BR>البداية الثالثة: العلق, قال تعالى: [خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ] وهو الدم.<BR>فهذه ثلاث بدايات للانسان, فالأولى بانتسابه إلى الأرض, والثانية بانتسابه إلى أبيه, والثالثة بانتسابه إلى أمه وأول تكوينه. وبلحاظ كل نسبة يصدق أنها بداية. ويمكن أن يلحظ المتكلم أي واحد منها, فقد اختار في إحدى الآيتين واحدة, واختار في الأخرى الأُخرى.<BR>سؤال: ما هي النسبة بين الفعلين: [خَلَقَ] الأولى و[خَلَقَ] الثانية, لأنها واردة هنا بنحو التتابع؟.<BR>جوابه: أولاً: إنها ليست سمجة, بل لطيفة وموافقة مع روي القرآن وسياقه وذوقه.<BR>ثانياً: إنَّ الثانية تأكيد للأولى, باعتبار أن السامع قد يكون مستشكلاً أو معترضاً أو غير منتبه, فترد الثانية للتأكيد. وهذا معناه إنهما واحدة في المعنى.<BR>ثالثاً: إنَّها معطوفة بحذف حرف العطف, ونتيجتهُ التعدد في المعنى, أي خلق مطلقاً وخلق الإنسان من علق. ومن الواضح انه لا يستقيم نحوياً بدون حرف العطف أو تقديره.<BR>إلا انه يمكن الطعن بالكبرى لغوياً, وان صحت نحوياً, وهي ضرورة التعاطف بين الجمل. بل قد تكون كل جملة مستقلة عن الأخرى ومعه فلا حاجة إلى تقدير حذف حرف العطف.<BR>رابعاً: إنَّها عطف بيان على الأولى, إلا انه لا يتم لأمرين:<BR>1. إن هذا النحو من العطف خاص بالمفردات لا بالجمل. وهنا نتكلم عن الجمل لا عن المفردات. إلا أن نطعن بالكبرى أيضاً, وهو اختصاصه بالمفردات.<BR>2. إن هذا النحو من العطف مورده تعذر عطف النسق. والمفروض هنا إمكانه ولو بتقدير الحرف, بعد التنزل عن الوجه السابق.<BR>خامساً: إن الثانية بيان للأولى في المعنى, أي تفصيل بعد إجمال. وهذا في نفسه جيد. إلا أنه يرجع إلى نحو من الوحدة بين اللفظين. فإذا منعنا ذلك نحوياً أو لغوياً, أمتنع هذا الوجه. وإنما يكون الأول عاماً, أي خلق كل شيء. ونفهم منه العموم باعتبار حذف المتعلق, فانه من قرائن ذلك. و[خَلَقَ] الثانية للخصوص, من عطف الخاص على العام, إن قدرنا حرف العطف.<BR>سؤال: عن معنى: [الْعَلَقَ]؟.<BR>جوابه: أعطى الراغب عدة معانٍ تكاد تكون متباينة لـ[الْعَلَقَ]. فقال[ ]: [الْعَلَقَ] التشبث بالشيء, يقال: عَلِق الصيد بالحبالة, وأعلقَ الصائد إذا عَلِق الصيد في حبالته.والمِعْلَق والمِعلاق ما يعلق به.<BR>أقول: أو المتعلق نفسه, ومنه تسميَّة الرئة بالمعلاق؛ لأنها غالبة التعليق. وعلى هذا المعنى يكون [عَلَقَ] في الآية: مصدراً أو أسم مصدر.<BR>وأضاف: والعلق دود يتعلق بالحلق. <BR>أقول: ومنه الدود الذي يمص الدم. أو انه سمي بالعلق؛ لأنه يمص العلق وهو الدم.<BR>وأضاف: والعلق الدم الجامد. ومنه العلقة التي يكون منها الولد. قال تعالى: [خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ], [فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً]. <BR>أقول: مضغة أي لحمة. حين يتحول الدم المتجمد في الرحم إلى لحم.<BR>وأعتقد بان العلق يطلق على مطلق الدم. ومنه قولهم في حرب الجمل: </P>

<P>نحن بنو ضبّة لا نفر<BR>  حتى نرى جماجماً تخرّ</P>

<P>يخر منها العلق المحمرّ.</P>

<P>والدم الجامد لا يخرّ. ولا أعتقد انه استعمال مجازي وجداناً.<BR>وعلى أي حال, فيكون للعلق في الآية الكريمة عدة أطروحات: <BR>الأولى: مطلق الدم؛ لأن النطفة تتحول إلى دم, بغض النظر عن كونه جامداً أم لا.<BR>الثانية: الدم الجامد؛ لأن الجنين يكون كذلك في فترة من تطوره, وهو ما ذكره الرازي[ ].<BR>الثالثة: إنَّه سمي بذلك لأنه يعلق بالرحم, أي يكون فيه فهو بمعنى التعلق لا بمعنى الدم.<BR>الرابعة: إنَّه يتعلق بجدار الرحم ويلتصق به, كما ثبت في الطب الحديث.<BR>فان قلت: إنَّ هذه الفكرة متأخرة عن نزول النص القرآني, والناس يومئذٍ لم يكونوا معهودين بها. فكيف يتم الحديث عنها وهو خلاف القانون العرفي القائل: كلم الناس على قدر عقولهم. <BR>قلت: ذلك صحيح, لكن ذلك لا صغرى له هنا؛ لأنه في القرآن لم يبن ذلك. فربما قصد الله تعالى ذلك, ولكن لم يبنه بصراحة, ليكون خلاف ذلك القانون العرفي.<BR>الخامسة: العلق بمعنى التأثر والبدء بالنمو, ومنه علق الصبغ وعلق الضوء. يعني أثر أثره. وهو أمر عرفي وليس لغويا. وبالاستصحاب القهقرائي إلى صدر الإسلام نفهم من علق الجنين, أي لقحت البويضة, أو بدء نموه مطلقاً.<BR>السادسة: إنَّ الجنين في هذا المورد من تطوره يصبح كدودة العلق التي تمص الدم.<BR>السابع: إنَّه لا دليل واضح على تعرض الآية الكريمة لنمو الجنين, إلا معنى العلق. فإذا صرفناه عن معناه لم يبق دليلاً أصلا, وقد عرفنا أن معناه هو مصدر التعلق.فيمكن أن يكون مرادا, أي خلق الإنسان من التعلق.<BR>والمراد:إن الطبيعة الأساسيَّة للانسان هي التعلق, ونظيره قوله تعالى: [خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ][ ], وهو بلا شك معنى مجازي. فكون خلقة الإنسان منها ــ أي التعلق أو العجل ــ يحتوي على تسامح في التعبير ولكن قد يبلغ اتّصاف الإنسان بهذه الصفات درجة من الوضوح والأهميَّة إلى حد تصبح بمنزلة لحمه ودمه أو بمنزلة جسمه وكأنها صفة مجموع من كثرتها وعمقها وأهميتها.<BR>وهنا يطرح سؤال عن معنى التعلق؟.<BR>وجوابه: إنَّ الإنسان لا يمكن بأي حال أن يعيش بالاستقلال. فالتعلق موجود في الإنسان بكل صورة. وذلك لعدة أشكال:<BR>الأول: الشوق والحب والإرادة, فقولك: تعلق به, أي أحبه ومال إليه. وطرفه أما الدنيا وأما الله تعالى. أما الأسباب وأما مسببها. وأما الاستقلاليَّة الكاملة فهي محال. وان كان قد يتوهمها الفرد.<BR>الثاني: أن نصرف التعلق في كونه حباً وعاطفة إلى كونه علماً ويقيناً. ولكن ما هو المتعلق؟ هذا وارد في كل واحد حسب مستواه. فبعض يتعلق بالأسباب الطبيعيَّة, وبعض يتعلق بالأسباب غير الطبيعيَّة, وبعض يتمخض بالتوكل على الله تعالى. <BR>سؤال: عن معنى [مِنْ] في قوله تعالى: [مِنْ عَلـــــــــَق]؟.<BR>جوابه: إنَّ معنى [مِنْ] لا يختلف باختلاف معنى العلق, سواء كان مادياً أو معنوياً, وهو التعلق, كما شرحنا فيما سبق.<BR>ولمعنى [مٍنْ] عدة احتمالات:<BR>الأول:إنها لبيان الجنس و كقولك: أبريق من طين. وكما قال تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ][ ]. وقال: [ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ][ ]. فيكون القول هنا ــ حقيقة أو مجازاً ــ إن جنس الإنسان من علق.<BR>الثاني: إنَّها للتبعيض كقول تعالى: [مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ][ ], أي بعضهم. فيكون المعنى: خلق الإنسان من بعض العلق. ولا يراد به الجزء من الكل بل الجزئي من الكلي؛ لأن العلق كلي في أي معنى أعطيناه.<BR>الثالث: إنَّها لا بتداء الغايَّة, كقولنا: خرجت من الكوفة. وهذا أوضح في المعنى المادي للعلق. باعتبار انه أول حركة نمو الجنين.<BR>ويدعم هذا المعنى: إننا نستطيع أن نفهم من الخلق في الآية هذا المعنى لا مطلق الخلق. بل نفهم ابتداء الإنشاء للخلق. فتكون [منْ]  دالة على الابتداء لأول مرة, و[خَلَقَ] أيضاً تدل على ذلك. أو قل: ابتداء صنع الإنسان من علق.<BR>الرابع: إنَّها بمعنى في, أي الظرفـيَّة, وهذا أقرب إلى المعنى المعنوي وهو التعلق, والحاجة إلى الله تعالى. فهو بمنزلة الظرف الإنسان بمنزلة المظروف, لهذه الحاجة والتعلق. فالإنسان في علق.<BR>إلا أنه بعيد؛ لـــــصعوبة فهم الظرفيَّة عرفا ً.<BR>سؤال: ما هو ربط [اقْرَأْ]الأولى بخلق الإنسان, الذي هو مدخولها. مع انه غير مربوط بالقراءة ظاهراً, وخاصة مع فهم قيد الحيثيَّة كما تقدم فلماذا ذكر؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>أولا ً: الإشارة إلى الذات, يعني: ذات الخالق سبحانه, مع ذكر أهم النعم المنسوبة إليها وهو أصل الخلقة. وخاصة وان الخطاب للانسان فيحسن التركيز على خلقته التي هي أهم النعم عليه.<BR>ثانياً: إن كلتا العبارتين: [اقْرَأْ] واحدة في المعنى, فيكون السياق واحداً, فيكون المتأخر كأنه مدخول للمتقدم, والتكرار انما هو للتأكيد, أو للتوصل إلى مدخولها, فيكون وصفاً للنعمة بخلقة الإنسان وتعليمه. فيكون المجموع مناسباً مع القراءة.<BR>ثالثاً: إنَّ القراءة متوقفة على أصل الوجود, لا إنهما غير مرتبطين إطلاقاً, وإنما يلزم من عدمه, أي يلزم من عدم الخلقة عدم القراءة. فقد ذكر وجود الإنسان كمعدٍ أو شرط لها.<BR>رابعاً: أن نفهم من القراءة الجانب المعنوي, وهو التفكير في خلق الله. فيكون ذلك مناسباً مع خلق الإنسان. فان خلق الإنسان من أعظم العبر والمعجزات في العالم, بل أهمها على الإطلاق.<BR>فان قلت: فانه عندئذ لا يناسب [اقْرَأْ] الثانية التي مدخولها القلم والكتابة.<BR>قلت: ذلك من وجهين:<BR>أولاً: إنَّ التفكير كما يكون بالكون ثبوتاً, يكون أيضاً بالكتابة إثباتاً. أو قل: إنَّ القراءة على الصفحات جزء من القراءة التكوينيَّة, أو التفكير في خلق الله. فيرجع كلاهما إلى محصل واحد, وهو التفكير.<BR>ثانياً: أن نقر هنا بالتعدد بين الفعلين, أعني [اقْرَأْ] الأولى و[اقْرَأْ] الثانية, فلا ربط بينهما من هذه الناحيَّة.فقد يكون الأول للتفكير, والثاني للكتابة. ولا بأس بذلك.<BR>فان قلت: إنَّ بينهما وحدة سياق تدل على وحدة المعنى.<BR>قلت: جوابه من وجهين:<BR>أولاً: إنَّ الكتابة والعلم والقراءة كلها حصص من التفكير في الكون كما قلنا.<BR>ثانيا: إنَّنا يمكن أن ننفي وحدة السياق لوجود القرينة على عدمها؛ لأن مقتضى الحكمة تعدد المعنى وليس وحدتهُ.<BR>سؤال: لماذا جاء بـ[الأَكْرَمُ] بدل الكريم, مع انه المشهور. ولماذا لم يأتِ باسم آخر؟.<BR>جوابه: من أكثر من وجه واحد:<BR>أولا: لوحدة النسق أو القافيَّة, وهذا مهم بلاغياً وأدبياً.<BR>ثانياً:إننا لو نظرنا من زاويَّة الله سبحانه لو صح التعبير, لو جدنا إن كرمه كاف, باعتباره مدبراً وخالقاً؛ ولأنه يدير الكون باستمرار ولم يغفل عنه طرفة عين. ولكن ذلك في نظر الله سبحانه غير كاف. بل انه ــ أي الكون ــ يحتاج إلى أكثر من ذلك, وهو التعليم والتكامل فهو دائم الإفاضة على عباده, قال تعالى: [وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ][ ].<BR>فهو كريم بالوجود؛ لأننا لم نطلب منه الوجود لكي نوجد. وأما التعليم, فهو أكثر من ذلك في الكرم, فصار سبحانه أكرم؛ لأن ذلك نعمة بعد نعمة.<BR>سؤال: قوله تعالى: [إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ]. ما هو الوجه للعطف في هذه الجملة؟.<BR>جوابه: قال في الميزان[ ]: والجملة حاليَّة أو استئنافية.<BR> أقول: وهذا تام نحوياً؛ لأن الواو إما حاليَّة أو عاطــفة. إلا أن المراد الآن بيان المعنى, وهو على احد وجهين: <BR>أولا: الإشارة إلى النعمة الثانية بعد الخلق. وهي التعليم والهداية, كما قال في آيةٍ ثانية:[الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى][ ]. وقال أيضاً: [الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. والذي قدر ّ فَهَدَى][ ].<BR>ثانياً: كأطروحة: إنَّ المراد: اقرأ باسم ربك الأكرم. كما قال أولاً: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]. ولكنَّه لا يعبر بذلك؛ لأنه يصبح فيه سماجة التكرار, فعبر بهذا التعبير: [اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ].<BR>والاسم الموصول: [الَّذِي] هنا يعني: من هذه الجهة, أي من جهة أنه [عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]. فهو يستحق التسبيح من هذه الجهة. مضافاً إلى الجهات الأخرى. وهي جهة اثباتية, يعني الإحساس والشعور بهذه المنة. <BR>وفيه جهة ثبوتية: وهي انه لولا تعليمه لما حصلت القراءة تكويناً. فأصل وجود القراءة باسمه بأي معنى فسرنا القراءة.<BR>سؤال: ما هو معنى تعليم الله للانسان أو قل: ما هي كيفية نسبة التعليم إليه سبحانه؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الوجه الأول: إنَّ كل الخلق منسوب إليه بنحو فلسفي, ليس هنا محل بيانه, فتعليم الإنسان من جملة ذلك.<BR>وهي فكرة قالها الشيخ المظفر عن أستاذه الِشيخ الأصفهاني عن مشهور الفلاسفة, إنهم قسموا العلة إلى قسمين:<BR>القسم الأول: علة ما به الوجود, ويراد به التسبيب غير الإلهي.<BR>القسم الثاني: علة ما منه الوجود, وهو التسبيب الإلهي.<BR>فأي شيء حينما تتم علته, يطلب بلسان حاله الوجود من الله تعالى, وهو كريم لا بخل في ساحته, فيفيض عليه الوجود فيوجد.<BR>والتعليم من جملة ذلك, له علة ما به الوجود وهو الأستاذ. وعلة ما منه الوجود وهو الفيض الإلهي. فكما ينسب الإنسان إلى أبيه تارةً والى الخالق أخرى, كذلك ينسب العلم إلى الأستاذ تارة والى الله أخرى.<BR>الوجه الثاني: جعل القابليَّة للتعليم في الإنسان. وهذا أمر وجداني في كل الأفراد, ما لم يكن الفرد قاصراً. فتعليم الله للانسان يتم بإيجاد شرطه وهو القابلية. فان تلقي العلم معلول, فهو يحتاج إلى تمامية علته, من مقتضي وشرط وعدم المانع. والله تعالى خالق القابلية, أي الشرط وهذا يكفي.<BR>الوجه الثالث: أن يراد به خلق عالم الإثبات, اعني عالم المعرفة والأفكار, مضافا إلى خلق عالم الثبوت, وهو عالم التكوين.<BR>فقد خلق الله تعالى الأفكار التي لها القابليَّة للخطور في الذهن. وهذا من قبيل المقتضي. والنتيجة تنسب إلى المقتضي بطبيعة الحال, لا إلى الشرط ولا إلى عدم المانع. ومنها وجدت اللغات.<BR>فإذا ضممنا الوجهين الثاني والثالث, يعني القابلية للإنسان وما يستطيع به أن يملأ هذه القابلية وينميها. علمنا كيف أن الله تعالى هو المعلم للإنسان حقيقةً.<BR>الوجه الرابع: تعليم الله تعالى للبشر عن طريق أنبياءه وكتبه, ويدل عليه قوله تعالى: [مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ][ ]. وقال: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ][ ]. وقال: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ][ ].<BR>إن قلت: فانه تعالى لم يعلم بالقلم, وإنما هو شأن التعليم البشري للقراءة والكتابة. فكيف علم بالقلم؟.<BR>قلت: هذا يختلف باختلاف معنى التعليم كما سبق. فان قصدنا منه التسبيب الطبيعي, كما هو المعنى الأول فاستعمال القلم الاعتيادي صحيح. وان قصدنا غيره كان للقلم معنيان آخران.<BR>المعنى الأول: القلم الأعلى, وهو قلم التقدير الذي يكتب في اللوح المحفوظ. ولا شك أن له دخلا في التعليم, لان ذلك مما يدخل ضمن القضاء والقدر. لان الباء في قوله:[ بِالْقَلَمِ] تفيد السببية, فيراد بها سببية القضاء والقدر لتعليم الإنسان. <BR>المعنى الثاني: القلم الأدنى, وهو قلم التنفيذ. وذلك بمنزلة الأمر, وهذا بمنزلة المأمور. ومنه قوله تعالى: [لَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ][ ]. يعني: الكلمات التكوينية المكتوبة في لوح الواقع, ومن الواضح إن من جملة التكوين قلم الإنسان وأي فرد من أفراده.<BR>وهنا ينبغي أن نلتفت إلى انه على قلة المتعلمين والكاتبين في صدر الإسلام, وقد كان رسول الله ? غير قارئ وغير كاتب مادياً وعملياً, إلا أنه ورد ذكر القلم والمداد في القرآن الكريم مكرراً ومؤكداً, والتركيز على أهميته حتى من الناحية الشخصية. قال تعالى: [لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ][ ]. يعني: طبقاً للشريعة. وهكذا.<BR>كما ينبغي أن نلتفت أيضاً إلى أمر ٍ قلما يلتفت إليه الناس حتى الأدباء, وهو أن خمسة أو ستة كلمات مكررة في سطرين من الكلام في أول هذه السورة الشريفة مع حفظ المستوى البلاغي للقرآن, وهي [اقْرَأْ] و[خَلَقَ] و[رَبُّكَ] و[عَلَّمَ] و[الَّذِي] و[الْإِنسَانَ]. والأخيرة مكررة ثلاث مرات اثنين منها في خمس آيات صغار والثالثة في السادسة.<BR>فإذا سطرت هذه الكلمات المكررات, ملأت سطرين أو أكثر فينبغي أن يكون الكلام سمجاً. مع انه قد صاغه في غاية الرصانة والبلاغة. وبنفس المقدار من الأسطر, وهذا من إعجاز القرآن الكريم.<BR>بل نستطيع هنا أن نقول: إنَّ نسبة الكلمات غير المكررة إلى الكلمات المكررة في ابتداء هذه السورة, هي نسبة قليلة, فليست غير المكررة إلا بضع كلمات هي: [بِاسْمِ] والـ[عَلَقٍ] و[الأَكْرَمُ] و[الْقَلَمِ]. وهي أربعة بأزاء ستة. فإذا التفتنا إن تكرار الستة يجعلها أثني عشر أو أكثر[ ] استطعنا التعرف على النتيجة النهائية.<BR>قال في الميزان[ ]: والمراد بالإنسان الجنس, كما هو ظاهر السياق, وقيل: المراد به آدم ?, وقيل: إدريس؛ لأنه أول من خط بالقلم. وقيل: كل نبي كان يكتب. وهي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.<BR>أقول: إن التعلم إن كان منحصراً به سبحانه, فهو لا يعلم كل إنسان بل هو خاص بالأنبياء. ومن هنا ذكروا ذلك. إلا انه يوجد مقسم آخر وهو كل إنسان, بل جميع الخلق فانه إنما يتلقى الهداية والتعليم من الله سبحانه, كما أوضحنا في الوجوه السابقة.<BR>سؤال: عن قوله تعالى: [مَا لَمْ يَعْلَمْ], ما هو الذي لا يعلمه الإنسان, وفي أي زمان كان لا يعلم؟.<BR>جوابه: هذا يختلف باختلاف معنى العلم الذي تلقاه الإنسان من الله سبحانه حسب الأطروحات السابقة:<BR>فان قصدنا تفسيره بالتعليم الاعتيادي طبقاً للأسباب, فالإنسان كان قبل هذا التعليم جاهلاً أو قاصراً أو سفيهاً. وأصبح عالماً بعد ذلك. وان قصدنا (التذكر) وهو منوط بالله سبحانه, وكل شيء تذكره فقد تعلمه, وزمن الجهل هو النسيان لأنه يقابل التذكر.<BR>ويمكن ــ كأطروحة أخرى ــ أن نحمل التذكر على نظرية (المثل) لأفلاطون. بان الروح تنزل في الجنين فيوجد الإنسان: فيكون ناسياً لعالم الروح, فإذا تكامل تذكر ما نسيه ويدعم ذلك قصيدة ابن سينا التي يبدأها بقوله عن الروح: هبطت إليك من المحل الأرفع... إلى عدة أبيات.<BR>وهنا لا بد أن لا نخلط بين النظريتين: نظرية المثل ونظرية التذكر, فإننا وان سمينا العالم الأعلى بعالم المثل, إلا أنه ليس تعبيراً دقيقاً. وإنما نظريَّة المثل تحتوي على افتراض وجود فرد مثالي في العالم الأعلى جامع لكل صفات النوع وفاقد لكل سيئاته ونواقصه و وهو المسمى برب النوع. وهدا المعنى لم تثبت صحته. <BR>ولكن ما قال إن الأرواح موجودة قبل الأجسام هي نظرية محترمة جداً. وقد ورد: إن الأرواح جند مجندة.<BR>وقد ورد في القرآن الكريم: [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ][ ]. الذي يدل على إن آدم ?, كان موجوداً هو وذريته لا بأجسامهم بل بأرواحهم. والله تعالى كشف لآدم ذريته إلى يوم القيامة دفعة واحدة. <BR>فقوله: [عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ], يراد به إن الإنسان في هذه الدنيا يكون ناسياً للعالم الآخر الذي كان فيه, ثم قد يبدأ بالتذكر. وهو من حسن التوفيق, ونحو من التعليم من قبله تعالى. <BR>كما يمكن أن نفهم أطروحة أخرى, وحاصلها: إنَّ الله تعالى أودع كثيراً من الأشياء في خلقة الإنسان وروحه. فمتى كان لا يعلم؟.<BR>جوابه: قبل خلقته. فالإبداع قد وجد بوجود الإنسان, فهو بمنزلة الماهيَّة, وقبل وجود هذه الماهيَّة كان لا يعلم, أي من حين وجود روحه لا جسمه حصل العلم بحصول الإبداع, وقبل وجوده كان لا يعلم إن قلنا إن الأرواح حادثة.<BR>قوله تعالى: [كَلاَّ إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى].<BR>قال في الميزان في معرض حديثه عن الآية[ ]: ردع عما يستفاد من الآيات السابقة انه تعالى انعم على الإنسان بعظائم النعم مثل التعليم بالقلم وسائر ما علم, والتعليم عن طريق الوحي, فعلى الإنسان أن يشكره على ذلك. لكنه يكفر بعمته ويطغى. <BR>أقول: وفكرة الردع خطأ فظيع؛ لأنه ليس في الآيات السابقات إلا الحق. فلا معنى للردع عنها, كما لا معنى لنفيها, ولا يحتمل ذلك لا تكويناً ولا تشريعاً. وإنما المراد استبعاد إتّباعها من قبل الإنسان الذي يغلب فيه الطغيان. <BR>فكأن الاتصال بالله شيء ووضع الإنسان خارجاً شيء آخر. وأكثر الناس طغاة مع شديد الأسف, وليس فقط الحكام والجبابرة. قال تعالى: [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ][ ].<BR>سؤال: عن معنى الطغيان؟.<BR>جوابه: إنَّ الطغيان والسيطرة مفهومان متساويان. والإنسان عادة مسيطر على نفسه, وقد يكون مسيطراً على غيره, فيتخذ الأمر أشكالا من المصاديق:<BR>أولا ً: التمرد على أصول الدين, أو قل: إنَّكار أصول الدين. وهو عنوان عام يشمل أيا من الأصول الخمسة. قال تعالى: [وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ][ ].<BR>ثانياً: التمرد على فروع الدين كترك الصلاة.<BR>وهذان الأمران يجتمعان مع ما قلناه من قبل, بان الإنسان قد يتمرد على نفسه تارة وعلى غيره تارةً أخرى بكلا الشكلين: ففي أصول الدين يكون مضلاً لنفسه وللآخرين. قال تعالى: [وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ][ ]. وقال تعالى: [قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي][ ]. وفي فروع الدين يكون ظالماً لنفسه أو لغيره. قال تعالى: [إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ][ ]. وظلم النفس مكرر في القرآن كثيراً. منه قوله تعالى: [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ][ ]. وقال تعالى: [فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ][ ].<BR>ثالثاً: الشعور بالاستقلاليَّة, إما بعنوان الشعور بأهميَّة ذاته وهو الاستكبار. وهو مساوق للشعور بأنه هو الفاعل لكل النعم الموجودة في حوزته. قال تعالى عن لسانه: [إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي][ ]. </P>

<P><BR>وإما بعنوان الشعور بالأسباب. ومثاله قوله تعالى: [ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ][ ]. والثاني أعم من الأول.<BR>فيراد من قوله تعالى: [أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى]: عقد ملازمة شرطية بين الجملتين, كأنه قال: إذا استغنى طغى. <BR>وإنما يشعر بالاستغناء إذا [رَآهُ], يعني رأى نفسه بالجنبة الاستقلالية, أو رأى نفسه مستغنياً. أو أن رؤيته للنفس هي الاستغناء. أو أن هناك ملازمة بين رؤية النفس والاستغناء. فيكون المحصل إن رؤيَّة النفس سبب للشعور بالاستغناء. والشعور بالاستغناء سبب للطغيان أعاذنا الله من كل شر.<BR>وهنا لا بد من الإشارة إلى ما التفت إليه السيد الطباطبائي[ ]: من أن فاعل [رَآهُ] ومفعوله واحد, وهو الإنسان.<BR>وحسب فهمي: إن الإنسان قد يجرد نفسه رائياً ومرئياً في عين الوقت, أي هو الرائي وهو المرئي, ومثاله: إنَّ الفرد قد يرى نفسه في المنام بكامل جسمه, كأنه يرى إنساناً آخر ومع ذلك فهو لا غيره.<BR>وهنا قال العكبري[ ]: [أَن رَّآهُ] هو مفعول له, أي يطغى لذلك.<BR>أقول: هذا ناشئ من أمرين:<BR>أولهما: فهم التعليل, أي لأجل انه يرى نفسه مستغنياً أو بسبب ذلك.<BR>ثانيهما: وهو وجه نحوي: قالوا: (أن) المصدريَّة تسبك دائماً هي مع ما بعدها بمصدر. والمصدر (بصفته مفرداً غير مركب) يحتاج إلى محل الإعراب. وهو هنا مفعول لأجله. وأما إذا كان جملة, فالجمل لا يتعين أن يكون لها محل من الإعراب دائماً.<BR>وقول النحويين: إنَّ كل (أن) تسبك هي مع ما بعدها بمصدر فيه مناقشة؛ لأن (أن) المخففة من الثقيلة لا تسبك مع بعدها بمصدر. فالجملة فيها موضوع ومحمول, أي انه معنى تصديقي, بينما المفرد معنى تصوري ذو نسبة ناقصة. فان النسبة التامة تزول إذا جيء بدلها بمفرد أو مركب وصفي. وسوف يتغير المعنى بطبيعة الحال.<BR>وقد قالوا في علم الأدب: إنَّ المتكلم أراد أن يعطي صورة متحركة. وهذا إنما يتوفر إذا كان جملة تامة. وأما إذا كان مفرداً فلن يكون متحركاً بل جامداً. فنكون قد أهملنا جزءاً معتداً به من الأدب القرآني الذي أراده المتكلم. ولا حاجة إلى هذا الإهمال.<BR>سؤال: لماذا فتحت همزة (أن), مع أنَّ المناسب كسرها؟.<BR>جوابه: إن لذلك عدة أطروحات محتملة:<BR>أولاً: لعل هناك قراءة بالكسر فينحل الإشكال.<BR>ثانياً: إنَّه يمكن في اللغة أن يكون الفتح بمعنى الكسر, يعني أن تكون (أن) المفتوحة بمعنى: (إن) المكسورة. <BR>ثالثاً: إنَّ المتكلم جل شأنه جعلها مفتوحة لأجل أن يعطي كلا المعنيين؛ لأن (أن) المفتوحة مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر. كما أن (إن) المكسورة شرطية, والسياق يعطي معنى الشرطية. ففي هذه الأطروحة نقول: إنَّ الكسر موجود ضمناً لا مطابقة. <BR>فان قلت: فما هو المصدر المسبوك؟.<BR>قلت: (استغناءه), أي إن رأى استغناءه, إلا أن هذا محل نقاش باعتبار أن المصدر يكون من المدخول المباشر لـ(أن) هنا, رآه وليس استغنى. وهذا لا يكون مستقيماً لفظاً إلا بتقدير حرف جر محذوف وهو الباء. فانه يقال: برؤيته أو بسبب الاستغناء.<BR>فان قلت: فان الرؤيَّة يمكن أن تلحظ طريقاً إلى المرئي وهو الاستغناء كما في قوله تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ][ ], يعني إذا كان الشهر متحققاً ولا دخل للرؤية في تحققه, ففي محل الكلام يمكن حذف الرؤية واعتبار أن مدخول (أن) المصدريَّة هو الاستغناء, فيصح فرض المشهور.<BR>قلنا: أولا: إنَّ الرؤيَّة وان أمكن أخذها طريقية أحياناً كتلك الآية الكريمة. إلا أنها هنا لم تؤخذ بهذا النحو, وإنما المقصود لحاظه الرؤية بذاتها بمعنى الشعور بالاستغناء وليس الاستغناء نفسه. لوضوح أن الاستغناء نفسه وهمي وكاذب. <BR>ثانياً: إنَّ هذا الطراز من التفكير معنوي وليس لفظياً. ومن هنا لا يكون نحوياً أو لغويا. فان فرضنا اخذ الرؤية طريقية معنى. فإنها على حال مدخول (أن) المصدريَّة لفظاًوهذا يكفي من الناحيَّة النحويَّة, فلا يتم مبنى المشهور.<BR>رابعاً: إنَّه بعد التنزل عما سبق يمكن أن نقول كأطروحة: إنَّ (أن) المصدريَّة وما بعدها يسبك بمصدر يكون مبتدأ أو بمنزلة المبتدأ, وما قبله خبر مقدم كأنه قال: استغناؤه طغيانه. والخبر يمكن أن يكون جملة, إلا أن المبتدأ لا يصح أن يكون جملة فهو جملة نحوياً, إلا انه مفرد نظرياً. وإنما تحدث بهذا الترتيب ليعطي صورة متحركة وعرفية واضحة.<BR>سؤال: عن قوله: [إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعَىٍ]. فانه لا تكون الرجعى إليه حقيقة, بعد ما ثبت في علم الكلام استحالة ذلك.<BR>جوابه: يكون هذا على وجوه يتم بيانها بعد بيان مقدمة, وهي أن نقول: قالوا: إنَّ لكل فعل رد فعل, وفي الشريعة لكل عصيان عقاب ولكل طاعة ثواب. وهو بمنزلة رد الفعل و قالوا: إنَّ هناك آيات في القرآن الكريم لها جواب, أي: إن هناك آية بمنزلة السؤال, وآية بعدها بمنزلة الجواب أو قل: بمنزلة المقدمة وبمنزلة النتيجة أو قل: بمنزلة الفعل وبمنزلة رد الفعل.<BR>وتطبيقها في المورد: إنَّ الفعل هو: [كَلاّ إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى], ورد الفعل هو: [إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعَى].<BR>والآن نذكر وجوه الجواب:<BR>أولا: أن يكون المراد يوم القيامة, كما هو المشهور.<BR>ثانياً: أن يكون المراد إن الله تعالى يقوم بحسابه, فكأنه واقف بين يديه وأمامه, وان لم يكن كذلك حقيقة. كما أن المصلي حينما يصلي فانه يقف بين يدي الله. وهذا واضح في أذهان المتشرعة وعليه بعض الروايات, مع العلم إن المقابلة المادية غير موجودة. <BR>ثالثاً: أن يكون المراد الإشارة إلى الكمال المطلق, وهو هدف كل الموجودات وفيها شوق إرتكازي إليه. كما قال الفلاسفة العارفون.<BR>رابعاً: الرجوع إلى عالم الروح بعد عالم المادة, فقد يعبر عرفاً ومجازاً: إنَّه من سنخ الله فيكون الرجوع إليه رجوعاً إلى الله.<BR>سؤال: لماذا استعمل همزة الاستفهام ولم يستعمل (هل) في قوله تعالى: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى]؟.<BR>جوابه: همزة الاستفهام لا شك أنها أولى وأبلغ؛ لأن (هـل) تعطي الاستفهام الحقيقي والهمـزة تعطي الاستفهام المجازي وهو المراد من الآية. والمتكلم هنا ليس بحاجة إلى جواب.<BR>والشواهد على الاستفهام المجازي عديدة وفي القرآن الكريم كثير منها.<BR>قال الشاعر:<BR>أأطرب وأنت قنسري<BR>  والدهر بالإنسان دواريّ</P>

<P>وقال آخر: <BR>طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب<BR>  ولا لعب مني أذو الشيب يلعب</P>

<P><BR>وقال تعالى: [أأسْلَمْتُم], [أّتَعْبُدُون], [أصلاتُك], [أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ], [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ], وغيرها.<BR>سؤال: عن الرؤية في قوله: [أَرأيْتَ], هل هي بصرية فتأخذ مفعولاً واحداً, أم هي قلبيَّة فتأخذ مفعولين؟.<BR>جوابه: إنَّه كررت [أَرأيْتَ] ثلاث مرات, ومادة الرؤية متكررة خمس مرات في السورة. <BR>ويمكن أن نستنتج بالقياس الاستثنائي إن المراد منها الرؤية البصرية, التي تحتاج إلى مفعول واحد. ولا حاجة لجعلها قلبيَّة لكي نبحث لها عن مفعول ثانٍ. ووحدة السياق تدل على ذلك فلو كان المراد منها القلبية لذكر لها مفعولاً ثانياً, وحيث لم يذكر, إذن فهي ليست قلبية وهذا هو مؤدى القياس الاستثنائي.<BR>ونقول كمقدمة: إنَّ هناك للرؤية انقسامين: <BR>الأول: أن يكون المرئي إما شخصاً كرأيت زيداً أو صفة كرأيت زيداً عالماً. <BR>الثاني: إنَّ الرؤيَّة إما أن تكون ماديَّة وإما أن تكون روحيَّة كرؤيَّة الجن والملائكة, وتسمى بالبصيرة عند أهل المعرفة.<BR>فينتج من التقسيمين أربعة أقسام:<BR>الأول: أن يكون المرئي شخصاً برؤية مادية: كرؤية زيد.<BR>الثاني: أن يكون المرئي شخصاً برؤية روحية: كرؤيَّة جبرئيل.<BR>الثالث: أن يكون المرئي هو الصفة برؤية مادية كرؤية طول زيد, في قولك: رأيت زيداً طويلاً.<BR>الرابع: أن تكون الصفة المرئية روحية كرؤية علم زيد. في قولك: رأيت زيداً عالماً.<BR>ويتحصل: إن ثلاثة أقسام منها تنصب مفعولاً واحداً, أي إنها رؤية بصرية أو بمنزلتها. وقد أعرب النحويين المنصوب الثاني من قولنا: رأيت زيداً طويلاً, حالاً وليس مفعولاً ثانياً. <BR>إذن فالرؤية التي تنصب مفعولين هي القسم الرابع فقط, وذلك بأن يجتمع الشرطان بأن تكون الرؤية روحية وأن يكون المرئي صفة. أو قل: أن يكون المرئي صفة روحيَّة وإذا تخلف أحد الشرطين فإنها تنصب مفعولاً واحداً.<BR>وهنا في الآية: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى], يناسب أن تكون الرؤية مادية؛ لأن الناهي إن كان فرداً معيناً فرؤيته مادية, وان كان كلياً فكذلك؛ لأن أفراده كلها مادية, فأي واحد ينهى فهو جزئي, أي مادي.<BR>مضافاً إلى أننا إذا تطلبنا جانب المعنى, فأما أن نقول: رأيت نهيه. أو رأيت صفته وهي كونه ناهياً. فإن أخذنا النهي بالمعنى المادي, أي سماع الصوت, فتكون مثل قولك: رأيت زيداً طويلاً. وان أخذنا النهي من الجانب النفسي, أي الانزجار وعدم الرغبة في الصلاة من قبل الناهي فهو معنى معنوي, أي تكون مثل قولك: رأيت زيداً عالماً. <BR>وقوله: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى], ليس المراد منه رؤيَّة شكله ووجهه بل رؤيَّة مستواه, من حيث انه متدن إلى هذه الدرجة التي ينهى فيها عن الصلاة. ورؤية المستوى هي رؤية قلبية أو روحية. ولكنها مع ذلك تنصب مفعولاً واحداً؛ لأنها رؤية شخص محدد وليست رؤية صفته. فتندرج في القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.<BR>والخطاب في رأيت يعود أساساً إلى المخاطب الحقيقي, وهو النبي ?. وقلنا مكرراً في مباحثنا السابقة: إنَّه يمكن أن يراد به كل المسلمين بل كل البشر بل كل الخلق.<BR>ولابد من الإشارة إلى أمر لم يلتفت إليه النحويون والمنطقيون. وهو انه إذا عاد الضمير إلى كلي كان كلياً وان عاد إلى جزئي كان جزئياً. وكذلك اسم الموصول. كما في قوله تعالى: [الَّذِي يَنْهَى]. <BR>وليس المراد من قوله: [عَبْداً إذا صَلَّى], النبي ? كما عليه فهم المفسرين الضيق. فإنهم فسروا بالمورد, والمورد لا يخصص الوارد, وهذه قاعدة مجمع عليها في جميع المذاهب الإسلامية. مضافاً إلى أخبار الجري. <BR>فيتحصل: إن له انطباقات عديدة على مدى الأجيال. نعم, إن النبي ? أفضل المصاديق؛ لأنه أفضل المصلين ونهيه عن الصلاة أفسد النهي, ولكن المصاديق تبقى مستمرة ما بقيت البشرية. <BR>كما يمكن أن نذكر هنا أطروحة أخرى وحاصلها: إن الصلاة لا دخل لها في النهي, وإنما ذكرت في الآية لأكثر من سبب:<BR>1. لأنها مصداق خارجي مفهوم. <BR>2. لأنها أهم فروع الدين كما ورد: إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها[ ].<BR>3. النسق القرآني: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى... الخ]. <BR>وإنما المراد بالنهي: النهي عن كل طاعة سواء كانت في فروع الدين أم في أصوله أو يأمر بالظلم أو ينهى عن شيء من الإنسانية ونحو ذلك. <BR>والنهي عن مطلق الطاعة يكون أمراً بالبعد عن الله والقرب من الدنيا. كما لا فرق في ذلك بين النهي بالمطابقة والنهي بالالتزام, فإن من يأمر بالدنيا يبعد عن الآخرة.<BR>وهنا ينبغي أن نلاحظ إن قوله: [إذا صَلّى], جملة شرطية جزاؤها محذوف تقديره: إذا صلّى ينهاه هذا الناهي. فيعرف الجزاء مما قبله من القرائن.<BR>قال في الميزان[ ]: وسياق الآيات ــ على تقدير كون السورة أول ما نزل من القرآن ونزولها دفعة واحدة ــ يدل على صلاة النبي ? قبل نزول القرآن. وفيه دلالة على نبوءته قبل رسالته بالقرآن. <BR>أقول: يعني إن الصلاة كانت للنبي بصفته نبياً, وان لم يكن مرسلاً إلى ذلك الحين. <BR>وأضاف: وأما ما ذكره بعضهم من أنه لم تكن الصلاة مفروضة في أول البعثة, وإنما شرعت ليلة المعراج على ما في الأخبار. وهو قوله تعالى: [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِِ][ ].<BR>ففيه: إنَّ المسَلَّم من دلالتها أن الصلوات الخمس إنما فرضت بهيئتها الخاصة[ ] ليلة المعراج, ولا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل. وقد ورد في كثير من السور المكية ومنها السور النازلة قبل سورة الإسراء كالمدثر والمزمل وغيرها ذكر الصلاة, بتعبيرات مختلفة وان لم يظهر فيها من كيفيتها, إلا أنها كانت مشتملة على تلاوة شيء من القرآن والسجود. <BR>أقول: إنَّه مما يدفع وينفي فهمه هذا هو أن أحداً لم يكن ينهاه عن تلك الصلاة, بل لم يكن أحد يراه, وهو يصلي في غار حراء. ولم يكن يصلي في مكان آخر. والسياق واضح في مناقشة النهي عن الصلاة. وهو إنما كان بالصلاة أمام الكعبة. إذن, فلا بد من التنزل عن إحدى المقدمتين: إما نزول السورة في أول البعثة, أو نزولها دفعة واحدة, فان الوارد تاريخياً هو نزول أولها وليس نزول جميعها.<BR>إلا أن يقال: بان سياقها واحد وآياتها مترابطة, وبذلك يبعد الظن بوجود الفاصل الزمني, وهذا دلالة على نزولها الدفعي. فيتعين إنها لم تكن نازلة في أول البعثة. وإن دل على ذلك خبر, فإنه على خلاف ظاهر القرآن, فلا يكون حجة. <BR>فإن قلت: إنَّ الدلالة على نزولها أول البعثة بدليلين.<BR>الأول: الخبر التاريخي بذلك, وهو وإن كان عامياً, لكن المتشرعة قد تسالموا على صحته وأخذوا به.<BR>الثاني: إنَّ لفظ [اقْرَأْ] فيه إشعار بذلك, أي إقرأ الرسالة المحمدية, أو إقرأ ما ترسل به من الآن فصاعداً. وظهور القرآن حجة.<BR>قلت: لا يتم ذلك لأكثر من وجه:<BR>أولاً: إنَّه ليس هناك خبر تسالم المتشرعة على صحته حول ذلك. وإنما سكتوا عنه لمجرد كونه محتمل الصحة, كما ورد: ما طرق سمعك فذره في ساحة الإمكان حتى يذودك عنه ساطع البرهان.<BR>ثانياً: إنَّ متعلق القراءة ليس بالضرورة الرسالة المحمدية كلها, بل يراد بها القراءة في الجملة, بنحو القضية الجزئية التي تصدق على القليل والكثير, أي إقرأ هذه السورة أو إقرأ القرآن ونحو ذلك.<BR>فبالإمكان أن نقول: إنَّ السورة لم تنزل في أول البعثة, بل ظاهرها هكذا لوجود النهي عن الصلاة فيها. وبذلك نضرب الرواية الدالة على ذلك عرض الجدار؛ لأنها خلاف ظاهر القرآن, وكل ما خالفه لم يكن حجة.<BR>كما يحتمل أن نستغني عن المقدمة الثانية وهي إنها نزلت دفعة واحدة, بأن نقول: إنَّ قوله: [كَلاَّ إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى... إلى آخر السورة] نزل متأخراً.<BR>إلا أن هذا لا يتم لأن هذه الآية وما بعدها نحو جواب عن الآيات التي سبقتها. فتوجد على إن السورة مترابطة في المعنى والسياق. وآخرها مربوط بأولها. فلا يمكن أن تنزل الآية المذكورة بعد سنتين, وتكون مع ذلك مترابطة وجواباً عما قبلها. فهي إذن نازلة دفعة واحدة, فلا يمكن أن تكون نازلة في أول الوحي.<BR>إن قلت: يمكن أن نؤول الناهي من كونه أحد مشركي العرب كأبي جهل أو أبي لهب, إلى أمر آخر كالشيطان أو النفس الأمارة بالسوء.<BR>قلت: إنَّنا نتحدث عن النبي ? وهو معصوم عن تأثير الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.<BR>إن قلت: إنَّكم قلتم بأن [عَبْدَاً] غير متعين بالنبي ? بل يراد به مطلق الناس, فيناسب أن تكون السورة نازلة في أول البعثة؛ لأن المقصود غير النبي ? الذي لم ينهه أحد عن الصلاة.<BR>قلت: كما أن النبي ? لم يُنْهَ عن الصلاة, كذلك لم يَنْهَ أحداً غيره, فانه لم يرَ أحد قد صلى لكي يُنهَّون.<BR>فإن قلت: نفهم من الصلاة مطلق الطاعة, وهي موجودة على طول البشرية, والنهي عن الطاعة موجود من قبل البشر أو من قبل الشيطان أو من النفس الأمارة بالسوء؛ لأننا الآن نفهم منها معنى كلياً لا شخصياً, فلا بأس أن تكون نازلة عند أول الوحي.<BR>قلت: قالوا: إنَّ الطاعة لم تكن موجودة في ذلك الحين؛ لأن الأوامر والنواهي إنما تكون في فروع الدين, والدين في ذلك الحين كان على النصرانية والحنيفية, وكلاهما في أصول الدين لا في فروعه.<BR>فان قلت: إنَّ الحنيفية فيها فروع من فروع الدين, فقد ورد ان الحنيفيين لم يسرقوا ولم يشربوا الخمر ولم يحلوا سراويلهم على حرام. كحمزة سيّد الشهداء وأبي طالب وغيرهم. وكل ذلك من فروع الدين.<BR>قلت: هناك فرق مفهومي بين النهي عن الطاعة كالصلاة, والأمر بالمعصيَّة كشرب الخمر. وما تعرضت له الآية الكريمة هو النهي عن الطاعة وليس الأمر بالمعصية. ولم تكن هناك طاعات واجبة عليهم لكي يكون النهي متوجهاً إليها. وأما الفروع المذكورة, فإنما كانت من قبيل التروك للحرام لا الفعل للواجب. فلا يتعين أن تكون السورة منزلة في أول الوحي.<BR>سؤال: عن تكرار الفعل: [أَرَأَيْتَ] في الآيتين:[ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أو أَمَرَ بِالتَّقْوَى].[أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى].<BR>قال في الميزان[ ]: والمفعول الأول لقوله: [أَرَأَيْتَ] الأول قوله: [الَّذِي يَنْهَى].<BR>أقول: وهو اسم [كَانَ] أيضاً, إما بكونه مقدر أو مضمر أو مستتر, يعني إن كان هو والمراد به: الذي رأيته ينهى. وسيأتي الكلام فيما إذا كان بالإمكان التفكيك بينهما.<BR>وقال أيضاً: ولـ[أَرَأَيْتَ] الثالث ضمير عائد إلى الموصول.<BR>أقول: مرجع الضمير في [أَرَأَيْتَ] الأولى والثالث: هو هو. وهو الناهي أيضاً.<BR>وأضاف ?: والمفعول الثاني لـ[أَرَأَيْتَ], في المواضع الثلاث قوله: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى].<BR>أقول: وهذا واضح الفساد لأكثر من أمر واحد:<BR>أولاً: لإمكان حملها جميعاً على الرؤية البصرية نحوياً. فلا نحتاج إلى مفعول ثانٍ.<BR>ثانياً: إنَّ قوله: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى], جملة وردت مرة واحدة. ولا يمكن أن يعمل فيه عوامل متعددة دفعة واحدة. بل كل واحد يحتاج إلى مفعول مستقل غير صاحبه. فهذه الجملة إن صلحت مفعولاً, فإنما هي للفعل الذي تليه فقط.<BR>فان قلت: إنَّه مقدر في الاثنين الآخرين, من قوله: [أَرَأَيْتَ], مثله.<BR>قلت: إنَّ التقدير يكون مع المتأخر لا مع المتقدم, وهنا ــ في الآية ــ بالعكس فلا يصلح التقدير.<BR>ثالثاً: إنَّه لم يعهد في اللغة أن تكون الجملة مفعولاً به. وإن كانت قد تكون حالاً أو معطوفة, إلا أنها لا تكون مفعولاً به أو تمييزاً.<BR>نعم, يصلح أن يكون قوله: [أَلَمْ يَعْلَمْ] جواباً عن أحد أمرين: <BR>احدهما: أن يكون جواباً لــ[أَرَأَيْتَ] الأخير, وهو الأقرب إليه لفظاً. مع التنبيه على أن [أَرَأَيْتَ] السابق يشبهه في هذا الصدد. <BR>ثانيهما: كلا الأمرين النهي عن الصلاة والتكذيب معاً. وهو متعدٍ إلى مفعول واحد. ولو كان متعدياً إلى مفعولين, أمكن تقديرها من القرائن الموجودة: أرأيته ناهياً أو مكذباً أو عاصياً.<BR>سؤال: إنَّه مع التنزل عن كون الرؤية بصرية, وقلنا أنها قلبيَّة تحتاج إلى مفعولين, كما اخذ ذلك الطباطبائي مسلماً. فما هو مفعولها الثاني؟.<BR>جوابه: نعرف ذلك من حذف المفعول الثاني؛ لأنها لو كانت قلبيَّة, لأخذت مفعولاً ثانياً, وحيث أنها لم تأخذه إذا فهي بصرية. وظاهر القرآن أنها بصرية.<BR>ومع التنزل عنه نقول: إنَّ المفعول الثاني مقدر والتقدير: أرأيته ناهياً أو مهتدياً أو آمراً بالتقوى. وكذلك [أَرَأَيْتَ] الثالثة يكون تقديره فيها: أرأيته مكذباً ومتولياً.<BR>وفي هذا الاحتمال الأخير يمكن أن نقول ــ كأطروحةــ  إن (ان) وردت بالكسر في القراءة المشهورة. ولكن قد تكون هناك قراءة بكونها مفتوحة: [إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى]. فتسبك مع ما بعدها بمصدر, وهو بمنزلة المفرد فيكون مفعولاً ثانياً.<BR>ثم قال في الميزان[ ]: وقيل: المفعول الأول لـ[أَرَأَيْتَ] في جميع المواضع الثلاث هو الموصول أو الضمير العائد إليه.<BR>أقول: أي إن الرأي بأن [أَرَأَيْتَ] الأولى مفعولها: [الَّذِي] و[أَرَأَيْتَ] الثالثة مفعولها الضمير العائد إليه وكلاهما يراد بهما الإنسان الطالح. والمفعول لــ[أَرَأَيْتَ] الثانية يعود إلى الإنسان الصالح.<BR>هذا يخالف وحدة السياق, إذ يقال: إنَّ [أَرَأَيْتَ] الثلاثة ذات سياق واحد. فهي متشابهة من حيث الأوصاف ما لم يدل على خلافه. إذن, فالمراد من مفاعيلها الثلاثة واحد. وهو الإنسان الطالح لا الصالح.<BR>وتقريبه: إنَّ الأولى والثالثة تعود إلى الإنسان الطالح. وأما الثانية فنشك بعود الضمير إليه فنلحقه به باعتبار وحدة السياق. <BR>أو قل: نلحقه بالأعم الأغلب, فتكون كلها تعود إلى الطالح.<BR>إن قلت: ولكن قوله: [أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أو أَمَرَ بِالتَّقْوَى], فيها صفات تعود إلى الإنسان الصالح. فكيف يناسب ان يكون الضمير عائداً إلى الذي ينهى عن الصلاة وهو موصوف بالتقوى؟! <BR>أجاب الطباطبائي[ ] بما محصله: إنَّ المعنى يكون أرأيت هذا الذي ينهى عن الصلاة إن كان مهتدياً ومتقياً. فكيف ينبغي أن يتصرف. وهل ينهى المصلين عن صلاتهم؟ فيستقيم المعنى. وتكون وحدة السياق<BR>مثبتة لوحدة الضمائر ووحدة العائد. <BR>أقول: هذا مطعون صغرى:<BR>أولاً: أن ننكر وحدة السياق للبعد اللفظي.<BR>ثانياً: مع التنزل عن ذلك والقبول بوحدة السياق, فإنها قرينة ظنيَّة. فإذا كان الدليل على خلافها نأخذ به, وهو موجود في هذا الصدد, أي إن الضمير في [أَرَأَيْتَ] الثانية لا يعود إلى الطالح بل إلى الصالح, وهو أنسب مع الظهور القرآني فتسقط قرينة وحدة السياق.<BR>سؤال: عن المفعول به لقوله تعالى: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى], فان مادة الرؤيَّة هنا لم يقدر لها أي مفعول, وهي تأخذ مفعولا واحداً على أقل تقدير. وهو محذوف, فضلاً عما إذا كانت تأخذ مفعولين.<BR>أما المفعول الأول فهو مما لا بد منه, وهو مقدر لا مضمر أي يراه. أو قل: يرى عمله, وهذا أكيد.<BR>ولكن يبقى السؤال عن الرؤيَّة, هل بصريَّة أم قلبيَّة؟.<BR>ظاهره إن الله يرانا. فهي إذن بصريَّة, ولا تحتاج إلى مفعول ثاني. ولكن علماء الكلام لا يقبلون بهذا الجواب؛ لأنهم يقولون إن الله ليس له جارحة لكي يرى كما نرى. <BR>وهذا في نفسه صحيح, ولكن علم الكلام لا ربط له بعلم النحو. فمن حيث كونه مطلباً نحوياً نقول: إنَّ [يَرَى] تكون في نسبتها إلى كل راءٍ على حد واحد, أي انه يرى كما نرى وإلاّ لحصل النقص في كثير من الخلق كجبرائيل والجن؛ لأنهم ليسوا بجسم أيضاً.<BR> فالرؤية هنا بصرية أو بمنزلتها وتأخذ مفعولاً واحداً.<BR>ومع التنزل وقبول كونها قلبية, فلا بد من التقدير,أي يراه مكذباً أو عاصياً أو ناهيا عن الصلاة ونحو ذلك.<BR>ثم إن متعلق النهي في قوله: [ يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى] هو الصلاة, وهو وان كان في اللفظ مطلقاً إلا أن إطلاقه غير محتمل.<BR>ثم إن جواب الشرط لقوله: [إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى] محذوف نعرفه من السياق, فان كان المفعول لقوله: [أَرَأَيْتَ] التي قبلها هو العبد المصلي, فيكون المعنى, لا تنهه عن الصلاة أو لماذا تنهاه؟.<BR>وان كان المفعول هو الناهي: فيكون المعنى ما أشار إليه في الميزان وهو ما ذكرناه من انه إذا كان مهتدياً ومتقياً, فكيف يجوز له أن ينهى المصلين عن صلاتهم.<BR>وأما التفكيك بين مفعول [أَرَأَيْتَ] وأسم [كَانَ] بأن يكون المفعول هو الناهي وأسم [كَانَ] هو المصلي. فهذا غير محتمل, فان وحدة السياق هنا قطعية والضميران يرجعان إلى مرجع واحد.<BR>فمن جملة ما يمكن أن نقول: إنَّ أسم [كَانَ] ضمير راجع إلى الصالح قطعاً. وبوحدة السياق رجع مفعول [أَرَأَيْتَ] إلى الصالح أيضاً. وأما أن نقول: إنَّ أسم [كَانَ] قد لا يعود إلى الرجل الصالح. فنرجع الضميران إلى الطالح معا. وتبقى وحدة السياق.<BR>وقوله: [أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى]. فيه إرجاع للضمير إلى أي حد, حتى المصلي إذا حصل منه التكذيب بعد ذلك. ولهذا مبرره وهو قوله: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى] فالناهي كلي والمنهي كلي. <BR>أو قل: انه ضمير كلي يعود إلى مرجع كلي, فأي إنسان إن كذب فينبغي أن يعلم بأنه تحت إشراف الله ونظره. وهذا معنى راجع إلى الخلق وليس إلى البشر فقط.<BR>وقوله تعالى: [كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ] جواب لسؤال أو ما هو بمنزلة السؤال. وهو قوله: [أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى].<BR>جوابه الأول قوله تعالى: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى]. <BR>والجواب الآخر قوله تعالى: [كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ]. <BR>أو نقول: إنَّه جواب الجواب. <BR>أو نقول: إنَّه صعود في الجواب وتشديد في التهويل, فالله تعالى لا يراه فقط, بل ينزل عليه بلاء وعقوبة في الدنيا والآخرة.<BR>والمعنى: لئن لم ينته عن عمله وهو نهيه للمصلين, فسوف نعاقبه.. [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ].<BR>وهناك نحو من التشابه بين مادتي النهيين ــ قلما يلتفت إليه ــ فهو يجب أن ينتهي عن النهي عن الصلاة, أو عن مطلق العصيان, بعد التجريد عن الخصوصية في النهي والصلاة معاً.<BR>ومتعلق النهي هنا غير مذكور, [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ] عن أي شيء؟ بل يراد المقدر. وهو النهي عن الصلاة أو عن عمله الشائن أو عن مطلق الضلال.<BR>سؤال: إن نهي من النهي وانتهى من الانتهاء, وهو الوصول إلى النهايَّة. فهما مادتان مستقلتان لغة. فماذا يكون معنى: [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ]؟.<BR>جوابه: كلاهما من النهاية تقول: انتهيت إلى أمرك, أي أطعتك. فالمعنى: لئن لم ينته إلى الأمر الذي نأمره به فله العقوبة الكذائية. <BR>أو نقول: ثانياً: إنَّ النهي لأجل الزجر عرفاً. والزجر يوجب انتهاء العمل السابق المنهي عنه, والبداية بالعمل اللاحق.<BR>فإن قلت: إنَّ الأمر ليس كذلك, وذلك لان النهي يتعلق بإيجاد العمل, فيتبدل إلى الترك. لكن الأمر يتعلق بتبديل العدم إلى الوجود. فما الذي ينتهي هنا؟.<BR>قلت: هذا له تفسيران: <BR>الأول: إنَّه كما ينتهي الفعل بالنهي عنه, كذلك ينتهي الترك بالأمر به.<BR>الثاني: وهو تفسير مجازي وهو أن نتصور أن يسير على طريق, فينتهي الطريق به إلى إطاعة الأمر. ولذا يقال انتهيت إلى أمرك.<BR>وعلى أي حال يكون المعنى: إذا لم ينته عن نهيه عن الصلاة. <BR>أو نقول: إذا لم ينته عند نهينا عن نهيه عن الصلاة. وكل ذلك صادق.<BR>ولابد أن نلتفت: إلى أن هذا السياق يحتوي على عدة تأكيدات على عقوبة العاصي وهي:<BR>1. التهديدات برقابة الله سبحانه, وهو قوله تعالى: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى].<BR>2. التهديد بالعقوبة من شكل آخر. وهو قوله تعالى: [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَّة].<BR>3. قوله: [كـَلاَّ].<BR>4. لام التأكيـد الداخلة على الجملة الشرطية في قوله تعالى: [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ].<BR>5. لام: [لنًسًفْعاً]. وهي للتأكيد أيضاً.<BR>6. نون التوكيد الخفيفة في قوله:[لنًسًفْعاً].<BR>7. سياق العموم الذي يفيد التهويل, وهو قوله: [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَّة], ولم يقل بناصية.<BR>فهو معنى كلي لأجل الإيحاء بالتهويل والشدة. كما انه يفيد العموم لكل فرد, ولا يراد به فرد معين.<BR>سؤال: لماذا كتبت النون في قوله: [لَنَسْفَعاً] بالألف؟.<BR>جوابه: الحقيقة إن كتابة المصحف إجحافا كثيراً. وذلك لأن كتبة القرآن لم يكونوا على معرفة بقواعد الخط, فكتاباتهم للقرآن إنما هي على حسب ما يملكونه من ثقافة وإطلاع. ونحن لا ينبغي أن نتعبد بكتابة الخاطئين, فإنها ــ على أي حال ــ ليست من عمل المعصومين ?.<BR>وهنا قد أصبح في نظر الفرد الاعتيادي إن صوت نون التوكيد الخفيفة في: [لَنَسْفَعاً] مثل: نون التنوين المنصوب في الأسماء مثل: زيداً وأرضاً و سماءاً, فحسبوها تنويناً فكتبوها مثله. أو حسبوا إن كل نون ساكنة تكتب بالألف. وكلاهما خاطئ. <BR>قال العكبري[ ]: قوله تعالى: [لَنَسْفَعاً]. إذا وقف على هذا النون أبدل منه ألف لسكونها وانفتاح ما قبلها.<BR>أقول: كأن هذا على نحو اعتذار عن كتابة المصحف بالألف. <BR>ولكنه قابل للمناقشة بأمرين:<BR>الأمر الأول: إنها عندئذٍ ينبغي أن تكتب نوناً وتقرأ ألفاً عند الوقوف. فالألف إنما هو نطقي وليس كتابياً.<BR>الأمر الثاني: إنَّ الوقف غير مفروض في قراءة الآية. وهناك مواضع كثيرة في الآيات غير قابلة للوقوف عليها, وإنما هي تقع في الدرج دائما, وهذا منها. وهذا يعني: إن الوقوف عليها خطأ عرفاً. إذن, فانقلابها ألف خطأ عرفاً أيضاً.<BR>سؤال: عن معنى: (السفع) وعن معنى (النَّاصيَّة)؟.<BR>قال الراغب[ ]: (السفع) الأخذ بسفعة الفرس, أي سواد ناصيتها. قال تعالى: [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَّة]. وباعتبار الســواد قيل للأثافي سفع. وبه سفعة غضب اعتباراً بما يعلوا من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب. وقيل للصقر: اسفع, لما به من لمع السواد. وامرأة سفعاء اللون, أي (سمراء أو شديدة السمرة).<BR>وقال أيضاً[ ]: النَّاصيَّة قصاص الشعر. ونصوت فلاناً وانتصيته وناصيته أخذت بناصيته. وقوله تعالى: [مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا].أي: متمكن منها, قال تعالى: [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. نْاَصَِيَّة].<BR>وحديث عائشة: مالكم تنصون ميتكم, أي تحدون ناصيته. وفلان ناصية قومه كقولهم: رأسهم وعينهم. وانتصى السفر: طال.<BR>أقول: فلا يراد به في الآية الكريمة قصاص الشعر بالذات أو الشعر بالضبط بل المراد به ــ مجازا ــ أما الجبهة, وأما الوجه كله, وأما الرأس كله, وأما الإنسان كله.<BR>والسفع, هو إيجاد السواد ــ كما عرفنا ــ فيكون معنى: [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَّة] في عدة أطروحات: <BR>أولاً: سواد الشعر النازل على ناصيته أو من ناصيته, وهذا غير محتمل. لسياق الغضب والعقوبة, وهذا ليس منها.<BR>ثانياً: التهديد بالبلاء الدنيوي من فقر أو مرض أو أيَّة شدة, فيضعف الجسد ويُسوّد لونه. وهذا يلازم لسواد الوجه عادة.<BR>ثالثاً: أن يسود وجه من الضرب الشديد. أما في الدنيا أو القبر أو في عالم آخر فهو سفع.<BR>رابعاً: أن يدخل النار,  فيسـود وجهه من الاحتراق أو من الدخان.<BR>خامساً: المراد به حمرة الغضب. فغضب الفاسق يدخله في بلاء لا يرتاح منه, أو يصبح في صعوبة نفسيَّة إلى حد يصبح في وجهه سفع. وهذا لا يحصل لكل واحد,  بل يحصل لمن ليس له تسليم ورضا بقضاء الله وقدره. وهو دأب الفاسق الفاجر.<BR>سادساً: أن يسود وجهه في الدنيا. فان المؤمن في وجهه نـور الإيمان. والفاسق في وجهه ظلام وسواد. قال تعالى: [كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً][ ].  وقال: [إذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ][ ].<BR>وقال في الميزان[ ]: قال في المجمع: السفع الجذب الشديد. يقال: سفعت بالشيء إذا قبضت عليه وجذبته جذباً شديداً.<BR>أقول: إنَّه ? تمسك بمعنى الأخذ, وأهمل معنى السواد تماما.<BR>وفرقه عن كلام الراغب أمران:<BR>الأول: إنَّنا ينبغي أن نقيد كلام اللغويين بعضه ببعضٍ فنقول: هو أخذ مع حصول السواد فيكون كلاهما عنصراً في معنى السفع.<BR>الثاني: إنَّنا قلنا في المقدمة: إننا ينبغي أن نأخذ التفاسير اللغويَّة التي تكون أسبق رتبة من القرآن الكريم, يعني الأمور التي ذكرها اللغويون بغض النظر عن الآيات القرآنية, وأما ما كان متأخراً رتبة عن الآية فلا نأخذ به, وإنما يكون الرأي خاصاً بصاحبه, وليس حجة على غيره, فكذلك الحال في الرأي الذي نقله صاحب الميزان عن المجمع.<BR>وقوله: [نَاصّيَّة] الثانية من [النَّاصِيَةِ] الأولى. <BR>وقوله: [نَاصّيَّة كَاذِبةٌ خَاطِئة], بمنزلة بيان التسبيب للعقوبة, أو تعليل للسفع.<BR>وقوله: [كَاذِبَةٍ], نعت لــ[نَاصِيَةٍ]. وقوله: [خَاطِئَة], نعت ثان لــ[نَاصِيَةٍ] أو نعت لــ[كَاذِبَةٍ].<BR>فان قلت: بالنسبة إلى تعليل العقوبة, أليس السبب مبيناً في السياق, فلا حاجة إلى بيان سبب جديد. فلماذا قال: [كَاذِبةٌ خَاطِئة]؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه: <BR>أولاً: التأكيد لما سبق.<BR>ثانياً: بيان أن ما فعله من أمور هي كذب وخطأ.<BR>ثالثاً: إن أفعاله إنما تنشأ من النفس الأمارة بالسوء, فناصيته كاذبة وخاطئة, يعني كله كاذب وخاطئ. حينما تحثه نفسه على نهي المصلي عن الصلاة. <BR>قال في الميزان[ ]: وفي توصيف الناصيَّة بالكذب والخطأ, وهما وصفا صاحب الناصيَّة مجاز.<BR>أقول: لا بد من الإشارة إلى أمرين:<BR>الأمر الأول: فيما يخص لفظ التوصيف. فقد استعملها الكثير من علماء الأصول وخاصة من غير العرب, بالرغم من عدم ورودها في اللغة العربية, وإنما ورد لفظ وصف بدلها, من وصف يصف وصفاً. وتوصيف رباعية (أو مزيدة) لا يوجد لها فعل خاص بها.<BR>ولكن الحق معهم إلى حد ما لأجل التدقيق في التعبير. <BR>وذلك؛ لأن الوصف كاسم مصدر يراد به نفس الصفة الخارجية كاللون. والتوصيف كمصدر يراد به أحد أمرين:<BR>الأول: جعل الصفة على الموصوف ثبوتاً, كما لو صبغ الثوب باللون الأحمر.<BR>الثاني: الوصف الإثباتي, أي بيان صفته والتعبير عنها.<BR>فالصعوبة إنما تحصل في اللغة العربية, فيما إذا جاء لفظ الوصف كمصدر؛ لأنه يحصل منه الاشتباه بين الأمرين الثبوتي والإثباتي.<BR>فجيء بلفظ: التوصيف ليكون دالاً على المعنى الإثباتي, أي بيان الصفة. ويبقى لفظ الوصف للمعنى الثبوتي. وهذا نحو اعتذار لهم <BR>ولكن ذلك ــ في نفسه ــ لا يصلح أن يكون جواباً لهم لأمرين:<BR>احدهما: لعدم وروده في اللغة واللغة توقيفية, كما عليه مبنى المشهور ومبناهم.<BR>ثانيهما: إنَّ ظاهر لفظ الوصف هو الجانب الإثباتي, وهو بمعنى التوصيف في قصدهم. فقولنا: وصفه لا يعني لوّنه بالبياض, بل بمعنى إنه بين أنه أبيض. فالوصف مشعر بالإثبات لا بالثبوت. <BR>إذن, يكون لفظ الوصف مغنياً عن لفظ التوصيف مع كونه أفصح منه.<BR>الأمر الثاني: (حول عبارة السيد الطباطبائي): <BR>إنَّه قد يرد إشكال من ناحية ظهور القرآن الكريم, وحاصله: <BR>إنَّ الكاذبة والخاطئة أصبحا وصفان للناصيَّة, وهي لا تكون كذلك لأنها جزء من الإنسان, فما المراد منها حينئذٍ؟. <BR>جوابه: احد أمرين:<BR>الأول: أن يراد به ذو الناصية, أي الإنسان وتكون النسبة بين الوصف والموصوف مجازية.<BR>الثاني: أن يراد بالناصيَّة الإنسان ابتداءا, حقيقة لا مجازاً.<BR>فان قلت: ولكن هناك قرائن متصلة تدل على أن المراد من الناصيَّة جزء الإنسان لا كله. <BR>وهما اثنتان: <BR>الأولى: قوله: [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَّة], أي بالجبهة أو قصاص الشعر لا الإنسان كله. فتكون قرينة بوحدة السياق على أن المراد بالناصيَّة الثانية هي جزء الإنسان أيضاً وليس كله.<BR>الثانية: وجود التأنيث في قوله: [كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ]؛ لأنه لو أراد الإنسان كله لذكره مذكراً لا مؤنثاً.<BR>قلت: كلتا القرينتين فاسدتان: <BR>أما القرينة الأولى فجوابها احد أمرين:<BR>الأمر الأول أن نقول: إن الناصيَّة يراد بها كل الإنسان, وان السفع والضرب يكون على كل البدن مضافاً إلى كونه على الوجه. وكذلك سواد القلب يشمل كل الجسم والنفس, وليس الوجه فقط.<BR>إذن, فالإنسان كله مسفوع وليس وجهه فقط, بأي معنى من معاني السفع أخذناه.<BR>الأمر الثاني أن نقول: إنَّ المراد من الناصيَّة جزء الإنسان, ولكن ننفي وحدة السياق وهي قرينة ظنية, فتكون معتبرة ما لم تقم قرينة أخرى على خلافها.<BR>والأمر هنا كذلك, فان القرينة على أن المراد بالناصيَّة الثانية الإنسان, وان كان المراد من الناصيَّة الأولى جزء الإنسان. وذلك كما قال في الميزان: لتوصيف الناصيَّة بأنها كاذبة وخاطئة. والناصيَّة التي هي جزء الإنسان لا توصف بأنها كاذبة وخاطئة.<BR>فيكون المراد من الناصيَّة الثانية الإنسان, وان كان المراد من الناصيَّة الأولى جزء الإنسان, ولا ملازمة عقلية أو عرفية بينهما.<BR>وبتعبير آخر: إنَّ هناك تعارضاً بين قرينتين متصلتين, بين قرينة وحدة السياق المنتجة لأن تكون الناصيَّة جزء الإنسان. والقرينة المنتجة بان الناصيَّة كل الإنسان. فنأخذ بالأهم والأظهر وهي الثانية, وهي الوصف بكونها كاذبة خاطئة. وتسقط وحدة السياق. ويكون المراد بالناصيَّة الثانية كل الإنسان لا جزءه, بل قد يراد بالناصيَّة الأولى ذلك أيضاً. <BR>وأما (القرينة الثانية) وهي: كون التأنيث يدل على جزء الإنسان لا كله.<BR>ففيها أكثر من جواب:<BR>أولاً: إنَّ التأنيث ضروري لأجل تأنيث المرجع أو الموصوف. فان ناصيَّة مؤنثة فتؤنث صفتها. وأما أن يكون معناها مذكراً, فهذا خارج عن حدود اللفظ. فان اللفظ يتبع اللفظ والمعنى يتبع المعنى, ولا ربط أكيد بينهما بحسب التوقع.<BR>ثانياً: إنَّ التذكير والتأنيث بالنسبة إلى المؤنث المجازي ينبغي أن يكون بالاختيار, وليس ثمة شيء حقيقي في اللغة. ولو ثنيت لنا الوسادة لجعلناها خنثى, كما هو الحال في بعض اللغات[ ]. <BR>فاللغة العربية قاصرة من هذه الناحية ولفظ الناصيَّة مؤنث مجازي سواء أريد به الجبهة, أو أُريد بها الفرد أو اريد بها كلي الإنسان الخاطئ الفاجر. فيكون عود الضمير المؤنث إليه غير دال على كونه مرجعه مؤنثاً.<BR>ويمكن القول كما قلنا في أمثاله: بان المراد هو الكلي, والكلي بمنزلة الجمع. والجمع بالارتكاز العربي أقرب إلى التأنيث. فيكون الأرجح فيه ــ بهذا الاعتبار وغيره ــ أن نعيد الصفة إليه مؤنثة لا مذكرة.<BR>سؤال: فإذا كان الأمر كذلك, فهل يكون الإنسان كاذباً خاطئاً؟<BR>جوابه: لا كثر من وجه:<BR>الوجه الأول: إنَّ الكذب والخطأ إنما هو صفة الكلام والحديث, وليس صفة للإنسان ككل. وإنما يرجع إليه مجازاً فهو صحيح على وجه المجاز.<BR>الوجه الثاني: إنَّ الإنسان ككل, قد يوصف بمثل ذلك, باعتبار استيعاب سلوكه وحديثه للكذب والخطأ وكثرة هذه الصفة له, فيكون كله كاذباً خاطئاً. بحيث تصح النسبة إلى أصل وجوده.<BR>سؤال: إنَّ النهي إنشاء والإنشاء لا يتصف بالصدق والكذب, فلماذا سمي النهي عن الصلاة كذباً؟.<BR>وجوابه: إنَّه لا بد من التنزل عن إحدى الدلالتين المطابقيتين:<BR>فأما أن نتنزل عن ظهور قوله: [يَنْهَى], في أنه نهي حقيقي إنشائي. بل نحمله على مجرد الزجر عن الصلاة بخبر أو إنشاء.<BR>وأما أن نتنزل عن ظهور كاذبة, ونفسره بشكل قابل للانطباق على الإنشاء, ولو مجازاً باعتبار أن منشأه وسببه ضلال وباطل. فهو كاذب لأنه غير مطابق للواقع.<BR>مضافاً: إلى إمكان المناقشة بكون الموصوف هو مادة النهي ليرد الإشكال باعتبار كونه انشاءاً. بل الموصوف هو الناصيَّة أو الإنسان, فلا إشكال.<BR>سؤال: عن الفرق بين [كَاذِبَةٍ] و[خَاطِئَةٍ]. أو قل: ما وجه الجمع بينهما؟.<BR>جوابه: إنَّ الفرق اللغوي والعرفي بينهما واضح, وهو أن الكذب عند التعمد والخطأ عند عدم التعمد.<BR>فان قلت: إنَّ ذلك غير مناسب مع السياق؛ لأن قوله: [الَّذِي يَنْهَى. عَبْداً إِذَا صَلَّى], أي: متعمداً, فينبغي أن يوصف بالكذب لا بالخطأ.<BR>قلت جوابه: لأكثر من وجه واحد: <BR>فإما أن نقول: إنَّ الخطأ وان كان ظهوره اللغوي في عدم العمد, إلا أننا يمكن أن نعطي له معنى جامعاً, وهو مطلق عدم المطابقة للواقع, سواء كان عمداً أم سهواً أو نسياناً ونحو ذلك. فيكون كلا المعنيين مناسبان مع سياق الآية, ويكون تكراره للتأكيد.<BR>وإما أن نقول: إنَّ كاذب هو صفة للرجل الذي ينهى عن الصلاة, والله تعالى يريد أن يتوسع في مدلول الآية؛ لأن الضالين ينقسمون إلى قسمين: كاذب وخاطئ, أي متعمد ومشتبه أو قاصر ومقصر.<BR>فلا بأس حينئذٍ أن نضيف للعمد شيئاً آخر, للتنبيه على أن الضلال يمكن أن يكون شيئاً من هذا القبيل.<BR>فان قلت: إنَّ السفع مناسب للكاذب, ولكنَّه غير مناسب للخاطئ؛ لأنه قاصر, فلا يستحق تلك العقوبة.<BR>قلت: له أكثر من جواب: <BR>أولاً: إنَّ السفع يناسب حتى مع الخطأ؛ لأنه قد يكون ضرباً, أو قد يكون أمراً آخر, كظلمة القلب واسوداد الوجه, من حيث الأثر الوضعي لشارب الخمر مثلاً, أو السارق الذي يأكل الحرام.<BR>كما أن السفع يكون بمعنى الابتلاء, فالقاصر والمقصر دائماً في بلاء الدنيا وعقوباتها ومصاعبها, فقوله: [لَنَسْفَعاً], أي لنمتحننه في الدنيا ببلائها لعله يتذكر أو يخشى فيكون مناسباً حتى مع القاصر.<BR>ثانياً: أن نفهم من الخطأ, الأعم من الإشتباه وغيره, فيكون من عطف العام على الخاص, فكل كذب خطأ ولا عكس. وبقرينة السفع وهي العقوبة, نحمل الخطأ على حصتين, حصة عمدية وحصة سهويَّة, فيستحق العقوبة على الحصة العمديَّة وينسجم المعنى.<BR>ثم قال تعالى: [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ...]. لعل هذا النداء ينقذه, ويفيده في دفع العقوبة الإلهيَّة!! فان دعا ناديه, فإننا سندعوا الزبانيَّة الشداد الغلاظ, ويكون هو وناديه تحت تصرفهم.<BR>فهناك نحو لطافة في المقارنة بين الدعويين, ونحو لطافة في المقابلة بين الزبانيتين: الزبانيَّة الدنيويَّة [نَادِيَه] والزبانيَّة الأخرويَّة وهم الملائكة الشداد الغلاظ.<BR>ولا بد لنا في ما يلي أن نتعرف على معنى كل من الدعاء, وهو مكرر مرتين, ومعنى النادي, ومعنى الزبانيَّة من أجل فهم الأطروحة المحتملة, لمعنى الآيتين الكريمتين:<BR>سؤال: ما هو معنى النداء؟.<BR>جوابه: قال الراغب[ ]: النداء رفع الصوت وظهوره. إلى أن قال: واصل النداء من الندى أي الرطوبـة (ومنه الندى الليلي, ويقال: محلٌ ندي وفيه نداوة). يقال: صوت ندى رفيع. واستعارة النداء للصوت من حيث أن من يكثر رطوبة فمه حَسُنَ كلامه, ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق, (كما يوصف الكريم بكثرة الرماد). ويسمى الشجر: ندي لكونه منه, وذلك لتسميَّة المسبب باسم سببه.<BR>أقول: إنَّ هذه التسميَّة للشجر مجازيَّة بالأصل لأن النداوة وهي الرطوبة إنما تكون في باطن الورقة لا في ظاهرها. وليس المفروض أن في الظاهر أية رطوبة, وبتعبير آخر: إنَّه يراد من النداوة هنا: الليونة. وقد كانت مجازاً فأصبحت حقيقة.<BR>إلى أن قال الراغب: وعبر عن المجالسة بالنداء حتى قيل للمجلس النادي والمنتدى والندي. وقيل: ذلك للجليس. قال: [فَلْيَدْعُ نَادِيَه]. ومنه سميت دار الندوة بمكة. <BR>أقول: يتحصل من ذلك عدة أطروحات لفهم النادي في الآية الكريمة: <BR>1 ــ المكان الذي ينتدى به ويجتمع به. <BR>2 ــ نفس الجماعة المنتديَّة في النادي. <BR>3 ــ أن يراد بالنادي الأعم من الواحد والمتعدد. وفي الوجهين السابقين لا ينطبق إلا على المفرد.<BR>4 ــ ما ذكره أبن منظور في لسان العرب قال[ ]: فليدع حيه وقومه. <BR>أقول: وهو على نحو المجاز.<BR>5 ــ وهي متوقفة على مقدمة, وحاصلها: إنَّ النداء قد يكون لأجل الاعتقاد بمذهب معين, كما قال تعالى: [لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى][ ]. وقال سبحانه: [مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلى النَّارِ][ ]. فهي دعوى إلى العقيدة, فالنداء يكون بنفس المعنى, أي أعتقد بعقيدتنا.<BR>فإذا تمت هذه المقدمة نفهم من ناديه, أي مناديه. وان كان فيه تجوز باستعمال المادة الثلاثية محل الرباعية, ولكن ــ كأطروحة ــ يمكن أن تكون مقبولة. ويراد بالمنادي هنا: مناديه في الضلال وشريكه في الشرك.<BR>6- مناديه: أي منادمه أو نديمه. وان كان بعيداً بحسب معنى المادة. أي أُبدلت الميم ياءً, ولعله قصد ذلك عمداً لحكمةٍ؛ لأن معنى (المنادي) هو الشريك في النادي, وهو غالباً منادم ونديم.<BR>سؤال: ما معنى [الزَّبَانِيَةَ]؟.<BR>جوابه: لم يتعرض الراغب في المفردات إلى معنى [الزَّبَانِيَةَ]. لذا سنتعرض إلى ما قاله أبن منظور في لسان العرب. قال[ ]: الزبن, الدفع. وزبنت الناقة إذا ضربت بثفنات رجلها عند الحلب, فالزبن بالثفنات والركض بالرجل والخبط باليد.<BR>ابن سيده وغيره: الزبن, دفع شيء عن شيء, كالناقة تزبن ولدها عن ضرعها برجلها وتزبن الحالب. وناقة زفون وزبون تضرب حالبها وتدفعه... وحرب زبون, تزبن الناس, أي تصدمهم وتدفعهم على التشبيه بالناقة... والزبونة من الرجال الشديد المانع لما وراء ظهره. <BR>إلى أن قال: الزبانيَّة, الذين يزبنون الناس, أي يدفعونهم. وقال قتادة: الزبانيَّة عند العرب الشَرَطْ, ولكنَّه من الدفع. وسمي بذلك بعض الملائكة لدفع أهل النار إليها. وقوله: [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَّة]. قال قتادة: فليدع ناديه, حيه وقومه. فسندع الزبانيَّة. قال: الزبانيَّة في قول العرب: الشَرَطْ.<BR>قال الكسائي: واحد الزبانيَّة زبني. <BR>وقال الزجاج: الزبانيَّة, الغلاظ الشداد واحدهم: زبنيَّة. وهم هؤلاء الملائكة الذين قال الله تعالى: [عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ], وهم الزبانيَّة...<BR>وقال الأخفش: قال بعضهم: واحد الزبانيَّة زباني وقال بعضهم: زابن. وقال بعضهم زبنيَّة مثل: عفريَّة. قال: والعرب لا تكاد تعرف هذا وتجعله من الجمع الذي لا واحد له مثل أبابيل وعباديد. <BR>أقول: ولابد من الالتفات إلى أن قوله: [سَنَدْعُ], بالكتابة المشهورة خال من الواو وهو خطأ على القاعدة؛ لأنه من الأفعال الخمسة يحذف واوه عند الجزم. يقال: لم يدع. والسين ليست جازمة ــ بطبيعة الحال ــ فهو إذن مرفوع بالضمة المقدرة على الواو, فوجود الواو ضروري. <BR>فان قلت: إنها حذفت لوحدة السياق. [فَلْيَدْعُ]...[سَنَدْعُ]. <BR>قلت: ليس في الإعراب وحدة سياق, فلا ملازمة بين جزم الفعلين. <BR>فان قلت: إنَّه خفيف الضمة, والواو ثقيلة.<BR>قلت: إنَّما خففت لأجل الوصل بالآلف واللام. فهي ليست ضمة حقيقيَّة, فينبغي أن يكتب كما هو. وهذا من أخطاء كُتّاب القرآن.<BR>سؤال: ما هو معنى الدعاء؟.<BR>الدعاء هنا النداء, يعني سننادي الزبانيَّة لكي يقبلون أو يعملوا ما هي وظيفتهم المستمرة. قال الراغب[ ]: الدعاء كالنداء, إلا ان النداء قد يقال بيا أو أيا ونحو ذلك. من غير أن يضم إليه الاسم, والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو: يا فلان. (فالدعاء أعم من النداء). وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الأخر قال تعالى: [كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً][ ]. <BR>ويستعمل استعمال التسميَّة نحو دعوت أبني زيداً, أي سميته. و حسب فهمي: أن دعوت أبني, أي سوف أدعوه, أي سميته لكي أدعوه... ودعوته إذا سألته (أي: طلبت منه حاجة) وإذا أستغثتهُ قال تعالى: [قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ][ ]. أي سله. وقال: [قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أو أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ][ ].[وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً][ ].[وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ][ ]. [لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً][ ].<BR>والدعاء إلى الشيء الحث على قصده: [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إليه][ ], (أي يحثونني عليه). وقال: [وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ][ ]. (أي يحث على الجنة). وقال تعالى: [وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ][ ].<BR>أقول: الظاهر إن الدعاء والنداء من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت[ ]. ومنه قوله تعالى: [إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً][ ]. وهنا يتحصل سؤال عن الفرق بينهما ولو في صورة الاجتماع.<BR>وجوابه: إنَّ فيه أطروحتين:<BR>الأولى: أطروحة الراغب من أن النداء أعم من الدعاء؛ لأن النداء يشمل ذكر الاسم وعدمه, وأما الدعاء فهو يختص بصورة ذكر الاسم. <BR>الثانية: وهي ما يمكن أن يقال: من أن النداء مجرد طلب الاقتراب. وأما الدعاء فهو طلب الاقتراب من أجل هدف معين أو تنفيذ مهمة مقصودة. ومنه الدعاء لقضاء الحاجة أو الإغاثة. ومنه الدعاء إلى العقيدة, إلى الإيمان أو إلى الكفر. قال تعالى: [تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ][ ]. وقال سبحانه: [يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنَا][ ]. يعني: أقترب منا لتكون مثلنا في الإيمان أو الكفر.<BR>وقوله في محل الكلام: [فَلْيَدْعُ نَادِيَه], أي: لهدف إنقاذه من عذاب الله سبحانه. وقوله: [سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ], أي: لهدف المنع من ذلك الدفاع المزعوم. أو قل: للدفاع ضد الدفاع. وليس لمجرد الاقتراب. <BR>وعلى أي حال, فهاتان الأطروحتان تتفقان على كون النداء أعم, لكن لكل منها من وجهة نظره. فيكون كل نداء دعاء ولا عكس.<BR>وقد يقال ــ في الأطروحة الثانية ــ: إنَّ لكل نداء هدفاً لا محالة. فيكون كل نداء دعاء, وليس في النداء حصة خارجة عن الدعاء بل يكونان متساويين مفهوماً. <BR>جوابه: من أكثر من وجه: <BR>الوجه الأول:أن نتنزل عما قلناه ونقول: إنَّ الفعل الاختياري عموماً فيه غايَّة, والنداء فعل اختياري, فلا بد أن يكون في غايَّة, فإذا دخلت الغايَّة, أصبح النداء دعاء. فتكون النسبة بينهما هي التساوي وليس العموم المطلق.<BR>الوجه الثاني: أن نحافظ على النظرية الأصلية ونقول: إنَّ الهدف في الدعاء ليس المراد منه الهدف الواقعي أو العقلي الذي يكون في كل فعل اختياري. بل المقصود الهدف العرفي والعقلائي. وبهذا يمكن أن لا يكون للنداء هدف فلا يكون دعاءاً. فلا تكون النسبة بينهما هي التساوي بل العموم المطلق. <BR>إن قلت: ولكن هذا قليل.<BR>قلت: إنَّ القلة لا تعني عدم وجود الشيء بل هو موجود مهما كان قليلا ً. وهذا الإشكال وارد حتى على الراغب حين يقول: إنَّ النداء يصدق على ترك الاسم. فنقول: يا أو أيا فقط بدون أسم. فانه أيضاً قليل عرفاً.وأغلب النداءات تقول: يا فلان فتكون دعاءاً, من وجهة نظره. <BR>الوجه الثالث: إنَّ قوله تعالى: [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَّة]. دعوتان متقابلتان فيها نكات لطيفة سبق بعضها:<BR>ا ــ إنها بمادة واحدة هي مادة الدعوة أو الدعاء.<BR>ب ــ إن الأولى دعوة بالباطل والثانية دعوة بالحق.<BR>ج ــ إن الدعوة الأولى ضعيفة والثانية قوية.<BR>د ــ إن الدعوة الأولى غير محرزة الطاعة حين يدعو ناديه, فلعلهم لا يستجيبون إليه. في حين أن الدعوى الثانية يقينية الطاعة؛ لأن الملائكة: [ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ][ ].<BR>وبذلك نلاحظ نقاط الضعف للدعوة الأولى, ونقاط القوة للدعوة الثانية. وهي مقصودة في التهديد والتهويل لا محالة.<BR>سؤال: عن هدف السورة؟.<BR>جوابه: إنَّ السورة بعد تمجيد الله سبحانه بذكر الخلق والتعليم بالقلم. وذكر نعمه في الآيات الخمس الأولى. تكون بعدها مكرسة لتهديد الفاسدين من الناس: <BR>أولاً: بعنوان: الإنسان [الذّي يَطْغَى].<BR>ثانياً: بعنوان: [الَّذِي يَنْهَى. عَبْداً إذا صَلَّى].<BR>ثالثاً: بعنوان: انه [كَذَّبَ وَتَوَلَّى].<BR>وكلها راجعة إلى عنوان واحد وهو العناد والكفر. أو قل: الشرك بالمعنى الكلي, ولا يراد به الجزئي.<BR>وكذلك ضده يرجع إلى عنوان واحد كلي وهو الهدايَّة. أو قل: المهتدي. وهو المخاطب بقوله: [كَلاَّ لا تُطِعْهُ]. وذلك لعدة أسباب:<BR>أولاً: [إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى].<BR>ثانياً: بعنوان: [أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى]. إذا أرجعنا الضمير إلى المصلي كما هو الأرجح.<BR>ثالثاً: بعنوان: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى].<BR>رابعاً: بعنوان: التهديد بالسفع بالناصيَّة. <BR>والنتيجة النهائيَّة هي وجوب طاعة الله والنهي عن إطاعة ذلك الفاسق الفاجر. كلا لا تطعه في نهيه عن الصلاة وأمره بالضلال, بل أستمر بصلاتك وطاعتك وسجودك وتقربك. <BR>ولا يقال: إن الطاعة منحصرة بالأمر ولا تشمل النهي؛ لأنها تعني التنفيذ. وهي تتحقق في الأمر, وأما النهي فيقتضي الترك. أو قل: أن يتعلق بأمر عدمي, وليس فيه طاعة. وإذا لم يكن فيه طاعة, فلا يصدق هنا إطاعة النهي في قوله تعالى: [كَلا لا تُطِعْهُ], أي لا تطع نهيه عن الصلاة.<BR>جوابه: إنَّ ذلك ليس بصحيح أكيداً: <BR>وذلك من أكثر من وجه:<BR>الأول: إنَّ طاعة الأمر بتنفيذه بالفعل. وطاعة النهي بتنفيذه بالترك.<BR>الثاني: إنَّ العرف يعمم معنى الفعل أو العمل إلى معنى الترك, فهو يشمل إيجاد الفعل وتركه, وهذا معنى مستعمل في الفقه كثيراً. فقوله: لا تشرب الخمر, متعلق بالترك. و ما دام يمكن تنفيذه عن علم وعمد, عُدَّ عملاً عرفاً.<BR>وإذا تنزلنا عن ذلك, وقلنا: إن النواهي ليس فيها طاعة؛ لأنها ليس فيها فعل. فهذا يتم في الترك الصرف كترك شرب الخمر. ولكن إذا كان الترك فعلاً عرفاً كان مسلم الصحة, والأمر في المقام كذلك؛ لأن قوله تعالى: [لا تُطِعْهُ], يقتضي الأمر بالصلاة وتنفيذها وليس تركها.<BR>سؤال: عن تحليل قوله: [لا تُطِعْهُ]؟.<BR>جوابه: إنَّ الضميرين في قوله: [لا تُطِعْهُ...]. <BR>أحدهما: فاعل, وهو مستتر يعود إلى المصلي الذي نهاه المشرك عن الصلاة.<BR>والثاني: مفعول به وهو الضمير الظاهر المتصل. يعود على [الذي] ينهى عبداً إذا صلى.<BR>هذا بالنسبة إلى الموضوع في الآية, وأما محمولاته فهـــــي على مراحــل:<BR>المرحلة الأولى: إننا يمكن أن نفهم معنى الجزئي من السياق كله. وهذا واضح. على كون معنى المصلي واحداً بعينه والناهي كذلك.<BR>إلا أننا نستطيع أن نعمم الصـلاة إلى كل طاعة, والمصلي إلى كل مطيع. والناهي إلى كل عاصي, وإن كان الخطاب للنبي ?. إلا أن القرآن نازل للمسلمين جميعاً بل البشر جميعاً كما ذكرنا ذلك كثيراً.<BR>المرحلة الثانية: إنَّ السياق قد تحول من الغائب في قوله: [عَبْداً إذا صَلَّى].إلى المخاطب في قوله: [كَلاَّ لا تُطِعْهُ]. وفيه إشعار واضح بأن المراد في الآيتين سياق واحد. وهو يناسب ما قلناه في المرحلة الأولى من أن المنهي يمكن أن يكون جزئياً أو كليا. <BR>المرحلة الثالثة: إنَّه يتحصل من المرحلة الثانية إن الضمير في قوله: [لا تُطِعْهُ] راجع إلى ما هو بعيد جداً في السياق فقد يقال: بعدم إمكان ذلك.<BR>وجوابه: إنَّ هذا الاستبعاد إنما يكون صحيحاً إذا لم تقم قرينة على هذا الإرجاع. وأما مع قيامها عليه والدلالة عنه فلا مانع منه, حتى بعد ألف سطر!!. والدلالة هنا موجودة وهي وحد السياق, فانه كله يدل على الخصام ما بين المصلي وبين الذي ينهاه عن الصلاة. فالأمر في السورة مستمر الحديث عنه. فلا بأس بإرجاع الضمير إليه. <BR>إن قلت: إنَّ الزبانيَّة لا يدعون, وإنما يلقى الفرد المشرك إليهم. بينما قوله: [فَلْيَدْعُ نَادِيَه], يختلف أمرهم عن الملائكة.<BR>قلت: جوابه من أكثر من وجه: <BR>أولاً: إنَّ دعوة النادي ودعوة الملائكة مختلفتان جذريا ــ كما قلناــ وإنما ذكر للتناسق اللفظي فقط. وذلك لأن طريق العمل في كليهما مختلف, يكفي أن نلتفت إلى أن أحدهما دنيوي والآخر أخروي وكذلك طريقة التنفيذ.<BR>ثانياً: إنَّه مَنْ قال: إنَّ الملائكة لا يدعون ولا يأتون؟ نعم, حصة منهم يلقى الإنسان إليهم. لكن البعض منهم يأتون, كما في حال الاحتضار وبعد الدفن, بالنسبة إلى ملائكة المحاسبة وملائكة الثواب وملائكة العقاب, وغيرهم.<BR>ثالثاً: قوله: [سَنَدْعُ], أي سنأمر فهم حاضرون دائماً, ولا حاجة إلى الدعوة من بعيد وإنما المهم توجيه الأمر إليهم بالعقوبة. ويكفي أن يفهموا بالأمر بمجرد إلقاءه أليهم. ومن هنا يرد قوله تعالى: [خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ][ ]. ولو لم يأمروا بذلك لما فعلوه.<BR>سؤال: من هم [الزَّبَانِيَةَ]؟.<BR>جوابه: إنَّ ما عليه المشهور من أن الزبانية: 19,وهم الملائكة الشداد الغلاظ ونحو ذلك. وإنما هو بساطة في التفكير ناشئة من تخيل الانحصار في عدد محدد من الملائكة.<BR>إذن, يستنتج إنَّ كل تعبير في القرآن يعود إليهم. إلا أن هذا الانحصار غير محتمل: لأن أعداد الملائكة كبير جداً, فلا بأس أن تكون هناك عدة مجموعات, كل واحدة بعنوان مستقل. <BR>ومن قبيل هذا الوهم, وهمٌ موجود في الأسماء التي أطلقها القرآن على يوم القيام كيوم الحسرة, يوم البعث, يوم الفصل, يوم التلاق, يوم الآزفة, يوم التناد, يوم الحساب وغيرها.<BR>فيجاب بنفس الجواب: انه يصح على تقدير الانحصار. وهو منفي في عدد من الروايات من أن هناك مواقف عديدة ومقامات كثيرة و فلا بأس أن تسمى كل رتبة وكل صعوبة باسم مستقل. وإما إرجاعه إلى معنى واحد فهو فهم ساذج.<BR>سؤال: لماذا قال: [لا تُطِعْهُ], ولم يقل: أعصه, مع إن الإثبات أولى من النفي؟.<BR>جوابه: من عدة وجوه:<BR>الأول: إن في النفي تأكيداً لقوله: كلا فيكون كلا لا. وكلا ضروريَّة باعتبار كونها جواباً لما قبلها كما سبق.<BR>الثاني: إنَّ هذا هو الأنسب مع الفهم العرفي؛ لأنه يُفهم من معنى الطاعة: تنفيذ مقاصد الآمر ورغبته. وهو إنْ تركَ صلاتهََُ فقد اطاعةُ, فينهاه عن ذلك. فإذا أستمر بصلاته فقد عصاه, ولكن في الحقيقة لم يحقق هدف هذا الأمر فيكون: [لا تُطِعْهُ], يعني لا تحقق ذلك الهدف الذي قصده.<BR>فكما إن المقصود منه جهة عمليَّة, فان فيه جهة نفسيَّة للآمر, وذلك بعصيانه وإفشاله, وهذا لا يتوفر إلا بعنوان الطاعة, أعني النهي عن طاعته, كما ورد في الآية الشريفة. <BR>الثالث: ضرورة جمال السياق القرآني؛ إذ بدونه يفسد السياق.<BR> هذا وقد ورد لفظ [كَلاَّ] في السورة عدة مرات, كلها تصلح أن تكون (جوابا): [كَلاَّ إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى], [كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ], [كَلاَّ لا تُطِعْهُ]. <BR>مضافا إلى جواب رابع, وهو قوله: [أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى]. إذا أرجعنا الضمير إلى المصلي. وكلا منها يراد بها التوصل إلى النتيجة النهائية, وهي: وجوب عصيان أهل الباطل والاقتصار على طاعة الأوامر الإلهية. بالاستمرار بالسجود والتقرب الذي كان ينهى عنه المشرك. <BR>سؤال: لماذا قال: [وَاسْجُدْ], ولم يقل: بل أسجد؟.<BR>جوابه: إنَّ قوله: [وَاسْجُدْ] بمعنى بل أو لكن, أي خالفه إلى غيره أو إلى ضده. واستمر بصلاتك وسجودك. إما انه لماذا لم يصرح بذلك بأن يقول: بل ونحوها, مع انه الأنسب في سياق المعنى.<BR>فالجواب: انه لا حاجة إلى ذلك؛ لأن السياق نص قطعي في ذلك. إذ ليس المعنى عدم إطاعته بشيء أجنبي, بل في هذا بالذات.<BR>وبتعبير آخر: إنَّ متعلق الأمر هنا ــ وهو السجود والاقتراب ــ هو متعلق النهي هناك وهو الصلاة. فيكون قرينة على أن الطاعة وعدمها متعلقان بشي واحد لا بشيئين أجنبيين. إذن, فالسياق كاف في الدلالة على التضاد بلا حاجة إلى استعمال بل أو لكن ونحوهما.<BR>سؤال: عن معنى: [وَاقْتَرِبْ]؟.<BR>جوابه: إنَّ له معنيين: <BR>الأول: وهو ما عليه إجماع المفسرين, وفهم السيد الطباطبائي ?, وهو معنى إثباتي, بمعنى قصد القربة, إما في الصلاة أو في مطلق الطاعة. كما ورد عن النبي ? انه قال لأبي ذر: لتكن كل أفعالك بنيَّة[ ], أي بقصد القربة, فان المتورع يمكن فيه ذلك دائماً.<BR>الثاني: ثبوتي, فهو يقتضي الاقتراب المعنوي من الله سبحانه, أومن الكمال المطلق. وهو حصول التكامل فعلاً؛ ولذا قال:[اقْتَرِبْ], ولم يقل: تقرّب ولو قصد القربة لقال: تقرّب. وقصد القربة معنى تشريعي. والاقتراب معنى تكويني ولا منافاة بينهما؛ لأن الإنسان ينبغي أن يقصد القربة لكي يقترب.فيكون ذلك مقدمة لهذا.<BR>ومقدمة الاقتراب التكويني هو السجود,وهو غاية الخضوع لله عز وجل. وكلما خضع أكثر أقترب أكثر. فقوله: [اقْتَرِبْ] معلول وقوله: [وَاسْجُدْ] علة. وقد ذكر العلة قبل المعلول, وهو السياق الطبيعي فقال: [وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ], يعني أسجد لكي تقترب.<BR>ولا يقال: إنَّ [اقْتَرِبْ] فاعله العبد, وهو قصد القربة, أما إذا كان المراد الاقتراب التكويني أو الثبوتي, لكان الفاعل هو الله جل شأنه, فيكون المعنى: أسجد فتقرب. كقوله تعالى: [ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ][ ]. فهو فعل الله. فيكون هذا قرينة على قصد القربة, لا على الاقتراب التكويني.<BR>ولكن هذا قابل للمناقشة؛ لأن القدرة على المقدمة قدرة على النتيجة. فكأن العبد يطلب من الله سبحانه أن يفتح له باب الاقتراب, وذلك بإيجاد العبادة, بفعله الاختياري. فيكون المعنى: أسجد وبفعلك للسجود أقترب. وبتعبير آخر: إنَّ المأمور به هو المجموع وليس واحداً منهما. يكفينا من ذلك إن كلا اللفظين بفعل الأمر: [وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ].<BR>وإذا تنزلنا عن ذلك وقلنا بان الاقتراب بفعل الله تعالى. فيقع تعارض بالقرائن المتصلة بين أمرين, من حيث أن [اقْتَرِبْ] ظاهر بالتقرب التكويني وان الفاعل هو العبد, وليس هو الله تعالى مع العلم إننا نعلم خارجاً أن العبد لا يستطيع أن يقترب تكويناً, بل هو فعل الله سبحانه.<BR>وجوابه: ذلك من وجوه: <BR>الوجه الأول: أن نتنزل عن المقدمة الأخيرة ونقول: إنَّ العبد يستطيع عرفاً أن يتقرب تكويناً ولو إلى درجة معتد بها, ويكون هذا هو المقصود.<BR>الوجه الثاني: أن يقع التعارض بينهما, فنقدم ما هو الأرجح والأظهر لفظياً. وهي مادة الاقتراب التي تدل على الاقتراب التكويني, ويكون إسناده إلى العبد مجازياً.<BR>الوجه الثالث: أن نقول: إنَّ أمر [اقْتَرِبْ] ليس تشريعياً كما يفهم المشهور, بل هو أمر تكويني لاقتراب تكويني, كما في قوله تعالى: [ارْجِعِي إلى رَبِّكِ]. ويكون الضمير فيه مفعولا في المعنى, وان يكون فاعلا في اللفظ. كما لو قيل بالأمر التكويني: تمرّض, أو أشف.<BR>فان قيل: إنَّ [أسْجُدْ] أمر تشريعي لا محالة. فإذا كان أقترب أمراً تكوينيا, كان هذا خلاف وحدة السياق بينهما. <BR>قلنا: إنَّ وحدة السياق قرينة ظنيَّة يؤخذ بها عند الشك في المضمون. وأما في هذه الآية فالمفروض قيام القرائن القطعيَّة على خلافها, فلا تكون حجة.<BR>سؤال: لماذا أمر بالسجود ولم يأمر بالصلاة؛ لأنه قد نهى عن الصلاة بعنوانها لا عن السجود؟.<BR>جوابه: من أكثر من وجه:<BR>الوجه الأول: إنَّ السجود هو الأهم من الصلاة أو الأغلب منها. واقرب ما يكون العبد إلى ربه حال السجود, كما ورد عن الأئمة الأطهار ?[ ]. فحين ينهى هذا الضال المضل عن الصلاة, إنما ينهى عن السجود. أو إن الجزء الأهم أو الرئيسي من نهيه هو ذلك. إذن, فالنهي حاصل عن السجود, والأمر أيضاً متعلق بالسجود.<BR>الوجه الثاني: إنَّ المقصود الأساسي في قوله: [وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] هو الصلاة؛ لأنهما الجزءان الرئيسان فيها. فيكون المنهي عنه هو الصلاة والمأثور به هو الصلاة أيضاً.<BR>الوجه الثالث: ما ذكره في الميزان[ ]: ولعل الصلاة التي كان النبي ? يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى والسجود له.<BR>أقول: هذا مبني على نزول السورة في أول الإسلام دفعة واحدة قبل تشريع الصلاة, وهو مما لم يثبت ــ كما سبق ــ ولعدم وجود النهي عن الصلاة في ذلك الحين.<BR>مضافاً إلى: إنَّ فعل الأمر ليس متوجها للنبي ? خاصة, بل إلى جميع الناس؛ لأن القرآن الكريم نزل إلى جميع الناس, كما أن الناهي ليس هو ذلك الفرد الجزئي, بل المراد به أي مشرك مضل.وقال في الميزان[ ]. وقيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة التي هي إحدى العزائم الأربع في القرآن.<BR>أقول: هذا لا معنى له؛ لأن وجوب السجود متأخر رتبة عن هذا الأمر بالسجود, فإن هذا بمنزلة الموضوع وذلك بمنزلة المحمول. والمحمول متأخر رتبة عن الموضوع. وأما فهم كلا الأمرين من لفظ واحد, فهو متعذر من الناحية العرفية؛ لأنه يكون من دلالة اللفظ على معنيين دفعة واحدة, وهو مستحيل لغة وعرفاً.<BR>وهنا في نهاية السورة نلاحظ أن لها ثلاث مجموعات من النسق, لم تتبدل عشوائياً, بل لحكمة.<BR>الأول: تمجيد الله سبحانه وذكر نعمته في أول السورة. إلى قوله: [مَا لَمْ يَعْلَمْ] وهو نسق القاف والميم.<BR>الثاني: لدى الشروع بمناقشة الفاسقين بقوله: [كَلاَّ إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى]. وبقى النسق على الألف المقصورة في تسع آيات. إلى قوله: [أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى]. <BR>الثالث: لدى الجواب المؤكد والنتيجة النهائيَّة يتبدل النسق إلى الهاء أو التاء المدورة مع روي الياء, وهذا يعني أن نقرأ: خاطية لا خاطئة. ولعل فيها قراءة. فإنها أكثر انسجاماً مع النسق, إلا أنها أقل فصاحة ومخالفة للمشهور.<BR>وتبقى الآية الأخيرة كخلاصة أخيرة للسورة, ذات نسق مستقل بنفسها, بقوله: [وَاقْتَرِبْ].</P>

<P> </P>

<P>***<BR></P>

Continuar a ler

Também vai Gostar

18.1K 1.9K 75
الوصف بالتشابتر 0 رواية مترجمة
71.2K 2.7K 31
( اجابها ببرود " اعتذارك لا فائدة له...لن يغير اي شئ وفي هذا العالم... انت مضطرة للتعويض عن أخطائك " ) زفرت بتعب ثم نظرت حولها قليلا ومع وقوع بصرها...
22.2K 1.4K 18
كيف ستتعايش فتاة هربت من عواقب جريمة قتل إلى الزمن الذي عاش فيه البربر والفراعة والروم والتاتار مع ثقافتهم وطريقة تفكيرهم وقدم حضارتهم وقدم البيئة ال...
11.8K 833 22
_ لم يكن شخصا عاديا ابدا ، فهو كالسلام ، هو من إستطاع أن يبنيني و أن يجعل لإسمي مكانة ، أصبح عقلي لا يفكر إلا به و بنهاية التفكير ابتسامة عريضة _ م...