جرح وشم الروح! ملاك علي.

By Magharibia

21.9K 297 24

لمحةٌ من الماضي... كان يقبلها...بمهلٍ وكأن كل الوقت ملكه... برقّة وكأنه يخشى عليها من عنف قبلاته....بين كل قب... More

المقدمة
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد و العشرين
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرين
الفصل الرابع والعشرين
الفصل الخامس والعشرين
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون:

الفصل الأول

1.3K 16 0
By Magharibia


                                 
                                الوقت الحالي:

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي."

ترتيلُ الشيخ جعل الدموع تنزل من عيونه دون توقف...لم يخجل وعمه حمزة يضغط برأسه على كتفه ويهمس له بمواساة بحشرجة...يحاول منع دموعه التي تخنقه من الانفلات...هو الآخر.
- " معاذ... الموت علينا حق يا بني...استهدي بالّله"
وصلت لمسامعه همسة معاذ بأنه لا يستطيع ... ليجلسه بجانبه يُقربه أكثر لصدره ويعانقه بشدة كابن لم يحظى به يوما...وكزوج ابنة فارقتهم قبل الأوان....... يتذكران رجلًا كان كل شيء لهذا البيت ولكافة القرية...رغم أنه كان قاسيًا...إلا أن الكل أحبه واحترمه...!!

تنملت يده...وهو يستقبل تعازي آلاف من القرويين... غفير تابع جسده حتى مثواه الأخير.
جسد أبيه الذي غادرته الروح، لينطفئ ويفقد هيبته... يُحمل على كتف ابنه وأخيه...وابن عم زوج فدوى ثم يوسف العالمي...الذي حضر العزاء نيابةً عن عائلة العالمي...والذي قدم مباشرةً من المطار، ليوقف سيارته بجانب الطريق وهو يلمحهم قادمين خلف جثمانه...تبادل النظرات مع معاذ وكأنه يُحَاول مُواساته والتخفيف عنه كما يفعل دائماً...وبدون كلام كان يطلبُ من أحد شباب القرية أن يسمح له بشرف المشاركة في حمل نعشِ رجلٍ كان والد أخيه...

شيئاً فشيئاً ...كان يتوارى جسده بين التراب ...لا صوت يُسمع إلا ضربات المعول في يد يوسف وحمزة اللذان تكفلا بإعادة التراب على جسد الشيخ ...كان ضعيفاً من أن يقوم بالمهمة... من أن يدفن والده في تلك الحفرة الضيقة... حيث الظلمة...لا أنيس ولا ونيس...وحيد مع أعماله... قشعريرة خوف سرت على طول ظهره... جعلته يهمس بخشوع:
" اللهم إن أبي في ذمتك... أقيه فتنة القبر وعذاب النار...اللهم اغفر له وارحمه...ولا غفور ولا رحيم إلا أنت... اللهم أنر قبره...اللهم أنر قبره...اللهم أنر قبره"
ليخر راكعًا...أمام قبره الذي استوى مع الأرض...وكأنه لا يحتوي جسدًا... فارقه لسنوات...وهو موقنٌ أنه سيعود وسيجده حيث تركه...شامخًا ذو نظرة كبرياء وصرامة...!

لم يضع في حسبانه انه سيودعه يومًا للأبد... رفع نظراته حيث القبر الآخر...حيث يرقد قلبه...إحدى المسلمات الثابتة التي اتخذها والتي ظنها لن تتزحزح يوماً...لكنها تزحزحت لتُزلزل بحياته...وتجعله متخبطًا أكثر...لا يعرف أي معاذ هو...!؟ الشيخ...الزوج ام الأب...أدوار خلفها موتها...فأصبح تائهًا بدون مرفأ.

حطت يد عمه حمزة على كتفه...تُرجعه للحاضر، كانا الوحيدين في المقبرة بعدما احترم يوسف حزنهمَا وتركهما ملحقاً بالجماعة .... بأيدٍ مرتعشة كان يُساعده على الوقوف...

- " لنذهب معاذ... "
قال هامسًا لابن أخيه...يتشابهان في فقدهما... كلاهما فقدا غاليين... كلاهما غارقين في تأنيب ضمير... يلومان الوقت الذي ضيعاه...واللومة فيهما.

سارا منكسين... حتى الدار الكبيرة التي أصبحت يمثل لكليهما سجنًا لذكريات ستؤرقهما إلى ما لا نهاية.... دخلا ليجدا النسوة مازلن ملتفات حول والدته....واللاتي أسرعن لتغطية وجوههن ما أن دلفا... تمتم عمه بشيءٍ لم يهتم لتبايُنه... وعرج إلى حيث يؤدي مكتبه، وقبل أن ينزل بنظراته  ويستدير مغادرا رآها....كانت ترتدي البيجامة المغيظة اللون والشكل، تلفُ رأسها بوشاحٍ لم يسيطر على غجرية شعرها، الذي التف حول وجهها بإزعاجٍ، و ابنه تحيطه على ظهرها بوشاح آخر، وهو غارق في نومه، بينما رجليه تتدليان على جانبي خصرها، وآثار الحمى باديةٌ عليه تجعله غير مدرك أن جده قد وارته التراب بجانب والدته ... كانت متعبة...واقفة على باب المطبخ، لتمُد يدها تُمسك بصينيه مملوءة بأكواب القهوة...حاولت موازنتها بيدٍ و باليدِ الأخرَى كانت تمسح العرق عن بشرتها التي غدت حمراء من حرارة المطبخ التقليدي الكبير ...ثم انهمكت بآلية في تقديم القهوة للنسوة اللاتي اتخذن العزاء كمناسبة للثرثرة...دون الاهتمام الفعلي بمشاعر الفقد الذي تعيشها عائلته...عيونه مرت بغضبٍ على الموجودات... كان يتمنى لو يستطيع أن يطردهن...ليحضن تلك الهشة التي تنظر بصدمة و خوف نحوهن، تُحاول البحث عن لمحة من المواساة في ملامحهن، لكن في نفس الوقت تخشَى أن تكون وحيدة إن غادرنها ليحتل مكان صخبهن؛ صمتٌ يُجبرها أن تُواجه حقيقة أنه مات...الشيخ الكبير مات.... كانت تائهة بدون زوجها...تحس بالضياع وقد تركها.... نظرتها تحمل حزنًا عميقًا وتخبطًا...وكأنها فقدت مجاذيفها في وسط عاصفة بحرية هوجاء... كاد أن يتقدم ليُبعد الملتفات حولها وعويلهن الذي يجعلها تفزع أكثر... ليحضنها بقوة كما كانت تحضنه يوما بعد كل قسوةٍ يتلقاها من والده، لكن هذه المرة سيبكي كما لم يبكي عندما كان صغيرًا...سيبكي في حضنها الفقد...ويبعد الخوف من عيونها التي انطفأت فجأة... لكنه تراجع.... مكانته ك " شيخ " القبيلة تمنعه من ذلك.... " بيت الشيخ... هو بيت الكل" عبارة رددها والده حيًّا... ولن يكسرها ميتًا.

رفع انظاره عن والدتها...لتقع عليها، تنظر إليه برهبة.... لا تخلو من لمعة حزنٍ، ليشير بيده أن تتبعه...ليُولي الأدبار مغادراً بثقة وهو يعلم أن كل ما يحتاجه هو إشارة فقط لتأتيه مسرعة.

كامرأة صالحة بمفهوم مجتمعها...لم تُخيب ظنه ... في ثانية كانت تلبي أمر إشارته وتتبعه حيث دخل، بينما عيونٌ حاسدة وأخرى حقودة كانت تتبعها بدورها... وجدته يتخلص من السلهام الأبيض من الصوف الثقيل الذي كان يوما لوالده، والذي ساعدت بحياكته كأغلب فتيات القرية...لتمسكه وتضعه على ساعدها كي تعلقه في المشجب المخصص له...التفتت ناحيته.... تسأله برهبة ممزوجة بشفقة وأخيرا استطاعت أن تنفرد به بعد كل ما حدث:
-" هل أنتَ بخير؟!"

دون أن يجيبها كان يعانقها بقوة...يحتاج حضنا يُقاسمه حزنه...وهي كانت تهتم...نظراتها أخبرته انها تهتم...!

تململ ابنه بعدم ارتياح...لكن والده لم يهتم ...أو ربما لم يكن يعي انه يُزعجه...كان ثقيلا وهو يرتكز بكل ثقل جسده على جسدها الهش المتعب...وابنه على ظهرها يجعلها تريد أن تئن وجعًا...لكنها سكتت وسكنت تنتظر ابتعاده.

- " أشتاق إليهما..."
همس في تجويف عنقها...ليتصلب جسدها، مُغلقةُ عيونها بألم...دون أن يهتم ... وبكل أنانية كان يبوح للشخص الوحيد الذي لا يجب عليه سماعه ...بلعت ريقها بصعوبة وحُرقة همسته تصلها
-" أشتاق إليها حد الجنون...نار فقدها مازالت تسري في جوفي"

أكمل دون أن يهتم لدماء قلبها التي سالت حتى كادت أن تُغرقها...شهقة ألمها غطى عليها بكاء وريد... ليبتعد معاذ فجأة كالملسوع.... وتنفست براحة وآلام ظهرها تختفي جُزئيًا.
- " هاتيه..."
قال ببرود عكس ما كان يجول في خاطره منذ قليل...وكل ما كان يتبادر إليه، كيف كانت ورد ستجعل وجعه يختفي...؟

استدارت سارة...تحل العقدة على صدرها... لتزفر براحة ومعاذ يتلقفه...تُريدُ فقط ان تهرب بعيدًا عنه وعن الاضطراب الذي تعيشه بقربه!

مد يديه يستقبل ابنه.... دون أن تفوته البقعة الحمراء الناتج عن احتكاك الوشاح مع بشرة عنقها...ودون وعي منه مرر اصبعه عليها...ليشعر بارتعاشتها...جعلته ويا لمفاجأته يحس برضًا رجولي...لم يكن هذا وقته ولا مكانه!

" اهتمي بوالدتي..."
أمرها... حركت رأسها ب "حاضر" ولسان حالها يهمس... وهل تفعل غير ذلك؟ تهتم بكل الناس... ولا من يهتم بها...!!

دون أن تعاود الالتفاف... كانت تفتح الباب وتخرج بتعبٍ... تحاول أن تُخبئ احمرار وجهها من لمسته اللطيفة... بقدر ما تريدها إلا أنها تشمئز منها.

..........

استندت على الباب تتنفس بصعوبة...تّتكئ بذراعيها على رُكبتيها، تنظُر للأسفل، تُحاول لملمة روحها التي بعثرتها لمسته، تُحاول أن تجعل دقات قلبها تستكين...ولا تنخدع بالنشوة التي تملكتها إثر لمسته...التي اشتاقتها وشهور طويلة وهي تتهرب منه أو هو من يتفادها... لم تعد تدري!!

تتبعت الحذاء الأسود اللامع الذي وقف مقابلًا لها...حتى التقت عيونها، بعيونٍ لم تجعلها أبدًا تنسى مكانتها بهذا البيت...
- " تثيرين شفقتي...وأنتِ كجروٍ منبوذ يلحس رِجل كل مارٍ بجانبه يطلب الاهتمام"
تيبس جسد سارة وهي تسمع كلمات فدوى التي كانت تقطر سمًّا.... انسحاب الدم من وجهها المورد جعل فدوى تبتسم في انتصار، وهي تسدد الضربة لبديلة اختها... تنظر إليها بقرف، وسارة تنكمش على نفسها أكثر... دائماً ما تجعلها فدوى تُحس أنها كخرقة بالية...
وكأنها تعلم بكل سرٍّ لعين تحتفظ به لنفسها...وكأنها اخترقت نفسها لتعرف بالدونية التي تلمح بها نفسها كلما مرت من أمام مرآةٍ... وكأنها اتفقت مع معاذ أن يُذيقوها الويل... لا لذنبٍ إلا أنها هزت رأسها إيجابًا... ووالدتها تسألها القبول أمام أسياد القرية وشيخها أن تكون زوجة الشيخ الصغير الذي فقد زوجته للتو... تاركةً ابنًا ما زال يحتاج لدفئها.
- " أنا أحدثك... يا..." قالت فدوى بفحيح وهي تقترب منها...تُثيرها نظرة الخوف التي زرعتها بها، وكأنها تستلذ بنشوة عارمة والتي أمامها ترتجف كورقة خريف في مهب الريح "... الكؤوس لن تغسل نفسها... تحركي أمامي للمطبخ... فلم نأتي بك لتلعبي دور الزوجة المطيعة... "
اقتربت منها أكثر.... ونظرة تشفيٍ مرسومة بإتقان في ملامحها...لتسألها بفحيح:
-".... هل حقاً اعتقدتِ أنك فعلا أصبحت سيدة هذا البيت؟!"
-" أنا..." همست سارة وهس تبتلع ريقها...لكن فدوى قاطعتها:
-" أنتِ لا شيء سارة...مجرد بديل باهت لأختي.... لا تظنين يومًا أنكِ ستحتلين مكانتها...سواء في هذا المنزل..." سكتت لتدنو منها بخبث " أو في قلبه" أكملت بحقدٍ...وقبل أن ترفع رأسها عنها أكملت بهمس " ربما...في سريره نعم...رغم أنّني لا أرَى ما يُعجبه بكِ...ظُفرُ ورد كان ...."
استندت سارة أكثر على باب المكتب بخوفٍ، تُغلقُ روحها من أن تتسلل إليها إهاناتها أكثر.... تتمنى لو يبتلعها لتختفي من أمام هذه المخلوقة...التي زادت حياتها تعاسة...وكأن الذي بها لا يكفيها... أحست برعبٍ يكتنفها وفدوى تمد يدها نحوها... لتتنفس الصعداء والباب يُفتح فجأةً... لتسقط للوراء على ظهرها.
تفاجأ معاذ بالجسم الذي ارتد ... ليبتعد بغريزة للوراء... فيسقط الجسد على الأرض مصدرًا أنينًا خافتًا...
- " س ...سارة... " قال بصدمة وهو ينظر إليها تتلوى بألم... وتنكمش على نفسها...نزل على ركبتيه بجانبها " ما الذي حدث... لماذا كنتِ تستندين على الباب بهذه الطريقة ؟!" كان يحاول معرفة ما الذي حدث معها...لكنها لا تُجيب إلا بدموعٍ غزيرة وآهاتٍ خافتة...رفع رأسه لينظر للأعلى حيث فدوى تنظر إليه بغضبٍ كعادتها... تلومه على استبدال ورد بسارة...لا تعلم أنه لم يفعل... ورد مازالت النفس الذي يتنفسه...ولا سارة ولا مثيلاتها يستطعن محو هذه الحقيقة...
ارتبك من تحديقها القوي... ليقول باضطراب حاول ألَّا يظهر عليه...لكنه فشل:
- " ما الذي حدث هنا فدوى؟! "
لم تهتم لتساؤله...لتقول ببرود مستفز:
- " عندما تنتهي من تلك الدراما الهابطة...أخبرها أن المطبخ ينتظرها...والذي يليق بمثيلاتها" ثم استدارت مغادرة.
سكنت وهي تستمع للسعات فدوى... التي طغت على اللسعات التي يرسلها ظهرها... أغمضت عيونها، تتمنى أن تفتحهما وتجد نفسها في غير هذا المكان...حيث لا يوجد معاذ ولا أي شخص له علاقة بمعاذ...لكن صوته أعادها للواقع المر أكثر من العُلقم...
- " هل تستطيعين النهوض...؟! " قال بحدة لم يستطع التحكم بها
- " أستطيع... " همست بحرقة تُحاول إنقاذ المُتبقي من كرامتها... لتستند على يدها تحاول النهوض وهي تضغط على شفتيها بقوة أدمتها... لكن الألم لم يترك لها فرصة... لتطلق أنينًا وهي تنزل بجسدها على الأرض وتتكئ على ذراعها ...وتبكي كل شيء!

سألها...لينحي بجسده بعيدًا.... وبعقله أبعد... مازال تسوطه كلمات فدوى عندما قرر الزواج...بعد أشهرٍ قليلة على دفن جسدها... جاءت بصخبٍ وهي تكيله كل أنواع الإهانات:
- " احترميني فدوى... لا تجعليني أقلل أدبي معك!" قال بغضب وقلة صبر...ومنذ نصف ساعة وابنة عمه تهاجمه
- " أحترمك!؟" قالت لتُطلق ضحكة اهتزت لها جنبات المكتب " أنت حتى لا تعرف معنى الاحترام لتطالب به، اختي... لم يجف بعد الماء على قبرها وأدخلت أخرى لمنزلها.... لا تجرؤ وتطلب شيئًا أنت لا تستحقه"
لم يستطع أن يُجيبها... هو يستحق، هو في عُرف العشاق خائن للعهد بينه وبين معشوقته... لكن الكل ضغط عليه...أجبروه على الزواج من أجل وريد...ومن أجل مكانته!
- " فعلتها من أجل وريد..." همس بذنبٍ
- " إلى متى ستستغل الناس كشماعة لأغلاطك يا ابن عمي... يا ليتك لم تعُد"
- " فدوى... " صرخة عمه جعلتها تصمت وتبتلع الباقي من كلماتها...لم يهتم لصراخ عمه حمزة على ابنته... ولا بما كانت تجيبه وهي تشير نحوه...كل ما كان يهمه الذنب الحارق الذي يحس به وفدوى زادت جمر جحيمه اشتعالاً.

- " آآي..." أنين التي أمامه جعله يستفيق من ذكرياته...لينظر نحوها...هي كانت الوسيلة فقط... استقدمها فقط لتهتم بابنه...كيف تورط معها جسديًا... التفت حيث يرقد ابنه بهدوء بعد أن أعطاه دواءه... والذي يناديها ب "ماما"...بقدر ما أسعده أنه وجد البديلة عن دفئ الأم الذي فقده صغيرًا...بقدر ما يغضب كلما سمعه يوجهها لها...هي ليست والدته... ورد هي والدته.
- " لا أريد " همست برفض وهو يدنو عليها ليحملها
- " أسكتِ! " قال بقوة...سكت...وقد أحس أنه يُصوب غضبه بالاتجاه الخطأ. هي لا تستحق كل ما يحدث معها في منزله "... وريد نائم على الأريكة... سأحملك للغرفة ثم أعاين إصابتك..." استطرد بنبرة منخفضة وهو يخرج من غرفة المكتب...
شهقت زوجة عمه... وهي تلتقي به في الممر حاملاً سارة... التي تُغطي وجهها في كتفه خجلًا...لتقترب منهما وعيونها تنظر نحوها بشفقة:
- " عمتي اهتمي بوريد...هو نائم في المكتب.... سأساعد سارة على الاستلقاء...فقد أدت ظهرها"
-" حفظك الله بنيتي... " قالت مليكة وهي تقترب منها، لتمسح على جبينها نزولا لخدها...حركة رفرف لها قلب سارة.... دائمًا ما كان تواجدها مصدر راحة لها في هذا البيت...ودائماً ما تُخبرها أن الله عوضها بابنة ثانية بعدما فقدت ابنتها.
- " خذها بني...بعد قليل سأحضر لها الشاي بالأعشاب سيساعدها على الاسترخاء "
- " هذا ما ينقصنا...أن نعامل الخدم كالملوك..." قالت فدوى من خلف والدتها...التي التفتت نحوها بقوة... لتنظر إليها بشرر وتقول:
- " فدوى اتبعيني... الضيوف في انتظار القهوة..."
تبعتها فدوى في سخطٍ لتختفيا في نهاية الممر... وتبقى سارة مع معاذ في ارتباك من كليهما.

وضعها على السرير على بطنها... تململت بعدم راحة تحاول النهوض... متمتمةً أنها تُريد الذهاب لغُرفتها الأخرى التي اتخذتها بعيدًا عنه بدعوة أنها قريبة من غرفة وريد.
- " سارة...لا تجعليني أفرغ غضبي فيك... ستبقين هنا حتى أرى ظهرك اللعين..."
صراخه جعلها تستكين قاطعةً نَفَسها... يثير رعبها، يجعلها تهرب إلى أقرب مخبئٍ كلما لمحته...تعرفُ أن الأمر طفولي، لكنها تشعُرُ بالأمان وهي تختبئُ بعيداً عنه.
صوت تمزق منامتها المنزلية جعلها تجفل... لتصرخ برعبٍ وهي تحاول تغطية عري ظهرها... لكن حركتهَا القوية جعلتها تتألم أكثر... لتضغط على وجهها تخفيه بين الوسائد وكأنها بذلك ستختفي.

بدون إرادةٍ منه...كان يقارن بينهما، في أول لقاءٍ مع ابنة عمه فتنته باهتمامها بنفسها... ترتدي كل ما يجعل فتنتها تتوهج... لكن هذه السارة...كانت النقيض تمامًا، منامتها المهترئة استفزته ليمزقها لشطرين...ليظهر ظهرها العاري... وترتدي اسفلها سروالا لا يُخالف المنامة الطويلة العريضة في شيء سوى في اللون.

دموعها جعلته يُشفق عليها... ليرفع جزءا من شرشف السرير ويغطي أعلى كتفها...ويبدأ بتمسيد أسفل ظهرها بمرهمٍ خاص.
- " يجب أن تبقي بدون حركة حتى يختفي الوجع...وبعد العزاء سآخدكِ للمستشفى لنرى سبب الألم..."
همس وهو يُبعد بصعوبة أصابعه عن بشرته المتوهجة والتي تدفعه ليفعل بها الكثير...ليوجعها كما تجعله يتوجعُ رغبةً بها...لكنه لن يسقط في فخ حاجته الرجولية لها...لقد قاومَ كثيرا...وسيُقاومُ أكثر!

........

- " حسناً سامح...لدي ساعة فراغ بعد الثالثة... يمكنك المرور وسأشرح لك المسألة"
سمعته يُجيب سامح... زميلٌ لها.
يجلس كالعادة في مكتبة الجامعة... المراجع تُحيط به...ورأسه منكس على حاسوبه المحمول...يبدو عليه التعب... والأكواب البلاستيكية البيضاء المخصصة للقوة تصطف بجانبه.... كان في سباقٍ مع الزمن... بتعبٍ مرر يده على صفحة وجهه لينزل نظارتيه...وقبل أن يُنزل عيونه مجدداً... كان يلمحها تُحدق به...أخفضت عيونها بسرعة... لتسمع أزيز تحرك كرسيه...برعبٍ كانت تدعو الله ألا يقترب منها...لكنه توقف أمامها مباشرةً... تفصل بينهما الطاولة المربعة الشكل.
- " صوفيا...هل تحتاجين لمساعدة؟!" سأل بصوتٍ هامس رقيق...به لمحة من التعب... أشفقت عليه لترفع رأسها تنظر إليه...لتبتسم بشكر وهي ترفض بتهذيب...
- " إن كنتِ بحاجة إلى أي شيء...أنا هنا...وسأكون سعيدًا بمساعدتكِ" استطرد وهو يُحدق بوله في وجنيتها المحمرة من تحديقه بها
- " أنت لست مضطرًّا" قالت بهدوء
- " عفوًا؟!" أجاب وهو يرمش عدة مرات يُبعد سحرها الذي أحاط به
- " أنت لست مضطرًّا لمساعدة كل طلاب الجامعة..." أعادت بلوم بنبرة حادة ... جعد جبينه بعدم فهم..." تستطيع قول لا..."
استرخت ملامحه...وتجاذبها لأطراف الحديث معه سره... ليقول وابتسامة تعلو محياه
- " أنا سعيد بتقديم المس..."
قاطعته بحزم...وقوة:
- " بل... لا تعرف قول كلمة لا..."
بهت من الحدة التي اتخذتها نبرة صوتها.... بقي يُحدق بها لثوانٍ...عيونها تجبره على الاعتراف... ليقول مُنهزمًا:
- " معكِ حق... أنا لا أعرف كيف أرفض طلبًا "
ابتسمت لتلون وجنتيه بالخجل... لتنزل رأسها للكتاب الذي تقرأ به...تشجع وهي لم تطرده كما العادة وجلس بارتباك على الكرسي المقابل لها... وبعد عدة ثوانٍ من الصمت همس:
- " صوفيا... أنت لم تجيبينِ عن السؤال؟! "
رفعت وجهها إليه...لتقول:
- " أي سؤال ماسِّين؟!"
تنفس بعمقٍ وهو يسمع اسمه يُنطق بنبرةٍ مختلفة من بين شفتيها... وقد عشق التشديد الذي أضافته لحرف السين باسمه
- " الزواج... " قال باندفاعية ليستطرد بهدوء أكثر " أقصد عرضي للزواج بكِ"
أغلقت الكتاب... الذي كانت تستغله كذريعةً كيلا تنظر باتجاهه....
- " أنت حقًّا لا تقصد ذلك ماسّين.... لا يُمكنك طلب الزواج من كل فتاة احتاجت للمساعدة... " صمتت قليلا تنظر إليه... لن تُنكر أن نظراته تجعلها ترغب بالاستسلام...أن تُسلم له مقاليد التجديف... فقد تعبت حقًّا...لكنها استطردت بقوة وهي تقف " أنت إنسان رائع ماسّين...لكن لن أستطيع قبول طلبك.... لن أتزوجك بداعي الشفقة.... لا أريد هذا النوع من الارتباط... لا.... " قاطعها وهو يقف بهدوء يفرضه عليه تهذيبه المغيظ لها... ليقول دون أن تنمحي الابتسامة من بين شفتيه
- " على الأقل اقبليني صديقًا لك... "
حدقت بشعره الطفولي...عيونه البنية التي بها طيبة تسع العالم وتفيض...اشارت بنعم... شيء ما في هيئة، طريقة حديثه ونظراته يجعلها تثق به...
موقنَةٌ هي أنه بريء جدا على أن يؤذيها.
وقبل أن يستدير مغادراً... أخذ القلم قربها ودوّن رقمه في كراستها
-" اتصلي بي في أي وقت"
- " شكرا... " أجابته ممتنة...ليستدير مغادرا رافعا رأسه للأعلى وكأنه حقق للتو المستحيل.

……….

كم مر على لقائهما؟!!
عامان أم ثلاث .... وكأنه تعرف عليها البارحة فقط...في كل مرة يُفتح الباب على ملامحها يقع في حبها أقوى من سابقتها...كم يكره اللحظات التي تبقى بعيدة عنه.... يُحس بنفسه محبوبا عند الله الذي أكرمه بأربع نسخٍ منها...وكأنها اختهن وليس والدتهن.... حبها يتضاعف في قلبه حتى أصبح يخشى عليهَا منه... دائما مراعية... حنونة عليه...لم تشتكي أبدا من قسوة والدته التي تظهر مرة لتختفي مرات... في كل مرة تستقبله بابتسامة تجعله ينسى بشاعة ملفات عمله...في حضنها... ينسى حتى من يكون.... في حضرتها كانا يتمازجان...لتعيد إليه.... ضلعه الذي استولت عليه يوم خُلقت منه...لتنفصل عنه.

- " اشتقت إليك...."
قالت وهي تندس في حضنه بقوة.... وانفها يمر على جانب وجهه نزولاً لعنقه...بخفة كان يُحيطها بذراعه يحملها معه للداخل...ومازال أنفها مُندسًّا داخل تجويف عنقه...جلس على أقرب أريكة ليُجلسها في حضنه:
- " هل تعلمين أنني لم أتعود بعد على هذا الاستقبال...ما زال يثير بي الرعب...وفي كل مرة أنتظر اعترافك أنكِ حامل...مجددا." ضحكت بقوة وهي تتشبث أكثر بعنقه... ورأسها ترتمي للوراء، بينما عيونه تتبعها بولهٍ:
- " أنا فقط أحب رائحتك.... تجعل ضربات قلبي تستكين...رغم أنني لا أمانع حقًّا، خصوصاً إن كان إنجاب ذكر سيجعل والدتك تهدأ قليلا... "
- " أنا من يمانع... حبًّا بالله جميلة... لا تجعليني أمر بنفس الاختبار مجددا... ووالدتي سأحدثها عن الأمر " أوقفته بأمر
- " لن تفعل مصطفى...ستعتقد أنّني من يُحرضكَ ضدها...وبعد أن أصبحتُ أماً... أتفهم جيدًا كيف تشعر..."
- " نعم..." قال بهمس وهو يحدق في ملامحها وإبهامه يُعيد رسم خطوط ذقنها ليستطرد وعقله عاد لأيامه الأولى كأب...وجميلة تُعلمه بل تُجبره على حملهما " إحساس بشع ألا تستطيع احتضان طفلك" مررت يدها على تقاسيم وجهه وتكشيرة بين حاجبيه تفكها
- " بشع جدا... لهذا لا أريدك أن تُحدثها... يكفيني تعلقها بالبنات وعشقها لهن... ما يحدث بيني وبينها صراعات أزلية...خُلقت منذ اليوم الأول الذي خُلقت به الأنثى...الغيرة جزء لا يتجزأ منا"
- " بابي لين..." قالت لين تقطع قبلةً كانت ستسقر بجانب فمها...وهي ترفع ذراعيها باتجاه والدها... الذي احس بتحديق جميلة المركز في ملامحه...أشارت برأسها نحو ابنتها و كأنها تؤكد أمر الغيرة و تتحداه أن يطردها من حضنه لأجل طفلته...أحس بالارتباك... و لينا تنظم للاحتجاج...تريد حقها أيضًا به...هو لم يتعود بعد ان يكون محط الأنظار والاهتمام...جميلة و مثيلاته يُعطين لوجوده قيمة...يجعلنه يشعر بالزهو و هن مُحاطات به وجميلة تهمس له برقة تُذيبه أنه مصدر أمانهن و حبه لهن يجعلهن فريدات...كان منارتهن...وهذا نوعًا ما يُرعبه..!

-" آآآخ...دائماً ما يفعلن بي هذا...لا أستطيع أن أحظى بك ابداً لوحدي...." قالت جميلة بسخط مصطنع وهي تنهض من حضنه... كي يستطيع اجلاس التوأم به، فترحمه من التخبط الذي لم يتعلم بعد كيف يخرج منه بدون خسائر...يخشى أن تُحس إحداهن بميله لأخرى غيرها...
- " كاذبة..." همس وهو يحملهما " بعد الثامنة انت الوحيدة التي تستفرد بي...." ضحكت بغرور لتقول
- " نعم...فأنا الأصل والباقي تقليد...ثم ما قيمة أن أحظَ بك دون أن تكون لي الفرصة لإغاظتهن " لتنظر لبناتها... كل واحدة تغرز رأسها في عنق والدها كما تفعل...تنظران إليها بهدوء مستفز مستنكر لتصرفاتها الطفولية...مستكينتان وكأنهما لم تكونا صاخبتين قبل دقائق من حضوره
- " أنظر إليهما.... أنت لك تأثير السحر على الجنس الأنثوي.... أنا محظوظة أنك لي وحدي...."
ثم تركته مع طفلتيه...واتجهت للمطبخ تجهز الغذاء ...عيونه تتبعها حافية بملابسها الطفولية المُغوية سروال رياضي بالكاد يُغطي فخذيها وقميص قطني قصير أظهر رشاقة خصرها...ليهمس وهو يحيطهما وعيونه ما زالت عليها... رغم أن الكلمات لن تستطيع ايفاء حق ما يشعر به وسطهن...وبالتأكيد الأمر لم يكن ضربة "حظ" أبدًا
-" آه...لو فقط تعرفين..."

..........

تنظر إليه... يدفع عربة مزدوجة.... وطفلتين بشعر احمر مجعد احداهما تُحيط به فراشة من اللون الأبيض وبفستانٍ وردي وحذاء أبيض تُزينه وردة على جانبيه كانت ناعمة، تُمسك دميتها برقة وكأنها ابنتها تُحدثها بهسٍ... بينما الأخرى بسروال قصير جدا موحد من الجينز الأزرق وأسفله قميص قطني قصير أبيض اللون...ثم حذاء رياضي بنفس اللون شعرها يبدو فوضويا تُحاول مساعدة والدها على دفع العربة تارة وتارة أخرى تتحلق حوله تلاعب الكلب الضخم العجوز، يبدو سعيدا جدا وهو يبادلها كلمات بأخرى في كل مرة تُشير لشيءٍ ما، ... دون أن ينسى أن ينخفض كل مرة لأحد الرضع الموجودين في العربة....
- " لقد وجدت ما تستحق يا رفيق..." همست وهي تقترب منه أكثر....
استغلت تخلف احداهما... وعندما انخفض كالعادة يعيد لهايّة احدى الطفلتين... استغلت الأمر واقتربت من الطفلة
- " مرحبا... " همست...وهي تتحقق من نظرات مصطفى التي مازالت مركزة على ما بداخل العربة..." خذي"
مدت للينا بقطعة نقدية محروقة... نظرات لينا توجهت لأعلى وجهها...تنظر إليها برهبة:
- " هل تؤلمك...؟!" همست الطفلة ببراءة... وهي تشير لجزء ظاهر من وجهها...أحست بوخز الجرح وهي تُمرر عليه أصابعها كأنها تهدئه...قبل أن تنزل شعرها تُغطي بها نصف وجهها:
- " خذي..." اعادت بحدة جعلت لينا ترفع يدها بتلقائية... وتأخذها.
وفي لحظة ارتفاع رأس مصطفى... كانت تتجه نحوه وهي تعيد لف القلنسوة أكثر على وجهها...وتمر من جانبه وهي تُرسل نظرات تحذيرٍ للكلب الذي تراجع يختبئ خلف مُصطفى الذي مازال اهتمامه مُنصبا على طفلته.
- " لينا...تعالي..."
- " حسناً بابي..." أجابت وهي تتسرع الخطوات باتجاهه...
- " هل تعبتِ...أتريدين أن أحملكِ...أم تتمشين مثل لين؟!"
- " احملني..." قالت وهي ترفع يديها باتجاهه
حملها والتفت حيث الباقي من عصابته كما تخبره الحمراء....
- " ما هذا؟!" قال وهو يبعد يدها عن فمها ويسحب قطعة نقدية قديمة ومحروقة من يدها المتوجهة لفمها...
- " المرأة اعطتني اياها..." قالت بطفولية... التفت حوله يبحث عن المرأة التي مرت من جانبه دون أن يهتم فعليا بها... لكنها كانت قد اختفت... وضعها في جيب سرواله دون اهتمام.... وتوجه مع بناته للقيام بالجولة مسائية.

..........

- " لماذا تراقبه؟!" همس الصوت خلفه الرقيق رغم مُحاولات صاحبه تعريضه " ماذا تريد من مصطفى العالمي..." ومع مُحاولته للالتفات كان يُغرز أكثر السكين في ظهره مهددًا " لا تتحرك...او اقسم ان اخرج كليتك من مكانها.... لا تستهن بقدرة من عاش في الشارع لأكثر من عقدين..." ثم استطرد الصوت شارحًا أكثر "حسنا ليس تماما عقدين لكنني ماهرٌ في استعمال السكين"

لم يهتم بتهديداته فقد ولف تهديدات أبشع من أصوات خشنة لرجال أشداء...ابتسم بتفكه والصوت المبحوح الذي يُحاول صاحبه أو بالأحرى صاحبته اخفاء نعومته...بالكاد دغدغ حس الخطر لديه... كان الجسد قصيرا نوعا ما...إلا انه يُوجه السكين الحادة باحترافية باتجاه كليته...
بهدوء التفت نحوه ...ليصدم بضآلة التي تهدده...وقبل أن يفعل أي شيءٍ لإبعاد السكين...كان يُطلق ضحكةً مدوية ...وكأن التي أمامه أطلقت نكتة ما ...سيطر بصعوبة على هستيرية ضحكه دون أن يستطيع السيطرة على اهتزاز جسده.
صغيرة جدا وشاحبة جدا...عيونها باخضرار فريد لم يره من قبل، تلبس معطف رجالي واسع جداً... وتلف قلنسوته على رأسها بإحكام وتحكم اغلاقها على عنقها.... لا يظهر منها إلا عيونها الكبيرة... وشفتيها الوردية المزمومة...لم تهتز حدقتا عينيها وهي تتحداه بعيونها.... اقترب أكثر، دون ان تتزحزح من مكانها والسكين الحاد في يديها باتجاه بطنه... ثم زاد اقترابه حتى انغرز السكين الحاد جدا في قماش قميصه ليخترقه باتجاه جلده.... لم يهتم للجرح الصغير الذي بدأ يتوسع كلما ازداد قربه منها...والدماء القليلة بدأت تظهر على الجرح لتلطخ قميصه.... رغم ضعفها كانت قوية...ويدها لم تتزحزح من مكانها بينما عيونها عليه.
- " أنت لم تجب على سؤالي..." قالت بقوة...تحاول أن تجعل نبرة صوتها ذات البحة أخشن " ما الذي تريده من العقيد.... منذ مدة وأنت تراقبه...من تكون؟!"
ودون أن يهتم بالإجابة على تساؤلاتها...كان يحملها من مؤخرة معطفها الرياضي البالي...ليرفعها بسهولة وهي تصرخ أن يُنزلها، أمسك بيدها التي تحمل السكين وضغط عليها بشدة حتى احست بمفصلها سينقسم لشطرين وستنفصل عن ذراعها...لتئن بخفوت وتترك السكين تسقط على الارض.... وضع رجله عليها وهو مازال يحملها دون ان يهتم للون الأحمر الذي غزى بشرتها.... من اختناقها....
- " لا أحد.... أتسمعين.... لا أحد...يهدد سعيد الخطابي...هل تسمعين يا صغيرة .... لا أحد" ثم تركها تسقط على قفاها...ليسمع صوتها الذي استعاد بحته بعد سعال... يكيله اللعنات بطريقة مقززة لفتاة بضآلتها...اقترب منها لتزحف للوراء بعيداً عنه "احمدي ربكِ أنكِ فتاة...لو كنتِ غير ذلك.... كنت ستزحفين على الأربع بحثا عن أسنانك...."
أكمل ببرود...ثم التفت ينظر للمنزل الضخم... الذي يأوي عدوه وشبيهة مليكة طفولته " ميريام"

ودون أن يودعها...كان يلتفت بعيدًا مارّا بجانب البيت.... تبعته بنظراتها... حتى عرج يمينا واختفى.... لتضحك بانتصار وهي تنسل محفظة نقوده من جيب معطفها... أعادتها... لتنهض تجر رجليها إلى المنزل المقابل لمنزل مصطفى.... كان مهجوراً والباب الخارجي للحديقة كان مفتوحا...لتجعله ملجأها لبعض الوقت...

بعد أن أكلت المتبقي من فتات الغذاء .... أخرجت غنيمتها لليوم.... كانت المحفظة تحتوي على عدة اوراقٍ نقدية...وكروت بنكية...إضافة لبطاقة تعريفه " سعيد الخطابي... سبعة وثلاثون سنة...... " قرأت بياناته بصعوبة شديدة... لتنتقل لعنوانه، يبدو أنه من مدينة أخرى ... تفحصت ملامحه، يبدو مغايرا جدا.... بذلته السوداء الداكنة وربطة العنق الحمراء... مع قميص ناصع البياض...كان حليق الذقن والشعر ويبدو أصغر عمراً.... اعادت البطاقة لمكانها... ثم أكملت تصفح المحفظة.... وجدت صورة صغيرة...مخبأة بإتقان... لامرأة فاتنة جدا... بشعرها الأحمر اللولبي...وابتسامتها المغناجة...عيونها الفيروزية كانت تلمع ببريق السعادة... أعادت كل ما افرغته لمكانه في المحفظة.... ثم اسندت رأسها للوراء فوق العشب...تفرش غطاء باليا لكنه سميك بما يكفي ليؤول بين جسدها وبين برودة الأرض...وضعت مصباحها اليدوي فوق صدرها... الذي وجدته مرميّاً قرب باب المنزل الداخلي...كان كتميمة حظها ومن ذلك اليوم وهو لم يُغادرها.... تنظر للسماء التي تودع الشمس لينطفئ لهيبها في هذا الشهر البارد.... شاردةً.... تُحاول الا تأخذها الذكريات ككل مرة.... إلَى سنوات عرفت فيها معنى دفئ الأسرة.... دفئ لازال يكتنفها كلما عاد عقلها لتلك السنون.... كم كان عمرها؟! أربع سنوات ربما.... أربع سنوات تشبعت بحنان امٍّ وعطف أبٍّ...دفئٌ ما زال يُشعرها أن لولا الظروف كانت ستعيش في كنف اسرةٍ محبة.... الذكرى الوحيدة لوالدتها بشعرٍ كشمس صيفٍ حارقة وهي تهمس لها بحبها وتعانقها دون أن تسمح لرجليها أن تمس الأرض...ووالدها بنظاراته الدائرية الشكل كوجهه بذقنٍ مزدوج.... وابتسامته العريضة الطيبة...يحمل كعكة ميلادٍ...ويغني لها بصوتٍ جهوري يناقض نعومة الألحان والكلمات الصادرة من التسجيل بجانبهم... لقطة فقط من عدة ثواني... تستمد قلبها بالعاطفة والقوة التي تحتاجها لمحاربة بشاعة العالم الذي اتحد مع البرد القارس ...ووحشة هذا البيت الذي اتخذت حديقته ملجأها.... حركت رأسها بعنف...تبعد الذكريات البشعة...وكالعادة اغلقت عيونها تعيد الشريط في ذاكرتها مرات ومرات.... حتى غفت عيونها...رغم البرد الذي لم يحمها منه معطفها ولا البساط الباليين...غفتْ!

بعد ساعات... أحست بشيء لين يمر بجانب بشرة وجهها.... لتفتح عيونها برعب...لكنها استكانت مع مواء القط
- " جاروش...لقد عدت...افتقدتك ايها القط البشع" صرخت بسعادة وهي تمسك به بعنف...وتعصره في حضنها...لتعود لاستلقائها السابق...دون أن تخفف من ضمها له... استكان القط مرحبا بالدفيء.... وكلماتها تصله.... " أين كنت كل هذا الوقت...احسست بالوحدة في غيابك...لكن لا تخشَ علي...هل أنت جائع؟ ...لدي الكثير من النقود...غداً سأشري لك كل ما تحبه...سمك التونة التي تعشق...والحليب.... و...."
-" إذن.... القط سيحصل على وليمة على حسابي" صوته القريب جعلها تشعر بالفزع لتجلس بسرعة... وبارتباك كانت تحمل المصباح...وتشعله.... لتسلطه أمامه حيث تعتقد أن الصوت آت منه...لم تكن تتوقع أن يكون بذلك القرب.... اسقطت المصباح...وعم السكون قليلا...لتعاود رفعه.... ملامحه لانت قليلا.... كانا قريبين جدا...عيونه السوداء تغلفها رموش أكثر قتامة...ولحيته اخفت معظم ملامحه...وشعره الطويل الذي يصل لكتفيه تكفل بالباقي من ملامحه...كان كقرصانٍ هاربٍ من احدى الحكايات كتلك التي كانت تنام عليها في الملجأ لتستيقظ على بللٍ من شدة رعبها... وأول شيءٍ غبي استطاعت النطق به جعله يبتسم أكثر
- " ألا تشعر بالبرد؟!" همست وهي تسلط الضوء على صدره...لتلاحظ وشمًا يزين جانب قلبه...جعل أعماقها تهتز رعبًا....
- " بلى... " همس ببطيء وهو يبعد يدها ليتكئ حيث كانت...وبدون سابق إنذار كان يجذبها " تعالي...لننم فأنا متعب...وجرحك يؤلمني"
وهو يرفعُ معطفًا ثقيلا ليغطيه بها...أحست بنعومته وبالدفيء الذي سرى فجأة في كل جسدها
" كم أنت ضعيف... هل هذا ما تُسميه جرحاً" أجابته باستخفاف
"ششش..." همس يقاطعها وهو يُحيطها بقوة بذراعيه.... كيفما كانت تحيط جاروش...الخائن الذي فر هاربًا، تاركا إياها وحيدة مع المتوحش.... لن تشتري له ما وعدته به...كانت هذه آخر فكرة خطرت لها قبل أن تنام...وشخيره الذي علا جعلها تحس بأمانٍ افتقدته.... طوال السنوات الثانية والعشرين...ذكرها حيث يأخذها الحنين...ذكرها بالبيت!

......

Continue Reading

You'll Also Like

922K 36.9K 118
ملحمه الطوبجي
208K 8.1K 36
رجال آلقوة.. وآلعنف آلغـآلب آلمـنتصـر.. وكذآلك آلعقآب لآ نهم ينقضون على صـيده بــكسـر جـنآحـيهم آي بــضـمـهمـآ آوبــكسـر مـآيصـيدهم كسـرآ آلمـحـطـم آ...
5.2M 153K 104
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣