الفصل السابع عشر

611 11 2
                                    

بعد أربعة أشهر:

بعيدًا في تلك البُقعة المعزولة...المكان الوحيد الذي لم تُدنسه أهواء الروح الشريرة ...!
ذلك المكان الذي يستشعرُ به الدفئ
كان يقِفُ في الشرفة الفرنسية التي تنتهي بدرجاتٍ واسعة مؤديةً للجانب الخلفي للمزرعة حيثُ الإسطبلات...الرياح تتلاعبُ بالستائر البيضاء الخفيفة...وشعره الذي استطال كثيرا... ليضرب جانب عيونه دون أن يحيدها عن الأفق البعيد...حيثُ الصوافي الواسعة بلا حدود...حتى لم يعُد يظهر السياج الحديدي المتين  الذي يفصلُ الملكية عن أخرى...مشهدٌ ما زال يأسرُ روحه...و كأنه يلمحهُ أول مرة رغم انه فتح عيونه عليه منذ صغره...الأحصنة تجري بجماحٍ حتى تختفي عن الأعين ... تعتقد أنها حُرة لكنها مجرد دقائق وتعود بنفس السرعة و الوتيرة ... و كانها تكتشف أنها أبعُدُ عن ذلك...!!

كانت حرِّيتُها واهية والسياج العالي يحُدُّها... كحاله بالضبط...تربى في هذا المكان على أنه ابن عائلة المهداوي رغم انه لا يحملُ اسمهم لكن جزءٌ من دمائهم تجري في عروقه...  لم يكن أبدا حرا في اختياراته...كل شئٍ قام به... كل قراراته...كانت بمُباركة خاله!
حتى اسمه...كان من اختياره!

لكنه كان كذلك في الفترة القصيرة التي قضاها في الشارع...كان حُرًّا وهو معها...لكنه عاد...لأن هناك أمور تستوجبُ تضحيته ...لحلها!

  فهنا ابتدأ كل شئ...و هنا يجب عليه أن ينتهي!!

أغلق عيونه بقوة وهو يتذكر عيونها... التي أصبحت كقطعة زجاجٍ بللها المطر...وخلفها يظهر البحر الأزرق الساكن بريبة!
عيونها تُحدقُ به ... طويلا...وكأنها تجمدت في مكانها
حرك يدهُ يُمسِكُ بكفها... الباردة جدًا...ليبدأ بتمسيدها بقوة بين راحتيه يُحاول بث القليل من الدفئ لها!
وهو يُدخلها لتلك الغُرفة التي استقدمها إليها يوما...لم يكن يعلمُ أنها ستتذكر العُنوان...و تلك المرة التي  أحضرها كان الليل قد أسدل ستاره.

لتهمس و يا ريتها لم تفعل...!!
-" على الأقل..دعني أُودعُك بما يليقُ بالفُراق.."
جسده بدأ بالإهتزاز وهو يتذكرها...لمساتها، غةصه في حناياها.
-" هل اشتقت للمنظر..؟ كنتُ أعلمُ أنني سأجدُك في المزرعة..."
إلتفت نحو خاله... الذي مازال يبدو مديد القامة رغم سنواته التي تعدت الستين...بين أصابعه السيجار الكوبي... يُدخنهُ برقيٍ لم يكن يليقُ به!
-" هناك...!!" أشار خاله...دون ان يلتفت معه عُقاب.. فهو كان يعلم إلى أي بُقعةٍ كان يُشير " علمتُك ركوب الخيل كالرجال.. في السادسة كنت تمتطي الفرس دون سرجٍ...تتمسكُ بعقالها بقوة لم تكن نظرة الرُعبِ تظهر في ملامحك...لأعلم أنك لن تكون بسيطا... لن تكون ككل الرجال" لم يُجبه عُقاب و مازالت عيونه عليه " هل تعلم ؟؟... علمتُ انك ستعود يومًا...فأنت ابني الذي لم ألده "
شخر عُقاب ... وهو يُعاود النظر أمامه، لن ينكر أن سعيد المهداوي لم يكن يتركه يحتاج لأي شئ بعد وفاة جده الذي بالكاد يتذكر ملامحه ...تولى خاله الإعتناء به...لكن ما الثمن؟... براءة مُغتصبة فقط ليبقى اسمه مُخلدا حتى بعد مماته في شخصه هو...ابن اخته الذي تخلت عنهُ والدته كشرط لتتزوج و تبتعد عن كل ما يُذكرها بعائلتها...في قرارة نفسه لا يلومها على الرغبة في الهروب...لكن في نفسِ الوقت "هو" لا يستحق ان يعيش مُشوهاً...مُشوه العواطُف و الأحاسيس...يعيشُ بغضبٍ على كل شئ...إلا هي ! ...يا إلهي كم يشتاقُ إليها...لجنونها، للمستها ... و لقُبُلاتها!!
-"...أعلمُ أنك ناقمٌ علي ... " قاطع خاله أفكاره لتهرُب ذكراها...و كأنه يعلمُ أنه نقيضها...فهي تُمثل كل البراءة...التي يقتُلُها الآخر ." لكننا تصالحنا و قد خسرتني أكبر زبائني بتعاونك مع الشرطة وذراعي اليُمنى منصور كنتَ السبب لقتله...ثم قتلكَ للأصلع الذي يهتم بأعمالي في الجهة الغربية" سكت قليلا ليستطرد ناظرًا باتجاه ابن اخته...و شبيهه رغم عناده و كرهه لذلك "...المُسامح كريم...و أنا كريم"
-" ماذا تُريد سعيد ؟" همس عُقاب... نظر خاله لظهره العريضة المُسترخية عضلاته ليُجيبه:
-" أريدك أن تحتل مكاني..."
-" و إن رفضت..."
-" لا شئ...لكن اكتشفتُ أن هناك نوعٌ من الرجال لا يهتم لكون التي أمامه مُعاقة"
-" أنت لن تجرأ..." التفت باتجاهه صارخا يُمسكُ بتلابيبه، ألم يكتفي بعد من سحقِ المُتبفي من روحه، ألم يكتفي ومنذ أيامٍ انهى بيُسرٍ صفقةً لصالحه " لقد نفذتُ لك أصعبَ عمليةً في تاريخكَ للآن، جعلتُ أنظار الشرطة تتجه لعدوك وأكسبتكَ ملايين الدولارات..." صمتَ فجأة وهو يلمحُ الإبتسامة الباردة لسعيد المهداوي وهو يأخذُ نفسا من سيجاره...دون أن تبتعد عيونهُ  عن عيون ابن اخته... نفث الدخان في وجهه ليُجيبه:
-"  هل تُريدُ أن تُراهن على مدى جُرأتي؟"
ابتعد عنه عُقاب بشئٍ من القرف... يُحاول التماسك...و صراخها الذي وصله تلك الليلة من أربعة أشهر مازال يقُض مضجعه.

جرح وشم الروح! ملاك علي.Where stories live. Discover now