باب البحيرة . ماروسكا (مكتمل...

נכתב על ידי Magharibia

1.4K 13 3

نعيد مع ماروسكا تجربتها الفريدة في إيطاليا..... على شكلِ باب البحيرة....قصة ملتهبة بين ربوع جمال إيطاليا. עוד

كومو
ميلانو
كومو
من توسكانا إلى روما
نابولي
نبيذ نابولي
الحفل
كابري
سيشيليا
غريبين في الليل
الخيانة

أنتويرب

70 0 0
נכתב על ידי Magharibia


دخلت صونيا غرفة والدها فوجدته على سريره، والتلفاز يعرض برنامج مسابقاتٍ سخيفة، كان يولي وجهه نحو النافذة الكبيرة التي كانت تطل على كنيسة مبنية قرب دار المسنين، غير مهتم بمتابعة البرنامج.

"مرحبا أبي."
التفت نحوها مجفلاً، نظر إليها من قدميها حتى أعلى رأسها ... كان عادة ما يتفحصها بنفس النظرة كلما جاءت لزيارته لكن هذه المرة كانت تعابير وجهه تشبه كثيرا تعابير وجهي صديقتيها كريستيل وفيبي عندما وقفتا عند باب خروج المسافرين في المطار .. وقد أصابتهما باستغرابٍ شديد لأنها كانت من بين المسافرين الذين جاؤوا على متن طائرة صقلية، وجعلت أفواههما تتدلى من الصدمة وهي تظهر بفستان صيفي رقيق وكنزة بسيطة وصندل مكشوف وعلى ظهرها تحمل حقيبة ظهر ذكورية.

"لقد انتظرتك طويلاً، بعدما أخبرتني بأنك ستأتين لزيارتي حالما تعودين من إيطاليا."
شعرت بالانزعاج .. ها قد بدأ بلومها: "أعرف ولكنني لم أعد إلاّ قبل يومين من ايطاليا؟"
"كيف؟ الم تقولي بأنها رحلة قصيرة ستدوم ثلاثة أيام فقط!
"حسناً، لقد دامت أكثر من ذلك." قالت ذلك وهي تطبع قبلة على خذه ثم ذهبت وجلست على الكرسي ذو الذراعين قرب النافذة.
عاد يرميها بنفس النظرة المتفحصة قائلا:" تبدين بخير عن آخر مرة رأيتك فيها!
ابتسمت تلقائيا .. كانت تلك ملاحظة كريستيل وفيبي أيضا .. لكنها قطبت ملامحها عندما أردف:"هل أصبح لك حبيب إيطالي."
"أبييي." صاحت بعدم تصديق ..
"إنك تبدين حقا متغيرة .. بشرتك تبدوا نظرة والهالات قد خفت من حول عينيك إنك حتى اكتسبت لونا ذهبيا جميلا .. هل هذا حقا بسبب الباستا والنبيذ فقط؟"
تجاهلت سؤاله الخبيث .. وغيرت الموضوع : " لماذا أنت منعزل في غرفتك ولم تنزل لصالة اللعب لتتسلى مع أصدقائك؟"
انكمشت ملامحه فازدادت تجاعيده بروزاً: "إنني مريض." وأضاف في الحال :"نزلة برد."
تفحصته بنظرة دقيقة ولم تبدو عليه أي إشارة للمرض سوى من بعض التعب والكسل .. فكرت بأنها ولا بد إحدى أمراضه الخيالية .. فمن المعروف أن العجائز كلما تقدموا في السن كلما أصبحت طباعهم صعبة وأكثر تخيلا وشعوراً لأمراض لا يعانون منها.
"'هلا أغلقت التلفاز؟ إن تلك الممرضة البلهاء تفتحه وترحل ولقد سئمت من إخبارها أنني جندي حارب في الحرب العالمية الثانية ورجل عاش مع الموت لن يضيع  وقته في مشاهدة هاته البرامج التافهة .. يا إلهي إن الحياة مع جيل كهذا لهو عار."
نهضت وأغلقت التلفاز وحملت جهاز التحكم عن بعد من على الطاولة البعيدة حيث كانت تتركه الممرضة دائما حتى لا يقوم العجوز بإغلاق التلفاز أو بما هو أسوء رفع صوته لأقصى درجة. أعطت الجهاز لوالدها قائلة: "حسنا خبئه لها ولن تستطيع فتحه مجددا."

ولكنها عندما ودعت والدها وبينما هي تغلق باب غرفته خلفها سمعته يفتح التلفاز من جديد .. فابتسمت بسخرية وهي تكمل طريقها للخارج ...
في سيارتها جلست وبقيت تفكر في حديثه عن  تغيرها .. نظرت للمرآة الامامية وتفحصت نفسها .. هل تغيرت؟ شكليا أجل .. وداخليا؟ هل كريستيل وفيبي محقتان؟ إنهما تجزمان بأن شيئا فيها قد تغير منذ أن عادت من ايطاليا .. لا تنفكان تصرّحان لها عن التماع عينيها .. إنهما تجزمان أنها قد بدأت تقع في حب فابيو لكنها تعاند. لقد سئمت من محاولة شرح لهما أنها فقط بدأت تتعود على غياب بيتر من حياتها .. أنها أصبحت أقل حزنا وتعاسة .. وأنها ستفوق لنفسها وستسعى لإكمال حياتها، لكنهما لا تصدقانها.
إن كان هناك من تغيير فيها فهو بالتأكيد ليس بسبب فابيو .. بل بسبب جوليانو .. هل عليها فقط أن تعترف لهما بالحقيقة .. أنها هربت برفقة شاب صقلي يبدو أصغر سنا منها .. كم يصغرها؟ ثلاث سنوات؟! تتمنى أن يكون أقل من ذلك وليس أكثر؟ لكن حتى لو كان كيف تخبرهم أنه منعزل عن البشر يملك يختا يبحر به وحيدا في المتوسطي .. كثير الشرب، صاحب مشاعر رهيفة جدا، كلامه غريب، وعشقه للانتحاريين مخيف، وهو على وشك الزواج براهبة وهي بالمناسبة تكون أخت فابيو؟ لن يصدقها أحدٌ .. إنها نفسها لا تصدق رحلة اليخت تلك .. أيامها الاخيرة في ايطاليا كانت جنونا اشبه للحلم منه للواقع  .. وهذا ما جعلها لأول مرة تكذب وتخفي شيئا عن صديقتيها المقربتين فقد أخبرتهما أنها رافقت فابيو إلى صقلية ومن هناك ودعته عائدة لبلدها بعد أن قررت الا توافق على عرض العمل.
زفرت الهواء بحسرة وهي ترخي جسدها على الكرسي، أغمضت عينيها ورأسها للخلف .. تذكرت آخر نظرات تبادلاها في مطار باليرمو الذي أصر على مرافقتها إليه وعند باب دخول المسافرين توقفا للحديث بعد أن تملكهما صمت غريب وكأن الكلام انتهى بينهما في تلك الليلة الغريبة على خليج كابري.
"أنا متأكد من أنك ستنجحين في تحقيق أحلامك."
مدت يدها في حركة جريئة بالنسبة لشخصية منعزلة مثله ووضعتها على خده .. ضيق عينيه وهو ينظر في عينيها ولكنه لم يبعد يدها .. ربتت على خده وهي تبتسم له باطمئنان وقالت: " أنت جميل جوليانو، وشخص جميل جدا لا يمكنه أن يكون نسخة مشوهة .. أنا آسفة، ولكن مهما كنت تحب وتُقدس والدك ومهما كنت لا أعرفه إلاّ أنني أراك شخصية لا يمكن نسخها .. أنت فريد من نوعك وأتمنى أن ترى نفسك على حقيقتها كما أراها أنا."
"لا تقلقي علي .. أنا لن أنتحر .. هل تظنين أنه من السهل امتلاك شجاعة قتل نفسك؟ أنا لا أملكها بكل تأكيد."
ضحكت: " لم أسمع يومأ أحداً يرى في الانتحار شجاعة!! إذن عدني أنك ستبقى جباناً"
"لقد حان موعد ذهابك"
"هل أستطيع منحك عناق وداع؟"
بقي صامتا لبرهة كأنه نسي كيف يعانق .. لكنه في الاخير أومأ برأسه .. فرفعت نفسها بسرعة على أطراف أصابعها وضمت ذراعيها حوله .. أغمضت عينيها لا إراديا وقد لامس أنفها أسفل رقبته الخشنة .. كانت بشرته دافئة وتنبعث منها رائحة جسده الرجولية رائحة تحاول أن تستذكرها كل ليلة قبل أن تنام، لا تريد نسيانها، بحثت عنها في جميع محلات العطور الكبرى ولا وجود لرائحة يمتزج فيها عبير البحر والليمون مع رائحة السجائر الكئيبة.
تمنت لو كان باستطاعتها تجميد لحظة العناق تلك وأخدها معها إلى الوطن كتذكار من إيطاليا لكننا لا يمكننا تمني المستحيل.

أدارت محرك سيارتها وتوجهت لمقابلة عمل في إحدى شركات ميناء المدينة والتي كان بقي على موعدها أربعون دقيقة. عندما وصلت شعرت بالتوتر والقلق  وكأنها عادت لسنوات إلى الوراء بعد تخرجها مباشرة من الجامعة وعليها البحث عن عمل حقيقي لأول مرة.
  استقبلتها شابة أصغر منها سنا كانت مسؤولة عن قسم الموظفين في مكتب منفرد  ..حينها استعادت صونيا هدوئها وثقتها بنفسها .. فهي كانت ولا بد أنها قد امضت في ميدان العمل أكثر بكثير من  هذه الفتاة .. تحدثت صونيا عن دراستها وسنواتها الطويلة في العمل بجد في شركة يانسنس وترقيها ووصولها الى مرتبة مديرة قسم الحسابات لكنها تفاجأت بسؤال مزعج من مسؤولة قسم التوظيف: " لما استقلت من عملك السابق وقد كنت ناجحة فيه؟"
"سبب شخصي."
رفعت الشابة حاجبيها باستغراب مما زاد من غيظ صونيا لكنها كتمته عندما انتقلت المرأة للحديث عن شركتهم والعمل فيها حتى دعت صونيا لمرافقتها للقيام بجولة في المكان  وأرتها المكتب الذي يُرجّح أنها ستعمل فيه.
" الاحتمال الاكبر بأن الاختيار سيقع عليك من أجل هذه الوظيفة ." أردفت الشابة بنبرة مشجعة
لكن صونيا وقفت مشدوهة أمام المكتب الصغير الذي كان وسط مكاتب أخرى تعجّ بموظفين نزقين تكدسوا جميعا في وسط قاعة كبيرة لشركة .. كان عليها رفع صوتها قليلا لتسألها وسط ضجيج أحاديثهم : "الا يمكن لمسؤول قسم الحسابات أن يحصل على مكتب اكثر خصوصية؟"
ظهر الأسف على ملامح الشابة وقد حاولت بذل جهدٍ في تحويل المشكلة الى أمر إيجابي: " نعاني من خصاص في المكاتب المنفردة.. لكنك هنا ستكونين محاطة بزملائك المحاسبين ولن تضطري للنهوض إليهم في كل مرة تحتاجين لمناقشة العمل معهم."
ابتسمت صونيا بزيف وهي تحدثها في نفسها( ولماذا لا تأتين للعمل انت أيضا بقرب زملائك وسط هذه الفوضى وتتركين مكتبك المريح ذاك.)
أوصلت مسؤولة قسم الموظفين صونيا الى المصعد وهناك اعلمتها تلك الاخيرة بوقاحة تعمدت إظهارها: " لا داعي لكي تتصلي بي إن قررتم تشغيلي فأنا لن أقبل لأن ظروف العمل هنا لا تلائمني."
تركت الشابة فاغرة فاهها وودعتها ببرود ثم رحلت وهي تتمتم لنفسها بغضب غير مصدقة إلى ما آلت إليه أحوالها .. وعادت تشعر بكره كبير لبيتر، بسببه انهار كل ما بنته لسنوات طويلة من أجل حياتها العملية وها هي الان تُستجوب كخريجة حديثة وتُعرض عليها ظروف عمل مهينة بالنسبة للمكانة التي كانت تحتلها سابقا.
أرادت بشدة ان تلتقي بكريستيل أو فيبي لكنهما كانتا في عملهما، لذلك توجهت باكرا الى بيتها .. وقد كان عبارة عن شقة صغيرة استأجرتها مؤقتاً .. حال ان دخلتها حتى شعرت بالندم لعودتها إليها .. كان عليها ان تظل في الخارج حتى المساء فتدخل وتستحم وتنام مباشرة .. فمنظر الشقة الضيقة والبسيطة يصيبها بالإحباط .. يعيد تذكيرها كم أن حياتها انقلبت رأسا على عقب .. ابتسمت ساخرة من نفسها، كانت تظن شقة بيتر المطلة على نهر المدينة هي بيتها الزوجي.
توجهت للمطبخ .. كان لا بد من إحضار وجبة غذاء رغم أنها لم تكن تشعر بالجوع .. واخرجت علب غذائية جاهزة لتسخين .. كانت عادات أكلها هي الاخرى  قد تغيرت بسبب بيتر .. لابد ان صحتها ستتدهور من أكل المعلبات الجاهزة ولكن ما عساها تفعل؟  طيلة سنوات تعودت على عدم الطبخ .. فقد كانت تلك هوايته وهي كانت تستمتع فقط بتذوق أكلاته المميزة حتى أصبحت لا تجيد طبخ شيء.
جلست على طاولة المطبخ تبتلع الطعام بلا شعور وفكرها بعيد .. لقد بدأ فكرها مؤخرا يسافر كثيرا الى إيطاليا .. الى الشاطئ السري في نابولي والكهف الازرق ومرفأ كابري وجزيرة صقلية... هل الجو مازال صحوا هناك؟ هل فابيو ما يزال غاضبا منها أم نسيها؟ هل الراهبة قد تقبلت زواجها من جوليانو؟ و ما الذي قد يكون يفعله الآن؟ هل ما يزال في صقلية أم هو الآن يصطاد السمك في عرض البحر أم انه عاد الى نابولي؟ بقيت تحدق اثناء شرودها في الرزنامة المعلقة في المطبخ .. متى الزفاف؟ لما لم أسألهم عن موعده؟ ثم عاد عقلها يوبخها بقسوة: ولما تشغلين بالك بزفاف جوليانو والراهبة؟ فيما عساه يخصك أمر كهذا؟
.............

"جوليانو يستحق ما سيحصل له." كان ذلك العذر الذي تشبثت به إليونورا بأسنانها حتى تقنع نفسها أن ما تفعله ليس خطأ كبيراً .. دست جهاز الناقل ودفتر المذكرات في ظرف كبير وأغلقته جيدا وكتبت عليه عنوان مكتب ليوناردو، ثم أخفته في درج خزانتها وعندما أتى مصمم فستان زفافها برفقة الشابة التي تساعده .. حيث صار الوقت لكي تُجرب التصميم الاول للفستان. طلبت من الرجل الخروج من غرفتها وبقاء الشابة لمساعدتها بارتدائه .. لكن حال أن اغلق الباب حتى ذهبت وأخرجت من علبة مجوهراتها سوار فرنسي  مرصع بالماس الصافي وخاطبتها بنبرة لا مبالاة " إنني أتحير بشأن ارتدائه مع الفستان؟"
"ما أجمله!!" ولم تمنح اليونورا الفتاة المزيد من الوقت لإيجاد الكلمة المناسبة لوصف السوار فقد قاطعتها قائلة: "جربيه أنت."
نظرت الفتاة بعدم فهم وهي ترى اليونورا تخرج السوار من العلبة ومدته لها بكل جدية فأمسكته المسكينة  وتصلبت أصابعها عليه.
" ارتديه أريد رؤيته على معصم شخص غيري."
ارتدته الشابة وبدأت تديره في معصمها بحرص وهي غير مصدقة .. فبغير انها كانت ترتدي تحفة لعلامة فرنسية راقية لقد كانت أيضاً تحمل في معصمها ثروة بالنسبة لها .. وعندما تأكدت اليونورا من ابتلاعها لطعم أردفت:" يمكنك أخذه."
رفعت الشابة عينيها بذهول .. فأكدت لها اليونورا بصلابة:" خوديه لقاء خدمة بسيطة جدا" وذهبت لإخراج الظرف من تحت ثيابها.

بعد ساعتين اتصل المصمم بفابيو وطلب لقاءً خاصاً معه في أقرب وقت وعندما استقبله فابيو في مكتبه بمصنع النبيذ .. أعطاه المصمم الظرف والسوار الماسي مخبرا إياه بكل تفاصيل الحوار الذي دار بين أخته ومساعدته.
وعندما رحل المصمم فتح فابيو الظرف الذي كان موجها لنائب نابولي ليوناردو فومتشي، وجد فيه جهاز ناقل صغير ودفتر غلافه مبهرج بزينة وردية .. نظر في أمر الرقاقة أولا ثم شغلها فوراً على حاسوب مكتبه فإذا به شريط مصور .. ضيق عينيه فهو سبق ورأى هذا الشريط لكنه لم يكن يعلم أنه بحوزة اخته أيضا، لا بد من انها أخذته من تلك الصغيرة بعد موتها. شعر بالغضب من نفسه لأنه أهمل هذه النقطة .. لكن غضبه لم يكن شيئا مقارنة بما شعر به وهو يفتح الدفتر الذي تبين أنه مذكرات تعود للفتاة آنابيلا .. في البداية حاول قراءة الصفحات الاولى لكنها كانت مملة وليست اكثر من ثرثرة مراهقة حول حياتها في روما .. بحث بين الصفحات حتى وجد كتابات وصفت فيها آنابيلا حياتها بالتفصيل الدقيق في الدير وصداقتها بإليونورا وحبيبها جوليانو. بحث فاببو بسرعة عن آخر صفحة كتبتها وكما توقع وجد فيها رسالة انتحار وجهتها لأخيها تخبره بكل ما حدث.
شعر بالسخط على أخته ولأول مرة أحس بالكره اتجاهها .. لماذا تقوم بكل هذا؟ هل فقدت عقلها لكي ترسل هذا الدفتر الى ليوناردو؟!! ستفتح باب الجحيم عليهم جميعا.
كان دوما معجباً بشخصيتها القوية، ولهذا لم يتردد أبداً عندما كلفها بمهمة حساسة كتلك ولم يظن يوما بأن موت تلك الفتاة سيأثر بها لهذه الدرجة التي تنسى فيها ولائها لعائلتها.
احتسى كأس نبيذ وهو يتأمل في المزارع أمامه من الجدار الزجاجي لمكتبه .. أراد أن يُهدأ من غضبه ويفكر بروية .. في الاخير قرر الا يخبر اليونورا شيئا ولن يوبخها بكل تأكيد. دعها تخطط ما تظنه تخطيطا ناجحا وهو سيستمر في خطته .. لا بل إليونورا وآنابيلا أعطتاهُ فرصة من ذهب لإضعاف آل سيسليانو ولكن فقط عندما يحين الوقت.

..........

وقف ليوناردو ويديه متشابكين خلف سترته التي كانت تتطاير بفعل الرياح التي هبت على مدرج مطار نابولي بقوة .. أصر كما في كل مرة على استقبال صديقه وزميله بنفسه .. كان صديقه قادم من بلجيكا .. رجل دولة ينسق العمل على مهمة سرية بين الاجهزة الامنية لدول البحر الابيض المتوسط حيث نشطت مؤخرا الجريمة المنظمة.
ضغط ليوناردو أصابعه في كفه بقسوة غير شاعر بالألم .. لقد كان حلم والده أن يقضي على الكابوس الاول للإيطاليين وخصوصا الجنوبيين المساكن .. القضاء على الجريمة المنظمة لكن الجريمة هي من قضت عليه وهو الآن لا يريد تحقيق حلم والده بل تحقيق العدالة: الانتقام من قتلة والده وأمه وأخته واحدا تلوى الآخر، وقد أصبحت اللائحة طويلة جدا.
بشفتين مشدودتين رسم ابتسامة لم تخفف أبدا من قسوة ملامحه وهو يرى صديقه يتقدم نحوه .. هو الآخر تتطاير سترته الكحلية من حوله ومازال يحافظ على مظهره القاسي ولحيته العربية السوداء .. تصافحا ثم تعانقا .. رفع ليوناردو صوته عاليا حتى يسمعه حمزة وسط ضجيج الطائرات:
"كيف كانت الرحلة؟"
"قصيرة لكن الأخبار معي طويلة."
خرجا من المطار ودلفا إلى المقاعد الخلفية لسيارة سوداء  كانت في انتظارهما وخلفها سيارة شرطة سرية لحمايتهما .. في السيارة سأله ليوناردو: "هل عرفت شيئا عن المرأة البلجيكية؟"
"صونيا! بالطبع لقد عرفتها من الوهلة الأولى، حتى إني لم أصدق أنها هي من رأيتَها برفقة فابيو في بيته إلا عندما تأكدت من تحركاتها الاخيرة، لقد كانت قبل فترة قصيرة في إيطاليا .. سجل رحلاتها فيه رحلة ذهاب إلى ميلانو ورحلة عودة من صقلية."
"صقلية؟!!" تساءل ليوناردو باستغراب ثم عاد وسأله: "هل تظنها قد رافقته لبيت آل سسيسليانو؟"
"وارد جداً .. لكنني لا أظن بأن صونيا تعرف حقيقة أولئك الناس."
"لا تنسى بأنه رجل فاحش الثراء .. ستغريها طريقة حياته."
"لا أظن، بدليل أنها الآن عادت لحياتها في بلجيكا.. أظنها كانت علاقة عابرة."
"كان يبدوا على فابيو أنه مهتم بشدة بها .. فابيو لا يترك ببساطة شيئا يريده .. ثم قول من هي؟ تعرفها شخصيا؟"
"ليس بالضبط .. هي تكون الحبيبة السابقة لزوج أخت..."
"زوج أخت من؟" سأله فابيو بارتياب وهو يرى التردد على وجه حمزة .. رأى ذاك الاخير الاصرار في عيني ليوناردو ثم رمق السائق بنظرة انزعاج قبل أن يعود ويهمس لصديقه بصوت لا يمكن أن يسمعه غيره: "زوج أخت زوجتي."
"تزوجت؟!" همس ليوناردو غير مصدق
"زواج لا أحد يعلم به بعد."
انقلب مزاج ليوناردو الذي كان جيدا وصارح صديقه بقلقه:" انتبه حمزة .. الرجال أمثالنا غير صالحين للحياة الطبيعية .. نحن لا نعرف ممن سنستهدف اليوم أو غدا. حياتنا في شكوك وخداع وخطر دائم."
"أنا أعرف زوجتي جيداً .. هي بكل تأكيد ليست إليونورا…
أغلق حمزة فمه قبل أن يكمل اسمها وهو يرمي السائق مرة ثانية بنظرة حذرة .. كان يعرف جيدا أن لا أحد يجب أن يعلم أن ليوناردو خُدع من طرف حبيبته نورا التي اتضح أنها كانت إليونورا دي فالياني أخت الرجل الذي يسعى خلفه منذ سنوات .. ليونادرو يعتبر ذلك عارا عليه وبعيدا عن ذلك كان يمكن للموضوع أن يسبب له أزمة في عمله .. ربما تُزعزع الثقة به. تأمل حمزة الملامح الجانبية لوجه صديقه الجامد الذي ركز أنظاره أمامه على الطريق بوجوم .. لقد آذاه بكلماته .. لكن الحقيقة حقيقة .. مازال لا يصدق كيف لرجل كثير الشكوك والحذر، قاسٍ ومتفانٍ في عمله أن يسقط في فخ تلك الفتاة. شعر حمزة فجأة بالشفقة عليه .. لم يكن ليتجرأ لقول ذلك له طبعا .. لكنه يعلم بأنه ما يزال يعاني .. حتى ولو لم يخبره بأنه يلوم نفسه على موت أخته .. فأكبر ضربة تلقاها صديقه في حياته ليست أنه أحب أخت فابيو دون أن يعلم .. بل أنها كانت طوال ذلك الوقت على مقربة من أخته حتى قتلتها أو تسببت في قتلها .. ما الفرق؟ كلاهما يعلمان بأن تواجد اليونورا في الدير مع آنابيلا لم يكن صدفة .. لكن ما من دليل .. قانونيا الفتاة تم إثبات أنها رمت نفسها من أعلى الجسر.
"العملية الاخيرة في فرنسا كانت ناجحة .. لابد أن الاخبار السيئة قد وصلت فابيو."
"أنا أريد رأس الهرم حمزة." قال ذلك ليوناردو من بين أسنانه.
ربت حمزة على ركبته وهو يقول بنبرة مطمئنة وواعدة في آن معاً:" سنصل إليه يا صديقي لكن أولا علينا تسلق الهرم من أسفله."

...
أوقف سيارته بقرب الجسر وترجل منها .. لا أحد كان هناك .. من الحماس أتى باكرا عن الموعد .. وقف فوق الجسر ونظر ناحية الطريق الطويل المؤدي للهضبة حيث بني فوقها دير منعزل بجانب كنيسة صغيرة .. لم تكن تظهر على الطريق فأمضى وقتا طويلا يراقبه لعلها تظهر فجأة، حتى تعبت عينيه من نفس المشهد وتيبس جسده من تلك الوقفة فاستدار وأسند ذارعيه على حافة الجسر وتأمل جريان النهر الكبير تحته .. كان ذلك الجسر قد أصبح مكان التقائهما وكان من اختيارها .. نظر الى المياه العميقة وجزء كبير من حافة الجسر كان قد انهار ويحتاج لترميم تتغاضى عنه البلدية لانعزال المكان، لكنه كان يشعر بالخوف عليها .. عندما تأتي سيخبرها أن تكون حذرة عند انتظارها له وحيدة هنا .. فكرة فقدانها أصابته بالجنون .. لم يعد يعرف منذ متى تغلغلت تلك الفتاة في تفكيره وقلبه.
سمع صوت أقدام تركض فوق الحصى فاستدار إليها، هتفت بفرح عارم:" ليو"
كانت الوحيدة التي تجرأ على مناداته بذلك الاسم، في الحقيقة كان قد وقع في غرامها في اليوم الذي نادته في الدير باسم 'ليو' عندما بدأت زياراته فجأة تتكرر لدير بحجة الاطمئنان على أخته.
أسرع إليها وضمها بين ذراعيه بقوة حتى فقد الشعور بنفسه وارتفعت قدميها عن الأرض حاملا إيّاها.
" بهذه الطريقة تعبر لي عن اشتياقك وحبك لي."
أنزلها على الأرض .. ظهرت ابتسامة اعتذار مرتبكة على شفاهه .. كان يعلم أنها كجميع النساء تحب أن يمطرها حبيبها بكلمات العشق والوله ولكنه لم يكن يُجيد الحديث وإظهار العاطفة بواسطة الكلمات .. كان يخجل ويرتبك وينزعج من الحديث عن ما في قلبه، هكذا هو ولا يستطيع تغيير نفسه.

استلقى بجانبها فوق الارض العارية ونظر للشجرة العالية التي كانت الرياح تحرك أغصانها فوقهما وهو يحاول تهدئة أنفاسه. ابتسم رغما عنه، حتى انتفض عندما دست يدها في شعره .. قهقهت ضاحكة وهي تجذب وريقة من بين خصلات شعره .. قالت ضاحكة:" احرص على أن تنفض شعرك قبل عودتك."
"لماذا نفعل هذا هنا؟"
"ماذا؟" لم تفهم سؤاله فكرر:" لماذا لا نفعل ذلك مثل الناس العاديين؟ لم أتخيل نفسي يوما أن أقوم به في البرية نفترش الأرض والأشجار تسقط أوراقها فوقنا بانزعاج.. تخيلي لو رآني أحدهم؟ لن يكون ذلك لائقاً بي ولا بك.. سمعتي مهمة لعملي وأنت أيضا تعملين في دير لراهبات."
"هنا بالذات لن يرانا أحد." حاولت إقناعه ولكن هيهات .. كان يبدوا عليه أنه بدأ يستعيد السيطرة على نفسه .. رغم أنه في الآونة الأخيرة لم يعد يستطيع رفض طلب لها. حاولت إقناعه مجدداً:" لأنني أعمل في الدير لا أستطيع الذهاب معك الى فندق القرية .. الناس هناك ثرثارين ويعرفونني جيداً، سيرونني معك ويخبرون الأم بهذا. سأطرد من عملي ليوناردو."
التفت اليها بكامل جسده عندما استلقى على جنبه وأمسك بيدها وضمها الى صدره :"رافقيني الى نابولي .. لم أعد أطيق الابتعاد عنك .. دعي هذا العمل البئيس في الدير وتعالي معي لكي نقيم معا في شقتي .. نرى بعضنا كل يوم وليس كل عطلة أسبوع، نأكل معا وننام ونستيقظ معا ونمارس الحب على سريرنا وليس تحت هذه الشجرة كزوج من المراهقين الحمقى..."
ظهر الخوف في عينيها وسحبت يدها تلقائيا من يده. في ذلك اليوم تشاجرا عند تلك الشجرة فأوصلها بالسيارة الى الجسر وهناك تركها ورحل للقرية بعدما رفضت بشدة عرضه متعللة بأنها لا تستطيع ترك عملها في الدير .. كان غاضبا جدا منها لأنه لم يكن يفهم سبب تشبثها بذلك الدير .. لم يكن يعرف المسكين أنها كانت تخاف الظهور معه أمام الناس ومرافقته للأماكن العامة بسبب إمكانية انكشاف هويتها الحقيقية .. وبالطبع لم تكن تستطيع الذهاب معه الى نابولي .. لأنها من آل فالياني.

عاد ليوناردو من ذكريات الماضي وهو لا يسامح نفسه أنه كان أضحوكة تلك الفتاة .. هو حضرة نائب لمدينة ضخمة كنابولي كان دمية في يد فتاة لهو مجرمة جعلته مجنونا بها .. ينتظرها كفتى مراهق ساذج لساعات على الجسر الذي قتلت فيه أخته.. حتى أنه كان يسافر كل نهاية أسبوع الى توسكانا لا من أجل رؤية أخته الوحيدة بل من اجل مقابلة معلمتها التي كانت لا تظهر معه أمام الناس .. لم تظهر امامه يوما هويتها الشخصية .. جعلته يستحم معها في النهر عاريا كالمراهقين التافهين ويمارس الحب معها في العراء كزوج من القنافذ .. حتى أنه دعاها لمرافقته للعيش في نابولي .. ما أغباه...
شعر بشيء يحرق عينيه .. ذلك جعل غضبه يتضاعف وحتى يطرد ذاك الشيء من عينيه الذي يأبى أن يذكر اسمه، ولا شعوريا قامت أصابعه بكسر الكأس الذي كان في يده .. انفجر الزجاج أمامه وتطايرت قطرات الويسكي على وجهه وبدلته الانيقة. تراجعت الدموع أمام جبروته .. لكن في مكانه نزل الدم دافئاً من يده، من المكان الذي علقت فيه شذرات الزجاج الحادة.
.......

ذات مساء اجتمعت صونيا بفيبي وكريستيل بعد انتهاء دوامهما في حانة صغيرة وسط المدينة القديمة .. وكانت صونيا بعد أيام من العزلة ومقابلات العمل الفاشلة قد أصبحت ثرثارة أو ربما بسبب أنها كانت تحاول الهروب من التشويش الذي أصاب افكارها منذ عودتها من صقلية. حاولت كريستيل إقناعها أن تبدأ من الصفر وتقبل بإحدى تلك الوظائف التي تعرض عليها لكنها أبت بشدة .. معلّلةً أنها لن تعود لتصبح موظفة بسيطة في مكتب مشترك براتب شهري صغير بعد سنوات من العمل الشاق.
انسحبت فيبي وكريستيل من الحانة بعد ساعة زمنية .. وكانت الاعذار كثيرة كما العادة: الزوج يتصل ويريد ان يخرج لسهر مع أصدقائه، والأطفال يجب أن يناموا باكرا، يجب تجهيز سندويشات المدرسة، العمل على الحاسوب لم يكتمل، الخ....
في الأخير بقيت صونيا وحيدة تتجول في الأزقة العتيقة فوق الأرصفة ذو الحجارة الملساء .. بدأ رذاذ مطر ينزل على المدينة، فرفعت ياقة معطفها وواصلت المشي لا تدري أين قرأت يوما أن البرد والأمطار والعزلة المطبقة، كلها تقوي شهوة المشي في المدن التي تشعل أنوارها المتأخرة. وهكذا هي ظلت تمشي بخطوات بطيئة في الشوارع بين الحانات العتيقة والمطاعم الصغيرة ومحلات الشكولاتة المنتشرة في كل مكان، لا تعرف عما تبحث حتى وصلت الى الساحة حيث الكاتدرائية، ذهبت وجلست على مقعد حيث كان يقف بمحاذاتها عمود نور جميل يعكس نوره الناعم عليها وعلى المقعد وتظهر من خلال نوره حبات المطر الناعمة. رفعت رأسها ونظرت لبوابة الكاتدرائية الضخمة .. في إحدى زواياها كان هناك صليب كبير خشبي بقيت تحدق به لوقت طويل.
في طريقها للبيت مرت على محل بقالة ليلي اشترت منه زجاجة كحول وذهبت لشقتها. هناك وضعت صحنا صغيرا من الزيتون المخلل والجوز المالح بجانب الزجاجة، وظلت تشرب وهي تسمع لأغاني فرانك سيناترا حتى أنها بدأت تغني معه وهي تتذكر غنائها في اليخت ووجه جوليانو الأسمر وعيناه المغمضتان وشفاهه المنفرجة، كأنه يبتسم أثناء سماعه لترنيمة سلام ووصفه لصوتها بالملائكي .. لا أحد أخبرها من قبل أن عليها أن لا تكف عن الغناء لأن الحياة بحاجة لصوتها إلا هو. بدأت بالبكاء ولكنها استمرت في الغناء حتى تحول بكائها لنحيب فتوقفت وبدأت تبكي بحرية .. وضمت الكأس لخدها واليد الاخرى كانت تغطي نصف وجهها وتوسلت من بين نحيبها: " إلهي امنحني القوة .. امنحني السعادة .. لماذا علي أن أكون وحيدة ؟ لماذا لا تسهل الحياة عليّ؟ أعطني القليل من السعادة فإني بحاجة شديدة إليها .. أشعر أنني سأموت من تعاستي.. أنا .. أنا تعيسة جدا يا إلهي." وكانت تلك من المرات النادرة التي صلت فيها ولا تتذكر آخر مرة طلبت فيها شيئا من الله ونامت على الاريكة سكرانة من الكحول والتعاسة والحب. حلمت حلما جميلا، غريبا .. كانت تعيش في مدينة صاخبة تطل على البحر تعمل في مكتب أنيق وتعود لبيت سقفه قرميدي أحمر ويتجول في حديقته كلب شعره هو الآخر أحمر لامع بينما هي ترتدي فساتين ربيعية وتُقبّل رجلا طويلا .. لكنها استيقظت من الحلم والعرق يتفصد من جبينها، تذكرت جيدا وجه الرجل في الحلم لم يكن وجه بيتر ولا فابيو .. كان وجه جوليانو...

في اليوم التالي ذهبت لمقابلة عمل جديدة وعندما دخلت الشركة طلبت منها موظفة الاستقبال أن تنتظر دورها .. استدارت خلفها فرأت أكثر من خمس شبان ينتظرون على الارائك الجلدية وفي أيديهم أوراقهم الشخصية وسيرهم الذاتية. عادت تنظر الى الموظفة فإذا بها تجدها قد انصرفت لعملها خلف الحاسوب. خرجت صونيا من المكان من دون أن تلتفت مرة أخرى خلفها.
ذهبت الى البيت وأخرجت حقيبة سفرها وبدأت بجمع ثياب مناسبة لربيع صقلية..

המשך קריאה

You'll Also Like

93.8K 5.2K 14
مًنِ قُآلَ أنِهّآ لَيَسِتٌ بًآلَأمًآکْنِ کْمً آشُتٌآقُ لذالك المكان الذي ضم ذكريات لن تعود
919K 18.5K 56
أسرتني عَينيها العسليتين مُنذ اللقاء الأول ، لِقاء ليس في الحُسبان ! وشخصيتها ليست كأي شخصية قُوتها ، حَنانُها ، حُزنَها ، ضَعفُها ، بُكَاءُها ، ضِح...
524K 23.6K 35
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
263K 9.4K 40
النساء لا مكان لهُنَّ في حياته، عالمه ينصب على أبناء شقيقه وتوسيع تجارته في أنحاء البلاد. هو "عزيز الزهار" الرَجُل الذي أوشك على إتمام عامه الأربعين...