(29)
لعلّ السيّدة (يون) قد سكبت كُلّ ما تبقى لها من طاقةٍ بي بالفعل، ففي ذات اليوم الذي زرتها فيه دخلت في غيبوبة، ومن ثُمّ ماتت بعدها بأيّامٍ معدودة. أذاع البروفيسور (يون) الخبر بصوتٍ مُنخفضٍ هادِئ، وليس كثيرٌ من الناس بمقدورهم أن يُعلنوا خبر موت أحد المُقرّبين إلى قلوبهم كما فعل.. أعني لا أحد سوى من هم مثلي، الذين عُطّلت عقولهم، أو أولئك الذين قد شيّعوهم بقلوبهم بالفعل، وقد كان البروفيسور (يون) الأخير.
لم أكن أملك أدنى فكرة عمّا دفعني للذهاب لجنازتها، لم يكن عليّ ذلك، ولكنّي ذهبت. رُبّما لأنّها احتضنتني بكُلّ ما أوتيت من قوّةٍ في ذلك اليوم. كانت جنازة السيّدة (يون) شديدة الاختلاف عن جنازة جدّتي، فقد كانت الأخيرة جنازةً عموميّةً مُشتركة تذكاريّة، وكنتُ وحدي أقف أمام صورتها. أمّا جنازة السيّدة (يون) فقد ذكّرتني بحفلات لمّ الشمل، حيث كان الضيوف يرتدون بدلات أنيقة، وإن كُنت سأصف مُسمّياتهم الوظيفيّة ومُحادثاتهم كنتُ لأقول أنّها "رفيعة المُستوى". سمعتهم يدعون بعضهم ببروفيسور، ومُدير، وطبيب، ورئيس مرّاتٍ كثيرة.
كانت السيّدة (يون) في الصورة تبدو مُختلفةً تمام الاختلاف، كانت شفتاها حمراوان، وشعرها في أبهى صورة، وخدّاها مُتورّدان، وعيناها تُضاهيان في بريقهما بريق الشموع، كانت تبدو مُفعمةً بالشباب، ولا بُدّ أنّ الصورة قد التُقطت حين كانت في ثلاثيناتها.. ولكن لمَ قد يستخدمون هذه الصورة؟
قال لي البروفيسور (يون) وكأنّه قد لاحظ سؤالي المُتردّد:
- "لقد التُقطت هذه الصورة قبل أن نفقد ابننا، ولم أستطع أن أجد صورةً كانت تبتسم فيها هكذا بعد الحادثة، إنّها هي من أرادت هذا."
أشعلتُ البخور وانحنيت أمام مذبح الجنازة. لقد لُبّيت لها أمنيتها قبل وفاتها، فقد اجتمعت بابنها، أو -على الأقل- هذا ما خالته هي. أكانت معرفة الحقيقة ستُلقي بها إلى الهلاك؟
على كُلٍّ، كنتُ قد أتممت مُهمّتي، فاستدرتُ لأغادر، وحينها شعرتُ بريحٍ باردةٍ تهبّ سريعةً وتنتشر في أنحاء المكان. وعلى إثرها أغلق بعض الحاضرين أفواههم، كأنّ صمتًا طاغيًا قد انهال عليهم، في حين تحجّر البعض الآخر بأفواهٍ فاغرة. وصُوّبت جميع العيون في اتّجاهٍ أوحدٍ كأنّهم كانوا تحت تأثير إشارةٍ ما، وهناك تراءى لنا الفتى.
- أخيرًا نشهد ظهور الوحش الآخر! بطلنا الثاني هنا، أيّ توقّعات عن شكل علاقتهما القادمة؟