الجهل... قد يدفعك الجهل لفقد حياتك بأكملها

6.7K 165 5
                                    

الفصل السابع والأخير

منذ ساعات كانت تتسطح على جانبها بعد أن رفضت بشكل قطعي أن تخبره ما طبيعة الحديث الذي جرى بينها وبين والدها... وهو سمح لها أن تأخذ مساحة من الشرود وترتيب أفكارها... بعد أن ساعدها لتستلقي في حمام دافئ عله يساعدها على الاسترخاء... لقد ظن أنه وصل معها لأخر الحكايات.. وأن ما تبقى معها طريقاً سهلاً سيعبران منه لبر الأمان قريباً...

شعرت به يقف أمامها مباشرة... فرفعت عينيها الحزينتين المجروحتين وهي تقول "لقد منحته بنفسي مادة للتشفي بي... أخبرته أني أتنازل عنك وعن الطفل!"
لم يجبها على الفور بل لصدمتها ابتسمت شفتيه وهو ينحني نحوها يرفعها من السرير... ثم ببطء كان ينزلها لتقف على قدميها ليحتك جسدها الضئيل بجسده مرسلاً ذبذبات من العاطفة في جسد كليهما "أنتِ جميلة جداً ومتهورة جداً وأغبى النساء جداً وأنا أحبك جداً وجداً"
مع انتهاء جملته كانت شفتيه تلتقط شفتيها المرتجفتين الفاغرتين بشدة... وبهت كل حزنها وغضبها وتشكهها في لحظة ليحل محله عاطفة خالصة بينما انتفض قلبها بعنفٍ قاس من مجرد عبارة قصيرة تنتهي بأعترافه بالحب.
بينما يديه تدفع جسدها الرقيق على صدره أكثر ساحقها فوقه... كان كفيها يتمسكان بكتفيه تجذبه أكثر وأكثر إليها... مكتفية جداً، مشتاقة جداً ومعترفة لأول مرة أن ما ألمها من حديث والدها لم يكن قسوته وشذوذه الفكري أو تخلف مشاعره التي من المفترض أن تحميها بالفطرة ...بل ما أرعبها أن يكون آصف ولو للحظة واحدة يفكر بالفعل في التخلي عنها.
لم تدرك أنها كانت تجذبه أكثر إليها ويديها تتحسس صدره محاولة بتخبط تقديم إغواء لم يكن ليحتاجه!
عندما انفصل عنها شهقت بعنفٍ فوضع جبهته على جبهتها يتنفس من بين شفتيه بلهاث حميمي عنيف ...مغمض العينين بشدة قبل أن يقول بصوتٍ عميق عنيف مستعراً بنار التملك "الفراق عنكِ خطيئة وأنا رجل في محراب عشقكِ عابدٌ زاهدٌ لا قدرة لي على ارتكاب الخطايا!"
"آصف" شفتيها تحركت تشكل اسمه بخفوت شديد وكأنها تعيد طبعه داخل عقلها... تحاول محو ما حدث منذ ساعات ليتبقى فقط اعترافه بعشقها مع وعده بحمايتها... إقراره أنها باتت قطعة منه لن يقبل بانفصالها عنه.
ارتاح رأسها على موضع قلبه تحركه يميناً ويساراً وهي تقول باختناق "أنا آسفة... لا أعرف ما يحدث لي عند رؤيته!"
وكأنه يتجنب قاصداً ما حدث... سمعته يقول مغيراً الحوار "يبدو أنكِ لم تلاحظي أين نحن؟"
أغمضت عينيها ويديها تلتف حول خصره... أخذت نفساً مرتاحاً وهي تقول "في غرفتنا في الفندق ...أين سنكون؟"
أبعدها عنه بلطف وهو يقول ضاحكاً "لا بل في غرفة مجاورة نقلت إقامتنا إليها قبل الحفل بدقائق"
عينيها مرت سريعاً على الغرفة المطابقة للغرفة الأخرى ثم عادت إليه وهي تسأله "لماذا؟ لا أرى وجه اختلاف"
كان يٌصر أن يعيد لوجها المليح الابتسام فأكمل يطبع قُبل صغيرة جداً وناعمة جداً جداً على أطراف فمها وهو يقول متخللاً كل قُبلة بهمسة "بل هناك وجه اختلاف... هذه الليلة ستكون بدايتنا الحقيقة سوياً... لقد كشفتِ لي الكثير عن نفسكِ وأنا أريد لامرأتي أن تعرف جزءاً مني"
رائحة جسده الرجولية المخالطة لعطره كانت تلف حواسها لفاً فتعود تتشبث فيه بحرقه الاشتياق وبرغبة مؤلمة أن ترتمي بين ذراعيه ليغرقا في ذلك العالم الذي لا يوجد فيه غير روحين مجردين من المادة ممتزجين في عالم من الغرام يحومان كروحان متعانقان في الفضاء الفسيح خاليان من أية هموم وخوف من ذلك العالم الذي أصبح كالجحيم...
سحبها آصف أخيراً وحررها معه لتجد نفسها في غرفة أخرى تمتد كجناح مكمل لغرفة نومهما... رفعت عينيها الخضراويين الكبيرتين تحاول فهم سر وجود بيانو كبيرأمامها... فابتسم وهو يجيب سؤالها الغير منطوق وتحرك يجلس على كرسي البيانو المبطن بالأسود وأنامله الطويلة الأنيقة تبدأ في عزفٍ هادئ ناعم رقيق بينما يقول "هشش... اصمتي! ارهفي أُذنكِ واسمعي"
تعثرت مع تعالي ضخات قلبها المتمرد وهمست "أنا اسمعها.. دائماً ما كانت صاحبتي التي تُشعل روحي تُطربني بعد أن يُخمد الحزن نوري وقلبي"
نظر إليها وعاد ينظر لأصابع البيانو التي لم تتغير ولكن ما تغير أحساسه هو... موازينه التي قلبتها ومشاعره التي تصخب ولحنه الذي زاد بلغطٍ متمرد على كل ما بناه لنفسه يوماً! جذبها بحرص وأجلسها بين ركبتيه على كرسي البيانو العريض.
استسلمت دون مقاومة فدفع بيده رأسها لتستريح على صدره ومال بوجهه دافناً شفتيه الممتلئتين في عنقها وقال بخفوت أجش بنبرة عميقة هزتها "أغلقي عينيكِ يا قطيطة واستمعي للكلمات التي تهدر من وراء الألحانِ"
رأسها الذي استند على صدره بأريحية ووجهها الذي مال ناحية تمرد نغمات قلبه منحه الأجابة الراضية كما تمناها وتوقعها يوما "المرأة كمنجة رقيقة تشبه الدمعة الغالية لا تستطيع أن تستمتع بسحرها إلا إذا حملتها على ساعدك برفق ولمست أوتار قلبها بحنان... لتمنحك جنة من ألحان الحب ولا تنسى أن تطلق لنغماتها الحرية وتشعرها بالكمال والامتزاج"
شفتيه القريبة من أذنها داعبتها برفق وأصابعه الطويلة تعرف تماماً طريقها نحو اللون الأبيض والأسود لأصابع البيانو يعزف عليها بامتزاج متوازن لا تشوبه غلطة ولم تتخلله عثرة... عاد ليهمس بخفوت أجش واثق عندما تسللت يديها تحشرها بين كفيه لتشاركه عزفه "ها هي تخبركِ أن ما وراء ألحاني عالم أخر من الجمال ومن بين كل وتر تستمعين إليه رسالة خفية تطبطب على روحكِ وتمنحكِ الكمال... عليكِ أن تستمعي لكل ما يقوله قلبكِ وتنسي تلك الأوهام التي أدخلوها في عقلكِ!"
مع كل نغمة تخرج من تحت أصابعه كان قلبها يتراقص بين أضلعها بدويٍّ مجنون واعتراف محترق تريده أن يحسم تخبطها وتمردها... ورغم سحر أنغام ما تسمع كانت تشعر بكلماتها ناقصة وبهدير قلبها المتعالي مبتوراً!
"لا أعرف ماذا تقول لما لا أتبين معاني حديثها وماذا تريد؟!"
كيف يمكن لتلك الأنثى المهتزة بين ذراعيه أن تكون غلطة أو ورطة؟ بل كيف استطاع والدها ألا يرى فيها ما لمسه هو؟! أغمض عينيه الداكنتين وضَرْب أوتاره يزداد بنغمة نسيان لا يريد إلا أن تقتحم عقلها وتهبط على قلبها بالسلام والسكينة ...بنبرة رخيمة عميقة كان يخبرها "إنها حرب إنسانية، نزاع بين القلب والعقل، دواء لعله لم تكن بيدينا... إنها لغط لدقات قلبكِ الذي يرتد بين أضلعكِ فيمتزج مع لغط قلبي الذي تمرد على عقلي ليجاري تمردكِ يا لغط القلب"

توقفت أصابعها عن مشاركته عزفه تلتف بين ذراعيه مجبرة إياه على التوقف... عيناه تلتهم وجهها الطفولي المحبب وشفتيه تطبع قُبلة عميقة على وشم بتلات الورد لمعصم يديها التي حاوطت فكه بينما هي تقول بخفوت "لا أريد أن أكون سبباً لعثرة في قلبك"
من فوق معصمها كان يتمتم "الحب والألم مترافقان متجاذبان لا يصيب أحدهم القلب إلا والآخر يتبعه... وأنا مرحب جداً بكليهما معاً طالما أنتِ صاحبتهما"
أطلقت تنهيدة ارتياح طويلة بينما رأسها تعود لا إرادياً لتندس فيه... يده كانت تتحرك على شعرها برتابة قبل أن تغلف الجدية نبرات صوته الحازمة وهو يقول "والآن عودة لما حدث... ماذا أخبركِ ليجعلكِ تفقدين تماسككِ بهذا الشكل؟!"
تمتمت دون أن تخرج من حالة الاسترخاء التي ادخلها فيها "هل يمكننا تجنب الأمر؟ لا أريد الحديث عنه إطلاقاً"
"ولكننا يجب أن نتحدث في الأمر.. الى متى الهروب؟!"
ابتسمت وهي ترفع عينيها أخيراً إليه وقالت بتردد "لماذا يجب أن نتحدث دائماً في أمور ترهق كلينا؟"
يده انتقلت يمسد وجنتها بإصبع السبابة وهو يقول "الليلة ملككِ ...ماذا تقترحين؟"
هزت كتفيها بجهل وقالت "لا أعرف... ربما أنت لديك اقتراح"
ابتسم مرة أخرى مما دفع لقلبها حرارة مغلفة إياه بدفئه وقال برقة "في الواقع لديّ اقتراح... ولكن لا أعرف هل يناسب حملكِ؟"
الحب الجارف المطل من عينيه دفع إليها إحساس أنها مرغوبة محبوبة تستحق أن تحظى بكل أهتمام العالم وبأنها لم تأتي لهذا العالم عبثاً ...دموعها عادت تسيل من جديد وهي تقول بصوتٍ اختنق بالعاطفة "من لم تذُق طعم حبك لن تعرف للعشق طعماً يوماً..."
نيران العاطفة كانت تتوهج في عينيه الداكنتين وهو يقول بنفس رجولي حار "وأنتِ أقوى النساء اللواتي عرفتهن يوماً... أكثرهن طفولة... أكثرهن عشقاً يجعل قلبي لأول مرة يتعثر يتمرد على كل ما ظننته يوماً... أنا أصبح ضائعاً وغير واثق الخطى والمشاعر عندما يتعلق الأمر بكِ... أنتِ تتلاعبين بكل كياني يا دجينة"
همست بضياع "لا تقل هذا"
وقف من جلسته ثم جذبها نحوه وقال بخفوت "لم لا؟!إنها الحقيقة"
تراجعت خطوة وهي تقول بألم "أنا خائفة آصف..."
قطب جبينه وفمه يتوتر ثم قال "من ماذا؟!"
قالت بمرارة "من أن تكون مجرد وهم، سراب وكل ما تعيشه معي مجرد إحساس بالشفقة أو يدفعك طفلك إليه... وبعد أن أُسلم لك كاملةً وأمنحك ثقتي وقلبي تعود أنت لتمنحني خيبة أمل أخرى لن أنجو منها هذه المرة... أنا سأموت إن فعلت"
قال مجبراً نفسه على الهدوء متفهماً مخاوفها "لن أفعل أبداً... ماذا علي أن أفعل لتطمئني لي وتمنحيني ثقتكِ؟"
قالت هامسة "لا شيء... أنت فعلت فوق ما تتحمله طاقة أي رجل ...أنا أُدرك هذا... الأمر كله أن الخلل بي أنا"
قال بحنان "أنا أحبك دجينة والحب لا يمتلك أسباب ومنطق خاص ليجعل الرجل يفكر فيما يفعله... لذا أنا أخبركِ أني على استعداد لأقدم حياتي كلها لكِ فى مقابل أن تبقيّ معي"
همست "أنا لا أظنني أملك خيارات أخرى غير البقاء معك"
قال بصوت أجش "وهل هذا الاختيار يُعَدّ إجباراً؟"
همست "نعم.. عندما أستيقظ كل يوم لأجدني أقع في حبك من جديد"
توسعت ابتسامته فوق ملامحه الوسيمة ليظهر ذلك الجموح البري الذي لمسته فيه يوماً... لم يرد بكلمات أو وعود ...لم يحاول طمأنتها مرة أخرى برد على اعترافها... بل اقترب منها أكثر بتمهل قاطعاً الخطوات بينهم ملامسها بجسده دون أن يضمها إليه وهمس بصوته الرخيم الذي يعصف بكل تعقلها "إذاً راقصيني"
إبتسمت مودعة الألم بينما يديها تتعلق بطرفي قميصه "وبعد أن أراقصك؟"
يديه ارتاحت على ظهرها دافعها إليه بينما جبهته تلامس جبهتها وقال ممازحها "أممم! ساستغلكِ بالطبع في أغراض دنيئة... تعلمين أني دفعت بكِ مالاً طائلاً يجب أن أحسن الاستفادة منه"
همست بينما شفتيها تطبع قُبلة على فكه "جيد هذا ما كنت أهفو إليه منذ ساعات... لقد انتابني اليأس والشك أنك لن تفعل"
انطلقت ضحكاته العميقة التي تعذب إياها فقاطعتها بشفتيها وكأنها ما عادت تحتمل ألم احتياجها لدفئه.. وعندما عاد يحيط جسدها بذراعيه يدفعها إليه أكثر مقبلها بدوره وكأنه يخبرها بلغة الجسد أخيراً كم حياته أصبحت مرهونة بها أحست دجينة ولأول مرة بالثقة الكاملة... بأنها خُلِقت لهذا المكان... لهذا الرجل... فرائحته المسكية أسكرتها كما عبثت حرارة جسده القوي بتماسكها... لم تدرك دجينة أبداً أو تتوقع إلى أي حد هي راغبة في الغرام إلا عندما ضمها آصف إليه لأول مرة ...لقد كانت تضيع تماماً غير مدركة حتى للتخبط الذي تعيشه غير شاعرة بالأرض الباردة التي لامست جسدها ...لدقيقة واحدة استوى على مرفقيه يشرف عليها من علو وعيناها عالقتين مع عينيه في تعبير حبس أنفاسها... فعادت من جديد تطبع قُبلة على قلبه في خط تصاعدي حتى وصلت لتجويف عنقه تهمس بجشع عاطفي جعل أنفاسه تتعالى بلهاث عاطفي "أحبني أكثر"
لمس شفتيها الناعمتين المطالبة الصريحة به... عدم ترديدها إتهامات تعرف يقين كذبها جعل رغبة وحشية عنيفة تفور وتغلي داخل أعماقه... وعندما عاد يكتسحها هذه المرة كان حريصاً أن يشبعها بطريقة تجعلها دائماً نهمة لعاطفته.
&&&&&&&&&

الجهل... قد يدفعك الجهل لفقد حياتك بأكملها... وإيمانك الأحمق أن العالم أجمع يحمل بين جنباته صراحتك المعتادة... طريقك المستقيم... وأبعد ما يكون عن الخبث والالتواء... فإذا أدى بك إلى السقوط والسقوط حتى تصبح مجرد أضحية تتلاعب بك الأيادي... فلا تلم إلا نفسك ...لا بأس أن ينعتك العالم بالشرير خبيث النفس سيء الطباع... سيظل هذا أفضل شأناً من تلك الطيبة اللعينة التي تحولك لمضغة سهلة يلوكها الكلاب.
......................
ضجيج صاخب ملأ رأسه ليبث طنيناً عبر أذنيه فيمنعه من الاسمتاع إلى أحاديث من حوله... الأفكار تتصارع داخل رأسه مع صور سريعة متداخله لما حدث؟! بل ولماذا حدث؟ تركته مرة أخرى وهربت!! اختفت تماماً دون أثراً واحداً... وكأنها كانت مجرد طيف توهم بوجوده في حياته... وكأن الشهور الماضية كانت خيالات رسمها عقله وقلبه الذي سلمه لفتاة لم تستحق أياً من تضحيته! كانت صورة حية للجحود في أعنف معانيه... للتصلب للقهروالكبرياء الذي تحطم على يديها للمرة الثانية!
لم يظن آصف قط في حياته أنه عندما يقع في الحب أخيراً سيسلم لامرأة تحطم كبريائه قبل قلبه... كيف يستطيع أن يكذب على نفسه بأنها كانت مجرد وهم وسراب؟! كيف يُنكر حقيقة وجودها بين ذراعيه طوال الليل يتلمسها بطريقة جسدت كل أحلامه يوماً عندما يمتزج مع نصفه الأخر الذي سيكمله... كيف ينسى تجاوبها بين ذراعيه وشفتيها الناعمتين التي كانت تهمس بفورة عاطفية باستجداء يائس لحبه أمرةً إياه مراراً وتكراراً بسلطة عنيفة لم يمتلكها أحد يوماً عليه أن يحبها وأن يمنحها نفسه لترتاح مخاوفها... كيف يستطيع نسيان بشرتها الناعمة التي احترق فوقها منصهراً ويديه التائهة تتلمسها ليعزف عليها ألحان خاصة لم يدركها يوماً في نفسه... كيف ينسى تكور بطنها الذي لامسه مراراً وتكراراً مبهور الأنفاس متضخم المشاعر... مكرراً لعقلها الخائب فيها أن نطفته هنا... صغيره هنا فمن أين يمتلك تلك القوة ليمحو ذكرى انتهاء عاصفته الغرامية؟! تردُد حبه صاخباً صريحاً بالترافق مع شعور كليهما بحركة صغيرة لأول مرة وكأنه دليل حيّ صاخب أنه حان وقت ارتياح كلاهما أخيراً من رياح توسنامي التي حملت والدته إليه لتدمر كل حياته.
"آصف" لمسة خفيفة ليد جلاء على كتفه جعلته يفيق مرغماً من أفكاره فقال "ماذا تريد؟!"
أطل الحزن من عيني جلاء وهو يتذكر تخبط من أمامه لساعات وهو يقلب القرية السياحية رأساً على عقب باحث عن زوجته لتصدمه بالأخير بأتصالها الذي ترافق مع فحصهم كاميرات المراقبة لبهو الفندق... "لقد ظننتك تستحق ثقتها"
كان العنف مجيبه عندما قال آصف من بين أسنانه "إياك ثم إياك أن تبرر لها أبداً هي صفحة وانتهت"
هتف جلاء فاقداً صبره "كنت متأكداً أن وجودك في حياتها مجرد كذبة... هي لا تعنيك... لم تفهمها... لم تؤمن أبداً بقضيتها"
أخذ قلبه يبنض بالغضب داخل صدره ولم يشعر بنفسه وهو يمسك بجلاء من تلابيب قميصه يهزه بفظاظة قائلاً بخفوت شرس "لقد أوضحت كاميرات المراقبة أنها صعدت معه بكامل إرادتها... وبنفس طريقتها الجاحدة القذرة حدثتني أنها غير قادرة على العيش معي مطالبة إيايّ بالانفصال... دجينة كررت بالضبط ما كنا اتفقنا عليه عندما وجدتها... أي من المستحيل أن تكون تعرضت لابتزاز أو إجبار... المرأة التي هربت من عوني ومن خطيبها السابق مختفية لأربعة أعوام منهم ثم تزوجتني لتهرب بنفس الطريقة لا تُجبر أبداً"
كان جلاء أكثر إيماناً منه وأكثر ثقة... وهذا ما أغضبه بشدة إذ أنه كان قد ارتاح لفكرة أن من أمامه هو الذي استحقها... هو الذي يملك تلك الثقة والسلطة للدفاع عنها.
"إذاً فلتحترق بما تعتقده وتستحق ما فعلته بك... أما أنا لن أصدق إلا لو سمعتها من شفتيها صريحة... دجينة الموت لديها أهون بكثير من أن تعود للمدعو والدها"
أزاحه آصف نافضه على طول ذراعه بينما يقول من بين أسنانه "حتى وإن كانت مجبرة بريئة بأية طريقة من هذا الهروب ستظل خائنة لثقتي بها وعهدي معها"
عندما يسيطر الغضب على عقلك يتلاشى التفكير تماماً من حساباتك ولا يعد للمنطق مكان وهذا ما كان يشعر به آصف في تلك اللحظة... لقد منحها كل ما استطاع وهي قدمت في ليلتهم الأخيرة كل الوعود والعهود... إذاً كيف يصدق أنها أجبرت؟؟ لقد أفاق من غفوته على خلو ذراعيه منها... بحث كالمجنون عنها فلم يجد لها أثراً... إن كان سيصدق أن عوني المنصوري خطفها بأية طريقة أو أجبرها لتصاحبه... كيف يبرر لها خروجها بكامل إرادتها من غرفته؟ من أين يملك القوة ليمحو من عقله صوتها الجامد الذي حدثه عبر الهاتف مطالبة إياه بحريتها وأنها ما عادت تريده... بأنها اكتشفت فور استيقاظها أن كل ما عاشاه كان كذبة وأنها أبداً لن تؤمن به أو تمنحه ثقتها...
كيف يثق بها وهي رفضت أن تخبره بأسرار تخبئها عنه باستمرار؟! إذاً حديث الوالد وابنته لم يكن شيئاً قاسياً كما توقعه بل وعود جديدة بالحماية وإعادة لروابط الأبوة المزعومة تلك !!!!
&&&&&&&&&&

بعد أسبوع
دخلت آيتان بخطى ثقيلة حتى وقفت وراء ظهره المنحني تماماً وسألته "ستغادر؟"
صوته كان ساخراً بقتامة وهو يقول "هل اعتبره من تلك الأسئلة الغبية المشهورة... ماذا ترين؟!"
"خالي"
"أنا لست مستعداً لأي نقاش يا دجينة لقد انتهى الأمر"
تصلب ظهره وكأنه أدرك زلة لسانه للتو التي جعلت آيتان تتعاطف بشدة معه... لم تقل شيئاً ولم تحاول أن تناقشه بإحدى مبرراتها الذكية إذ أن زائرته التي خرجت متألمة وهو يرمي كل شيء على سطح المكتب الذي كان يأخذه كمقر عمل هنا ليدير منه مصالحه... أوصلت لها بوضوح أنه يعاني وينازع وقد وأد قلبه حياً.
"كيف امتلكت كل هذه القسوة والجحود؟!"
اغرورقت عينا آيتان بالدموع ولأول مرة في حياتها كانت تشعر بالذنب العميق بالحيرة من تساعد ومن تساند وأيهما تمنحه المبررات لما يفعل؟
"أنا لن أحاول إقناعك بنظرية جلاء... لأني أعرفك أنت لن تتخلى عنها بكل هذه البساطة إن لم تكن متأكداً مما تمسكه ضدها... لكن صغيرك يا آصف هل ستتركه لهم؟!"
كانت تسمع أنفاسه الصاخبة بالغضب رغم انحنائه على سطح المكتب يتمسك فيه بيديه الاثنين وكأنه يحجم نفسه من نوبة غضب همجية أخرى... "فور أن تلده سأطالب به، على كل حال نحن لدينا اتفاق"
"خالي" عادت تردد بيأس ربما تحصل منه على أي تفاعل... لم يقاوم أن يقول بقتامة
"لقد كان الطفل حجة، طريق لأصل إليها وأبرر لنفسي كسرها إياي بأفعالها... أنا أردتها هي ...أحببتها هي"
توسعت عينا آيتان من إقراره الصريح... سمحت لنفسها أخيراً أن تتقدم لتجبره أن يواجهها ولم يقاومها أبداً... عندما التفت إليها بملامح مرهقة متعبة مستنزفة لآخر قطرة صمود منه كتمت صرخة آنين أصابت قلبها وحاربت لتتجاوز شفتيها "من أجلي أنا لا هي ابحث عنها... واجهها أجعلها تخبرك وجها لوجه بما قالته..."
أرجعها آصف برفق من أمامه وهو يقول بتشنج "الأمر انتهى... هذا اختيارها ويجب أن تدفع ثمنه ...لم يعد لي أية رغبة بمحاولة إصلاح عطبها!"
تشنج وجه آيتان وتوتر جسدها بينما قالت "لا أصدق أنك تتخلى عنها دون أن تشك للحظة واحدة أنها أجبرت... وكأنك كنت تتوق للتخلص منها!"
ظل ينظر لها بعينين عاصفتي التعبير قبل أن يقول بجمود "لقد قضت ليلتها بين ذراعيّ يا آيتان... أمنحها وعدي بالحماية وهي تقدم عهود الثقة بي... عدم الخيانة أبداً... لساعات كانت يدا كلٍ منا تتحسس طفلنا الذي تحرك لأول مرة فتكرر بيأس عدم تركي أبداً ثم ببساطة تستيقظ وتغادر فراشي ...ترتدي ملابسها وتخطو لبهو الفندق تقابل والدها وبحركات واثقة غير مهزوزة كانت تغادر مرافقة إياه مدسوسة بين ذراعيه... عن أي إجبار تتحدثين؟!"
ارتعشت شفتي أيتان بشدة بطريقة أثارت تحفزه وهي تقول "ربما هددها بشيء قد اعتقدت بغبائها أن خسارتها إياك أهون لديها من أن تعرفه"
نظر إليها وسأل بشك "وما هي ماهية هذا الشيء؟ إذ أنني أعلم عنها أبشع ما قد يعرفه رجل عن امرأته"
مررت آيتان لسانها تبلل شفتيها التي شعرت فيهما بجفاف رهيب ثم قالت هامسة "بل هناك شيئاً خالي.. كانت دجينة مستعدة لقتل نفسها قبل أن تعرفه أنت بالذات"
نظرة سوداء مرت عبر عينيه جالبة رعب جليّ لقلب آيتان عندما أمسك آصف بها بعنف مهاجمها بالقول "عن ماذا تتحدثين؟ انطقي آيتان"
الصلابة المعهودة عادت تضربها بقوة وهي تهتف فيه بشراسة "أتعلم؟! أنت لا تستحق جلاء محق... إذ أنك لو أحببتها قط ما كنت شككت في دوافعها للحظة واحدة"
"آيتان" قصفها صاخباً غاضباً
قالت على الفور بنبرة أشبه بحد سيف بتار قاطع "حقيقة دجينة غير كاملة يا آصف العظيم... زوجتك تعرضت لأكثر من محاولة اغتصاب في هذا البلد... مرتها الأخيرة كادت أن تخسر نفسها كاملة بعد أن ذهبت مع هاني لشقته بكامل إرادتها!"
أنفاسه التي توقفت مع تحوله للوحة جامدة ميتة كانت شافية بشكل مؤلم وللغرابة آيتان أرادت لآصف أن يتألم فوق ألمه ...أن يصفع بما كان يغفل عنه ربما هي قاسية وربما الصورة التي وصفت بها ما حدث حقيقةً قاتلة لصورة دجينة في نظره ولكنه في النهاية كان يجب أن يُصفع ليستفق ويعود لكامل تركيزه ويحلل الأمور بمنطقية لا أحد غيره يعلمها...
"لقد قام بحبسي...
كان الجميع لايهمهم سوى جسدي...
مقدماً نفسه ليصبح رقماً في قائمتي...
لم يصدقني ...لقد أجبرني على الأعتذار...
كاذب! دجينة لا تستطيع أن تكن لك بإرداتها!"
شهق آصف بعنف وكأنه يستجدي بعض الهواء ليدخل رئتيه بعد أن حبس أنفاسه لوقت طويل بينما يتذكر إعترافاتها المضطربة المتكررة متداخلة مع إصرار جلاء على أنه حولها لزوجة عن طريق الإرغام "أكره هنا... ما حدث لي مخيف ولا يشعرني بالأمان... إن خنت عهدك معي إن خيبت أملي بك وأصبحت مجرد وهماً أخر أنا سأموت يا آصف... لا تتركني"
"ماذا فعلت؟!" خرجت من بين شفتيه هامسها بإخفاق شديد ومرارة أشد لقد شك في الأمر مراراً بل وأجزم فيه بضع مرات ولكن العقل عاد ينفي بقوة إذ أنه لم يتخيل أبداً أن مهما كانت قذارة عوني وحقارته لن تصل به أن يتاجر بشرفه أن يتلاعب بعار أبنته من اجل حفنة من المال ...أن يدفعها ليغتصبها آخر كي يفلح الامر؟!!!
قالت آيتان بحرقة.. متذكرة مرارة خذلانها هي سابقاً "خذلتها يا خالي... خنت إيمانها الكبير بك وأخفقت في اختبارك للمرة الثانية معها!"
اختفت كل الأصوات من حوله وتوقفت كل الأفكار في عقله... مصفوعاً بالحقيقة المرة التي خرجت من بين شفتيها... مذهولاً من غبائه وجحود استحكم عقله... ما الذي يدفع دجينة للهرب منه؟! لقد أقرت مراراً أنه كل ما أصبحت نفسها تهفو إليه... لقد سلمت دون مقاومة ووجدت السكن فيه... كيف سمح لنفسه أن يصدق خدعة جمودها وطلبها للانفصال عنه؟ كيف عاد كبريائه الأعمى ليتحكم فيه... لينفيها من حياته دون حتى أن يحاول رؤيتها لمرة أخيرة؟ أبعد كل ما عرفه عنها؟!! أبعد كل ما أقره داخل روحه من خسة نفس والدها.
أحست آيتان بملامحه تمزقها وهي تهمس "أنا سأخون عهد جلاء... ليس من أجلك بل من أجلها إذ أني أعرف الطعم المر الصدئ للخيانة من الرجل الذي أحب"
أغمض عينيه بقوة والألم يرتسم على ملامح وجهه... بينما يسمعها تكمل تصفعه بأخر ما لديها "لقد اتصلت دجينة بجلاء اليوم يا خالي مطالبة إياه بوعد لم يفي به سابقاً... امرأتك حبيسة والدها وتريد الهرب مرة أخرى ولكن هذه المرة للاختفاء منكم جميعاً"
كانت تطعنه دون رحمة وهي تقر بما صفعه دون أن ينطق به "لقد ظنت أنك قادر على إنقاذها من قدرٍ أسوأ من الموت... لكنك منحتها بخذلانك وعدم ثقتك ما جعل الموت أرحم ألف مرة"
&&&&&&&&&&
لقد عرفت من اللحظة الأولى التي رأت فيها والدها في الحفل أنه لن يتركها تحيا بسلام أبداً... عرفت من عينيه التي زادت قبحاً وتطرفاً أنه سيجعلها تدفع الثمن... لقد عاد، عاد من جديد ليحطم حياتها بعد أن جعلته يخسر شركاته وصفقاته مع ذلك النتن الذي كان يريد تزويجها له... عرفت وسلمت بالأمر ولضعفها وقلة حيلتها عندما أتاها صوته المنفر صباحاً عبر الهاتف بتهديد صريح وواضح إن لم تنسحب الأن من حماية آصف وتأتي إليه سيجعل كل ماضيها الأسود بين يديّ آصف غانم عبر إخباره بكل ما حدث مزور الحقائق وما يساعده ويدعمه بالطبع ذلك الفيديو الذي سجله لها هاني وهي تدخل معه لشقته بكامل أرادتها تتناول المشروب وتوافق إياه على الموسيقى الصاخبة التي علمت بعدها أنه يستخدمها ليحتوي صراخها إن اعترضت...! كل شيء كان مرتب له وهي ببساطة ارتعبت وكانت تجزم أن آصف وغيره كانا سيأخذان بالأدلة...! أو ربما هي لم ترد له فضيحة يكفيه ما ناله حتى اللحظة منها!
كان عقلها جامد تماماً وكأنه يحمي نفسه من نظرته إليها إن عرف سبب هروبها... إن اكتشف سذاجتها في ترك أخر يجرها لشقته الخاصة ليستبيح ما كان آصف متملكاً بشدة نحوه... لقد كانت تعلم أن ماضيها مع آصف نفسه لن يساعدها أبداً ليدرك كم كانت غبية وساذجة في تصديق حجة هاني... من ستقنع وكل تصرفاتها تدفع أياً من كان ليشكك في أخلاقها؟!!
وكم كانت محقة... لقد كان لديها أملاً واحداً ورجاءً ضعيفاً مبتوراً ألا يصدق ما تفوهت به ...أن يهرع إليها مثبتاً كل وعوده ...أن يعرف من نفسه أن الأمر كان فوق طاقتها وأنها غادرته مجبرة مذعورة ومرعوبة أن يكتشف أخر سر قذر كانت تخبئه عنه...
"ولكنه فشل... لقد كفر بها آصف كما كفرت هي به يوماً... فأصبح طرفا المعادلة متساويان... لا لوم ولا عتاب... لا فرص أخرى تمنحها ولا رجاء وأمل كاذب بسكن ووطن حلمت به يوماً"
&&&&&&&&&

عندما وصل آصف أمام ذلك المنزل الكبير المتكلف وكأن صاحبه يريد بأية طريقة إثبات لمن ينظر إليه بأنه يحمل عراقة وأصل لا يمتلكهم ترجل من السيارة وهو يندفع غير منتظراً جلاء الذي كان يصرخ فيه بالتمهل وإيجاد خطة لإخراجها غدراً كما أخذت منه ولكنه ما كان ليفعل أبداً... إن كان عليه التهور والجنون والهمجية المطلقة لمرة واحدة في حياته فلن يستحقها سواها... الغضب كان ما يجره والشعور بالفشل والذنب ما يتلبسه... المرارة التي خلفها شعوره بأنه هذه المرة أوقع عليها ظلماً بين لن تغفره له أبداً... حقيقة أنها تتصل بجلاء طالبة النجدة كانت أشبه بصفعة قوية على وجهه لن تُمحى ما حيا... لقد كانت آيتان محقة "لقد كفرت به مدركة بإيمان قوي أنها لن تدخل عقيدة قلبه يوماً... لقد كان وهماً وسراباً كما أخبرته أخر ليلة"
طرق على باب المنزل المصنوع من الأرابيسك المبالغ فيه كان قوياً غاضباً فاقداً للعقل والمنطق وكأنه يخبر سكانه أن عاصفة ستجرف كل من أمامه فور أن يسمحوا له بالدخول...
عندما فُتح له الباب أخيراً اندفع هائجاً محملاً بغضبه والوجه المبتسم بشماتة الانتصار أخبره بوضوح أنه كان ينتظره
"أين زوجتي؟!" كان صوته مظلماً قاسياً وهو ينطق بها
كانت عينا عوني ضيقتين أشبه بالجليد وهو يرد بصقيع "لا يوجد في منزلي من تدعى زوجة لك"
كاد أن يفقد أعصابه عندما حاول أن يتقدم منه خطوة فشعر بيد جلاء التي تمسكت بقوة بذراعه وهو يقول بسيطرة "لم نأتي للشجار... تذكر أنها كل ما يهم"
ملامح عوني زادت سخرية مهينة وهو يقول مندفعاً "إن لم تغادرا حالاً سأبلغ الشرطة بتعديكم على المكان ...ابنتي طلبت الطلاق والذي بالمناسبة أنت نفسك وعدت به وكل ما لديك عندي ذلك العلقة التي تحمله وفور أن تتخلص منه سأرسل لأحدكم ليستلمه"
اشتدت أصابعه التي تكورت في باطن كفه بينما كل عرق في عنقه نفر موضحاً مقدار الغضب الذي يكبته بداخله وأوشك على الانفجار
"أنا لم أعِد بشيء... أنت كأي تاجر أعراض قذر عرضت ثمن لتسليمها لي وأنا منحتك فوق ما طلبته شرط أن تبتعد عنها تماماً... تختفي بنجاستك من عالمها الذي شوهته... لذا إن كنت تريد تجنب غضبي الحقيقي وما قد أفعله بك سلمني زوجتي حالاً"
قال عوني بعد لحظات من التفكير المظلم "لقد علمت أنك أضعف من أن تنفذ شيء كما هي أكدت لي ما يدور حولك... أنت ستطلقها على كل حال وأنا لن أسمح لها بالفرار مرة أخرى كما هربت منك من قبل... لذا دعنا نتخطى هذا العرض الذكوري المبالغ فيه ونتكلم كأي رجلي أعمال يسعيان لتعويض المكسب غير ناظرين للخسارة"
كان  بالفعل قد فقد أعصابه وتقوس فمه بطريقة متوحشة وغضبه المظلم يحجب عن عقله التفكير المطلق... كل عضلة من جسده متحفزة نافرة بشكل مؤلم فلم يعد أبداً للرد المتعقل مكان بل النزعة الشرقية الرجولية هي من ردت على الفور عندما قال عوني بصوت تاجر هوى حقيقي يتعامل مع زوجته وعرضه على أنها مجرد عاهرة "أنت ستطلق... وأنا وجدت لها من يتقبل بقاياك وبالمناسبة هو مُرَحِب جداً بصفقتنا بعد أن هربت مُعرِضَةً...."
لم يتمكن من إكمال جملته عندما أطلق جلاء ذراعه أخيراً وهو يقول "إن لم تستخدم عضلاتك تلك الأن في تحطيم فمه القذر سأفعل أنا"
ولكنه لم يكن يحتاج لصب الزيت على النار المتقدة في الأصل بداخله... تقدم نحو الرجل دون تفكير ليلكمه بقوة ألقته أرضاً... فعاد آصف بهمجية ينحني نحوه سريعاً يمسكه من تلابيب قميصه... لم يكن يرى في تلك اللحظة سوى غشاءً أحمر يحجب عن عينيه أي رؤية غير هذا الرجل الذي لا يستحق لقب الأبوة ولا حتى الرجولة التي تطلق عليه وصفاً لا فعلاً... الرجل الذي أمتلك من الحقارة ما يكفي كي يبتز زوجته... كي يتحدث عن زوجته كأية عاهرة تسلم نفسها لمن يدفع أكثر... منصاعة لقوادها. وعند كل فكرة تطرق عقله كانت لكمة أخرى تهبط على  فك عوني تتبعها أخرى تزين عينيه ثم اخر لكمة أخرى تستقر في معدته تماماً ليرفع يده وتستقر بعدها قدمه!!
كان عوني يجاهد عبثاً الهروب من قبضة خصمه الذي أعماه الغضب محاولاً أن يدافع عنه نفسه... يبادله الضرب ولكن كان من المحال فالقوة البدنية غير متكافئة على الإطلاق... لقد بدى آصف كالثور الأعمى يضرب ويضرب ويضرب حتى لم يتبقى في عوني خلية واحدة لم تنالها مهارة آصف القتالية العالية...
انهالت الصرخات من حوله من ساكني المنزل... امرأة شابة كانت تقترب منه آمرةً إياه بالتوقف...
عندما حرره آصف أخيراً لم يوقفه إلا قوة جلاء البدنية من خلفه آمراً إياه بالتوقف وأنه لا يستحق حتى الجهد الذي يبذله...
التفت آصف لاهثا لصرخات طفولية أخرى لطفلين في إحدى الزوايا منكمشين رعباً... جاعلة إياه يعود لبعض من تعقله!
"زوجتي!" نطقها من بين أنفاسه المتحشرجة بخفوت شديد... فأشارت تلك المرأة بيد مهتزة نحو سلم يهبط لأسفل بهو المنزل.
عندما فتح آصف باب الغرفة المغلق مستخدماً ذلك المفتاح الذي منحته له زوجة أبيها التي لم تتردد لحظة في منحه إياه وقد فهم أنها عادت لتساعدها هذه المرة أيضاً عندما منحتها هاتفها لتطلب النجدة من جلاء... أحس بقلبه ينقبض بين أضلعه مسبباً له غصة أوشكت أن تصيبه بجلطة... إن لم يكن جسده وبنيانه تكفل بتحملها... بينما تتلاحق أنفاس الانفعال مترافقة مع مرارة الفشل الذي أحس بها تنحره نحراً... أغمض عينيه بقوة وأخذ دقيقة واحدة يجهز نفسه لما قد يراه ويواجهه خلف هذا الباب.
تكلم جلاء الذي كان أكثر سيطرة منه في تلك اللحظة "دعنا نخرجها من هنا قبل أن يتسبب هذا الكلب في مزيد من المشاكل"
تصنع هدوء فشل تماماً فيه مع صوته المضطرب وهو يهمس "انتظرني هنا... لن أستطيع أن أدعك تدخل معي وأنا لا أعرف بأية حالة قد أجدها "
أخذ جلاء نفساً عميقاً متراجعاً خطوتين وهو يقول بتفهم "سأنتظرك"
عندما دخل أخيراً كانت كل ذرة في جسده تنتفض وعينيه تقع على الجسد المنكمش في أحد زوايا الغرفة... الغرفة التي رغم فخامتها لكنها تبقى سجناً يقع في قبو منزل تُحتجز فيه... لم يحتج الكثير ليدرك في تلك اللحظة أنها لم تغير ملابسها التي غادرته بها رغم أنه لمح بطرف عينيه بعض الملابس المسنودة على أحد المقاعد أمامها... مرتجفاً، مصدوماً جثا على ركبتيه أمامها... فرفعت رأسها مرة واحدة من انكماشها حول نفسها منتفضة وكأنها تعرفت عليه وأحست بوجوده ...اشتمت عطره الخاص دون حاجة لها أن تراه.
رؤيته بعثت رجفة قوية من الحاجة لأن تصرخ باسمه وترتمي بين ذراعيه فلا تخرج منها أبداً... تخبره مراراً وتكراراً عن إخفاقها الشديد عندما تخلت عنه واستسلمت للابتزاز والضعف وأسمعته ما سمع منها... ولكن الأن بعد أن تركها أسبوعاً كاملاً هنا ...بعد أن أخبرها بنبرة باردة دون سؤال دون إستفسار دون مطالبة بالفهم ودون إنكار مطلبها... الأن يبدو الأمر سخيفاً جنونياً
"لقد أخبرتك أنك وهماً أخر فلم تصدقني... هل عرفت الأن أنك تشبهم؟!"
كانت نظراته مشوشة وتفكيره مضطرب وانضباط مشاعره مفرط تماماً "لماذا لم تخبريني؟!"
قالت بصوت أجش مشحون بعواطفها المرهقة "إن أخبرتك لن تفهم... هل كنت تستطيع التعايش مع فكرة أني ذهبت بقدميّ مع رجل أبدى أكثر من مرة رغبته القذرة فيّ؟ هل كنت لتصدق أني ساذجة لهذه الدرجة؟ هل لأحدٍ أن يصدق أن الرجل الذي أنجبني يستخدمني كسلعة لمن يدفع له المال؟! لا.. لا أعتقد أنك تفعل"
صوت القلب كان يصرخ بداخله مناقضاً صوت العقل في حرب إنسانية لن تنتهي أبداً بداخله نحوها... فقلبه كان أكثر من أن يصدقها ...وعقله لا لم يكن ليصدقها أو يرحم ضعفها..
عندما لم يرد قالت بصوت باهت أظهر مدى خيبتها... مدى يأسها ومدى الظلم الذي وقع عليها منهم جميعاً "أظن أن الأمر انتهى هنا... كل ما اتفقنا عليه سينفذ بالحرف الواحد... وأنت غير مجبر أبداً على إبداء أي اهتمام أخر بي... أنا أحلك من كل وعودك"
أغلق جفنيه مقراً بحقيقة كل كلمة تنطقها... هو قد أخفق إن كان اتهمها في المرة الأولى بظلم، بتطرفها، بغبائها بعدم سماع تبريراته أولاً... هذه المرة ما مبرره في خذلانها؟!
استوت دجينة أخيراً بصعوبة تستند على الحائط في محاولة للوقوف على قدميها المتورمتين... تهم بالخروج من أمامه واثقة تماماً أن جلاء بالخارج ينتظرها... أنه لم يأتي من تلقاء نفسه بعد أن تركها بين أنياب أشباحها ومخاوفها أسبوعاً كاملاً... حتى أنه لم يهتم ليدافع عمن تحمله في أحشائها!
لم تكد تستوى على ساقيها الهزيلتين إلا وخانتها... فلم يتردد لحظة وهو يقف مندفعا إليها يسحبها إليه ..احاط جسدها اللين بذراعيه ضامها بشدة ...متوقف الأنفاس حتى شعر أنه قد يختنق من فرط إحساسه بها.. أبدت رفضاً هزيلاً ومقاومه أشد ضعفاً... ثم تفجر كل شيء وهي تدفن رأسها بمكانها الطبيعي في تجويف عنقه ويديها تتمسك بقميصه لاويةً إياه بشدة بين أصابعها... مجهشة في البكاء على الفور لاسعة إياه بسخونتها... واسمه يخرج بهذيان مرددة إياه من بين شفتيها... هذه المرة لم يستطع أبداً كتم آهة أفلتت من بين شفتيه مرددها بحرقة ....مراراً وتكراراً عله يُخرج ذلك الجحيم الذي يكاد يوئده حياً....
حملها بين ذراعيه أخيراً ضامها إليه بقوة وهمس وهو يخطو نحو باب الغرفة مغادراً "لا بأس... لقد أنتهى كل شيء حبيبتي... أعدكِ أننا هذه المرة سنستطيع سوياً قتل جميع أشباحكِ... أبداً لن أسمح لأي أحد مرة أخرى بأذيتكِ"
وهي ورغم كل شيء ورغم الألم القاتل الذي يسكن أضلعها في تلك اللحظة صدقته... صدقته والدليل الحي كانت تلمحه بطرف عينيها لجسد أبيها الدامي الممدد في ردهة منزله الذي غادروه للتو... ولم تحتج حتى لتفسير لتعرف من المتسبب في الأمر... ولم تنتابها أية ذرة للتعاطف... لقد كانت على ثقة أنها انتهت منه أخيراً إلى الأبد هذه المرة.
&&&&&&&&&&

"الطفل بخير... حالته مستقرة ولكن حالتها الجسدية والنفسية مدمرة"
قالتها آيتان بصوت مرتجف لم يتبين آصف وسط دوامته أسبابه...
تابعت مختنقة بنبرة غالبتها عبرة "أنا سأبقى معها إلى أن تستعيد قواها..."
كان هو مرهقاً نفسياً وجسدياً عندما قال "يكفي آيتان جلدكِ إياي ومحاولة إظاهركِ لي أني لا أختلف كثيراً عن أي رجل أحمق غبي لن تُجدي نفعاً إذ أني أعرف ذلك بالفعل"
"أنت كل ما يهمك الطفل"
صوته عاد يتلبسه الحزم من جديد وهو يقول مسيطراً "إلى هنا يكفي... أنتِ ستغادرين حالاً وتضبي أفكاركِ وتمردكِ جانباً... إذ أنكِ ساعدتني بالفعل... بالمناسبة أخبرتكِ أن هي كل ما يهمني في العالم ولكي ترتاحي هذه المرة... أنا سأحررها كما رغبت دون أن أفرض عليها نفسي قصراً"
&&&&&&

بعد يومين... كان مشغولاً بها غارقاً في استسلامها المؤلم لكل ما يحدث... عندما يمنحها أدويتها لا تقاوم وعندما يحاول إطعامها تتناوله بصمت... حتى عندما رفعها بين ذراعيه ليحممها لم تقاومه وكأنها أصبحت تمثال شمعي لا يتكلم لا يشعرولا يسمع...
كان ينظر إليها بينما تهرب كالعادة بالنوم... تتسطح على بطنها غير مبالية بحملها الثقيل فوضع هو وسائد لتخفف الضغط على الطفل... وكأن المشهد يعيد نفسه وكأن كل جهد بذله معها كان مجرد سراب... ولكن هذه المرة هو لم يعد يملك حجة ولا يجرؤ على طلب منحه فرصة أخيرة.

قطع شروده هاتفه الذي ضج معلناً عن اتصال... أخذ نفساً طويلاً قبل أن يرد بسكون على عزير العاشوري "مرحباً... كيف حال الفتاة؟"
رد آصف بهدوء "بخير"
كعادة عزيز دخل في صلب الموضوع مباشرة جاعلاً آصف للحظات لا يستوعب ما يتفوه به "أعرف أنك قادر على حماية ما يخصك ولكن أنت قدمت الكثير بالفعل... لذا تقبل هذه الهدية مني ومن أعمامك... لقد تعدى عوني المنصوري على ما يخصنا جميعاً ....ووو..."
قاطعة آصف حازماً بتصميم "أنا شاكر لك يا عزيزي وللجميع أي ما كانت خططكم ولكن ثأر زوجتي لن يأخذه ويخطط له سواي"
قال عزيز في محاولة لجعله يتقبل خططه "ولكن، لم تشغل نفسك ونحن قادرين؟!"
أخذ آصف نفس عميق قبل أن يتركها ليتحدث بعيد وهو يقول "لقد قاومت نفسي بالفعل أن لا أذهب وأحطم هذا الهاني أو ربما أقتله مقدماً رأسه تحت قدميها ولكن أنت تعلم ..أن هذا لن يفلح إذ أنه لم يقترب منها وهي زوجتي ..لذا قررت أن انتقامي منهم على مقدار جرمهم يجب ان يدفعوا الثمن غالي من أجل عذبوها بسببه !!"
عاد عزيز يخبره بهدوء أشد وكأنه يفسر نفسه وعلامات الاستفهام لما يفعل "لا عليك أفعل ما تريده وتذكر أنا بجانبك ...أنا كنت أريد تقديم المساعدة لأني لدي نظرة غريبة حول الفتيات في هذا المجتمع أفضلهن أكثر قوة... أكثر تمرداً... لذا أشجع بشدة منحهن الدعم والحماية التي ينشدونها... تعرف في وسط مجتمع ذكوري قد تضيع أية فتاة هشة لا تستطيع الدفاع عن أقل حقوقها.. حريتها!"
&&&&&&&&&&

"هل انت واثق مما تفعله!"
نطقها أحد مدراء أعماله بينما هو يعيد دراسة أوراقه جيداً ينظر لأعمامه وعزيز الذين أصروا على أن يساندوه حتى لا يجازف بماله ونفسه ...ويتكبد خسارة الكثير مما كان سيقدم عليه بالفعل مقابل أن يؤلم كل من أوجعوها!
وضع قلمه الأنيق بجانب أوراق الصفقة التي وقعها للتو وهو يقول بهدوء "نفذ بدون نقاش لقد حسم الأمر ولا تراجع!"
تدخل أحد أعمامه وهو يقول بهدوء "ألن تخبرنا لماذ تريد تدمير تجارة عوني وهاني ..ومحوهم من السوق!"
أخذ آصف نفس عميق قبل أن يقول بنبرة معلقة "حسابات قديمة ويجب تصفيتها.. على كل الصفقة مدروسة عمي وكما اتفقنا وتبرعتم أنتم لن نخسر من ورائها شيء كما لن نكسب منها إلا هدم وتحطيم المعنين بالأمر"
تدخل عزيز وقال بهدوء "لا.. لقد كسبنا ترابطنا مرة أخر كما أننا تخلصنا في السوق من مجرد جرذان أعمالهم قذرة"
هز آصف رأسه بشبه موافقة.. فهو لا يعنيه سوق ولا تجارة كل ما أراده أن يؤذيهم بالمال الذي أغرى الحقير والدها لبيعها ..واستغله النذل الآخر معتقد أنه يستطيع شرائها..
فقط يتبقى لديه انتقام واحد سعى إليه بشدة... وهو اتصال بسيط لأحد دبلوماسيين فرنسا وأخبارهم عن المخالفة القانونية التي افتعلها المدعو هاني بزواجه من امرأة فرنسية منذ عام وأخرى هنا في بلده ..ليحاكم ويحرم من دخول اوروبا كلها! لقد تأكد أنه فتح عليه أبواب الجحيم على متسعها..
ولكنه ما زال لم يشفي غليله بعد.. يشعر أن نيرانه لن تهدأ وبركانه الثأر لن يخمد إلا عندما يلوث يديه بدماء الحقير الذي سبب لها كل تلك الأوجاع كما حطم وجه والدها..!
&&&&&&&&&

منذ ساعات كان يرتب لمغادرتهم من هنا أخيراً ليعود لحياته الطبيعية بعد الإعصار الذي ضربه... وأقر أخيراً بفشله للتصدي له وحمايتها هي قبله... فليعترف بخاطر لنفسه إنه أناني لأخر رمق فيها... مقيداً بصك عبودية تملكه وحدها وقد ظن أن زمن العبيد قد ولى...
ضحك ساخراً متذكراً هتافها العاصف بأنها ليست إحدى جواريه غير مدركةً بعاصفتها أنها من قيدته ممتكله قلبه وحياته.
لقد أخبرها أنه سيوفر لها منزلاً آمناً بالسويد لتنفصل عنه وتستقل بعيداً... مستغلاً حجة الطفل الذي يجب أن يكون بينهما في أول سنوات عمره الصغيرة على الأقل... لم يحصل على إجابة منها بل إيماءة بسيطة مستسلمة وكأنها تخبره أنها ما عادت تهتم... ربما عليه أن يجري معها حديثاً أخير متحضراً فربما يصل معها لأية ردة فعل.
تحرك نحو باب الشقة يفتحه بقلبٍ منقبض كعادته وكأنه لن يتخلص أبداً من شعوره بالذنب... من اضطراب أفكاره المشوشة والتي ما عاد يفهمها عندما يتعلق الأمر حولها.
فور أن فتح الباب تجمد مكانه بينما عيناه تحملقان دون تصديق للمنظر الذي أمامه وكأنه صورة خيالية من رابع المستحيلات أن تحدث يوماً... أتراه قد يسيطر يوماً على تطرف أفكاره أو خفقات قلبه الذي يضطرب مع كل فعل يصدر عنها؟!
اقترب ببطء ثم وقف على بعد خطوات منها يراقب الجسد المنحني أمامه على سجادة الصلاة التي لم تغادره يوماً تحيط وجهها الشاحب بشال ناصع البياض مغطية كل خصلة من شعرها... مرتدية أحد الفساتين المحتشمة والتي يملأ خزانتها بها في رجاء غير معلن منه أن تستر كل جزء منها وتودع ملابسها المكشوفة السابقة... كان يوجد أمامها مصحفاً تفتحه على آيات قرآنية بينما صوتها المختنق كان يردد بلهجة عربية متضعضعة تماماً... مما جلب الدموع لطرف عينيه مرغماً "لقد جربت كل شيء ولم أحصل على نفسي وسلامي، أنا كنت أعرف أنك موجود دائماً... أنا كنت أحتمي بك دائماً من نفسي ...ساعدني يا الله.. ساعدني لأصل إليك دون أن يدفعني أحدٌ إليك... أنا ضعيفة جداً لا أمتلك شيئاً وأحتاج إلى أن ترشدني وتحميني ...أرشدني يا إلهي أرجوك أرجوك أعدني إليك.. أعدني إليك"
"دجينة" كان يهمسها بعاطفة أخرى لا تمت لأي شهوة بصلة ...لقد انهار قلبه تماماً بين أضلعه ودمعة خائنة طفرت من عينيه... ربما كلماتها متخبطة هزيلة ولكن رجائها الصادق، برائتها في طلب العون بفطرتها التي قادتها لطلب العون من خالق الكون أخيراً جعلت كل شيء يضعفه بطريقة مؤلمة.
كانت عينيها مشوشتين ونبراتها ضائعة، مسلمة أمرها بطريقة قتلته في صميمه عندما التفتت إليه تهمس بحرقة "حاولت أن أقلدك... أقيم الشعائر... أن أصلي كما كنت أراقبك تفعل... عله يمنحني السلام الذي أجزم أني لن أحصل عليه يوماً... ولكن أنا فشلت... فشلت حتى في هذا يا آصف... لأني لأني...."
أحس بالعاطفة تكاد تخنقه بينما ركع على ركبتيه أمامها وهو يكمل ما قطعته بصوت أجش "لأنكِ تجهلين طريقة إقامتها"
كانت دموعها تسابق بعضها وهي تهز رأسها ببطءٍ شديد موافقةً إياه... منفصلة عن كل ما حولها وكأنها لم تخرج من حالة الروحانية التي تلبستها.
لم يستطع مقاومة حاجته لأن يلمسها... مد يده يتلمس نعومة الحجاب حول وجهها... ملامحه تبتسم بفورة عاطفية كأنه يرى أمامه أكثر النساء جمالاً... أكثرهن روحانية... براءة وطفولة... ونقاء لا تعرفه الكثيرات حتى من تلقت ما حُرِمت منه دجينة... هبطت يده تداعب وجنتها وهو يهمس "هل تسمحين لي... هل تمنحيني هذا الشرف أخيراً؟"
قالت بضعف مس شغاف قلبه "هل... هل تفعل؟"
أحس بالحزن يغمر روحه وهو يقول بحنان "كانت أمنية... أمنيتي منذ يوم معرفتكِ"
&&&&&
بينما تقف متأخرة عنه بخطوة بين يدي الخالق لم يستطع تفسير ماهية تلك الروحانية التي يتذوقها... حتى وهو يعرف لذة حلاوتها منذ كان في عمر العاشرة.
قبل أن يشرع في تكبيرة الصلاة كانت أصابعه تجذب ساعدها برفق يساوي وقفتها متذكراً كيف علمها الوضوء خطوة بخطوة... جسدها المرتعش ما زال يتخبط في تلك الدوامة التي تغرقها... دوامة لذيذة ناعمة أغرقته معها في عالم من اليقين ينشرح بها صدر كلاهما الذي كان مرهقاً... كانت مشاعره متخبطة تماماً مثلها... كان الأمر أكبر من أن يصفه... أصعب من أن يفسره بعد فقدانه كل أمل فيها وإقراره بفشله.
شرع مردداً التكبير ثم بدأ بقراءة الفاتحة بصوت عالي متبعها بسورة قرآنية قصيرة... صوته رغم علوه قليلاً كان خاشعاً متضرعاً بينما كل أماني قلبه كانت أن تجد طريقها وسلامها بين يدي الله... وألا تسقط أبداً مرة أخرى.
مع كل آية قرآنية تصلها كانت شهقتها تزداد حدة... روحها تطفو في فضاء فسيح... خفيفة وخالية من الآثام والهموم... كانت لأول مرة في حياتها تشعر بالسلام الحقيقي... تعرف معنى السكينة والخشوع.
فور أن أنهى الصلاة التفت إليها مبهورالأنفاس وكأن تلك الصورة التي هي عليها لن تشبع روحه أبداً... لم تهتم أبداً بمشاعره بل عادت تضع جبهتها في وضع السجود جسدها يختض بذهول كأن ما تذوقته من لذة الخشوع ومخاطبة الخالق لن تكفيها أبداً... مبهورة بذلك الشعور الذي يجعلها تطفو وتطفو وكأنها عادت لتولد من جديد مُطهرة من كل شرور الدنيا.
"ومنذ متى كان اللجوء إليك يحتاج إلى وسيط؟ من ذا الذي يغتر في نفسه أنه قد يستطيع جبرأحدهم على حلاوة الهداية؟!"
عندما رفعت جسدها بين يديه كانت ما زالت تنظر له تلك النظرة المشوشة بدمعها فسألها "بماذا تشعرين؟"
"وكأني كنت عطشى طوال عمري وباللجوء إليه ارتويت"
&&&&&&&&&

بعد شهرين جوتبرغ.. السويد
تستطيع القول إن عواصفها جميعهاً قد هدأت... وجدت مرسى واحداً قوي تسند نفسها إليه أخيراً... مصيرها بين يديها بعد ان رأت بعينيها دليل انتقامها من كل من أذوها لقد حطمهم آصف تماما وأوقع المدعو هاني في كارثة مادية وقانونية لن يتداركها حتى بعد عشرة أعوام ...ورغم هذا لقد اتفقا على الانفصال بعد ولادتها الطفل ...لقد وعدها بأن ينفذ كل ما تطلبه بعد أن أوضحت له بقوة أنها أبداً لن تمنحه ثقة لا يستحقها... ولكنها تعرف زيف وعده وهي للحقيقة لا تريد مقاومته...بل إن كانت تملك أي غضبٍ ناحيته فهو غضب عدم تمسكه الهمجي بها "حسناً هي تبقى أنثى تحتاج دائماً بعض همجية الرجل الشرقي في تمسكه بها...."
ومن ناحية أخرى من يوم انهيارها بين يديه تتوسله تقريبا تعليمها كيف تتواصل مع الله وهو لا يمل من تلقينها الآيات القرآنية وكيفية الصلاة التي أصبحت تجيدها وتحافظ عليها... بالطبع لغتها الفرنسية لا تساعدها في القراءة فقام آصف بمساعدتها بتنزيل بعض البرامج الإلكترونية لتسهل عليها قرآته مكتوباً بالفرنسية أو ناطقاً بالعربية... بالطبع هي تفضل سماعه بالعربية في الوقت الحالي..
تستطيع القول الأن بينما تربت على صغيرتها التي اقتربت على المجيء بأنها مرتاحة... مرتاحة جداً للطريقة التي تسير بها حياتها وإن تبقت بعض الغصص والألام التي تتمنى أن تودعهم قريباً عندما تحمل ابنتها بين ذراعيها... تنهدت وهي تعود لتستلقي مستعدة للنوم بينما تتلاعب بسوارها ذي بتلات الورد لفاندتيا... مهرها من آصف الذي عادت لتضعه ولن تخلعه أبداً... همست بابتسامة جريحة تحدث صغيرتها كما تعودت خلال الأشهر الماضية "اشتقت أن أضم موسيقاي لصدري صغيرتي "فليون"
غافلة تماماً عن تلك العينين التي لم تتركها أبداً لوحدتها وحزنها"
&&&&&&&&&

"يدكِ التي حطت على كتفـي
كحمامـة نزلت لكي تشرب
عندي تسـاوي ألف أمنيـة
يا ليتها تبقى و لا تذهـب
الشمس نائـمة على كتفـي
قبلتهـا ألفـاً و لم أتعـب
تلك الجميلة كيف أرفضهـا
من يرفض السكنى على كوكـب
قولـي لها تمضـي برحلتها
فلها جميع جميع ما ترغـب
تلك الجميلـة كيف أقنعهـا
أني بها معجب بهـا معجـب
يدكِ الصغيرة طفلة هربـت
ماذا أقول لطفلـة تلعـب
أنـا سـاهر ومعي يد امرأة
بيضـاء هل أشهي و هل أطيب
تلك الجميلـة كيف أقنعهـا
أني بها معجب...بهـا معجـب"
"أبيات مختارة لنزار قباني"
&&&&&&&&&&

قراءة سعيدة
234

الجزء الثانى من فرشاة وحشية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن