فكرية الدعوة الأولى

ابدأ من البداية
                                    

عادت للضحك حتى السعال. أخبرتها أنها أكثر جمالا من معظم النساء، فكم من امرأة بارعة الجمال ثقيلة الظل.. أما هي، فملامحها تحمل طيبة سمحة لا يضاهيها فيها مخلوق. إبتسامتها في هذه اللحظة لم تصل لعينيها التى لا أعرف سبب الدموع الحبيسة داخلهما. هل بسبب الضحك أم السعال أم حزن خفيّ..

سألتها عن بلدتها الأصلية، فأخبرتني أنها من إحدى قرى الصعيد، و لكنها صارت تتحدث بلهجة أهل البندر لأنها تركت بلدتها و هي في الحادية عشر من عمرها، بعد زواجها من ابن عمها، و إنتقاله معها للعمل كعامل بناء بالقاهرة، و من بعدها بالإسكندرية.

و كأن عيونها تقرأ في كتاب حياتها و تفر بيدها الصفحات.. عادت لطفولتها التي لم تعشها، فقد كانت تخدم إخواتها و والديها في بيت أبيها، و أصبحت تخدم زوجها الذي يكبرها بأكثر من عشرة أعوام في بيته بالقاهرة ، و الذي كان غرفة صغيرة بالإيجار في منزل بحمام مشترك لعدة أسر أخرى. بدأت تعقد صداقات مع الجيران بحثا عن دفئ إجتماعي في حياتها الوحيدة، فطيلة اليوم زوجها في عمله، لا يعود إلا في ساعات الليل المتأخرة بعد إنهاء عمله و مروره على المقهى البلدي لتدخين جرعة المعسل (تبغ يوضع في النارجيلة) اليومية، ليصل للمنزل فيتناول طعام العشاء و يمارس حقه الشرعي كزوج، بعدها يعلو شخيره، ليتكرر نفس المنوال في اليوم التالي و ما بعده من أيام.

لكن غلو المعيشة في القاهرة لم يتناسب مع الدخل الضئيل الغير ثابت لعمل الزوج

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

لكن غلو المعيشة في القاهرة لم يتناسب مع الدخل الضئيل الغير ثابت لعمل الزوج.  هنا كان قرار الزوج بالإنتقال للأسكندرية منطقيا، لكن المسكينة لم تكد تعتاد مكان غربتها بالقاهرة بعيدا عن الأهل لتبعد أكثر بمكان جديد.
"إعملي حسابك يا فكرية، راح نسافر على إسكندرية، .. مش ملاحق أنا عمصاريف الوكل و الشرب و الإيجار..."
"حاضر.. اللي إنت شايفه صُح راح أعمله."
رغم توجسها في بداية الأمر من معاودة السفر، و إنشاء عش جديد مع زوجها في مكان لا تعرف فيه أحد، إلا أنها بمجرد وقوع عيناها على البحر، صارت أسيرة لعشق تلك المدينة. كانت أول مرة في حياتها تشاهد البحر، و حين رأى زوجها إنجذابها للبحر، وعدها أن يصحبها يوما للتمشية على الشاطيء..

كانت تنتظر بفارغ الصبر أن يفي بوعده لها، و عندما تم ذلك، خلعت خفيها، و ركضت حافية على الرمل، و بتوجس طفلة صغيرة بللت قدميها في الماء، و هي تضحك بفرح حقيقي و دهشة. ملئت يدها بماء البحر لتشرب، لكنها شرقت بها، و تعجبت من ملوحتها.. ضحك زوجها على سذاجتها،و أخبرها أن ماء البحر مالح و ليس عذبا كماء النيل. كشرت قليلا، ثم عاودت الابتسام و أنصرفت لتجمع بعدها الأصداف من على الشط. إشترى لها زوجها يومها فريسكا إسكندراني (نوع من الحلوى ببسكويت هش محشو بالمكسرات) و أجبتها كثيرا.. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي تنزهت فيها على البحر. فقد كان مكان إقامتهما بضواحي المدينة بعيدا عن البحر.

في الإسكندرية كانت تسكن بشقة إيجار أيضا في الدور الأرضي، ضيقة و صغيرة فهي غرفة و صالة و لكن بها دورة مياة خاصة بها

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

في الإسكندرية كانت تسكن بشقة إيجار أيضا في الدور الأرضي، ضيقة و صغيرة فهي غرفة و صالة و لكن بها دورة مياة خاصة بها. ذلك الإحساس بالخصوصية أشعرها أنها تسكن قصرا فخيما، فزادها ذلك شعورا بالرضا.

مرت الأيام و بدأت "فكرية" بالشعور بالغثيات و باقي أعراض الحمل، لتمر شهوره سريعا و تلد صبيا حلو الملامح، بعد الأربعين تذهب للسوق حاملة طفلها، لتبتاع مستلزمات البيت من الخضر، فتراها إحدى النساء من الجيران، و تقول لها:
"ابن مين ده يا فكرية؟"
"هيكون ابن مين؟ ابني طبعا!"
"أمال ولدتيه من إمتى؟"
"يجيلي أربعين يوم..."
"يالهوي و قادرة تنزلي و تتسوقي و تشيليه؟"

كانت "أم حوده" تحكي لي، و هي متأثرة جدا و منفعلة، لتخبرني أن الطفل مرض في نفس اليوم، و ارتفعت حرارته بشده، لتأخده للمستوصف و يحتار الأطباء في معرفة سبب مرضه، و بحلول آذان المغرب يكون الطفل قد مات. تشتد لمعة عيناها و هي تقول:
"بعيد عنك و عن السامعين.. خمس عيال على كده.. ورا بعض. كل أما أفرح بعيل ربنا ياخده مني.. أكثر واحد فيهم قعد معايا سنة. العيلعيل يبتدي يطلع السنتين اللي تحت ميلحق بعدها يطلع اللي فوق.. من الزعل لا بقيت طايقة البيت و لا بقيت طايقة نفسي، و المحروس جوزي قال دي مبيعشلهاش عيال هتلحق تخلف و تعملي عزوة إمتى. و قهرني و قال إنه هيتجوز عليا.

ففي يوم كان الشيطان بيزن في دماغي و مبقتش قادرة.. روحت عند السكة الحديد، و سمعت أذان الظهر بيأذن.. القطر كان لسه معدي، و كأني سامعة صوت هز القضبان دلوقت زي دكيالنهار . من غلبي و يأسي رفعت إيدي للسما و أنا بعيط و أقول يااا رب! ياااااا رب! بتديهملي ليه لما بتاخدهم تاني يا رب! يا رب أرزقني و فرح قلبي و لو بتلات بنات و فوق رووس بعض يااا رب! يا رب لأجل خاطر حبيبك النبي محمد قلبي أتوجع يا رب! راضيني بالذرية يااااا رب! خليهم يعيشوا لأجل خاطر نبيك الهادي يااا رب!

و قعدت أبكي لغاية أما حسيت أني هديت، و رجعت عالبيت.. نمت لما جوزي رجع.. قعد يزعق إني مطبختش و يهدد تاني بإنه هيتجوز عليا .. إنما ده ممنعهوش إنه ياخد غرضه و ينام بعدها.. و أنا طول الليل أدعي ربي لغاية ما دعوتي إستجابت، و جبت بناتي ورا بعض فرق بين كل واحدة و الثانية سنة."
"سبحان الله يا "أم حوده" و الحمد لله إن ربنا رزقك قبل ما جوزك يتجوز عليكي..."
"لا ما هو إتجوز برضه."
ضحكت بينما فغرت أنا فاهي لوهلة،و سألتها عن السبب فأجابت:
"كانت بناتي زي القطط بيحبوا و يمشوا عالحصير، و هو يقولي مش عارفة تجيبيلي حتة ولد يساعدني و يشيل الحمل عني. أني راح أتجوز عليكي يا فكرية اللي تجيبلي الولد. سكت و معرفتش أرد. هو كده و لا كده عاوز يتجوز، و لولا حمل جر حمل كان إتجوز من زمان."
"مش بتقولي إنه ابن عمك؟! يعني مفروض يرعاكي مش يذلك كده! هو أخدها من عندكم من البلد؟"
" هو كان يقدر! دول كانوا يقطعوه.. أخويا عرف بجوازته التانية متأخر، و كان قايلهم عشان أنا أتجنيت و بقيت بعض الناس الرايحة و الجاية. أخويا الكبير جالي على ملا وشه ما أرتاح حتى من السفر و قالي لمي خلاجاتك يا فكرية.. إنت هترجعي الليلة معايا عالبلد!"

عجوز بقلب طفلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن