الفصل الثاني

1.9K 58 1
                                    

الفصل الثاني

وكأن الذكريات تأبى التخلي عنها حتى في منامها، وبمجرد أن غفل جفناها، وراحت في النوم، بدأت تعاودها نفس الكوابيس التي تتكرر كل يوم، كان جسدها يرتجف من شدة الخوف كأن ما تراه في حلمها حقيقة متجسدة أمامها، وكيف لا ترتجف ؟، وما تراه قد حدث بالفعل، ورأته بأم عينيها، وها هي تعيشه كل يوم ألف مرة، ولا تستطيع أن تجتزه من ذاكرتها، وكأنها في فيلم سينمائي يعاد فيه المشهد أكثر من مرة بلا اكتفاء منه، ترى نفسها كل يوم وهي في منزلها تستمع لصوت طائرات العدو محلقة فوق رؤوسهم وهي تحتضن طفلها بخوف ورعب شديدين، كانت لحظات الهزيمة موجعة، فقد شعر الشعب بأجمعه بحزن شديد، خيبة أمل وانكسار، لم يكن أحد يتوقع الهزيمة، ولَم يتقبلها أحد، ومرة أخرى يعود شبح التهجير يطاردهم، لتخرج من بيتها هي وزوجها وطفلهما مع صديقتها وطفلتها وزوجها، ليهربوا من القصف المستمر الذي لا يفرق بين جيش وشعب، وهم في طريقهم يعرجون على بيت الأهل ليغادروا جميعًا معًا، ولكن بعد فوات الأوان، لم يمهلها القدر كثيرًا بعد أول صفعة، وها هي تتوالى عليها الصفعات، وترى أمام عينيها البيت الذي عاشت فيه طفولتها وصباها وقد دك دكًا، وأصبح مساويًا للأرض، مجرد أنقاض، وكأنه لم يكن شيئًا ذات يوم، لتقذف طفلها بين يدي أبيه وتهرع إلى الأنقاض بحثًا عن والديها، وكذلك تفعل عائشة، لم يستطع أحد تصديق ما يرى أمامه، الآباء والأمهات تحت التراب، الفتاتان أصبحتا يتيمتين في لحظة واحدة، أي عذاب هذا، أي قدر خُط لهم لتعيشاه، لمَ قدر لهما أن تفقدا كل ما هو غالٍ في نفس الوقت، لتستيقظ مفزوعة من نومها وهي تصرخ قائلة : أبي .. أمي، لكنها تجد نفسها مازالت في نفس الشاحنة التي تمضي ولا تحمل علي عاتقها هم من يجلس بها، فهي تمضي بهم إلى المجهول .
أسندت رأسها على العربة ومازالت الذكريات تمر بمخيلتها وتأبى عليها التراجع، كيف الشعور بهكذا ألم والتعامل معه، كيف تترك والديها لهكذا مصير وترحل بعيدًا، كيف لقلبها التحمل والاستمرار ؟؟؟
"قلبي يؤلمني كثيرًا، الألم يمزق كياني ويحرق أوردتي، أشتاقكما من الآن، أشتاق حنانكما،عطفكما، أشتاق هذا الأمان بين أحضانكما، حقيقة إني أشتاق روحي التي فقدتها معكما .......
جلست خديجة وقد أسندت رأسها علي حافة الشاحنة، لم تستطع التوقف عن التفكير في تلك الليلة المشئومة، تلك الليلة التي حرمت فيها من الحضن الدافئ، الأمان، السند، كيف يتحمل المرء هذا ؟، يفقد الأب والأم في نفس اللحظة، اااه يا الله، كيف كان شعورهما ؟، هل تألما ؟، هل ماتا وهما راضيين عني ؟، اللهم صبرني يا الله، هل يعلمان أنهما تركاني بمفردي ؟ ، ااه يا مصطفي، من أجلك أنت فقط تحملت كل هذا الألم، ومن أجلك أتحمل المزيد .
ثم عادت مرة أخري لتلك الليلة تتذكر ما مرت به بعد رؤية منزل والديها منهارًا هكذا توقف عقلها عن العمل كل ما جال بخاطرها أنه ربما مازالا حيَّين، فأخذت تنبش الأرض بيديها وهي تصرخ وتنادي علهما يسمعاها ويجيبان، وحفرت الدموع حفرًا علي وجهها ومع استمرار نبشها في الأرض بيديها أصابتها الجروح والدماء تسيل منها وتقطر على الأرض ولكنها لا تهتم، فوجع قلبها أدماها فلم تعد تعي أي وجع آخر وكذلك فعلت "عائشة" ، وقف "عبد الله" يشاهد زوجته وهو يقطر ألمًا من أجلها ثم هرع نحوها وهو يحمل ابنته وانتشلها مما هي فيه وضمها إلى صدره في أحضانه وكم صرخت "عائشة" وهي تدفع فيه لتواصل النبش، لقد أصابها الانهيار تماما ، فلم تعد تعي أي شيء سوى فراقها لأبويها ، وربما صراخها الهستيري هذا هو ما أفاق "خديجة" من انهيارها، فعندما سمعت صوت صديقتها تنبهت وأدركت أنها بحاجة إليها فهرعت لها لتحتضنها، وهما يبكيان كثيرًا تلك الفاجعة التي حطت عليهما، أما عادل فكان يقف موقف المتفرج، كل ما كان يشغله هو أن يرحلوا سريعًا قبل أن تصيبهم قذيفة غادرة من قذائف العدو، لذا لم يحاول حتى أن يرأس زوجته في مصيبتها بل كل ما فعله هو أن صرخ فيهم بضرورة الرحيل الآن، ما زالت تتذكر كلماته، كانت كالسكين الغادر في قلبها، قذيفة العدو كانت ستكون أرحم بها من كلمات زوجها الخالية من أي عاطفة، ولكن هناك مصطفى وعائشة وفاطمة يجب أن تحميهم يجب أن تتحامل على نفسها، لا سبيل للتخاذل الآن فأمامهما طريقًا طويلًا لابد من اجتيازه للوصول إلى "القاهرة " حتى لا يصيبهما جنود الاحتلال إذا صادفوهم، ولذلك كان ولابد من المضي قدمًا من أجل أرواحهم جميعًا، وهكذا بدأت أولى خطواتهم إلى المجهول.
أخذهم "عبد الله" إلى الحافلات المخصصة لتهجيرهم إلى "القاهرة " وطوال الطريق لم يروا إلا البيوت الخربة المهدمة، الجرحى في كل مكان وأشلاء الجثث متناثرة، والأراضي تكسوها الدماء، الخراب يعم المدينة، والحرائق تصهر الجو وتخنقه والأدخنة متصاعدة من كل مكان تنافس الأكسجين في الهواء، وأصوات العويل تأتيهم من بعيد، إنها مجزرة بكل ما للكلمة من معنى .
وأخيرًا وصلوا للحافلة التي ستقلهم إلى "القاهرة" وهالهم المشهد، الشاحنة تمتلئ بالعشرات، وليس هناك أماكن شاغرة ولكن ما باليد حيلة فهذا أو لا شيء، وانحشر الكثير بتلك الشاحنة المتهالكة وكل واحدة تحمل بيدها طفلها جلست النساء على أرض الشاحنة بينما الرجال واقفون رؤؤسهم منكسة لا يستطيعون النظر حتى لبعضهم، فالمصيبة أهلكت مشاعر الجميع، وجعلت سيد الموقف هو الصمت المطبق .
وصادفهم الكثير خلال رحلتهم إلى "القاهرة " فالمناظر التي رأوها لا تقل بشاعة عن مدينتهم، الجميع صامت وأبصارهم سارحة في اللاشيء جميعهم فقدوا عزيزًا عليهم، فقط الدموع هي المتكلمة في تلك اللحظة المهيبة .
شعر الجميع أن الطريق زاد طولًا، كانت الأنفاس تختنق، والمشاعر متأججة من كثرة الحزن، وأخيرًا وصلت الشاحنة "القاهرة" وبدأت المحن تتوالى، فليس معهم أي شيء سوى بعض الملابس القليلة، والقليل من المال الذي لن يكفيهم طويلًا، فكيف سيستمرون ؟ ، كيف سيكون شكل حياتهم في مدينة غريبة ؟، ليس لهم أحد بها .
وحطت أقدامهم علي الأرض ولا يعلمون أين هي وجهتهم ، وهنا تركهم "عبد الله" ليعلم ماذا بعد؟؟؟؟؟
فذهب لجندي مصري يقف بعيدًا يباشر الشاحنات القادمة من "السويس" وسأله مستفهمًا
"سيدي أين سنبيت ليلتنا فمعنا نسائنا؟ .
فنظر له الجندي بقلة صبر ولكنه أجابه إجابة مقتضبة "ستبيتون ليلتكم هنا في تلك المدرسة وستظلون بها حتى إشعارًا آخر "
نظر "عبد الله" لتلك المدرسة القابعة بين المباني السكنية فهي صغيرة الحجم كثيرًا كيف سيبيت الجميع بها فأعدادهم كبيرة لن تسع بكل تأكيد، ولكن ما باليد حيلة وهذا أفضل من المبيت في العراء، عاد عبد الله لهم وحاول أن يكون صوته مطمئنًا وقال : " حسنًا سنبيت ليلتنا في تلك المدرسة هيا إليها حتى نستطيع اللحاق بمكان بها "
الهرج والمرج يعمَّان المكان لا سبيل للهدوء في تلك اللحظة، الجميع يتدافعون بالأيدي والأقدام، السباب والصراخ أصم "عائشة"و"خديجة" ولكن محاولة "عبد الله " في إيجاد مكان لهم فلحت أخيرًا، لقد وجد خيمة فارغة لهم في حجرة من حجرات الدرس وبالطبع لا سبيل لإيجاد غيرها، فليحمدا الله أنه وجد شيء بعد كل هذه المعاناة، جلس الجميع في تلك الخيمة، الحجرة بها أكثر من عشرة خيام، الجميع قابع في خيمته يخشى الخروج منها حتى لا تسرق، الحالة العامة غير مبشرة بالمرة، الجميع أعصابه منهارة وعلي حافة الانفجار، لا أحد يعلم ماذا يخبئ له الغد، ولذلك فأفضل ما يفعله الجميع هو النوم عسى يهربون من ذلك الواقع المقيت والذي من الواضح ليس له من نهاية .
سقط الجميع في النوم من شدة الإرهاق ، حتى استيقظوا في الصباح الباكر علي أصوات أبواق الجيش مفزوعين ينظرون لبعضهم وكأنهم يأملون أن يكون ما حدث بالأمس ما هو إلا كابوس وانتهى باستيقاظهم ولكن هيهات فهو كابوس يعيشونه في كل لحظات استيقاظهم، كان الجنود المصريين يوزعون علي كل فرد إفطار متواضع يكاد يسد رمق جوعهم وعطشهم بالكاد، ولكن لا مجال للتذمر فهذا هو المتاح .
وبعد الإفطار اجتمع "عبد الله " بهم حتى يخبرهم بشيء، شيء سيزيد همومهم همًا جديدًا، مصيبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لقد عزم علي الرجوع إلى "السويس" إلى المقاومة الشعبية فهذا هو مكانه الحالي بين الجنود للدفاع عن أرضه ووطنه، خاصة أنه اطمأن عليهم وكذلك وجود "عادل" معهم فهو أعتقد أن هذا الظرف سيجعل عادل رجلًا حقيقًا، وأنه سيراعي صداقته ويحافظ علي عائلته، بينما هو يناضل ليعيد لهم جميعًا الأرض والشرف، وبالرغم من ارتباط"عائشة "بعبد الله لكن لم تبدِ اعتراض، ولكن " لخديجة " رأيًا آخر، فهي أكثر شخص يعلم طباع زوجها فهو غير كفء لهكذا مهمة إنه سلبي لأبعد الحدود ولن يستطيع حمايتهم حال حدوث أي طارئ، ولذلك ذهبت لتتحدث مع " عبد الله " بذلك
" عبد الله كيف ستتركنا بمفردنا هكذا؟ ألا ترى أننا في حاجتك الآن أكثر من أي وقت مضى، وزوجتك "عائشة" ألا ترى نظرة الضياع بعينيها كيف لك تركنا هنا والرحيل؟ ؟؟"
دهش "عبد الله " من هجومها عليه خاصة أنه ترك زوجها معها ولذلك لم يعِ مقصدها ولكنه مصر علي ذهابه فهو أبدًا لن يكون جبانًا ويفر من مدينته دون دفاع أو مقاومة هو فقط خرج ليطمئن علي زوجته وابنته ولكن لا مناص من الرجوع ولذلك أجابها إجابة قاطعة غير قابلة للنقاش...
" خديجة أنا تركت معكم زوجك وأعلم علم اليقين أنه سيهتم بكم ولن يتوانى عن الوقوف بجانبكم ورجوعي أمر مفروغ منه وأنتِ تعلمين ذلك لن أترك ثأر من قُتلوا علي يد العدو الغادر لن أهرب من واجبي، فمن لم يستطع الدفاع عن وطنه لا يستحق الحياة ولا الأرض التي تحمله على ترابها " .
ألجم جوابه فمها وتنحت جانبًا ليبتعد هو تاركهم للمجهول، وشخص نظرها للبعيد تتأمل وتتمنى أن لا تكون ظنونها في محلها تجاه زوجها، ولكنها في أبشع أحلامها بشاعة لم تكن تتوقع القادم، لم تكن تتوقعه أبدًا............

وسقط الحب بحرف الراءWhere stories live. Discover now