بارت 《4》

258 12 0
                                    

في الصف الرابع الابتدائي صرت طويلة ، اطول من نادية ، لكن عيني لستا خضراوين ، بقي لونهما كما كان حين كنت صغيرة لم تكن امي تكذب حينها ، لقد كبرت انا و تركتهما كما هما ، امي لم تكن تكذب انا غيرت رايي لا اريد ان تكون عيناي خضراوين  . الاعين الخضر ترى العالم كما نراه نحن ، نادية لا ترى كل شيء اخضر ، انا لست خضراء بيتنا ليس اخضر  ، السماء ليست خضراء لكن الاشجار خضر و العشب اخضر .

انا اطول  من نادية ، ارى الأشياء من بعيد و الأشياء التيلا أراها اتخيلها و اذا اردتم الحقيقة ، انا احب الأشياء التي اتخيلها اكثر من الأشياء التي اراها ، و عند ما قررت في احد الايام ان ارى نهر دجلة ، صعدت سلم بيت إلى السطح لأن النهر كلن بعيدًا ، فنحن عندما نصعد فوق سطح البيت نرى الاشياء البعيدة . وقفت فوق خزان المياه في الطابق الثاني  ، درت في كل الاتجاهات لكنني لم ار نهر دجلة و لا اي نهر اخر ، رأيت جسورًا كثيرة وبنايات واشجار عالية و طيورا تحلق في السماء. 
قبل ان انسى ، دعوني اصف لكم ما رايت ايضا في ذلك المساء ، رايت محيطا هائلا من الفراغ ليس له نهاية ، في هذا المحيط الشاسع من الافاق المترامية الاطراف تحت الشمس الغروب شاهدت محلتنا كانها سفينة ترسو عند شاطئ المحيط   ، سفينة عملاقة يتوسطها برج المأمون مثل شراعها العالي و ساعة بغداد كانت تشبه المرساة الملقاة على رصيف الميناء و برج الزوراء هو مثل قمرة قيادة هذه السفينة .

فكرت مع نفسي :في يوم ما ،
ع

ندما تتحرك هذه السفينة من مكانها و تنفث بخارها الابيض في السماء ، ستجار محركاتها العملاقة ، ثم تدوي في ارجائها اشارة الانطلاق ، و يصعد الجميع على متنها في رحلة طويلة نحو جزيرة الامان،  نحو مرافئ لم يصلها احد من قبل ، ستبتعد هذه السفينة و تبتعد حتى تتلاشى اثرها وراء ضباب كثيف من النسيان .

نسيت ان اخبركم امر اخر ، انني و قبل ايام كنت اخرج من باب المدرسة بعد نهاية الدوام ، كانذلك في شهر شباط ، عندما سمعت موسيقى عالية تنطلق في السماء ، موسيقى اتصور ان اغلبكم كان يسمعها في تلك الايام من التلفزيون او من الراديو .

_تن تن تنْ تنْ ... تن تن تن تن .

هل تتذكرونها ؟ انا اتذكرها ، انا لا اعرف كم هو عمركم الان ، و لكن اذا كنتم في بغداد عام ١٩٩٤ ستتذكرونها كل من كان في بغداد عام ١٩٩٤ سيتذكرها .

بعد اسبوع او اكثر ، اخذونا  من المدرسة في رحلة الى بناية الساعة الجديدة  《ساعة  بغداد 》 تجولنا في القاعات و الحدائق ، ثم اخذونا الى المتحف الذي فيه واجهات زجاجية نطيفة يعرضون فيها هدايا يقدمها الناس الى رئيس الجمهورية ، يقدمون اليه سيوفا تراثية و بنادق قديمة و لوحات فنية و يكتبون له قصائد عن سيرته . شاهدنا منحوتات و اختاما صغيرة من الطين تحكي قصصا عن الناس القدماء الذين عاشوا قبلنا بالاف السنين في العراق .

احدهم  رسم صورة كبيرة للرئيس و معها صورة اكبر لهارون  الرشيد ، قلت للمعلمة : هارون الرشيد جدي ، قالت المعلمة : اعرف ذلك ، انه يشبهك و ضحكت من كل قلبها .

بعض النساء فقيرات ، ليس لديهن ما يقدمنه هدية الى الرئيس ، قصص ضفائرهن و كتبن عليها اسماءهن  و وضعنها في المتحف ، انا لا اعرف ماذا يفعل الرئيس بضفائر النساء .

دقت الساعة العاشرة صباحا ، و كان صوتهت عاليا هذه المرة :

بين الشعب و بينك ... عهد و شفته بعينك .

وقفنا في حديقتها الامامية  صفا واحدا نلتقط صورة تذكارية تحت الساعة العاشرة و عشر دقائق .
هذه الصورة ستبقى هي الصورةالوحيدة التي تجمعنا بالترتيب ، انا وناديا  و احمد  وفاروق  وبيداء و مروة و وجدان  وريتا و مناف مع بقية طلاب صفنا .
الى يمين الصورة ، كانت ست نجاح تقف بشعرها الاشقر و قميصها  الاحمر و هي تضع كفها على كتفي و تبتسم للكاميرا ، كم احب ست نجاح ، و احب ان تضع يدها على كتفي دائما ، هي معلمة طيبة تحبنا كلنا و تضحك معنا ، و عندما ياتي زوجها الذي يلبس ملابس الطيارين بسيارته البيضاء و ينتظرها عند باب المدرسة ، نسلم عليه فيضحك هو الاخر معنا .

حلمت نادية انها تركض في حديقة ساعة بغداد  ، تعثرت قدمها و سقطت على العشب  و انخدشت ساقها ، جاء احمد نحوها  ، أخرج منديله من جيبة و جلس يشد المنديل  على مكان الجرح ، هل كان ذلك حلما ام انه حقيقية ونسيتها انا ؟

في يوم  من الأيام،  كنا نذهب الى المدرسة  و كان ذلك في شهر شباط ايضا ، شاهدنا فاروق و هو يرتدي بنطالا من الجينز و قميصا ابيض و حذاء رياضيا من دون ان يحمل حقيبة المدرسة ، كان منظره هذا غريبا بعض الشيء ، قال لنا  انه سيأخذ هذا اليوم إجازة من المدرسة ، ابوه سيسافر بعيدا .

جاء احمد بعد قليل على دراجته و هو يبتسم و يغني مع نفسه ، التفت الى نادية و قال لها :
_ عندي قطة عيونها خضر
_ كذاب ما عندك

أخرجت  نادية طبشورا من حقيبتها و كتبت على جدار المدرسة بحروف كبيرة :

سَرَقَ أَحمدُ قِطتَنا .

بعد سنوات من الان سنمر انت و نادية بهذا المكان ، الى جانب هذا الجدار نفسه ، و نقرأ  اسم احمد ، سنتذكره و نضحك الكلمات التي نكتبها على حائط المدرسة بالطباشير تبقى الى الابد لكي نتذكرها و نضحك .

في هذا اليوم نفسه ، جاءت ست نجاح الى صفنا و وزعت بيننا صورتنا الجماعية امام ساعة بغداد ، ضحكنا من مروة ، لأنها تظهر خلف كتف احمد مثل ياسمينة في مسلسل السندباد ، اكتشفنا في هذه الصورة ، ان الساعة كانت تبتسم لنا ، قالت يبداء : انها تضحك علينا فضحكت ست نجاح ايضا .

ساعة بغداد/ Baghdad clock حيث تعيش القصص. اكتشف الآن